وما هي حياته ؟
وما هي سيرته ؟
وما هي فتوحاته ؟
ومن أين هو ؟
ماذا قدم للدين؟
لماذا سمي بالحاكم الراشد السادس؟
هل هو مجاهد أم عابد أم زاهد؟ أم كلها مجتمعة فيه؟
كل هذا ستعرفه في هذا الدرس، وسترى العجب العجاب من حياة هذا التركي العظيم!
أصحاب الفضيلة العلماء! أيها الأساتذة الكرام! أيها الإخوة الحضور! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، قبل أن أبدأ في هذه المحاضرة، التي هي بعنوان: (مع التركي الشهيد) أريد أن أبين قضايا هامة عسى أن يفهمها الناس:-
أولها: أن الدعاة يعرفون واجبهم نحو ولاة الأمر في البلاد، وهم أحرص الناس على حق الراعي؛ لأنهم أعرف الناس بالشريعة، فلا يتوهم واهم أو حاسد أو منافق أنه بإمكانه أن يوجد هوة بين الدعاة وولاة الأمر مهما فعل من الإغراءات والدعاوى؛ لأن هذه البلاد قامت على المصحف والسيف.
ثانيها: أن الدعاة هم حملة الأمن والأمان، وهم ضد الفوضى والفتنة، وهم يرفضون كل ما يعكر أمن البلاد واستقرارها وسكينتها، ولا يسمحون لكل طائف أن يوجد فرقة أو إساءة إلى ولي الأمر أو إلى أحد من المسلمين.
ثالثها: أن الدعاة في بلادنا لهم مصدر علمي وهم: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وأصحاب الفضيلة من رؤساء المحاكم والقضاة، فهم يسيرون الدعوة، وهم المستشارون، والناصحون الأمناء، والدعاة لا يخرجون في أي مقاطعة، أو إقليم أو منطقة، عن مشاورة رئيس المحاكم والقضاة.
رابعها: أن الدعاة والحمد لله لا يتدخلون فيما لا يعنيهم، وليس لهم مطالب إلا نشر كتاب الله عز وجل، وتعليم الجاهل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهم مقتدون في ذلك بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهم دائماً يسألون الله عز وجل لولاة الأمر الاستقامة والسداد، وأن يريهم الله الحق حقاً ويرزقهم اتباعه، ويريهم الباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه، متذكرين قول الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والجماعة: لو أن لي دعوة مستجابة، لجعلتها لإمام المسلمين.
السبب الأول: أن هذا التركي الشهيد نور الدين محمود الذي أثنى عليه شيخ الإسلام ابن تيمية والذهبي وابن كثير وابن القيم أبناء عمومته الأكراد اليوم يحصدون بالأسلحة الكيماوية على يد المجرم صدام حسين، فكان من المناسب أن أُذكر المسلمين بأبناء نور الدين في كركوك وفي السليمانية، وفي شمال العراق، وهم يصرعون بالآلاف يومياً، وأخبرهم ماذا فعل نور الدين، وماذا قدم هو وصلاح الدين لـ(لا إله إلا الله) و(إياك نعبد وإياك نستعين).
السبب الثاني: أن الله عز وجل يقول: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ [يوسف:111] والقصص له تأثير في القلوب، وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: إن القصص جند من جنود الله يرسلها على من يشاء، وقال في رواية أخرى عنه: قصص الرجال أحب إلينا من كثير من مسائل الفقه.
فإذا علم هذا، فأحب أن أعرض سيرة نور الدين محمود وأن نعيش سيرة هذا الإمام الشهيد الذي سماه الذهبي: ليث الإسلام، وملك الشام، والمجاهد الصنديد، والعابد الشهيد، وسوف نرتحل معه، ومعنا ومعه لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعسى الله أن يجمعنا به في دار الكرامة: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55].. أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع |
أخذنا بأقطاب السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع |
وأنا لن أعتني بالقصص التاريخي لكن أسمعكم العبر، واعلموا أن من اقترب من الله إنما يقترب بالطاعة، وقد كتب عمر الفاروق إلى سعد بن أبي وقاص، يقول له: [[يا
يقول أبو اليسر وهذا في السير: سمعت نور الدين محمود ساجداً قبل السحر يبكي ويقول في السجود: اللهم احشرني يوم القيامة من بطون السباع وحواصل الطير.
- ما معنى الكلام؟ معناه: إذا قتل الناس على الفرش، وإذا قتلوا تخمة من الطعام، فاقتلني في سبيلك، حتى تشبع مني الكواسر والطيور، واحشرني من بطونها، وفي الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام وقف على حمزة وعلى الشهداء السبعين في أحد وبكى وهو ينظر لـحمزة وقال: (والذي نفسي بيده! لولا جزع
ولما اصطف الناس أمام الفرنجة الصليبيين في دمياط في أرض مصر، خرج ثم التفت إلى السماء وقال: اللهم نصرك، اللهم نصرك، اللهم نصرك، فابتدأت المعركة بسهم أطلقه صليبي فوقع في عين أخيه نصر الدين فذهبت عين أخيه، فالتفت إلى أخيه وقال: أحسن الله عزاءك في عينك، والله! لو علمت الأجر لتمنيت أن تذهب الثانية.
ويذكرني هذا بقصة قتادة بن النعمان التي ذكرها ابن القيم في زاد المعاد أنه لما حضر يوم بدر، ضربت عينه بالسيف فنزلت على خده فأتى عليه الصلاة والسلام فردها بيده فصارت أجمل من العين الأخرى، فكان ابنه يقول:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد |
ووقف نور الدين محمود في المعارك، قال الذهبي: خاض أكثر من خمسين معركة، وافتتح أكثر من ثمان وعشرين قلعة، وكانت دولته تمتد من تركيا في الشمال إلى اليمن، وهو الذي قضى على الرافضة والباطنية والإسماعيلية وشردهم كل مشرد.
وامتدت دولته -أيضاً- من بلاد مصر إلى جبال القوقاز، وهو مربي صلاح الدين الذي فتح الله على يديه في حطين
يروي المكارم أكرم الجدين عن أشجع الشجعان نور الدين |
قال العماد الأصبهاني الكاتب الشهير: حضرت مجلس نور الدين محمود فتحدثنا في طيب هواء دمشق، يعني أحاديث المجالس.. الجو الأمطار الغيم، قال: وكان واجماً لا يتحدث، والوزراء والأمراء حوله يتحدثون، فقالوا: مالك أيها الأمير! لا تتحدث؟ قال: أما أنا فو الله لا يهدأ بالي ولا يرتاح حالي حتى يدخلني الله الجنة.
ما دمشق؟ وما هواؤها وما طيبها أمام جنة عرضها السموات والأرض؟
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها |
هذا هو المطلب.
قال نور الدين: أتستأذنني؟! أحضرني معه عندك، واكتب لي رسالة، وادعني فيها لأحضر!!
فدعاه الشهرزوري وهو أديب وهو الذي يقول فيه الأستاذ علي الطنطاوي: ما قرأت في الأدب العربي أجمل من قصيدته، التي يقول فيها:
لمعت نارهم وقد عسعس الليل ومل الحادي وحار الدليل |
فتأملتها وفكري من البين عليل وطرف عيني كليل |
وفؤادي ذاك الفؤاد المعنى وغرامي ذاك الغرام الدخيل |
وهي ما يقارب خمسين بيتاً، فأتى نور الدين وقبل أن يصل أرسل للقاضي رسالة، قال فيها: إذا أتيت فلا ترفع مجلسي، ولا تصافحني أمام الناس، وأجلسني مع خصمي على البساط.
فدخل نور الدين فقال الشهرزوري: اجلس هنا، فجلس أمامه وهو حاكم الإقليم الذي ذكرت لكم من جنوب اليمن إلى شمال تركيا، هذه يحكمها الآن اثنتان وعشرون دولة، فجلس أمامه، فادعى نور الدين أن الأرض له، وأتى بشهود وأخرج عريضة تثبت ذلك، فقال الخصم: صدق، ظننت أنها لي واختلط علي الأمر، وحدثني فلان أنها من الميراث، فمادام أنه أشهد فلاناً فهي له وهو صادق، قال نور الدين محمود: وأنا أشهدكم أن الأرض له.
فلما وصل إليه التبسم، قال له المحدث: يا نور الدين تبسم قال: كيف أتبسم وبيت المقدس في يد الصليبين؟ قال الذهبي: لو تبسم لكان أحسن؛ لأن التبسم صح عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام.
فقد تبسم صلى الله عليه وسلم وقال في الحديث الصحيح: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} وقال جرير بن عبد الله في الصحيح: {ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي} وكان يقوم في السحر كما ذكر الحفاظ، ويقول: اللهم إني أسألك مسألة، أن تقتلني شهيداً في سبيلك.
وكان إذا قام الإمام في المحراب للصلاة، قال: اللهم خذ من دمي حتى ترضى.
فهل سمعتم صدقاً كهذا الصدق؟ وهل هناك أغلى من الدم؟
اللهم خذ من دمي حتى ترضى.
وأنقل لكم قصيدة من البداية والنهاية ذكرها ابن كثير ومدحه فيها وأثنى عليه، وكان كلما كتب أسطراً ترحم عليه، وسأل الله له المغفرة.
عمل نور الدين مهرجاناً في دمشق استعرض فيه جيشه المسلح ليغزو عكا ويافا، ويطهرها من الصليبين ويخرج الفرنجة، فاستعرض الجيش كله وحضر الأمراء والوزراء والعلماء ووجوه الناس، وأصبح يوماً من أيام الله، وفي أثناء ذلك العرض خرج عليهم الواعظ أبو عثمان المنتخب بن أبي محمد الواسطي وهو من علماء الأمة وكان زاهداً، يقولون: كان لا يملك من الدنيا إلا قعباً وصحفةً وعصاً وجبة عليه، وما كان يأخذ المال من نور الدين أبداً؛ بل كان يرفض، فخرج وقطع الحفل عليهم، ووقف أمام نور الدين وقد سمع أن هناك خمراً يباع في شمال سوريا، فأراد أن يخبر السلطان.
قال: يا نور الدين! عندي قصيدة.
قال: قل.
فوقف أمام الناس وقال:
والقصيدة في البداية والنهاية صفحة (302) من المجلد الثالث عشر- يقول:
مثل وقوفك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور |
إن قيل نور الدين رحت مسلماً فاحذر بأن تبقى وما لك نور |
يقول: احذر يوم القيامة أن تأتي ولا نور لك.
أَنَهيت عن شرب الخمور وأنت في كأس المظالم طائش مخمور |
كانوا يسمونه الملك العادل على مر التاريخ، ويقول أحد المؤرخين المتأخرين، وذكره أبو الأعلى المودودي وغيره، يقول: عدول الإسلام ستة: الخلفاء الراشدون الأربعة، وعمر بن عبد العزيز ونور الدين محمود، قال:
أَنَهيت عن شرب الخمور وأنت في كأس المظالم طائش مخمور |
عطلت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور |
ماذا تقول إذا نقلت إلى البلى فرداً وجاءك منكر ونكير |
ماذا تقول إذا وقفت بموقف فرداً ذليلاً والحساب عسير |
وتعلقت فيك الخصوم وأنت في يوم الحساب مسلسل مجرور |
وتفرقت عنك الجنود وأنت في ضيق القبور موسد مقبور |
ووددت أنك ما وليت ولاية يوماً ولا قال الأنام أمير |
وبقيت بعد العز رهن حفيرة في عالم الموتى وأنت حقير |
وحشرت عرياناً حزيناً باكياً قلقاً وما لك في الأنام مجير |
أرضيت أن تحيا وقلبك دارس عافي الخراب وجسمك المعمور |
أرضيت أن يحظى سواك بقربه أبداً وأنت معذب مهجور |
مهد لنفسك حجة تنجو بها يوم المعاد ويوم تبدو العور |
قال: فبكى السلطان بكاء شديداً حتى أغمي عليه ورش بالماء، ثم قام بعد أن رشوه بالماء وأرسل جيشه ألا يبقى مقس ولاعشَّار ولا مكان للخمر ولا للربا إلا ينهى ويباد، ويرفع له بذلك مذكرات ليطمئن، هذه من ابن كثير.
فكانت العجوز تصنع له الكوافي وتبيعها في السوق فإذا أتت سلمها الأجرة وسلمته قيمة الكوافي، فيتعيش بها وأهله.
أما قيامه في الليل، فقد فرض على الجيش أن يقوموا قبل الفجر بساعة، فإذا حضر قبل الفجر بساعة ضربت الطابلانخات، هكذا سماها ابن كثير، وهي أشبه شيء بالمدافع، أو بالزِّيرة التي تخرج منها أصوات. فإذا ضربت استيقظ الجيش جميعاً من الثكنات واستيقظ حرسه وأهله وحاشيته واستيقظ هو فصلوا حتى يطلع الفجر.
أتظن أن هذا ينهزم؟! كيف ينهزم وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18] قال: وكان يقوم الليل كثيراً ويدعو الله عز وجل بالنصر للمسلمين، وكان يكثر من البكاء، وربما صلى في بيته داخل الإيوان، وربما خرج أحياناً فصلى في الثكنة، وكان يمر على الجنود قبل صلاة الفجر ويقول: آه النار النار! يعني: النار يوم العرض الأكبر.
قال الناظم فيه:
جمع الشجاعة والخشوع لربه ما أحسن المحراب في المحراب |
ومعنى المحراب: الشجاع المقدام المقاتل، والمحراب معناه: محراب الإمام في المسجد.
قالوا: وكان إذا ركب راحلته قرأ القرآن وهو يسير، ويأتيه بعض الشعراء يقول: نريد أن ننشدك، قال: كفاني كتاب الله سميراً وأنيساً، وقد سمع الحديث، وكان إذا أراد أن يسمع الحديث جلس على ركبتيه كما جلس جبريل عليه السلام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم قال: فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه.
وكتب كتباً في المساجد يطلب السماح قبل موته من الرعية، فقرأت بعد صلاة الجمعة في كل مسجد من مساجد العالم الإسلامي قام الخطباء بعد الصلاة ونص الكلمة.. من نور الدين محمود العبد الفقير إلى المسلمين أجمعين.
أمَّا بَعْد:-
أشهد الله وملائكته، ثم أشهدكم أني ما تعمدت ظلمكم ألا فالعفو والسماح والغفران.
قالوا: فبكى الناس في المساجد ودعو له رضي الله عنه وأرضاه.
قال: فأعلن حالة الاستنفار في جيشه وتحرك بالجيش الذي يداهم به الصليبيين حوله إلى المدينة، قال: ومشى هو في أول الجيش ونزل قباء -المكان المعروف- ثم طوق المدينة، وأمر بعدم دخول داخل أو خروج خارج من المدينة، ثم عمل وليمة غداء للناس واستدعاهم، وقال لجنده: فإذا أصبحنا على الطعام وبدأنا نأكل اذهبوا في بيوت المدينة ومن تخلف فتعالوا به، فذهبوا فوجدوا الناس قد حضروا مأدبته، إلا رجلين مغربيين في الروضة يسبحان ويصليان، فعادوا وقالوا له: أتى الناس إلا رجلين رفضا أن يأتيا، قال: عليّ بهما، فأتي بهما، فإذا هما اللذان رأى في المنام، قال: ما قصتكما؟ قالا: نحن نعبد الله ونسبحه ونذكره في الروضة، قال لجنوده: مسوهما بعذاب، يعني: خذوهما بتحقيق، فذهب مع الجنود فجلدوهما فاعترفا، فقالوا: نحن أرسلنا ملك عكا الصليبي من الفرنجة، وأنزلنا في قارب في جدة، وركبنا من هناك، لنأخذ جثمان الرسول صلى الله عليه وسلم، ونذهب به إلى عكا، قال: يا كلبان! ما كان لكما ذلك، ثم أمر السياف أن يضرب رءوسهما، فضرب رءوسهما، ثم نكسهما عند مدخل قباء، ثم ذهب وأتى إلى القبر، فوجد أنه يحفر من تحت البساط وقد اقتربوا من القبر، فأمر بصب ما حول القبر من الرصاص، وقيل بين الرصاص وبين القبر صبة فضة، فرضي الله عنه ورحمه، وأعلى منزلته في الجنة، وهذا هو الوارد، قال ابن كثير: لما مات نور الدين فرح المجنة -يعني: الماجنون- وفرح أهل الخلاعة، وفرح أهل الطرب، لأن دولتهم ماتت في دولته، فأهل الفن، وأهل العود والوتر، ماتت دولتهم في دولته، لا يحب إلا العلماء، وما يكرم إلا الدعاة، وما يعلي إلا أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله، أما أهل الضياع فما لهم سوق عنده أبداً.
قال: فقام مغنٍ يرقص في السوق، ويقول:
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر |
وهذه القصيدة لـأبي نواس، وهذا المغني لما سمع بموت نور الدين، نزل السوق يرقص، ويقول:
ألا فسقني خمراً وقل لي هي الخمر ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر |
قالوا: وكان الشعراء يقفون ببابه، قال: أنا لا أعطي شاعراً، إنما أعطي العلماء؛ لينشروا دين الله والمجاهدين؛ لينصروا دين الله، والفقراء للحاجة، والمساكين للعوز، أما غيرهم فليس لهم في بيت المال لهم شيء هكذا قال.
فقال أحد الشعراء في نور الدين رحمه الله، لما أتى إلى نور الدين فمدحه بقصيدة، فلم يعطه شيئاً، قال: أنت لست بعالم تدعو، ولا بمجاهد ينصر بك الدين، ولا فقير ولا مسكين، فقال الشاعر:
سلطاننا زاهد والناس قد زهدوا له فكل عن الخيرات منكمش |
أيامه مثل شهر الصوم طاهرة من المعاصي وفيها الجوع والعطش |
الجوع والعطش للمتمردين وهؤلاء الهامشيين، الذين ليس لهم مكانة ولا أثر في الأمة، ولا ينبغي أن ينزلوا إلا منزلة من المنازل التي يستحقونها.
وكان نور الدين محمود يلعب بالكرة على الخيل، قال له أحد الناس: مالك تلعب بالكرة، أليس هذا من اللهو؟! قال نور الدين محمود: يقول عليه الصلاة والسلام: {إنما الأعمال بالنيات} وأنا والله ما لعبتها إلا لأتقوى بها على الجهاد في سبيل الله.
قال: ونامت زوجته ولم تقم الليل، فغضب هو وغضبت زوجته، ومن ثم أنشأ الطابلانخات لتحدث الأصوات ليقوم الناس، وكانت زوجته عابدة مصلية، وهي بَنَتْ كثيراً من المدارس وأوقفت كثيراً من الوقوف، قال ابن كثير:
فألبس الله هاتيك العظام وإن بُلين تحت الثرى عفواً وغفرانا |
سقى ثرى أودعوه رحمة ملأتَ مثوى قبورهم روحاً وريحانا |
وهو يستحق والله!
وقيل له: اذكر لنا من بعض أيامك، قال: لما نازلت الفرنجة في دمياط، قال: خرجت بجيش قليل، وإذا بجيش الفرنجة كثير قد اجتمعوا من فرنسا وانجلترا وغيرها كل هذه الدول اجتمعوا ضده، فلما رأى جيشه قليلاً وجيشهم كثيراً، طلب المهلة عشرين يوماً، قال: فصام العشرين يوماً كلها لا يفطر إلا على ماء وقليل خبز حتى ضمر جسمه، وكان يقوم الثلث الأخير، ويقول: اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي.
قال: فنام ليلة، فرأى الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول له: لا تيأس يا نور الدين محمود! من نصر الله، أما نصرك يوم حارم؟! قال: فلما صلى الفجر أتاه القاضي يحيى قاضي دمياط، فصلى معه وقد رأى القاضي يحيى رؤيا كرؤيا نور الدين، فسلم عليه وقال: رأيت رؤيا البارحة، فتبسم نور الدين محمود قال: لعلك رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: قل لـنور الدين محمود لا ييأس من نصر الله، فإنه نصره يوم حارم؟ قال: إي والله رأيت هذه الرؤيا، قال: وأنا رأيتها، قال: فأسألك بالله ما يوم حارم؟ قال: لما نازلت الفرنجة في حارم العام الأول، كان عددهم أكثر من هذا العدد، فلما ترجلت عن فرسي، أنست من نفسي الهزيمة، فمرغت وجهي في التراب، وقلت: اللهم انصرني فنصرني ربي، فهذا يوم حارم.
فيقول صلى الله عليه وسلم: الذي نصرك يوم حارم ينصرك اليوم، قال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123] قال الذهبي: وكان نور الدين حامل راية العدل والجهاد، وجمع غباره، الذي على قلنسوته وثيابه، ووجد على سرج فرسه، فجمع مقدار لَبِنَة، ثم صنعت لبنة، ثم قال: ضعوها عند رأسي إذا وضعتموني في القبر، فجمعوا هذا الغبار، وجلعوها لبنة ووضعت عند رأسه، قال الذهبي: قل أن ترى العيون مثله، حاصر دمشق ثم تملكها وبقي بها عشرين سنة، وافتتح أولاً حصوناً كثيرة، وأقام الإسلام ونصر الدين، وارتفعت في عهده لا إله إلا الله محمد رسول الله، وبنى المدارس بـحلب وحمص ودمشق وبعلبك والجوامع والمساجد، وكان إذا أذن المؤذن قام مسرعاً لا يتأخر.
يقول بعض المؤرخين: كان أول من يدخل المسجد القريب مسجد الجيش؛ نور الدين محمود، وكان يمر على الجنود وكان فيه مزح، يمزح أحياناً ويسلم عليهم ويوقظهم للصلاة، فإذا جد الجد لا يتبسم أبداً، قال الذهبي: وكان بطلاً شجاعاً، وافر الهيبة، حسن الرمي، مليح الشكل، ذا تعبد وخوف وورع، وكان يبكي في مجلس العلماء إذا تلي عليه كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان يحضر مجالس الحديث بنفسه في المسجد، وربما خرج في الليل متنكراً لا يُعرف، ليرى أحوال الفقراء، وأحوال العامة، وسمع أن أحد المترفين اعتدى على ملك رجل آخر فاستدعاه، وبطحه بالكرباك بيده؛ لأن هذا يقولون: ظالم، قال: وكان يتعرض للشهادة دائماً وأبداً، وبنى دار العدل، وأنصف الرعية، ووقف مع الضعفاء والأيتام والمجاورين، وأمر بتكميل سور المدينة النبوية، واستخرج العين بـأحد التي دفنها السيل، وفتح درب الجهاد، وقال: أسأل الله أن ألقاه يوم القيامة، ولا يسألني عن درهم ولا دينار.
يقول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: {من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً} قال: وكان يتلو ويسبح الله كثيراً، ويتحرى في القوت، ويتجنب الكبر، وكان يتشبه بالعلماء والأخيار، وكان إذا دخل عليه العلماء أقام الوزراء وأجلسهم مكانهم، وقال لهم: أنتم ميراث محمد عليه الصلاة والسلام، وكان إذا تكلم قال للعلماء: تكلموا يا من استشهدهم الله على وحدانيته: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].
وكان كل من رآه، شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره، وكان على وجهه نور من كثرة صلاته بالليل، وكان متواضعاً جد متواضع، وربما مر بالأطفال الأيتام فمسح على رءوسهم، فرضي الله عنه وأرضاه، ورفع منزلته.
قال أبو الفرج ابن الجوزي: جاهد وانتزع من الكفار نيفاً وخمسين مدينة وحصناً، وارتفعت كلمة التوحيد في عهده، وكان سادس الخلفاء أو الأئمة على مر الإسلام، وربما سبع بعضهم بـأورنك زيب ملك الهند في العدد.
وقال عنه موفق عبد اللطيف صاحب التاريخ: كان نور الدين لا ينشف له لبِد من الجهاد، وكان يأكل من عمل يده، ينسخ تارة، وربما نسخ كتب الحديث وباعها، ويعمل أغلافاً تارة، وربما عمل أغلافاً للمصاحف وجلوداً لها، ويلبس الصوف ويلازم السجادة والمصحف، وكان حنفياً يراعي مذهب الشافعي ومالك، ويحترم الخلاف، ولا يرى أن يثار الجدل في مجلسه، وقد عزر كثيراً من علماء المنطق وأهل الكلام، وقال: إنما الإسلام قال الله وقال رسوله، وهؤلاء علماء الفوضى علماء الكلام الذين يقول فيهم الإمام الشافعي: رأيي في علماء الكلام أن يطاف بهم في العشائر والقبائل وأن يضربوا بالجريد وبالنعال ويقال: هذا جزاء من ترك قال الله وقال الرسول عليه الصلاة والسلام، فهم أشبه شيء بعلماء الفكر الضائع الضال الذين لا يهتدون بنور من الله عز وجل ولا بصيرة.
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر |
فتى كلما فاضت عيون قبيلة دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر |
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضر |
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر |
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر |
إلى آخر ما قال، قال: فهو أولى بها.
المجلس الأول: للعلماء، يجلس معهم ويستفتيهم، ويسألهم، وربما تدخل في بعض القضايا، وكان يحفظ كثيراً من الأدلة.
المجلس الثاني: لأمراء الأقاليم وكان يتحرى معهم.
المجلس الثالث: للفقراء والأيتام.
المجلس الرابع: للنساء وكان يجلس وراء ستار، ويسمع شكاوى النساء، وربما أخر مجلس النساء وأرسل من ينوب عنه من القضاة ليسمعوا الشكاوي.
قال الذهبي: كان دينا تقياً، لا يرى بذل الأموال إلا في نفع، وكان كما مر معنا، أدمن الكر والفر حتى أثر ذلك في جسمه.
والشهادة هبة من الله عز وجل، وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه} وقد سأل الله الشهادة في كل موقعة، وقد تمنى وكان يسجد ويقول كما مر معنا: اللهم احشرني يوم العرض الأكبر من حواصل الطير وبطون السباع، ومع ذلك لله حكمة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
خالد بن الوليد يقال: خاض أكثر من مائة معركة، ومع ذلك مات على الفراش -حكمة بالغة- وهذا سمي عند أهل العلم شهيداً؛ لأن مرضه أشبه بالشهادة، فقد جلس في الإيوان وكان تُرفع إليه قصاصات وأوراق الشكاوى فرفع طرفه وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم احمر وجهه فسحب من المكان ورفع، فمات بعد ساعات، وأصيب بالخوانيق وهو اختناق وقليل جروح امتدت إلى بطنه فلعله من الشهداء الذين قال فيهم عليه الصلاة والسلام: {المبطون شهيد} قالوا: دخل الداء إلى بطنه، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة}.
وفي تذكرة الحفاظ للذهبي أن أبا زرعة الحافظ الكبير المحدث لما حضرته سكرات الموت أغمي عليه، فأراد تلاميذه بعد ما استيقظ أن يذكروه هذا الحديث، لأنهم استحيوا أن يقولوا: قل لا إله إلا الله، وإلا فلا حياء في مثل هذه الكلمة، بل النصيحة واردة، لكن لجلالة أبي زرعة في الإسلام، أرادوا أن يذكروه بسند الحديث ليتذكر هو الحديث، قال: فاختلفوا في سند الحديث قال بعضهم: حدثنا فلان، وقال بعضهم: حدثنا فلان، فقال: أبو زرعة، وهو في الرمق الأخير، حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، أن فلاناً حدثنا عن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} ثم قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ثم مات.
ولما توفي اختلطت السلطة، وقام نائبه ففتح الإيوان للعزاء، فسمع بكاء الناس، ووقف النساء والأطفال على سطوح المنازل، ونزل الجند من الثكنات معهم الخيزرانات، يمنعون الناس من النزول إلى السكك خوفاً من الرهج، وأصاب الناس هم عظيم وحزن، ودخل في كل بيت مصيبة، وقام الناس يقرءون القرآن، ويبتهلون إلى الله أن يغفر له، وأعيدت قراءة رسائله إلى الأمة، واشتد البكاء، ونزل القضاة يصلون بالناس، وارتفعت جنازته وسار وراءها الجيش ثم العامة، وما وصلت إلى المقبرة إلا في صلاة العصر وقد مضي بها من الصباح.
وتقطعت في الطريق أحذية الأمراء والوزراء، وكانت الأغطية تسقط على الناس من على سقوف المنازل والعمامات، وكان الناس يقولون: سقى الله نور الدين من سلسبيل الجنة، غفر الله لـمحمود، رحم الله محموداً، قال: وأسلم من النصارى، واليهود جمع عظيم لما رأوا جلالة الإسلام وعظمته، وقام القاضي الشهرزوري يصلي عليه فقال: الله أكبر فبكى؛ فبكى الناس.
قال: وكان له رسم في حياته، يحسب ما يدخل عليه من أجرة الدكاكين ومن أجرة الكوافي ونسخ المجلدات، ويحسب ما ينفق في سيبل الله، وكانت معيشته عيشة الفقير، وكان له بعض الأموال في مزرعة في الشمال ينفقها على الفقراء.
وكان يأمر بالسنة، وكان إذا صلى الناس العشاء قام أولاً يوتر بعد صلاة العشاء على مذهب الأحناف، وأنت ترى الأحناف اليوم إذا سلم الإمام حتى في الحرمين يقومون مباشرة ويسنون، ونور الدين منهم، وهو من أصلب الناس على المحافظة على السنن، ومن أقواهم حتى يروون في رواية لـأبي يوسف ومحمد بن الحسن، أن الوتر واجب، فهم يحافظون عليه محافظة تامة، ومنهم نور الدين محمود، وكان يخلع حذاءه إذا أراد أن يدخل المسجد ويأخذها بيده أمام الجنود والناس، وكان إذا دخل المسجد تبسم للناس وتبسموا له، وسلم عليهم.
وكان يحضر مبكراً لصلاة الجمعة، فيجلس أمام الخطيب، وكان يعظه الواعظ المنتخب فيبكي، وكان المنتخب يقول في الخطبة: يا محمود! اتق الله يا محمود! فيسمع نشيج محمود في الصف الأول.
قال الذهبي في ترجمة القطب الواعظ الثاني الذي أتى خطيباً بعد المنتخب، فبعد أن مات المنتخب، عين نور الدين محمود القطب خطيباً بعده، فأراد أن يقلد الأول، والأول عنده صدق وعلم وقوة وزهد، فكان يقول: يا محمود! اتق الله يا محمود! قال: فيقشعر جلد محمود ولا يبكي، وبعد الصلاة قال له محمود: لا تذكر اسمي في الخطبة، فو الله إن المنتخب كان إذا قال لي: يا محمود! اقشعر جلدي وذرفت دمعتي ووجل قلبي، وأما أنت إذا قلت لي يا محمود! ضاق صدري وقسا قلبي، قال الذهبي مترجماً لـالقطب كان غائصاً في بحار الدنيا.
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها |
وأذكر في ذلك قصة يذكرها الحفاظ: أن عمر رضي الله عنه وأرضاه، مر برجل مصروع أغمي عليه، فقال عمر: مه، ما هذا؟! قالوا: مصروع، عليه مس، فجلس عمر ووضع يده على صدره، وقرأ عليه سورة ق فشفي بإذن الله وأخرج الجان، وبعدما ما مات عمر أتى الجان وركب هذا الرجل، وأعاد الكرة معه، فجاء رجل من الناس -وقد حضر قصة عمر رضي الله عنه- فوضع يده على صدر هذا المصروع وقرأ سورة ق، فقال الجان: السورة هي السورة ولكن القارئ غير القارئ.
فالكلام هو الكلام، لكن القارئ يختلف، فذاك عمر وهذا يختلف. فهذا وقع أيضاً، فيقول نور الدين: لا تذكرني في الخطبة مرة ثانية، اخطب وأنا أسمع، أما ذاك فذهب.
تقضون الفلك المسير دائر وتقدرون فتضحك الأقدار |
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الانسان:30] وفتح أحد حسناته، وهو تلميذه صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس، ولما فتح بيت المقدس الجمعة الأولى جلس في الصف الأول وقام شمس الدين الحلبي يخطب في الخطبة، وذكر نور الدين وأخذ يحيي صلاح الدين، يقول في الخطبة: الحمد لله وحده، الذي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، الحمد لله منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، ثم التفت إلى صلاح الدين وقال:
تلك المكارم لا قعبان من لبنِ وهكذا السيف لا سيف ابن ذي يزن |
وهكذا يفعل الأبطال إن غضبوا وهكذا يعصف التوحيد بالوثن |
ثم ترحموا على نور الدين، فلما صلوا قام صلاح الدين وقبل المنبر من الخشب، الذي صنعه نور الدين محمود وقال: رحمك الله، وقد تمنى أن يصلي هناك، فنسأل الله أن يكتب له أجر تلك الأمنية، وكان خاطره مكسرواً كلما تذكر بيت المقدس، وقد فتح الشمال وطرد الإفرنجة ووقف أحد أبناء نور الدين واسمه ابن معين الدين معه، فلما طرد الإفرنجة، قال لـابن معين الدين: الآن بردت جلدة أبيك في قبره، قال: ولمَ أبي؟ قال: لأنه صالح الإفرنجة وأنزلهم دمياط وأنا طردتهم، قال: الآن لما شاركت عسى أن تكون كفارة، أنك طردت هؤلاء الأقزام.
فهذه معالم من سيرة نور الدين محمود الذين يتعرض أبناء عمومته الأكراد أهل السنة إلى هجوم من الحزب الكافر: حزب البعث، وإبادة تامة، فنسأل الله أن يرفع عنهم هذه الضائقة وأن ينصرهم على عدوهم، وإنها والله لعبرة لنا أن نعتبر، والله عز وجل قد تكفل بنصر هذا الدين.. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
فهذا الدين ينصر على يد من والى الله عز وجل، فإن بلالاً عبد حبشي جعله الله من أنصار دينه، وأبو طالب أصله قرشي ولكنه أعرض عن لا إله إلا الله، وسلمان فارسي وصهيب رومي، ولكن أقرب الناس إلى الله أحبهم إليه بطاعته، ولا يقترب أحد إلا بنصر هذا الدين.
فانظر إليه كيف كان عجمياً تركياً ولم يكن عربياً، ثم تحمس للإسلام وتفقه في الدين، ورفع القرآن ونصر إياك نعبد وإياك نستعين، وأكرم أهل العلم وأذل أهل الكفر والبدع، ونفى الفساد، وأقام العدل والجهاد، فأصبح مرفوع العماد، ومذكوراً بين العباد على مر الأعوام والأيام والآماد: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ [يوسف:111].
ونسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وإنما المقصود من سير هؤلاء أن نتعلم ونأخذ منهم ما تركوا لنا من علم وأدب وتواضع وحلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من تشبه بقوم فهو منهم} ويقول الله عز وجل: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] وكان صلى الله عليه وسلم يقول: {المرء يحشر مع من أحب} فنشهد الله عز وجل وملائكته وحملة عرشه، ثم نشهدكم أننا أحببناه وأحببنا الصالحين، فنسأل الله أن يجمعنا بهم في دار الكرامة.
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا |
أيها الإخوة الكرام: بقي مسألتان، المسألة الأولى: حفظكم الله تعلمون أنه قد قرب وقت إخراج زكاة الفطر وهناك الهيئة العامة للإغاثة الإسلامية، وفقها الله والقائمين عليها تتلقى زكاة الفطر، وعنوانها معروف عند الإخوة حتى تدفعوا إليها زكاتكم، وفيها فتوى من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.
الأمر الثاني: أمامكم مشروع عظيم، والواجب علينا جميعاً أن نشارك فيه، وهو والله فخر لهذه البلاد وفخر لنا جميعاً، وهو ما أوجب أن يمكن أن يدفع فيه المال، الجماعة الخيرية لتحفيظ كتاب الله تتحرى منكم الدعم، هذه الليلة وبعد هذه الليلة، وسوف تقوم بمشروع عظيم، بناء واسع للجماعة، وفيها مسجد، وفيها صالات، ومكتبات ودور وفيها أمكنة لطلبة العلم، تحمل الشهادة لكم بأنكم أنفقتم في سبيل الله، ولا يقول قائل منكم إني دفعت بالأمس، أو قبل أمس، لا. بل: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261] إلى التبرع هذه الليلة، بدعم سخي، على ما عودتم أنفسكم بهذا البذل، وأنا أسأل الله عز وجل لي ولكم التوفيق والهداية.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر