أما بعد:
فهذا لقاء متجدد من برنامجكم: لطائف المعارف، وسبق التنويه في أكثر من لقاء أن هذا البرنامج برنامج موسوعي لا يختص بشخصية معينة، ولا فم بعينه، وإنما يطرق جوانب عديدة تاريخية وإيمانية، قصصية وإخبارية، وأعلاماً مكانية وزمنية، وأعلاماً على أشخاص، هذا المقصود من لطائف المعارف.
لقاء اليوم يحمل عنوان: (اثبت أحد)، وهذا لفظ نبوي، أي: أن القائل: هو نبينا صلى الله عليه وسلم.
بداية نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم في الغيب الذي أخبر عنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: غيب أخبر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم مما قد سلف في غالب الأزمان، كإخباره بما قص الله عليه من نبأ يوسف وإخوته، وأهل الكهف، وقوم نوح، وعاد، وغيرهم، وخبر يخبر عنه صلى الله عليه وسلم مما وقع في حياته؛ كإخباره صلى الله عليه وسلم عن صرعى بدر، وإخباره صلى الله عليه وسلم عن أمور تقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وهذا يندرج تحت الحديث الذي بين أيدينا.
قال عليه الصلاة والسلام: (اثبت أحد) وهو عنوان حلقتنا.
فأحد جبل سمي بذلك لتفرده عن الجبال، يقع في شمال المدينة المنورة، وهو جبل مبارك قال فيه صلى الله عليه وسلم: (أحد جبل يحبنا ونحبه)، هذا الجبل صعده النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان الخلفاء الراشدون بعده، فلما صعدوا إلى الجبل رجف بهم، السؤال: لم رجف الجبل؟ قال العلماء في تعليل ذلك: إن الجبل رجف فرحاً بمن رقاه من الشرفاء، ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق، وأصحابه أشرف الناس بعد الأنبياء والمرسلين، فالجبل فرح فسكنه النبي صلى الله عليه وسلم بقدمه وقال: (اثبت أحد)، ثم قال صلوات الله وسلامه عليه: (فإنما عليك نبي -يعني: نفسه عليه الصلاة والسلام- وصديق -يقصد:
وهذا الحديث النبوي فيه دلالات مستفيضة يمكن طرقها من عدة جوانب منها: أن الله جل وعلا ألهم بعض الجمادات حب نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس جبل أحد بأولها ولا بآخرها، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب كثيراً متكئاً على جذع نخلة في مسجده الشريف صلوات الله وسلامه عليه، وهو موضع المنبر اليوم، ثم بعد فترة صنع له منبر له ثلاث درجات، فكان صلى الله عليه وسلم يرقى هذا المنبر المصنوع من أعواد ليخطب الناس ويكون مشرفاً من مكان عال، فأول يوم ارتقى صلى الله عليه وسلم فيه المنبر أحدث الجذع صوت حنين وشوق إلى خبر سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، هذا كله والصحابة ينظرون، فنزل عليه الصلاة والسلام إلى الجذع وسكنه ثم عاد عليه الصلاة والسلام وخطب، ولهذا يقال: حن الجذع إليه صلوات الله وسلامه عليه، كما أنه صلى الله عليه وسلم سبح الحصى بين يديه، وقال في حديث آخر: (إني لأعلم حجراً في مكة كان يسلم علي قبل البعثة)، والمقصود: أنه عليه الصلاة والسلام قبل أن ينبأ -وهو عليه الصلاة والسلام نبئ (بإقرأ) وأرسل (بالمدثر)- كان يمشي في طرقات مكة فيسمع الحجر يسلم عليه: السلام عليك يا نبي الله! فيلتفت ميمنة وميسرة فلا يرى شخصاً ولا خيالاً، ثم لما نبئ وأرسل عرف أن ذلك الحجر كان قد ألهم المعرفة بأن هذا الذي يمشي هو نبي الأمة وسيد الخلق، ومن سيختم الله به النبوات، ويتم الله به الرسالات، صلوات الله وسلامه عليه.
وفتية لا تنال الأرض أبناءهم ولا مفارقهم إلا مصلينا
المقصود من هذا: أن تلك الأنفس كانت عظيمة جليلة بذلت دماءها وأرواحها وأنفسها من أجل نصرة دين الله جل وعلا، فقام نبي الأمة ورأس الملة وسيد الأمة صلى الله عليه وسلم وهو يشعر بدنو الرحيل وقرب الأجل ومفارقة الدنيا إلى ذلك الموضع فسلم على أهله، واستغفر لهم، ليكون بعد ذلك سنة، وإلى اليوم في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس والزوار لزيارة شهداء أحد اتباعاً لسنة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ونحن نعلم أن على تلك القبور لا يملكون لنا ولا لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، لكنها سنة يؤدى لهم فيها بعض الواجب رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
أما عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه فقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيموت شهيداً وقد مات شهيداً، طعنه أبو لؤلؤة المجوسي كما هو معروف مشهور في محراب نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد كان عمر يقول قبل أن يقتل: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وميتة في بلد رسولك. ويقال: إن بعض الصحابة وبعض من حوله من التابعين كانوا ينازعون عمر رضي الله عنه في هذه الكلمة ويقولون: يا أمير المؤمنين ! إن الشهادة مظانها ساحات الجهاد وليست في المدينة؛ لأن المدينة ديار إسلام محمية ليس فيها كفار، أو ليس فيها محاربون من أهل الكفر، لكن عمر كان يصر على دعائه، وقد أعطاه الله جل وعلا لصدق نيته وعظيم جهاده ما تمناه فمات شهيداً في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحقق له ما أراد رضي الله عنه وأرضاه.
أما عثمان رضي الله عنه وأرضاه فقد قتل في المدينة، قتله الخوارج بعد أن تسوروا داره وقتلوه، فهو أمير البررة والذين قتلوه فسقة فجرة، ويصعب أن نقول بكفرهم، وإن كان بعضهم قد يكفر من استحل دمه، فـعثمان رضي الله تعالى عنه مات شهيداً، والمقصود من هذا: أن هذا بعض الغيب الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم ماتوا شهداء كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه.
هذا ما تحرر إيراده وتيسر إعداده حول قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد! فإنما عليك نبي، وصديق، وشهيدان).
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر