إسلام ويب

سبعة يظلهم الله في ظلهللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يتحدث النبي صلى الله عليه وسلم إلى كل مؤمن ومؤمنة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويتحدث إلى الأجيال تلو الأجيال، ويخبرهم بفضائل الأعمال، ومن هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يضلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ...) الحديث.

    وفي هذه المادة شرح تفصيلي لهذا الحديث وبيان لما فيه من الدروس والعبر.

    1.   

    شرح حديث : (سبعة يظلهم الله في ظله ...)

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد:

    فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    أيها الإخوة! إن كان للحياة لذة وللعيش سعادة؛ فإنما هو بالجلوس في مجالس الذكر التي إذا انقطع عنها القلب شعر بقسوة ووحشة وغربة.

    يا من يعز علينا أن نفارقهم     وجداننا كل شيء بعدكم عدم

    إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا     ألا تفارقهم فالراحلون هم

    نعود إلى البخاري ومسلم، إلى حفظة الإسلام، وإلى كتب هذا الدين الذي شرفنا الله به.. والشريعة التي بعثها صلى الله عليه وسلم للبشرية، فهدى الله بها من شاء، وأخرج بها من شاء من الضلالة إلى الهدى، ومن العمى إلى النور، ومن الغي إلى الرشاد، فنسأله سبحانه تعالى، فإنه هو ولي المؤمنين الذي يخرجهم من الظلمات إلى النور؛ أن يخرجنا وإياكم من ظلمات الجهل والشبه والشهوات إلى نور اليقين.

    معنا في هذا الدرس حديث مشرق من كلامه عليه الصلاة والسلام، وهو يتحدث إلى كل مؤمن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يتحدث إلى الأجيال تلو الأجيال، وهو أبونا عليه الصلاة والسلام، بل هو الأب الروحي كما يقول ابن تيمية، وأما آباؤنا فإن كل أب جثماني ننتسب إليه، أما الانتساب في مبدأ (لا إله إلا الله) والانتساب الحق، إنما هو إليه صلى الله عليه وسلم.

    قال أبو هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين) نسأل الله بأسمائه الحسنى وبصفاته العلى أن يجعلنا وإياكم من هؤلاء السبعة.

    وهؤلاء السبعة -كما يقول أهل العلم- هم سبعة أصناف وليسوا سبعة أفراد؛ لأنهم لو كانوا سبعة أفراد، فإذا اكتملوا حرم البقية من الأمم ومن الألوف المؤلفة هذا الفضل، ولكنهم سبعة أصناف.. يأتي في صنف الإمام العادل آلاف، فكل من عدل في رعيته، سواء كان أمير عامة كما يقول ابن تيمية، أو أمير خاصة، وحتى لو كان في بيته، حتى يقول ابن تيمية في فتاويه: من عدل بين طالبين فهو إمام عادل. فإذا صحح الأستاذ لطالبين فعدل بينهما؛ فهو من هؤلاء الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فإن خان حرم وكان ممن جار في الحكومة عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

    إذاً: فهؤلاء السبعة أصناف وليسوا بأفراد، فالإمام العادل يأتي منه آلاف مؤلفة، والشاب الذي نشأ في عبادة الله يأتي منه آلاف مؤلفة، وكذلك الرجلان اللذان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، يأتي منهم ألوف مؤلفة. والذي ينبغي على المؤمن أن يحرص كل الحرص أن تكون فيه صفة من هذه الصفات إذا لم تكن فيه صفتان أو ثلاث، وهي سهلة ويسيره على من يسرها الله عليه، ولذلك يقولون: إن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه الخليفة الأموي الذي يعتبر من الخلفاء الراشدين، اجتمعت فيه صفات، منها: أنه نشأ في عبادة الله، ومنها: أنه إمام عادل، ومنها: أن قلبه معلق بالمساجد، ثم قالوا: ولا يبعد أنه ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ولا يبعد كذلك أنه أحب قوماً في الله، اجتمع معهم في محبة الله وفارقهم على محبة الله... إلى غير تلك الصفات.

    قال عليه الصلاة والسلام: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) فلا ظل يوم القيامة ويوم العرض إلا ظل الله، ولا فيء إلا فيئه تعالى، ولا كنف إلا كنفه، فإنه لا يوجد هناك مظلة، ولا شجر، ولا ظلال، ولا شيء يقي من حر الشمس التي تدنو من الرءوس.

    يقول عقبة بن عامر: والله الذي لا إله إلا هو لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تدنو الشمس يوم القيامة من الرءوس حتى ما يكون بينها وبين الناس إلا ميل. قال: فوالله ما أدري هل هو ميل المكحلة أو الميل المعروف هذا) ويبلغ الكرب من النفوس مبلغاً عظيماً لا يعلمه إلا الله، حينها ينزل الجبار تبارك وتعالى نزولاً يليق بجلاله على عرشه، يحمل عرشه ثمانية وهو مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، لا كيف ولا أين ولا شبيه، بل هو مستو على عرشه كما أخبر بذلك تبارك وتعالى، فإذا نزل نادى بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، سُبحَانَهُ وَتَعَالى -فهو الملك كما قال: مالك يوم الدين، ملك يوم الدين، فلا مالك إلا هو، وفي الحديث الصحيح: ( أنا الملك فأين ملوك الأرض) ثم يعيد سُبحَانَهُ وَتَعَالى: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ ثم يقول تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16] حينها ينادي تبارك وتعالى أول نداء، يقول: (أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) وهذا الحديث عن معاذ بن جبل في صحيح مسلم، فيقومون يتخطون الناس حتى يستظلون بظل العرش.

    والسبعة في الحديث الذين قال عنهم عليه الصلاة والسلام أنهم سبعة، وعدد السبعة محبوب في الإسلام، فأيام الأسبوع سبعة، والطواف سبعة أشواط والسعي سبعة، ورمي الجمار سبع، وكثير ما يعلق الشارع بعدد سبعة، لأنه وتر والله يحب الوتر، واختار الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام هذا العدد، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: سبعة يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فلنستمع ولنعش مع هؤلاء السبعة؛ عل الله أن يرزقنا أن نكون من صنف ولو واحد منهم، وهو والله سهل بسيط، ولو أن تقوم من مجلسك هذا فتتصدق بصدقة تخفيها حتى لا تعلم شمالك ما تنفق يمينك، أو تنـزوي في زاوية فتذكر الله وتتباكى، أو تحب الصالحين في محبة الله تعالى، أو تشعر قلبك كلما سمعت (الله أكبر) في النداء؛ أن قلبك في المسجد، فتعلقه في المسجد، وهذا وجه بلاغي سوف يأتي عند شرح الحديث.

    1.   

    الإمام العادل

    والإمام العادل: هو من عدل في رعيته، وحكم فيهم بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فهذا يدعوه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق، وفي مسند أحمد عن عبد الله بن مغفل، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أمير ولا والي ولي من أمر الأمة شيئاً إلا أتى ويداه مغلولتان وراء ظهره) يأتي يوم القيامة ويداه مغلولتان وراء ظهره، اليمنى فوق اليسرى، سواء عدل أو لم يعدل، فإذا حوسب وكان عادلاً أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وإذا كان جائراً رده الله على وجهه ويداه مغلولتان وراء ظهره.

    والإمام العادل يكون في البيت، وفي المدرسة، وفي الدائرة، وفي الأمة، وفي أي مكان، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته) إذا علم هذا فأعدل الأئمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو أعدل من خلق الله، وهو الذي حكم على نفسه قبل أن يحكم عليه غيره عليه الصلاة والسلام، وأنصف من نفسه، بل كان في آخر أيامه يقف على المنبر ويقول للناس: يا أيها الناس! اللهم من سببته أو شتمته أو ضربته، اللهم اجعلها كفارة له، ثم قال: يا أيها الناس! من سببته أو شتمته أو ضربته، أو أخذت شيئاً من ماله، فليقتص مني اليوم، قبل ألا يكون درهم ولا دينار، هذا عرضي فاقتصوا منه، فتراد المسجد بالبكاء في عهده عليه الصلاة والسلام.

    قصص تمثل عدل الرسول صلى الله عليه وسلم

    وقعت له عليه الصلاة والسلام قصص في العدالة، ولذلك ورد في الصحيح من حديث عبد الله بن الزبير، قال: {اختصم أبو عبد الله الزبير بن العوام حواري الرسول صلى الله عليه وسلم، هو ورجل من الأنصار في مزرعة في شراج الحرة -وهي ضاحية من ضواحي المدينة - فلما اختصم الزبير هو وهذا الرجل الأنصاري، ذهبوا إلى أعدل الخلق، وإلى الحاكم عليه الصلاة والسلام، الذي ائتمنه الله على الوحي من السماء، فكيف لا يأتمنه الناس على الدرهم والدينار، والذي قال الله فيه: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [التكوير:24-25] وقال في سورة الحاقة وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:45-46]. نزه الله سمعه وبصره، ومدح قلبه ويده ورجله، فهو الممدوح المعصوم عليه الصلاة والسلام.

    حضر ليحكم في القصة؛ فأتى فإذا مزرعة الزبير فوق مزرعة الأنصاري، والزبير بن العوام ابن عمة الرسول عليه الصلاة والسلام صفية بنت عبد المطلب، والناس تسرع إليهم الشبه والريب، فأتى عليه الصلاة والسلام رحمة بالأنصاري وعطفاً عليه، فأراد أن يكون صلحاً ولا يكون حكماً، لأن للقاضي عليه أن يقدم الصلح قبل الحكم، بشرط أن يكون الصلح غير منافٍ لكتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا زبير! اسق، فإذا سقيت فاترك الماء ينـزل إلى مزرعة الأنصاري. فغضب الأنصاري، وهو مسلم ولكن الشيطان راوده، يغضب على سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، فالتفت الأنصاري والصحابة وقوف، وقال: أن كان ابن عمتك حكمت له؟ سبحان الله! الرسول يميل مع ابن العمة وابن الجدة وابن الخالة، وينسى الله وهو أتقى الناس لله! فاحمر وجهه عليه الصلاة والسلام وسكت، فقام عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يا رسول الله! نافق هذا الرجل دعني أضرب عنقه.

    ثم ما دام أن الأنصاري اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجور فالآن يأتى الحكم، كان في صالحه أول النهار، ولكن الآن أتى الحكم، فقال: اسق يا زبير حتى يعود الماء إلى الجدر -يعني إلى الجدار- ثم اترك الماء يمر. فما رضي الأنصاري أول مرة بالصلح الذي هو لصالحه، ولكن غاضب الرسول عليه الصلاة والسلام فحاكمه إلى السنة، فقال: والسنة أن يسقي حتى يعود إلى الجدار، ثم اترك الماء. فذهب صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عليه وهو في طريقه إلى المدينة قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] معنى الآية: والله لا يدخل الإيمان في قلوبهم، ولا يذوقون طعم اليقين حتى يحكموك ويجعلوك حكماً عادلاًمنصفاً يرضونك، حتى يقول بعض العلماء: يرضونك في لا إله إلا الله، كما رضوك في أقل شعائر الدين. فمن لم يرض به صلى الله عليه وسلم حاكماً في عبادته، وعقيدته، وسلوكه، وأخلاقه، فوالله ما آمن ولا رضي بالله رباً، ولا بالرسول صلى الله عليه وسلم إماماً.

    ووقعت له صلى الله عليه وسلم قصة أخرى وهو يقسم الغنائم بين الناس، فكان يعطي هذا ليتألفه للإسلام كما تعرفون، ويقلل لهذا لأن في قلبه إيماناً ويقيناً وصدقاً، فيأتي بعض المنافقين ويجلس ويقول: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى. فيذهب ابن مسعود فيقول: أتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته في أذنه بالخبر، فتغير وجهه حتى أصبح كالصرف. قيل: الصرف النحاس الأحمر، وقيل: الذهب الأحمر، وقال: رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر، قال ابن مسعود قلت في نفسي لا جرم والله لا أرفع إليه بعدها كلمة. قال: فذهبت، فأتى خارجي ناتئ الجبين، أي: مقدم الجبين، فقال: يا محمد! اعدل -يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالعدل- فقال رسول الله: خبت وخسرت إن لم أعدل، ألا تأمونني وأنا أمين من في السماء، فقال عمر: دعني أضرب عنقه يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: لا. يخرج من ضئضئ هذا -قيل ثديه وقيل يده؛ لأنه كان في يده كحلَم الشاة، وقيل: كحلَم الشاة وعليها شعرات، قال: {يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} وهؤلاء هم الخوارج، أخذوا بالحكم الظاهر وتركوا حقائق الأمور، فأدركهم سيف الله المنتضى أبو الحسن، فقتلهم قتل عاد، وكانت من حسناته.

    فالإمام العادل وأعدل الناس هو الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم أتى الأئمة العدول بعده عليه الصلاة والسلام، وإنما المقصود من هذا أن من ولاه الله أمراً من أمور هذه الأمة فليتق الله وليعدل؛ إن كان مديراً في مدرسة، أو مسئولاً في الحكومة، أو موظفاً أو رائداً في بيته، أو مسئولاً وأميراً في سفر، أو إماماً عاماً أو قاضياً؛ فليعلم أنه يأتي يوم القيامة إما عادلاً يظله الله في ظله أو جائراً يتلفه الله عز وجل.

    صور من حياة الصحابة في العدل

    أورد أهل السير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه - وسيره وسير أبي بكر وعمر وعثمان؛ هؤلاء الصفوة هي التي تحيي القلوب بإذن الله عز وجل، والذي يريد أن يعرف ويتعرف على الإسلام؛ فعليه أن يقرأ سير هؤلاء فإنهم هم الذين هداهم الله وذكرهم في كتابه.

    فَقَدَ علي بن أبي طالب درعه، فأخذه يهودي، فمر علي رضي الله عنه، فرأى درعه على اليهودي، فأمسكه بتلابيبه، وقال: درعي يا يهودي! وعلي في ذلك الوقت خليفة المؤمنين من شرق الأرض إلى غربها، وبإمكانه أن يدعو الجنود فيضربوا هذا اليهودي حتى لا يدري أين الشرق من الغرب، لكن.. لا.

    فالأمر شورى والخلافة بيعة     والحق حق والحقوق قضاء

    فقال اليهودي: ليس هذا بدرعك. فقال علي: بل درعي والله. والواجب أن يصدق، فقال اليهودي: أتحاكم أنا وأنت. قال: أنا الخليفة. قال: لا. أنت ستحكم لنفسك. وأراد اليهودي أن يمتحنه، فذهبوا إلى شريح القاضي، وهو أحد قضاة علي رضي الله عنه وأرضاه، فلما أتوا إليه قام فرحب بـعلي بن أبي طالب، قال علي: لا ترحب بي، لأنني خصم. أنا جئتك اليوم خصم، وما جئتك خليفة، إذا جئتك خليفة فرحب بي، ولكن ساو بيننا في لحظك ولفظك. فقالشريح: اجلس هنا يا أمير المؤمنين! قال: لا. لأنني خصم، إما أن تجلسنا سوياً في مكان واحد، أو أجلسنا على الأرض في مكان واحد، فأجلس علياً بجانب اليهودي على الأرض، وجلس شريح على كرسي القضاء.

    ثم قال: هل لك بينة يا أمير المؤمنين أن الدرع درعك؟ قال: نعم. يشهد لي شاهد. قال: من شاهدك؟ قال: ابني. قال: أنت تعلم أن الابن لا يشهد لأبيه. وعلي يريد أن يختبر القاضي، قال: إذاً ليس عندي شاهد. قال: إذاً فالدرع درع اليهودي، لأنك لم تأت ببينة، فأخذه اليهودي فولى، ثم التفت وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، آمنت بهذا الدين الذي أجلسك يا أمير المؤمنين بمجلس معي، والله الذي لا إله إلا هو إن الدرع درعك، فأعطاه وسلمه ودخل في الإسلام.

    فهذا وأمثاله من أئمة الإسلام، هم الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ولذلك يقول أحمد شوقي يمدح الرسول عليه الصلاة والسلام:

    وإذا حكمت فلا ارتياب كأنما     جاء الخصوم من السماء قضاء

    وعمر رضي الله عنه وأرضاه مثَّل العدل في الإسلام، وقصصه لا تنتهي أبداً، ولكن نكتفي ببعض المواقف.

    منها: أنه جلس مع الصحابة رضوان الله عليهم في المدينة في ضحى النهار، وإذا برجل يقدم من البادية مسحوباً بيده من قبل شباب ثلاثة، فقال لهمعمر: مالكم ماذا وقع؟

    قالوا: هذا قتل أبانا. قال: وما الخبر؟

    قالوا: أتى أبونا بجمل معه، فرعى في مزرعة هذا الرجل، فقام وأخذ حجراً فألقاه على رأس أبينا فقتله، فالتفت عمر إلى الرجل وقال: أقتلت أباهم؟

    قال: نعم. قتلت أباهم. قال: وما حملك؟ قال: عدى بجمله على مزرعتي فظننت أنني سوف أبعده بالحجر فرميته فقتلته. قال القصاص: حكم الله بالقتل. قال: يا أمير المؤمنين! أسألك بالله الذي لا إله إلا هو أن تمهلني ثلاثة أيام، فوالله الذي لا إله إلا هو أن أهلي في الصحراء، ما معهم معول إلا أنا بعد الله عز وجل، ولا خليفة لهم بعد الله إلا أنا، لا يعلمون أين ذهبت من أرض الله، لأنني لما قتلت أباهم، اقتادوني إليك ولم أخبر أهلي، قال عمر: لن تذهب، لأنك خصم، وقد حكم عليك بالقصاص إلا أن تأتي بكفيل. فالتفت إلى الصحابة فلم يعرف أحداً منهم أبداً، فأعاد النظر إليهم -ويا سبحان الله! فتيه ونساء وراءه، كيف يقتل في المدينة وهم ليس عندهم خبر، ولا خليفة لهم بعده ولا والي إلا الله عز وجل؟!- فالتفت إلى الصحابة ثم نظر إليهم، فرأى أبا ذر رضي الله عنه، وإذا على وجهه النور والخشية والزهد، فقال: يا شيخ! أنا ما عرفتك لكن أسألك بالله الذي لا إله إلا هو أن تكفلني، فإني سوف أعود. قال أبو ذر: ومن بيني ويبنك؟ قال: بيني وبينك الله. قال: أبو ذر، وعيناه تدمع: كفى بالله ولياً وكفى بالله حسيباً.

    فقال عمر رضي الله عنه: أكفلته يا أبا ذر؟ قال: نعم. يا أمير المؤمنين! والله لو كنا في الجاهلية لكفلته، كيف وقد أتاني بموثق من الله.

    ولذلك لما أتى يعقوب عليه السلام قال لأبنائه: أعطوني موثقاً، فأتوه بموثق من الله عز وجل، فقال: الله على ما نقول وكيل، ومن رضي بالله وكيلاً، كفاه الله عز وجل.

    فذهب الرجل وبقي أبو ذر، وجلس الصحابة رضوان الله عليهم، ومضت ثلاثة أيام وهم ينتظرون، وفي اليوم الرابع جلس عمر رضي الله عنه الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، حتى يقول: والله لو فصل عظمي عن لحمي لأعملن بسنه سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجلس ودعا الشباب الذين يطالبون بدم أبيهم، ودعا أبا ذر، فخرج أبو ذر، فقال: أجاء الرجل؟ قالوا: لم يأت من البادية. قال: الله المستعان! لأن القصاص في ذلك الوقت، فجلس الصحابة يطالعون وينظرون في الصحراء، وتأخر الرجل حتى قرب الغروب، وقال عمر رضي الله عنه: إن غربت الشمس فالقصاص ياأبا ذر. قال: يا أمير المؤمنين! كيف؟ قال: والله لا أمهلك، حكم الله عز وجل، أنت عن أبيهم لأنك كفيل، فلما أوشكت الشمس على الغروب، وإذا بذلك الرجل يقبل وهو يجري جرياً، فلما دخل ألقى نفسه وقال: والله ما أكلت من الصباح وما شربت؛ لأدرككم، في هذا اليوم، ذهبت إلى أهلي، والله لقد تركت صبيتي وبناتي يتباكون، فتأثر الصحابة كثيراً، والتفت عمر رضي الله عنه، وقال: القصاص، حكم الله عز وجل. فقام الشباب، وقالوا: ما دام أن هذا أوفى مع الله عز وجل، فلا يكون أوفى منا، قد عفونا عنه وسامحناه، فقام عمر وقال: عفا الله عنكم يوم العرض الأكبر، وجزاك الله بوفائك خيراً يوم أتيت، وبارك الله فيك يا أبا ذر؛ لأنك كفلته في ذات الله عز وجل.

    فهذه صورة رائعة من صور العدل التي مثلها عمر رضي الله عنه وأرضاه للأمة، والله عز وجل يقول لداود عليه السلام: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص:26].

    1.   

    الالتزام بالعبادة منذ الصغر

    وأما الصنف الثاني: فهو الشاب الذي نشأ في طاعة الله وعبادته، لا يعرف إلا القرآن، وذكر الله عز وجل، وهذا الأمر عزيز ونادر، حتى يقول الغزالي: إنه نادر جداً في الأمة. لكن من الناس من ينشئه الله نشأة حسنة ويربيه على طاعته، وفي الحديث: (يعجب ربك سُبحَانَهُ وَتَعَالى من الشاب ليس له صبوة) معنى الحديث: أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يتعجب فوق سبع سماوات من شاب لا يعصي الله عز وجل، يتعجب أن هذا الشاب عنده قدرات وطموح وقوة وفتوة، ثم لا يعصي الله عز وجل، فيتعجب الله عز وجل منه.

    ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يستحي أن يعذب شاباً في الإسلام) فإذا كان الله يستحي من فوق سبع سموات أن يعذب شاباً في الإسلام؛ فما بالك بالذين لا يستحون من الله عز وجل؟!

    ومن الشباب الذين نشئوا في عبادة الله -كما في السير والأخبار- أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو من رواة البخاري ومسلم، كان في العشرين من عمره وكان إذا خرج إلى السوق ونظر الناس إلى وجهه، تركوا بضائعهم وقاموا على أرجلهم، وقالوا: لا إله إلا الله، حتى يقول الحسن البصري: [[هذا سيد شباب أهل البصرة، وإني لأظنه من أهل الجنة]] أيوب هذا كان لا يعرف إلا الله عز وجل، فكان من بيته إلى مسجده، وكان يقرأ الحديث على الناس فتغلبه عيناه بالدموع، فيميط عن أنفه ويقول: ما أشد الزكام! يظهر أن هناك زكاماً وهو البكاء، يقول الإمام مالك: ما ظننت أن في أهل العراق خيراً حتى رأيت أيوب بن أبي تميمة وهو شاب قدم علينا، فسلم على رسول الله في قبره، ثم بكى حتى كادت أضلاعه تختلف. فهذا من الشباب الذين نسأل الله أن يظلهم وإيانا في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

    وذكر الذهبي وغيره من أهل التواريخ والسير: أن سهل بن عبد الله التستري كان شاباً صغيراً، فكان يقرأ القرآن في المسجد مع شيخه، فكان شيخه يحبه كثيراً، فذهب زملاؤه إلى آبائهم وقالوا: يا أبانا! شيخنا يحب سهلاً أكثر منا، فذهب آباؤهم وقالوا: كيف تقدم سهلاً على أبنائنا دائماً وهم سيان في القراءة والتلاوة، قال: لأن سهلاً يخاف من الله عز وجل أكثر من أبنائكم. قالوا: دلل لنا على ذلك. فقال: سوف أدلل لكم على ذلك -وكان هذا الشيخ حكيماً- فقال لهؤلاء الطلاب: ليأتي كل منكم بدجاجة، فأتوا في الصباح كل واحد منهم بدجاجة، فلما أحضروها قال: كل منكم يذهب بهذه الدجاجة إلى مكان لا يراه فيه أحد ويذبحها. فذهبوا جميعاً كلٌ بدجاجته، فلما اختفوا؛ ذبح كل واحد منهم دجاجته ثم رجعوا إلى الشيخ إلا سهلاً لم يذبح دجاجته، فقال: أذبحتم دجاجكم؟

    قالوا: نعم.

    قال: وأنت.

    قال: ما ذبحتها.

    قال: ولم؟

    قال: لأنك قلت لي في مكان لا يراني فيه أحد، والله يراني في كل مكان.

    قال: فلما أتيت وسللت هذه السكين لأذبح هذه الدجاجة تذكرت الله فكففت.

    قال: نعم. وأنت نسأل الله أن تكون -أو كما قال- ممن يعبد الله كأنه يراه.

    فهذه هي أعظم درجات الخشية من الله، وهؤلاء من الشباب الذين يحبهم الله عز وجل وأنشأهم في عبادته، ويظلهم في ظله.

    1.   

    الأخوة في الله

    وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ( ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) فهذه أعظم درجات المحبة، وهؤلاء من الأصناف الثلاثة الذين قال عنهم صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان -ثم ذكر منها-: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله) فإذا أحببت رجلاً لله، لا لتجارة ولا لمنفعة ولا لمكسب، فأبشر ثم أبشر، فأنت من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومعنى (اجتمعا عليه) أي: دخلا في محبته سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فكان اجتماعهم بسبب المحبة فيه، (وتفرقا عليه) أي: سافر أحدهم وفارق صاحبه، أو مات أحدهم عن الآخر وهو حبيب له في الله.

    ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين الرجلين من الصحابة ويجعلهم إخواناً، فآخى بين سلمان وأبي الدرداء، وتآخى كذلك في الله سلمان وعبد الله بن سلام، فقال عبد الله بن سلام لـسلمان: إني أحبك في الله، فأسألك بالله عز وجل إذا مت قبلي أو مت قبلك أن تحرص إذا تلاقينا في المنام أن توصيني بخير يدلني على الله. وهذه القصة في صفة الصفوة وغيرها، وأرواح المؤمنين تتزاور في المنام، وهذا من عقيدة أهل السنة والجماعة وليست من الأصول، لكن ذكرها ابن تيمية، فإن الأرواح تتزاور، ولذلك قد يرى المسلم أخاه المسلم في النوم وقد مات ويخبره بكلام، ويتحدث إليه بأمور، ويوصيه بوصايا.

    فمات عبد الله بن سلام قبل سلمان الفارسي، فرآه في المنام، فقال: كيف أنت؟ قال: أنا في عيشة راضية، وأنا أرى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى كل جمعة، يوم المزيد. قال: فما وجدت خير العمل؟

    قال: ما وجدت خير عمل من التوكل على الله، فأوصيك بالتوكل على الله. فكانت هذه وصيته له، فهم تحابوا في الدنيا فكانوا إخوة في الآخرة وفي حياة البرزخ.

    ولذلك قال أبو الحسن أمير المؤمنين رضي الله عنه: تزودوا من الإخوان فإنهم ذخر في الدنيا وفي الآخرة. قالوا: يا أبا الحسن، أما في الدنيا فصدقت، وأما في الآخرة فمتى؟! قال: أما سمعتم الله يقول: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] فمن خالل أخاه في ذات الله عز وجل كان خليلاً له في الآخرة، وكان مشفعاً مقبولاً فيه، إذا رضي الله وأذن له وكان من أهل الشفاعة.

    فالمتحابون يناديهم الله عز وجل: (أين المتحابون في جلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي فيقوم نُزَّاع القبائل فيجتمعون حتى يظلهم الله في ظله قيل: من هم نُزَّاع القبائل؟ قال: قوم لم يجتمعوا على حسب، ولا على سبب، ولا على نسب، وإنما جمعهم الحب في الله) هذا من شعب، وذاك من شعب، وهذا من قبيلة وذاك من قبيلة، جمعهم الحب في الله، فيناديهم الله عز وجل، فيقومون يتخطون الناس حتى يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله.

    وفي الحديث الصحيح: (أن رجلاً خرج من قرية إلى قرية ليزور أخاً له في الله، فأرصد الله على مدرجته ملكاً من الملائكة، فلما مر الرجل قال له الملك: أين تريد؟ قال له: أريد أن أزور أخاً لي في الله. قال: هل له من نعمة عليك يربها؟ -أي يتعاهدها، فأنت تريد مكافأته، وفي لفظ: هل لك عليه من نعمة تربها؟ أي هل هناك سبب دنيوي أو مصلحة؟- قال: لا. والله الذي لا إله إلا هو، وإنما أحبه في الله. قال: أنا رسول الله -يعني ملك أرسله الله- أخبرك أن الله رضي عنك ورضي عن صاحبك وفي لفظ: وأنكما من أهل الجنة) والسبب أنه زاره في الله. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتزاورين في، والمتجالسين في، والمتباذلين في) المتجالسون الذين لا يجلسون إلا على محبة الله، ويتزاورون محبةً في الله، ويبذل بعضهم بعضاً لله عز وجل، فهؤلاء وجبت لهم محبة الحي القيوم، هذا هو الحب في الله عز وجل، يقول الإمام الشافعي:

    أحب الصالحين ولست منهم     لعلي أن أنال بهم شفاعة

    وأكره من تجارته المعاصي     ولو كنا سواء في البضاعة

    قال له الإمام أحمد:

    تحب الصالحين وأنت منهم     ومنكم قد تناولنا الشفاعة

    لأن الإمام الشافعي من أهل البيت، لكن من تواضعه يقول: أما أنا، فإن من صفاتي أنني أحب كل صالح ولو لم أعمل بعمله، وأنا عاصي -تواضعاً منه- لكني أحب الصالحين، وأكره العصاة وبضاعتي مثل بضاعتهم؛ ولذلك من علامة المؤمن أنه يحب المؤمنين ولو لم يعمل بعملهم، ويبغض العصاة ولو يعمل بعملهم، ومن علامة المنافق أنه يكره الطائعين ويعاديهم، ويحب العصاة ويعمل بعملهم، فهذا فارق بين من يحب في الله عز وجل ومن يحب لغير الله.

    وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: (كان صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطبنا، فدخل أعرابي فقطع خطبته وقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فسكت صلى الله عليه وسلم، ولما انتهى من الخطبة، قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: ماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صيام ولا صلاة ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله. قال: المرء يحشر مع من أحب. قال أنس: فوالله ما فرحنا بمثل هذا الحديث، فنحن نحب رسول الله وأبا بكر وعمر، ولو لم نعمل بعملهم).

    ويوم يأتي صلى الله عليه وسلم في معركة أحد، فيستنفر الناس للقتال، ويقف على المنبر ويحثهم على المعركة، يقول أحد الشباب: يا رسول الله! اتركنا نخرج إلى المعركة. لأنه عليه الصلاة والسلام قال: القتال سوف يكون داخل المدينة، وهذا هو الرأي الأصوب، وقد أشار عليه كبار الصحابة أن يبقى محصناً داخل المدينة، حتى يدخل كفار قريش، ويكون قتلهم داخل المدينة، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الرأي، قام أحد الشباب واسمه سالم بن مالك، وقال: يا رسول الله! لا تحرمنا لقاء الأعداء، ولا تحرمني دخول الجنة، والله الذي لا إله إلا هو لأدخلن الجنة. فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: بماذا تدخل الجنة؟ قال: بأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف. قال: إن تصدق الله يصدقك. فقتل في المعركة، وكان من أهل الجنة، والسبب أنه يحب الله ورسوله.

    وذكر ابن كثير في البداية والنهاية، عن بعض أمراء بني أيوب، قال: كان في الدنيا عليه بعض الخطايا، وكان من الأمراء الذين أفادوا في الجهاد، فلما توفي رآه العلماء في المنام، وله جناحان من نور، يطير في الجنة من شجرة إلى شجرة، فقالوا: أنت فلان؟ قال: نعم. قالوا: والله ما كان عملك في الدنيا بذاك. قال: أما سمعتم أن في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (المرء يحشر مع من أحب)؟ قالوا: بلى. قال: فوالله الذي لا إله إلا هو، ما كان في الدنيا شيء أحب إلي من الله ورسوله. فبلغته المحبة مع شيء من العمل إلى هذه المنـزلة، ولكن لا يغتر مغتر، كما يقول: الحسن [[لا يقل أحدكم: المرء يحشر مع من أحب. ويعمل عمل الجبارين، ويريد أن يحشر مع الطائعين]] فإن النصارى أحبوا عيسى حتى ألَّهوه، وهم في النار وهو في الجنة، لكن المقصود أن يكون هناك أصول من العمل، ثم تحب من ارتفع عليك في المنزلة، فإن الله سوف يحشرك في زمرته، بشرط أن يكون لك عمل من طاعة ومن فرائض وواجبات، فإن الله عز وجل سوف يبلغك منـزلة الذي ما بلغت منـزلته بالعمل.

    وأكثر ما سمع في التاريخ أنهم تحابوا في ذات الله هم الصحابة، حتى يقول عمر: [[يا أيها الناس! والله إنها لتطول بي الليلة شوقاً لأحدكم أو لبعضكم، فإذا أصبحت الصباح التزمته]] يتذكر عمر أحد الصحابة، فتطول عليه الليلة، فيأتي الصباح فيلتزم الصحابي وهي لم تمر إلا ليلة واحدة.

    وكان علي رضي الله عنه وأرضاه، يتذكر الصحابة -كما ذكر ابن كثير في ترجمته- ويبكي بعد صلاة الفجر، ويقول كلاماً ما معناه: ذهبوا وخلفوني. ولما نزل إلى طلحة بعد أن قتل، مسح التراب عن وجهه وقبله وقال: أسأل الله أن يجعلني وإياك ممن قال فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] والذي أسس بينهم الإخاء هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكانوا إخواناً كما أراد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، قال تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63].

    1.   

    البكاء من خشية الله

    وأما الرجل الرابع: فهو رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، وقوله: (خالياً) فمعناه: الإخلاص. قال ابن تيمية في المجلد الثالث والعشرين: هؤلاء السبعة بلغوا أصول العبادات، أو أسس أصول العبادات، ثم ذكر أن رجلاً من العلماء ألف كتاباً اسمه اللمعة في السبعة، وتكلم عن الحديث، وقال: إن (خالياً) في الحديث معناه: الإخلاص، فإن بعض الناس قد يتباكى عند الناس، ولكن إذا خلا لا يبكي.

    ولذلك يقول أهل العلم: احذروا النفاق والرياء في ثلاثة مواطن: عندما تذكر الله أمام الناس، وعندما تبكي أمام الناس، فإنها فتنه لكل مفتون، وعندما تتصدق أمام الناس.

    وقالوا عن الأوزاعي -كما ذكر ذلك ابن كثير -: أنه كان إذا خلا بكى حتى يرحمه جيرانه، فإذا خالط الناس ما رئي ذلك منه. وهذا لأنه يخاف على نفسه، ولكن بعض الناس يغلبه البكاء لخشيته وتقواه، فلا يهمه هذا لأنه مخلص، لكن قال في الحديث: خالياً؛ لأنه أبعد عن الشبهة وأبعد عن الرياء والسمعة. يقول ابن القيم في كتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين: قال تقي الدين بن شقير: خرجت يوماً من الأيام وراء شيخ الإسلام ابن تيمية، فمر شيخ الإسلام في طريق حيث أراه ولا يراني، فانتهى إلى مكان فرأيته رفع طرفه إلى السماء، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ثم بكى، ثم قال:

    وأخرج عنك من بين البيوت لعلني     أحدث عنك النفس بالسر خالياً

    فهذا من الذين ذكروا الله وهم في خلوة.

    وذكر الله لا يلزم أن يكون تسبيحاً وتكبيراً وتحميداً في الخلوة، لكن يقول أهل العلم: من رأى مبتلى فدمعت عيناه، فهو من الذاكرين لله؛ لأن بعض الناس إذا رأى المبتلين دمعت عيناه، إما أن ترى مبتلى قصت يداه أو رجلاه، أو ذهب جمال وجهه، أو فقئت عيناه، أو أصابه في أولاده كارثة، أو فقد وعيه وعقله، فهو يمضي هكذا بلا عقل، أو أتاه مرض عضال عطل حواسه؛ فتدمع العين لهذه الرؤيا، فيكون من ذكر الله، أو ترى آيات الله في الكون، يقول ابن الجوزي: مررت حاجاً فلما بلغت جبال العلا -وهي قريبة من تبوك - قال: فلما رأيت جبال العلا دمعت عيناي والله. وهذا لأن المؤمن قد يتذكر من رؤية الجبال أو السهول أو الأودية أو الأشجار، آيات الله عز وجل، فتدمع عيناه فيكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

    وكذلك قد تدمع العين في خلوة كأن يتذكر ذنوبه وخطاياه، أو يتذكر أحبابه وأقاربه الذين سبقوه، أو يتذكر بعض الأمور التي حصلت له، فيكون من الذاكرين الله عز وجل. إذا علم هذا؛ فإن أهل العلم يقولون: يكفي مرة واحدة في العمر أن تبكي خالياً، فتكون من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأحسن ما يذكر الله عز وجل في جوف الليل الغابر، أو في آخره.

    1.   

    حب المساجد

    الرجل الخامس: رجل قلبه معلق بالمساجد، وهذا وجه بلاغي، وهي كناية عن حضور القلب، وحضوره مع الصلوات، وهذه صفة لطائفة من الناس من الأخيار يؤتيهم الله من الاستقامة ما الله به عليم، وكان أحد الصالحين في الأفلاج، وقد توفي قبل ثلاثين سنة، اسمه محمد بن عثميين وهو شاعر، قالوا عنه: مكث ثلاثين سنة ما زار أحداً ولا وصل أحداً، ولا جلس إلا مع أهله من البيت إلى المسجد، يفتح مصحفه بعد صلاة الفجر إلى الظهر، وكان صائماً طيلة الثلاثين السنة، وكان لا يفتأ يذكر الله عز وجل.

    وذكروا أن بعض العباد انقطعوا لله عز وجل، فكانت قلوبهم معلقة، وسوف يأتي بيان بهذه الجملة.

    وقوله: (قلبه معلق) فليس معناه أنه ترك قلبه في المسجد وذهب، لا... معناه أن قلبه متوله بالمسجد، ولذلك تجد بعض الصالحين ينظر إلى ساعته دائماً: متى يؤذن؟ تأخر المؤذن؟ كم بقي؟ متى تؤذنون في هذا البلد؟

    فقلبه دائماً معلق بالمسجد، غير الذين سهوا ولغوا وانصرفت قلوبهم، فإنه لا يقوم إن كان يريد أن يصلي إلا في آخر الوقت، وإذا أتى إلى الصلاة أتى ساهياً وقد صلى الناس , وقد تفوته الصلاة وينسى، لأن قلبه ما حضرت فيه عظمة الله، ولا كانت فيه منـزلة لله عز وجل، وإلا فإن الإنسان المؤمن لا ينسى الله عز وجل.. فإذا ذهب الظهر وأتى العصر قال: والله نسيت صلاة الظهر، فإذا أتى العصر قال: ذهبنا مع فلان وتمشينا ونسينا العصر.. أهذا مؤمن؟ دائماً حاله هكذا! فإذا قلت له: صليت مع الجماعة. قال: نسيت ما تذكرت الوقت، ذهب عني. حتى يقول أبو الأعلى المودودي في رسالته كيف تقرأ القرآن يقول: هذا الدين يجب أن يكون في رأسك مثل الصداع، هل تنسى الصداع الذي في رأسك؟ تنـزل السوق والصداع في رأسك، وتدخل المسجد والصداع في رأسك، وأنت جالس في البيت والصداع في رأسك ولا تنساه، فكيف ينسى الإنسان المسجد وهو بيت الله عز وجل.

    قيل عن الإمام الأعمش رحمه الله، أحد رواة الصحيحين، من الذين حفظوا كثيراً من دواوين الإسلام والحديث النبوي: حضرته الوفاة فبكى ابنه كثيراً، فقال لابنه: ابك أو لا تبك، فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الإمام ستين سنة. وهذا من باب حسن الظن بالله عند سكرات الموت.

    وذكرابن الجوزي عن عامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير أنه ما كان يترك المسجد، بل كان يأتي قبل الصلاة بأوقات، فأتى يوماً من الأيام في الصف الثاني، فقال: الله المستعان! والله ما صليت في الصف الثاني منذ عقلت رشدي، لم أصلّ إلا في الصف الأول. قالوا: فلما حضرته الوفاة وهو في سكرات الموت أو قبلها بقليل سمع أذان المغرب، فبكى بكاءً طويلاً، فقالوا: مالك؟ قال: يصلي الناس في المسجد وأصلي في البيت. قالوا: أنت مريض. قال: والله لن يكون إلا خروج نفسي أو أصلي مع الناس، احملوني إلى المسجد. فحملوه فلما صلى مع الناس قبضه الله في آخر سجدة. فسلم الناس وإذا هو ساجد لله عز وجل، حركوه فإذا هو ميت، فقالوا لأبنائه: ما هذه الميتة السعيدة الحسنة؟ فقال أبناؤه: والله ما كان أبونا يقوم أي يوم إلا ويقول: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة. فقلنا له: يا أبه، ما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني الله وأنا ساجد. فلبى الله له ما سأل فتوفي وهو ساجد.

    هذا لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى علم الصدق منه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (ورجل قلبه معلق بالمساجد) أي: لا يفتأ. وكان سيد الخلق عليه الصلاة والسلام إذا ازدحمت عليه الأمور والأحزان قال: (أرحنا بها يا بلال).

    وقل لـبلال العزم من قلب صادق     أرحنا بها إن كنت حقاً مصلياً

    توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً     به ترقَ أبواب الجنان الثمانيا

    وكان عليه الصلاة والسلام -كما تقول عائشة - يشتغل بمهنة أهله.. يقطع مع أهله اللحم، ويخسف نعله ويرقع ثوبه، ويحلب شاته، ويكنس بيته، وهو أشرف من خلق الله عز وجل، قالت عائشة رضي الله عنها: (فإذا سمع النداء، قام من مجلسه، فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه).

    وذكروا في السير أن أحد الصالحين كان يعمل نجاراً، لأن الطائفة المنصورة أو أهل النجاة يجعلهم الله عز وجل موزعين في الناس، من عالم وإمام ومسئول وفلاح وتاجر ونجار ومدرس ومعلم... إلى غير ذلك من الأصناف. فقالوا: كان يشتغل بالنجارة فإذا سمع النداء لا يرد المطرقة، وإنما يسقطها وراءه ويقوم.

    إذا علم هذا؛ فمعنى (قلبه معلق بالمساجد) أنه دائماً يتذكر بيوت الله، وأوقات الصلاة، فإذا صلى الظهر تذكر العصر، فقلبه دائماً بالأشواق، وهذا مجرب عند كثير من الناس، حتى أن من الصالحين ولو لم يُؤْتَ علماً كثيراً، فإنك تجده إذا صلى المغرب يجلس مع أهله ومع أطفاله، يمازحهم ويداعبهم، ولكن بعد الفترة والأخرى ينظر في الساعة، أو يقول: أسمعتم الأذان؟ هل قرب العشاء؟ فهو يسأل لأن قلبه دائماً مستنفر. أما المنافق فإنه إذا صلى ضاع الوقت ما لم يحرك وينبه ويصاح عليه -نسأل الله العافية- فإذا صلى فريضة تذكر الأخرى.

    قال عدي بن حاتم الطائي، كما في كتاب الزهد للإمام أحمد: والله ما دخلت عليَّ صلاة والحمد لله إلا كنت لها بالأشواق وتوضأت قبلها. وكان أهل المدينة لا يؤذن المؤذن إلا وقد امتلأت الصفوف في المسجد، فتناقص الحال مع تناقص خيرية الأمة، حتى يأتي المحسن منهم عند الإقامة، ثم تناقص حتى أن بعضهم لا يأتي إلا وقد صلى الناس فيسلم عليهم وهم خارجون من المسجد، ويقول: أصليتم؟ وهو يعرف أنهم صلوا، لكنه يريد أن يعتذر، كأنه لم يعرف.

    وقد قال أحد الصالحين: فاتتني صلاة العصر في جماعة، فما عزاني أحد، ومات ابني فعزاني أهل البصرة جميعاً، فوالله الذي لا إله إلا هو إن مصيبة تلك الصلاة بقيت في قلبي ومصيبة ابني ما أحسست بها.

    وذكر صاحب الحلية: أن أحد الصالحين فاتته صلاة العشاء في جماعة في حياته مرة واحدة، فقال: الله المستعان! ما فاتتني صلاة في جماعة إلا هذه الصلاة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) لا جرم لأصلينها سبعاً وعشرين مرة، فقام فصلاها سبعاً وعشرين مرة ثم نام، فرأى في المنام أن خيالة عليهم ثياب بيض، وإذا هم جماعة في المسجد وقد ذهبوا، وهو وراءهم على أرجله، يمشي ويجري ويحاول أن يصل فلا يلحق، وفي الأخير التفت إليه أحدهم وقال: لا تحاول، نحن صلينا في جماعة وأنت صليت وحدك. وقد أعادها سبعاً وعشرين مرة.

    حتى أن ابن تيمية يقول: بل صلاة الجماعة واجبة، ويرى هو -كما ينقل صاحب السلسبيل - أنها شرط في صحة الصلاة، وإذا تخلف عنها المتخلف فإنه يحارب ويحرق بيته. وقال: هو حكم رسول الله عليه الصلاة والسلام. وقال: فإذا استطاع الإمام أن يحرق بيته فليحوط عليه بيته إذا لم يكن فيه ذرية ولا نساء، فإذا علم أن الرجل تخلف ولم يكن له عذر، فإنه يحرق عليه بيته، وهو حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن هذا الأمر لا يتأتى، لأنه قد بلغ السيل الزبا، وقد أصبحنا نقول: يكفينا الله عز وجل من الكفر أن يدخل بيوتنا وحاراتنا، فنحن نعتصم بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

    قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:36-37] فهؤلاء دائماً قلوبهم معلقة بالمساجد، فهم ينتظرون القدوم على الله عز وجل، فكأنهم تركوا قلوبهم معلقة في المساجد وذهبوا بأجسامهم إلى البيوت.

    فمن أراد أن يظله الله عز وجل، فليحرص على أن يكون المسجد مدرسته الروحية، وأن يتذكر كلما تكاسل أن الله سوف يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كلما أتى إلى المسجد، وأنه سوف يمشي في النور التام كلما مشى في الظلمات إلى المساجد، وأن كل خطوة ترفع درجة وتحط خطيئة، فنسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن نكون من هذا الصنف.

    1.   

    إخفاء الصدقة

    الصنف السادس: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وفي بعض الروايات قلب على بعض الرواة فقال: حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله. والصحيح: حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه؛ لأن التي تنفق هي اليمين، وهي التي تعطي، وليس معنى ذلك أن الشمال تدري، وبعض الصالحين حملوها على هذا المعنى فكانوا يخفون شمائلهم؛ كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق أخفى شماله ثم أعطى بيمينه، وهذا معنى رقيق ولطيف.

    ولكن المعنى الصحيح: أنه من إخفائه في الصدقة لا يعلم به إلا الحي القيوم، لا يدري أحد أنه تصدق إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فإذا أراد أن يتصدق أخفى ثم أعطى الفقير أو المسكين أو المستحق فلا يدري أنه تصدق إلا الله، ولذلك جاء في الحديث وهو يقبل التحسين: أن الله عز وجل يضحك لثلاثة -وضحكه يليق بجلاله، لا تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل، إنما له صفة ضحك تليق به سُبحَانَهُ وَتَعَالى- يضحك لثلاثة:

    الأول منهم: رجل سافر مع قافلة، فمشوا إلى آخر الليل، ثم قالوا: نريد أن ننام، فأنزلوا أمتعتهم وأغراضهم وأرادوا النوم، بعد تعب وإعياء ومشقة لا يعلمها إلا الله، فلما وقعوا في الأرض ناموا إلا هذا الرجل ترك النوم، بل قام فتوضأ بالماء البارد وقام يصلي على تعبه في السفر، ويدعو الله عز وجل، فيقول الله: انظروا إلى عبدي، ترك النوم، وأتى إلى الماء البارد وتوضأ منه يتملقني ويدعوني، أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة.

    الثاني: رجل كان في سرية يقاتل الأعداء، فلما اقتربت من الأعداء فرت هذه السرية -وهي مسلمة- إلا هذا الرجل قام وقال: يا سبحان الله! أنفر من أعداء الله؟ والله لا أفر هذا اليوم. فخلع درعه ولقي العدو حاسراً لا درع عليه، فقاتل حتى قتل، فقال الله لملائكته: أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة.

    ورجل ثالث كان في قافلة في سفر فمر بهم فقير مسكين محتاج، فمد يديه وقال: أسألكم بالله الذي لا إله إلا هو، أنا منقطع بي الحال أن تؤتوني مما آتاكم الله. قال: فلم تلتفت له القافلة، إلا هذا الرجل تخلف عنهم حتى اختفوا وراء أكمة أو جبل، فأخذ شيئاً من المال وأعطاه الفقير ومسح على رأسه، فقال الله: يا ملائكتي أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة. فهذا رجل تصدق بصدقة وتخفى عن تلك القافلة حتى لا يعلم بصدقته إلا الله.

    وذكروا أن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهؤلاء ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.

    نسب كأن عليه من شمس الضحى      نوراً ومن فلق الصباح عموداً

    فنحن نحبهم ونتقرب إلى الله بحبهم، أبناء فاطمة بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يسمى زين العابدين، قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: أنه كان يصلي في الليل ألف ركعة. ولا ندري ما صفة هذه الصلاة، لكن هذه الرواية وردت، إما أنه كان يختصر في الصلاة ويقرأ الفاتحة ويكثر، أو كان يحسب بالنهار والليل، ولكن أحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. إنما الشاهد: أنه كان يخرج كل ليلة، فيأخذ من الدقيق ومن السمن على ظهره، ويمر على فقراء المدينة ويعطيهم في ظلام الليل بحيث لا يراه إلا الله، فعلم أهله بعد فترة فلما أتوا يغسلونه -وقد توفي- وجدوا آثار خيوط الحبال على كتفه، فسألوا أهله، فقالوا: إنها من كثرة ما كان يحمل على كتفه من الدقيق ومن التمر والزبيب، ويوزع على فقراء المدينة كل ليلة.

    فهذا من الصنف الذي أخفى صدقته بحيث لا يراه إلا الله عز وجل.

    1.   

    العفة.. ومراقبة الله

    الصنف السابع: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين. قالوا: هذه نهاية المراقبة لله الحي القيوم، فهي امرأة وهو مشتهٍ لها، ليس عنده أهل، ثم إنها ذات منصب، ومعنى ذلك أنه لا يخاف، فإن ذات المنصب يمكن أن تخرج نفسها وتخرجه بخلاف غيرها، وهي لا تخاف من إقامة حدود، ولا تخاف أن يظهر عليها أحد، أو يحبسها قوم، فهي ذات منصب، ثم هي ذات جمال، فهي تدعو بجمالها، لأن بعض الناس قد يترك هذه الأمور لأن المرأة ليست جميلة. فقال: إني أخاف الله. فكان حقاً على الله أوجبه على نفسه أن يظل هذا وأصنافه وأضرابه في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

    وأولهم يوسف عليه السلام، يقول ابن تيمية كما ينقل عنه ابن القيم في مدارج السالكين: فأما يوسف عليه السلام، فإن الله بلغه تلك المنـزلة لأمور منها: أنه كان غريباً، والغريب لا يخاف من العار، ومنها: أنه كان أعزباً ليس عنده أهل، وهو أدعى إلى الفاحشة، أو أدعى إلى أن يتمتع، ومنها: أن المرأة هذه كانت ذات منصب، فإنها بإمكانها أن تخرجه وتخرج نفسها، ومنها: أنها ذات جمال، فهي امرأة ملك، فترك ذلك كله لله عز وجل، فكان سيد كل من دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله رب العالمين.

    وذكر صاحب حلية الأولياء وصفة الصفوة: أن مسلم بن يسار أحد الصالحين، كان من أجمل الناس وهو شاب، فخرج من المدينة إلى مكة ليعتمر، فلما كان في الطريق عرضت له فتاة من أجمل الفتيات، فدعته إلى نفسها فبكى كثيراً، فاجتمع عليه أصحابه فقالوا: مالك تبكي؟ قال: لأمر. فاستحلفوه فأخبرهم، فلما بدأ العمرة وطاف صلى ركعتين عند المقام ثم نام وهو جالس، فرأى يوسف عليه السلام كأنه يطوف، فقال مسلم بن يسار: من أنت؟ قال: أنا يوسف الذي هممت، وأنت مسلم بن يسار الذي لم يهم. هكذا أوردها أهل العلم، وكان من أعظم المراقبة لله عز وجل أن يأتي الإنسان إلى هذه الأمور فيتذكر عظمة الله فيكف نفسه.

    ولذلك يقول الأندلسي وهو يوصي ابنه:

    وإذا خلوت بريبة في ظلمة     والنفس داعية إلى الطغيان

    فاستح من نظر الإله وقل لها      إن الذي خلق الظلام يراني

    وقال الأول:

    إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل     خلوت ولكن قل عَلَيَّ رقيب

    1.   

    الأسئلة

    الدلائل التي نعرف بها تحقق صفات السبعة الذين يظلهم الله

    السؤال: ما هي الدلائل التي تجعلنا نعرف أننا من هؤلاء السبعة أو من بعضهم؟ وما هو العلاج للإنسان الذي حاول أن يتفكر في خلق الله من الآيات الكونية وغيرها ويتأثر بذلك؟

    الجواب: أما الأمور التي تعرفنا أننا من السبعة أو أن فينا صفة من صفات هؤلاء السبعة، فنحن شهداء الله في أرضه، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143] فمن شهد له المسلمون بخير فهو من أهل الخير، ومن شهدوا عليه بالسوء فهو من أهل السوء، ومن شهد له أهل القبيلة والحارة بالخير فهم شهداء الله عليه يوم القيامة، وقد جاء في الصحيح: {أن جنازة مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأثنوا عليها خيراً فقال: وجبت، وجبت، وجبت. وأثنوا على الثانية شراً، فقال: وجبت، وجبت، وجبت. فقال عمر: ما وجبت يا رسول الله؟ قال: الأولى أثنيتم عليها خيراً فقلت: وجبت لها الجنة، والثانية أثنيتم عليها شراً، فقلت: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه}.

    والمسلم قد يعرف من نفسه بالدلائل، مثلاً في صفة الرجل الذي قلبه معلق بالمساجد، يعرف هل هو يحب المسجد أم لا؟ وهل هو محافظ على الصلوات؟ وهل ما فاتته فريضة في جماعة؟ فإذا عرف بذلك فليبشر نفسه، ولكن لا يغتر ولا يعجب بنفسه، وليكن بين الخوف والرجاء.

    وهو يعرف نفسه هل ذكر الله ذات مرة خالياً ففاضت عيناه؟... إلى غير ذلك.

    فالدلائل قائمة من نفسك ومن الناس، ويحاول المؤمن أن يطلب شهادة الناس عند الله؛ ليكونوا له شهداء عند الله عز وجل، فإن الله يستشهد كل قبيل على قبيلهم، ويستشهد كل جمع على من خالطهم ومن زايلهم، فليحرص المؤمن على أن يكون ذكره حسناً، وأن تكون شهادة المؤمنين مقبولة عند الحي القيوم.

    وأما العلاج الذي يتفكر له الإنسان في الخلوات، فما هو إلا الدربة، وكلما خلا يحاول أن يتفكر وأن يتباكى إذا لم يبك، فمن تباكى له أجر من بكى، لأنه ليس كل إنسان يستطيع، وبعض الناس لشكيمته ولنفسه ولو أن فيه صلاحاً وخيراً لا يستطيع أن يبكي، فعليه أن يتباكى كما كان عمر رضي الله عنه، فقد رأى الرسول وأبا بكر يبكون فتباكى معهم.

    فإذا لم يبك فليتباكى، وليتأمل بلا بكاء، فإن الله عز وجل لا يحرمه الثواب والأجر.

    أيها الإخوة! هذا الحديث من أعظم الأحاديث التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم، ومن الأحاديث التي ينبغي أن يعيش المسلم في رياضها، وأن يحاول أن يدخل مع هؤلاء السبعة، أو يدخل مع المتطفلين، فإذا لم تكن مع الصادقين فادخل مع المتطفلين، فإن الله لا يرد ضيافة المتطفل.

    نسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا منهم، وأن يحشرنا في زمرتهم، وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأن يسقينا من حوض نبيه شربة لا نظمأ بعدها أبداً.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله على محمد وعلى آله وصبحه وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767947025