وعلى الداعية أن يكون حليماً يتسع صدره للناس ولا يضيق بكلامهم، وفي السلف الصالح نماذج ممن أسيء إليه فلم يغضب، بل وقابل الإساءة بالإحسان.
إخوتي في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أشكر لأصحاب الفضيلة وإخوتي الأساتذة وأحبابي الحضور حضورهم ومشاركتهم، وهذا الدرس بعنوان: (فن تأليف الأرواح).
وفن تأليف الأرواح نأخذه من محمد صلى الله عليه وسلم، بسندٍ صحيح من ميراثه، نتذاكره هذه الليلة ونتعلمه ونتربى عليه، في ليلة 22/10/1412هـ مساء السبت بجامع أبي بكر الصديق بـأبها.
اللهم ألف الشتات، وأحي القلوب الموات.
اللهم اجمع الكلمة، ووحد الصف وبارك في المسيرة، وانفع بالأسباب.
اللهم لُم شعثنا، وارحم غربتنا، وفك كربتنا، وحقق على الحق وحدتنا، وأظهر على الباطل قوتنا.
اللهم صل حبالنا بحبلك، وسد حاجتنا من فضلك، اللهم اعصمنا من الزلل، وأنقذنا من الخطل، واحرسنا من الحادث الجلل، اللهم ثبت منا الأقدام، وسدد منا السهام، وارفع منا الأعلام، وانصر بنا الإسلام.
اللهم نجنا من الكوارث واحمنا من الحوادث، وأصلح النيات والبواعث.
اللهم انزع من قلوبنا الغل على الإخوان، والضغينة على الجيران، والحسد للأقران.
اللهم اغسل قلوبنا بماء اليقين، واسق أرواحنا من كوثر الدين، وأثلج صدورنا بسكينة المؤمنين.
اللهم سلمنا وسلم منا، وعافنا واعف عنا.
يا لطيف! نسألك اللطف والتخفيف، والمنزل الشريف، والعطاء المنيف، والقلب العفيف.
وقفنا ببابك هذا المساء ولسنا من الذنب بالأبرياء |
وقفنا ببابك يا من له تسيل الدموع ويهفو الدعاء |
فيا ربِّ هيئ لنا منة من الغيث ما يحتوي كل داء |
أيها الإخوة! قبل أن أشرع بعونٍ من الله أقف وإياكم مع ضيفٍ كريم أمنا في هذا المسجد المبارك وهو الشيخ الداعية عبد الله بن محمد بن حميد الزميل والأخ الوفي، لنقف معه وقفة ثم نواصل معكم المحاضرة فليتفضل.
الحمد لله القائل: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء:110] الحمد لله على ما قضى وقدر، ونعوذ بالله السميع العليم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على رسول الله القائل: ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه) صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله! أنا أعلم أنني متطفل على هذا المكان الذي لا يستحقه إلا شيخنا الداعية فضيلة الشيخ/ عائض بن عبد الله القرني، الذي كلنا شوقٌ إلى سماع توجيهاته الكريمة، وكلماته المحببة إلى النفوس، ولكن أشكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أولاً على أن هيأ لي هذه الفرصة الطيبة المباركة، التي انتهز فيها لحظات يسيرة أرجو منكم أن تتحملوني فيها، ثم أشكر شيخي وأخي وزميلي الشيخ/ عائض إمام هذا المسجد حفظه الله على إتاحته لي هذه الفرصة الثمينة، التي كان لابد لي من الوقوف فيها والجلوس أمامكم إثر ما حصل من اختلاف في وجهات النظر بيني وبين شيخي، كان لابد من الجلوس أمامكم حتى تزول الشكوك التي ساورت بعض النفوس ولها الحق في ذلك، وليعلم من يستمع إلى كلامي بأنه مهما حصل من اختلاف في وجهات النظر بين الأحبة والإخوان فإن ذلك لا يفسد للود قضية، فنحن والله الذي لا إله إلا هو إخوة متحابون في الله عز وجل، تجمعنا رابطة الإيمان والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63] ولكن الواحد منا لضعفه البشري يعتريه ما يعتري البشر من الضعف والوسوسة والنزغات، وقد تغلبه العاطفة أو يجمح به الهوى أو تغلبه حظوظ النفس، فيحكم على قضية من القضايا دون استشارة ولا استخارة ولا روية، ثم بعد ذلك يتندم حيث لا ينفع الندم.
ولعل ما حصل وما سمعتموه وقرأتموه من خلافٍ بيني وبين شيخي قد أثار استغرابكم وأعقب حزازة في نفوسكم، ولكن لا أقول إلا أن ذلك جرى بقضاء الله تعالى ومشيئته: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [الإنسان:30] فما كان ينبغي أن يحصل ما حصل ولكنها المشيئة الربانية، ولعل في ذلك خيراً لي وله ولكم حتى نتجنب الاستعجال وما لا ينبغي أن يقال نتجنب العبارات التي لا تستساغ عند العقلاء، وخشية من كثرة البلبلة وانتشار الشائعات وبمثل ما انتشرت به قالة السوء بين الناس، وهذا في الواقع ليس في مصلحة الدعوة إلى الله عز وجل، فأبشركم وأطمئنكم وما وقفت في هذا المكان إلا بعد أن اعتذرت إلى شيخي حفظه الله، وذهبت إليه في بيته واعتذرت منه فقبل العذر جزاه الله خيراً، وهكذا دأب علمائنا ومشايخنا حفظهم الله.
فلقد اعتذرت إليه فعذرني وأكرمني بالصفح وقابلني بالحب، وهذا دأبه حفظه الله ووفقه وثبته على الحق، فإن الذهب الخالص لا تزيده النار إلا جودة ولمعاناً وبريقاً، وهو يعلم إجلالي وحبي له في الله عز وجل وأنتم كذلك، وأعلم أنه لا يحب الثناء والمدح، ولكن الحقيقة تفرض نفسها فما عرفته إلا شيخاً جليلاً وداعيةً إلى الله عز وجل مؤثراً بحديثه أيما تأثير..
وما حسنٌ أن يمدح المرء نفسه ولكن أخلاقاً تذم وتمدح |
وما عرفت عنه إلا الحلم والعلم الجم والتواضع وحسن الخلق وكرم النفس وصفاء السريرة وطيبة القلب، والعفو عن الإساءة.
فيا رب هب لي منك حلماً فإنني أرى الحلم لم يندم عليه حليم |
وقد قيل: من اعتذر إليه أخوه المسلم فليقبل عذره ما لم يعلم كذبه، وأنا أشهد هذا الجمع المبارك وأنا صادق فيما أقول أنني قد اعتذرت لشيخي حفظه الله فقبل العذر وعاد الصفاء والوئام بيننا ولله الحمد، وما مثله في الحلم إلا كمثل أشج عبد القيس حينما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة).
ومثلكم أيها الإخوة! من يقيل العثرة ويتجاوز عن الهفوة؛ فإن الكريم إذا قدر غفر، وإذا أوثق أعتق، وإذا أسر أطلق.
ومن يك ذا عذرٍ إليك وحاجةٍ فعذري إقراري بأن ليس لي عذر |
وقال آخر:
قيل لي قد أساء فيك فلانٌ وقعود الفتى على الضيم عار |
قلت قد جاءنا فأحدث عذراً دية الذنب عندنا الاعتذار |
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاءٌ وخير الخطائين التوابون) فليس العبرة -أيها الإخوة- أن يخطأ الإنسان فإن من طبيعة البشر أن يخطئ، لكن العبرة في أن يتراجع إلى الحق، فإن الرجوع إلى الحق فضيلة، وفقنا الله وإياكم إلى الصواب، وجنبنا الزلل فيما نقول وفيما نعلم، ولسنا بدعاً فيما حصل من خلاف فإن سلف هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم وعلى جلالة قدرهم وعلو منزلتهم وكعبهم في العلم والفضل حصل بينهم من الاختلافات ومن المنازعات.
سامح أخاك إذا خلط منه الإصابة بالغلط |
وتغاض عن تعنيفه إن زل يوماً أو سقط |
واذكر صنيعك عنده شكر الصنيعة أو غمط |
واعلم بأنك إن أردت مهذباً رمت الشطط |
من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط |
فأشكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أولاً، ثم أشكر فضيلة أخي وشيخي الشيخ/ عائض بن عبد الله القرني وأناته وحلمه وكريم فضله بعد فضل الله عز وجل، وأشكر كذلك شكراً جماً الإخوة الأكارم الذين عز عليهم أن يحصل نزاع أو خصامٌ بين الأحبة في الله عز وجل، ثم أشكركم على حسن إصغائكم.
ومعي بهذه المناسبة الكريمة أبياتٌ شعرية نظمتها وصغتها بحرارة مشاعري ونبضات قلبي، لعلها تكون شافعة لي عند شيخي حفظه الله، فتمحو ما بدر مني من هفوة أو عبارة غير مؤدبةٍ أو زللٍ، وهي والله تعبر عن قليلٍ من كثيرٍ مما أكنه لفضيلة الشيخ حفظه الله من محبةٍ وإجلال، وعنوان الأبيات: رسالة محبة واعتذار.
سلامٌ كما فاحت زهور عواطر يفيض به من منبع الحب خاطر |
يفوقه كالودق من بين مزنه ويسمو به من طيب الغيث ماطر |
عليك سلام الله يا شيخ عائض! ورحمته ما دام سمعٌ وناظر |
وإني على الود القديم محافـظٌ وهذا مقالي والشهود الضمائر |
ومعذرةً مما أسأت بحقكم فأنت وربَّ البيت بالفضل عامر |
أبى الله إلا أن تكون نفوسنـا معرضة للزيغ والله غافر |
لنا قدرة في الصبر إن جل حادثٌ ألم بنا إلا النوى والتهاجر |
كلانا بحب الدين قد قام داعياً ولم تثننا عما نريد المحاذر |
وعادة رب الجود والنصـر شأنه وعادة أهل الدين منا التغافر |
وعقباهم محمودة ومردهم إلى الله والزلفى لهم والبشائر |
ألا إن نصر الله للدين واقع ولله أنصارٌ وللحق ناصر |
ويا أيها الغادي بشكٍ وحـيرةٍ وغمٍ وهمٍ تحتويه المخاطر |
تمهل رعاك الله لا تظلمنني فمن رام عذراً أمكنته المعاذر |
أسأت إلى شيخي بقولٍ نشرته فعذراً له إن أعجلتني البوادر |
ولله ما أزكاه إذ زرت بيته أُرجي قبول الصفح والدمع قاطر |
فقابلني بالبشر يشرق وجهـه بنور الهدى والحب نعم المؤازر |
وودعني بالحب ما في فؤاده من البغض أوضارٌ سعى وهو طاهر |
وليس عجيباً صفحه ووفاؤه فمعدنه الإيمان والصدق ظاهر |
وما زال يسمو بالمعالي لأنـه لكالعلم الهادي يُرى وهو زاهر |
إمامٌ له في الفضل سبق ورتبة وبالعلم إلمامٌ وللحق ناصر |
ولله در الشيخ إن قام واعظـاً فمن غيض ما يلقيه والبحر زاخر |
فكم من قلوبٍ هزها بحديثـه وكم من دموعٍ أسبلتها المحاجر |
إذا شئت علماً فالزم البحر زاخراً وإن شئت شعراً فالمزون البواكر |
وقام بأمر الله للدين داعياً كذلك من يدعو إلى الله ظافر |
حليمٌ إذا ما كان للحلم موضعٌ كريم بذكراه تطيب المحاضر |
وما أنا إلا نبتةٌ من غراسه أسير على درب الهدى وهو آمر |
فجازاه ربي عن محبيه جنةً وتوفيقه فالبر بالصفح غامر |
رعى الله إخواناً رعوا عهد ودنا وشق عليهم أن يكون تهاجر |
وشكراً لهم شكراً عظيماً مكرراً على الصلح ما أثنى على الله شاكر |
وصلى على المختار ما طر شارقٌ وما ازدان نجمٌ أو تحرك طائر |
وأصحابه والآل ما قال قائلٌ سلامٌ كما فاحت زهورٌ عواطر |
أسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى رب العرش أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يسلل سخائم قلوبنا، وأن يجعلنا إخوةً متحابين فيه عز وجل، وأن يبصرنا بالحق ويهدينا إليه ويثبتنا على الإسلام والإيمان حتى نلقاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
نحن يا من قد تناهى قد رضينـا وسكبنا الود صفواً والتقينا |
وتعانقنا وسارت بسمـة كضياء المجتبى من طور سينا |
من المقاصد الشرعية أن يظهر هذا الأنموذج أمام الناس وأن يتحدث به وأن يعلن الوفاق كما أعلن الخلاف، ولسنا ملأ من الملائكة، ولسنا أكرم من جيل محمد عليه الصلاة والسلام، اختلفوا وتنازعوا وتشاجروا، ثم تعانقوا وقال الله فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] بل كما قال عامر الشعبي: [[والله لقد التقوا بالسيوف في الجمل وفي صفين، ثم قال الله: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]]].
وما حصل بيني وبين الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد مما أثاره بعض الناس حسبنا الله عليهم، وكثير من الناس يتصيد ويريد العثرة ويفرح بالزلة ويريد الفرقة، وفي لقاءٍ صحفي عابر أخذنا فيه على غرة، وما أخذنا للأمر عدته، وما نظرنا إلى أبعاده، وهذا درسٌ لنا أن نتأمل وأن نفكر وأن نتدبر وألا نتسرع وأن نحسب للكلمة موضعها، وهذه هي تجربة الحياة، ولا حليم إلا ذو تجربة ولا حكيم إلا ذو عثرة، فحصل ما حصل بقضاءٍ من الله وقدر، والتقيت مع الحبيب الزميل والقلب عامرٌ بالود والحب ويزداد مع الأيام، وأشهد الله وملائكته وحملة عرشه أني أحبه وأحبكم فيه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فأسأل الله أن ينفعني بهذا الحب، وكما سمعتم قصيدة فضيلته التي دبجها، ومن الحسن أن يرد على الشعر بشعر، فإنه ليس برباً إذا كان مثلاً بمثل يداً بيد، هاء وهاء، وقال الشوكاني: يقبح بطالب العلم أن يرد على الشعر بنثر، فإنها خدشة في وجه طالب العلم، فأحببت أن أرد على القصيدة بقصيدة ولا تقولوا هذا من المدح المفترى، بل هو إن شاء الله من الخير المنتظر لهذا الجيل وهذه القلوب العامرة التي تآخت تحت مظلة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ الفاتحة:5] ولها مقاصد شرعية أحتسب الأجر فيها إن شاء الله، فرددت وأجبت على قصيدته على البحر وعلى الروي وعلى القافية:
أتتك بثوب الوصل والجفن فاتر محجبة تومي إليك المحاجر |
دموعٌ وأحلام وليلٌ مسهد يراقب فيها الأنجم الزهر سامر |
لعتبٍ جرى بين الأحبة وانجلى ليرضى به شهمٌ ويغضب خاسر |
قوافي في آل الحميد عذبةٌ وأبيات شعري في الكرام مفاخر |
لبيتٍ عزيز بالجلال مؤثل صحائف تملى بالندى ومآثر |
إذا بذلوا قيل الغيوث البواكر وإن غضبوا قيل الليوث الهواصر |
وما لكم غير الأسرَّة مجلسٌ ولا لكم غير السيوف مخاصر |
أغني كما غنى زهير بشعره وبيت العلى والأريحيات سائر |
وهل ينبت الخطِّيَّ إلا وشيجُـه وهل تحمل الأمجاد إلا المنابر |
قرأت سطوراً من بنانك دبجت فدتك أيا بن الأكرمين الدفاتر |
وقال حسودٌ رد صاعاً لأهله بصاعين إن البعض فيك تآمروا |
فقلت لهم هذي يميني تناولـت شمالي ففي جسمي تمور الخناجر |
حبيب الصبا وابن الريادة والنهى رضيع الوفا نعم الصديق المعاشر |
وهل يهدم الحساد وداً وصحبةً لها من عرى الإسلام فينا أواصر |
لك العتب فاعتب إنما أنت صاحبي فقلبي رعاك الله بالحب عامر |
أنا أنت أمتعني بشخصك دائماً فشخصك يا نجل الشريعة طاهر |
فزر واستزر سر الوداد زيارة فنعم أخو العليا مزورٌ وزائر |
ألا قاتل الله المفرق بيننا وأورده بئس الردى وهو عاثر |
أذكره حاميم والحب والوفا فيأبى كأن الرمح بالموت شاجر |
لقد مهد الإسلام للصلح موضعاً ولو نهلت منا السيوف البواتر |
فهذا علي شام طلحة ثاويـاً فقبله والهول أحمر فاغر |
ونال أبو ذر بلالاً بأمه فأفرشه الخدين والرأس حاسر |
وفي ذا يقول البحتري مدبجـاً يهيم على بيت القصيدة شاعرُ |
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت مناظر |
فبلغ سلامي والديك كليهما فإن سلامي للمحبين عاطر |
وقم منشداً في كل حفلٍ وندوةٍ أتتك بثوب الوصل والجفن فاتر |
قال أهل العلم: ثلاث منازل للظالمين والمقتصدين والسابقين بالخيرات.
فدرجة أولى من أسيء إليه فليكظم، وهذه درجة المقصرين من أمثالنا من المسلمين، أن يكظم غيظه ولا يتشفى في المجالس، ولا يتعرض للأعراض.
فإن زاد وأحسن: والعافين الناس، فليذهب إلى من أساء إليه ويقول: عفا الله عنك، وهذه درجة ثانية.
فإن زاد وأحسن فليذهب بهديةٍ وبزيارة إلى من أساء إليه ويقبل رأسه.
وقال أهل السير: قام خادمٌ على هارون الرشيد بماء حار يسكب عليه فسقط الإبريق بالماء على رأس الخليفة أمير المؤمنين وحاكم الدنيا، فكاد الماء الحار أن يمتلغ رأسه، فغضب الخليفة والتفت إلى الخادم، فقال المولى وكان ذكياً: والكاظمين الغيظ، قال: كظمت، قال: والعافين عن الناس، قال: عفوت عنك، قال: والله يحب المحسنين، قال: أعتقتك لوجه الله.
وهذه مواقف الريادة التي تحصل بين المؤمنين والمتآخين، وفي معركة الجمل خرجت عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم وخرج الصحابة بالسيوف، وخرج علي معه بعض الصحابة من أهل بدر بالسيوف يلتقون، فقيل لـعامر الشعبي: الله أكبر! يلتقي الصحابة ولا يفر بعضهم من بعض؟! قال: أهل الجنة التقوا فاستحيا بعضهم من بعض، فلما قتل طلحة في المعركة وكان في الصف المضاد المعاكس لـعلي، نزل علي وترك السيف وأتى إلى طلحة وهو مقتول وهم من -العشرة المبشرين بالجنة- فنفض التراب عن لحية طلحة وقبله ودموع علي تهراق، وقال: [[يعز عليَّ يا
ابن السماك الواعظ، مر به صاحبٌ له عتب عليه فقال لـابن السماك: غداً نتحاسب، يقول: غداً ألتقي معك في موعد أحاسبك وتحاسبني، وألومك وتلومني، ونعرف من هو المخطئ منا، فقال ابن السماك: " لا والله غداً نتغافر، ولا نتحاسب" فالمؤمنون لا يتحاسبون ولا يقول أحدهم للآخر: أنت كتبت فيَّ كذا وكذا وقلت في المجلس عني كذا وكذا، وسمعت أنك تغتابني، لا. بل يقول: غفر الله لك، فغداً نتغافر.
ولابد على الدعاة وطلبة العلم أن يبذلوا أعراضهم كما بذلها محمد عليه الصلاة والسلام، فإنه بذل عرضه وماله ودمه ووقته لهذه الدعوة الخالدة، فعسى الله أن يجعل دماءنا وأنفسنا وأعراضنا وأموالنا وأبناءنا وأهلنا فداءً لـ (لا إله إلا الله)؛ لترتفع لا إله إلا الله وحدها ولتبقى الأعراض والدماء فداءً لها.
وذكر الغزالي صاحب الإحياء: " أن الحسن البصري رحمه الله جاءه رجل، فقال: يا أبا سعيد! اغتابك فلان، قال: تعال، فلما أتى إليه أعطاه طبقاً من رطب، وقال: اذهب إليه، وقل: أعطيتنا حسناتك وأعطيناك رطبنا، فذهب بالرطب إليه ".
والمقصود من هذا: أن الدنيا أمرها قليل، وأن بعض الناس يتصدق بحسناته فلا عليك مهما نالك حاسدٌ أو ناقم أو مخالفٌ أو منحرف فاعتبر ذلك في ميزان حسناتك، وأنه رفعة لك، وقرأت في سيرة موسى عليه السلام الذي كلمه الله بلا ترجمان قال: يا رب! أريد منك مسألة، قال: ما هي يا موسى؟ قال: أسألك أن تكف ألسنة الخلق عني، -تكلموا فيه وفي عرضه، حتى تكلموا في بعض أموره الخاصة ومعاشرته للنساء، وقالوا: أنه آدر لا يستطيع أن يأتي النساء وأمورٌ كثيرة: فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب:69]- فقال الله عز وجل: يا موسى! وعزتي وجلالي ما اتخذت ذلك لنفسي، إني أخلقهم وأرزقهم وإنهم يسبونني ويشتمونني. سبحان الله! الله الرحمن الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد يسب من الناس! هذا المخلوق الحقير يخرج نطفة من بطن أمه ثم يسب الله ويشتمه.
وفي البخاري: {شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وسبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما سبه إياي فإنه يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار كيف أشاء، وأما شتمه إياي فإنه يقول: إني اتخذت صاحبة وولداً، وأنا الله لم يكن لي صاحبة ولا ولد} وعند أحمد في كتاب الزهد: {يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: عجباً لك يا بن آدم! خلقتك وتعبد غيري! ورزقتك وتشكر سواي! أتحبب إليك بالنعم وأنا غنيٌ عنك وتببغض إليَّ بالمعاصي وأنت فقيرٌ إليَّ! خيري إليك نازل، وشرك إليَّ صاعد}.
فما دام أن الواحد الأحد يسبه بعض الأشرار من خلقه ويشتمونه فكيف بنا نحن ونحن أهل التقصير؟!
إذا علم هذا فإن في المثل العليا التي حملها أصحابه عليه الصلاة والسلام، وتراضوا مع أنهم اختلفوا، وأتت بينهم نفرة في أيامٍ من حياتهم، ولكنهم عادوا في صفاء وعناء وزيارة وحب، لأن المبدأ الذي يحملونه مبدأٌ واحد، ليس مبادئ متعددة: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فيظن هذا الجاهل أنه إذا سب أبو بكر الصديق المطهر فسوف يدخل سبه مع أبي بكر الصديق، في القبر، فقال أبو بكر: لا. -فلم يرد عليه السب- وقال: بل يدخل معك أنت قبرك، أما أنا فلن يدخل قبري، وهذا هو الصحيح، فإن الكلمة العوراء الآثمة الجارحة تدخل مع الجارح الساب الشاتم، ولا تدخل مع المسبوب لحكمة الواحد الأحد.
وقال رجل لـعمرو بن العاص: والله لأتفرغن لك -يريد أن يتهدده، يعني أتفرغ لك بالسب، والقتال والخصام- قال: إذاً تقع في الشغل.
يقول: إذاً لن تكون فارغاً، بل يشغلك الله بي، أما أنا فلن أتفرغ لك ولن أشغل نفسي بك، إنما أنت إذا أشغلت نفسك بي فقد أوقعت نفسك بالخصام والسباب وقد أوقعت نفسك في كارثة.
ويروي أهل الحديث أن عامراً الشعبي الذي قيل عنه أنه أشبه عمر بن الخطاب في جمعه للعلم، وكان من علماء التابعين، وقد قال عنه الحسن البصري: " قديم السلم، كثير الحلم، جم العلم، قام إليه رجل فقال: كذبت يا عامر! فقال عامر: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك. أي: إن كنت صادقاً أني كاذب فغفر الله لي، لأني أخطأت، وإن كنت كاذباً أني لست بصادق فغفر الله لك، وهذا هو الحق، فماذا يقول الرجل بعد هذا؟ لأن من استطاع أن ينهي الخصام، وأن يجعل للصلح موضعاً، وألا يستعدي الناس خاصةً أهل الفضل والمنـزلة والصدارة والمكانة؛ كان محسناً على نفسه وعلى الإسلام والمسلمين.
وفي سيرة سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم جميعاً أن رجلاً زاحمه في منى، فالتفت الرجل إلى سالم وهو علامة التابعين وقال له: إني لأظنك رجل سوء، قال: [[ما عرفني إلا أنت]] يقول: قد أكون رجل سوء، وما عرفني إلا أنت، لأنه في نفسه يعتقد أن نفسه نفس سوء، فإن المؤمن يشعر بالتقصير ويلوم نفسه ويبكتها، والفاجر والمنافق يزكي نفسه أمام الناس، حتى رأيت أن سعيد بن المسيب يقوم وسط الليل ويقول لنفسه: [[قومي يا مأوى كل شر، قومي يا مأوى كل شر]] لأن النفس أمارة بالسوء، فيقول: إني لأظنك رجل سوء، قال: ما عرفني إلا أنت، وسكت ومر.
وقام رجلٌ في الحرم -وهذه ثابتة بأسانيد صحيحة- أمام ابن عباس، حبر الأمة وترجمان القرآن فسبه أمام الناس، وابن عباس ينكس رأسه، فهذا أعرابي جلف يسب علامة الدنيا فرفع ابن عباس رأسه وقال: [[أتسبني وفيَّ ثلاث خصال، قال الناس: ما هي يا بن عباس؟ قال: والله ما نزل القطر بأرضٍ إلا سررت وحمدت الله على ذلك، وليس لي بها ناقة ولا شاة]] يقول: ما سمعت بقطر المطر ينزل بأي أرض إلا وسررت به وهذا هو الإيمان، تسمع في الجنوب أو الشمال بمطر فتفرح، وهذه خصال المؤمنين.
[[قالوا: والثانية؟ قال: ولا سمعت بقاضٍ عادل إلا دعوت له بظهر الغيب وليس لي عنده قضية]] لكن يفرح أن يكون قضاة المسلمين عدولاً.
[[قالوا: والثالثة؟ قال: ولا فهمت آيةً من كتاب الله إلا تمنيت أن المسلمين يفهمونها كما أفهمها]].
وهذه المثل العليا التي حملها أصحابه عليه الصلاة والسلام، وهو الذي رباهم أصلاً على سمع وبصر، وإلا فهم أمةٌ أمية خرجوا من الصحراء، لكن بناهم شيئاً فشيئاً ورصع مجدهم، واعتنى بهم صلى الله عليه وسلم حتى أخرجهم مثلاً أعلى وقدوات حسنة للناس.
وقالوا في المثل: من أين لك بأخيك كله؟! يقول: أتريد مهذباً كله؟ لا. خذ بعضه، خذ نصفه، خذ ثلثين، خذ ثلثه، يقول: من أين لك بأخ كله؟ وأنا أسأل نفسي وإخواني: هل تجدون في المجتمع المسلم مهما بلغ هذا الشخص من الرقي والمثل العليا وحسن الخلق أن يكون كامل لا حيف فيه ولا نقص؟ هذا لا يكون: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [النور:21] تجد هذا كريماً لكنه غضوب، وتجد هذا حليماً لكنه بخيل، وتجد هذا طيباً لكنه عجول، وهي مواقف لأن الله وزع المناقب والمثالب على الناس.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه |
إذا عددت معايب الإنسان فاعلم أنه صالح، ولكن بعض الناس لا تستطيع أن تعد المعايب فهي عنده بالمئات، لكن بعض الناس لخيره تقول: ليس فيه إلا كذا وهذا خير، من غلبت محاسنه مساوئه فهو العدل في الإسلام، ومن غلبت مساوئه محاسنه فهو المنحرف أو غير المستوي في منهج الله عز وجل، لأن الله يزن الناس يوم القيامة بميزان آية الأحقاف، يقول سبحانه: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16] فبين الله في الآية أن لهم مساوئ، وأن لهم خطايا وذنوب، وأنه يتجاوز عنهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكنهم كما يقول الحديث: {إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث} بعض الناس ماؤه قليل أي شيء يؤثر فيه، حتى القطرة تؤثر فيه، ولكن بعضهم لمحاسنه ومناقبه بلغ قلتين: خمسمائة رطل، فمهما وضعت فيه لا يتغير أبداً لكرمه وبذله وعطائه، وعلمه وسخائه، وفضله ودعوته، وخيره وصلاحه وصدق نيته فقد تأتيه لفحات من لفحات الشيطان، لكنه بلغ القلتين.
وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحد جاءت محاسنه بألف شفيع |
وفي حديث رواه البيهقي بسندٍ يحسنه الكثير من أهل العلم قال: {أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم} قال ابن القيم: "إلا الحدود"، وهذه اللفظة تثبت في بعض الروايات من لفظه عليه الصلاة والسلام، فإن الناس متساوون في الحدود، لكن مقصودي في المسائل التي ليس فيها حدود، أن صاحب العثرة تقال عثرته من أهل الهيئات وهم الذين لهم قدم صدق في الإسلام والدعوة، وفي الخير والكرم والصدارة، وفي التوجيه والتأثير.
وأضرب على ذلك مثلاً: أستاذٌ يدرس مجموعة من الطلاب، وفيهم طالبٌ دينٌ خيرٌ وقورٌ شهم محافظ مواظب متأدب وغاب يوماً من الأيام، فعلى هذا الأستاذ أن يغفر له غيابه وزلته، لأنه من ذوي الهيئات، وله من الحسنات ما تشفع له، لكن طالب آخر متخلفٌ منحرف عن الجادة متلاعب مشاغب غاب يوماً من الأيام، فأيُّ حسنات تشفع له؟ ما هو إلا عثرات في عثرات، فالمجتمع مثل ذلك، لذلك أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم.
فوجوه الناس وأهل الخير والفضل، إذا بدرت منهم بادرة فعلينا أن نتحملها جميعاً، وعلينا أن ننظر إلى سجل حسناتهم وإلى دواوين كرمهم ومنازلهم عند الله وخلقه، يقول بشار بن برد:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه |
يقول: إذا أصبحت تعاتب الناس دوماً وتلومهم فمن الذي تصاحبه منهم، ومن هو الأخ الذي ترافقه؟!
ويقول في بيته الثاني:
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه |
يقول: لابد أن تجد ماءً معكراً، لكن اشرب، وما حيلة المضطر إلا ركوبها، وصاحب أخاك وتحمل منه الزلة.
كان ابن المبارك إذا ذكر له أصحابه قال: من مثل فلان فيه كذا وكذا من المحاسن ويسكت عن المساوئ، وما من أحدٍ من المسلمين إلا له حسنة، فاذكره بالحسنة في المجالس.
وليتنا -أيها الإخوة الكرام- نتذكر حسنات الناس، فما أعلم أحداً من المسلمين مهما قصر إلا له حسنات، ولو لم يكن من حسناته إلا أنه يصلي، أو أنه يحب الله ورسوله.
المصطفى المعصوم عليه الصلاة والسلام يؤتى له بشارب خمرٍ وقد تكرر جلده أكثر من مرة، فيقول أحد الصحابة للشارب: {أخزاه الله! ما أكثر ما يؤتى به! قال صلى الله عليه وسلم: لا تقل ذلك لا تكن عوناً للشيطان على أخيك، فوالذي نفسي بيده ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله} فأثبت له أصل الحب وهي حسنة، فلماذا لا نذكر للناس محاسنهم، فإنك لا تجد أحداً شريراً مائة بالمائة، إلا رجل كفر بالله، أو تعدى على حدود الله أو أعلن الفجور أو خلع ثوب الحياء، أو عادى الأولياء والأخيار والصالحين ونبذ الإسلام ظهرياً.
وأتى الأنصار كما سلف في خطبة بعنوان (وألف بين قلوبهم) وكادوا يقتتلون فخرج إليهم صلى الله عليه وسلم- بعد الإسلام الأوس والخزرج كادوا يقتتلون لإحن الجاهلية- وقد سلوا السيوف، قال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) فبكوا وأسقطوا السيوف من أيديهم وتعانقوا، فأنزل الله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
وذكر أهل التاريخ بسندٍ صحيح، أن الصحابة خرجوا في غزوة بني المصطلق -المهاجرون والأنصار مع الرسول صلى الله عليه وسلم- وكان لـعمر أجير اسمه جهجاه، فقام فاختصم مع رجل من الأنصار اسمه سنان بن وبرة، فتراكلا بأقدامهما وتناوشا بأيديهما فقال أجير عمر: يا للمهاجرين! يدعوهم بالسيوف، يعني: انصروني وأغيثوني- وقال الأنصاري: يا للأنصار! فبلغت هذه الكلمة رأس الكفر والنفاق وحربة الردة عبد الله بن أبي بن سلول، فقال: صدق الأول (سمن كلبك يأكلك) لو أنا صرفناهم عن دارنا ما فعلوا هذا، لكن نحن الذين فعلوا بهم ذلك -يقصد المهاجرين- ثم قال أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
وبلغت الكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره زيد بن الأرقم وصدَّق الله قيله، فأمر صلى الله عليه وسلم الناسَ بالرحيل حتى لا يتحدث أهل النفاق في القضية؛ لأنهم يحبون الشائعات، فهم أناس في المجتمع لا هم لهم إلا أن يحيوا الشائعات والعثرات والزلات، فيصنفون فيها مصنفات ويزيدون فيها ويتشاغلون بها ويملئون بها الأسماع، فنسأل الله أن يكفينا شرهم، وأن يجعل بيننا وبينهم سداً منيعاً، وأن يحمي هذا الدين منهم، فإنهم يلغون في الأعراض كما يلغ الكلب في الماء.
فقام الرسول صلى الله عليه وسلم بين الصحابة ثم أمرهم بالرحيل لئلا يتحدثوا في المسألة، يريد أن يشغلهم بشيء، ولذلك من الحلول التي تكافح بها الشائعات وحل ما يحصل بين الأحبة؛ أن تشغل الناس بالجد والعلم والمسائل العلمية، وتطرح عليهم قضايا الأمة الكبرى، لأن لدينا قضايا أعظم من الخلافات فيما بيننا وأعظم من هذه والمهاترات.
وهي قضايا نشر الإسلام ومحاربة اليهودية والعلمانية والشيوعية والنصرانية، وقضايا تأليف هذه الأمة المقدسة الخالدة التي جعلها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أمةً وسطاً محبوبة شاهدة تؤمن بالكتاب والسنة.
فأتى صلى الله عليه وسلم إلى أسيد بن حضير فأخبره الخبر فقال: يا رسول الله! والله إن شئت لنمنعنه من دخول المدينة، فإنك الأعز وهو الأذل، فقال عمر: (يا رسول الله! ائذن لي أن أقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: يا
انظر إلى الإسلام كيف فصل بين الولد وأبيه الذي هو من صلبه ودمه وعروقه، بلا إله إلا الله محمد رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: {بل نصبر على أبيك ونحسن صحبته ما بقي معنا} فهذه هي الحياة وهي الدعوة وهو المنهج الرباني حتى يقول له ربه: وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ويقول له الله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
فيأتي الناس ويعودون من الغزوة، فيأتي ابنه عبد الله فيسل السيف في مضيق عند مدخل المدينة فدخلت الكتائب المقدسة، وجيوشه عليه الصلاة والسلام وأصحابه ومحبوه، وأتى عبد الله بن أبي على فرس فاعترضه ابنه بالسيف أمام وجهه، وقال: [[والذي لا إله إلا هو! لا تدخل المدينة حتى يأذن لك الرسول صلى الله عليه وسلم فإنك الأذل وهو الأعز]] فذهب رسول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره، قال: أذنت له فدخل.
ومع ذلك عندما مات هذا الشقي يأتي صلى الله عليه وسلم بقميصه فيكفن عبد الله بن أبي بن سلول به.
قال الناس: {ما لك يا رسول الله! كفنته بقميصك؟ قال: إنه أهدى قميصاً
وهذا يسمى عند أهل التفسير (عدد لا مفهوم له) فلو كان العدد له مفهوم لكان استغفر صلى الله عليه وسلم إحدى وسبعين مرة، كما تقول (ألف مرحباً) فإنه عدد لا مفهوم له، أي: أكثر من ألف.
ثم دفنه صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل بالوحي: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] أي: لا تصل على أحد منهم مرة ثانية ولا تدع لهم ولا تقف على قبره ولا تترحم ولا تستغفر له.
ويأتيه متخلفون من المنافقين الذي أساءوا وتركوا الغزوة وخالفوا أمره وعصوا الله، فيقول أحدهم: يا رسول الله! أنا مريض، قال: صدقت، وهو ليس مريض البدن بل مريض القلب! والثاني يقول: امرأتي مرضت في الغزوة، قال: صدقت، والثالث يقول: يا رسول الله فقير ما استطعت أن أشتري جملاً، قال: صدقت، فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43] فقوله: (عفا الله عنك) مقدمة قبل أن يلاحقه بالعتاب، لئلا يخاف: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة:43] من الذي فوضك وأذن لك أن تأذن لهم؟ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43].
فماذا أحدث عليه الصلاة والسلام بهذا الخلق؟ جمع القلوب بدعوته فأتاه الذين قتل آباءهم، وإخوانهم في الشرك، فيقول أحدهم: [[والذي لا إله إلا هو إنك أحب إليّ من نفسي]] وقال الثاني: [[والله ما ملأت عيني منه إجلالاً له، والله لو سألتموني أن أصفه ما استطعت أن أصفه لكم]].
فأتى وبينهم حزازات وإحن قديمة، فأتى عمال معاوية فدخلوا في مزرعة ابن الزبير، فكتب ابن الزبير وكان حاداً غضوباً رضي الله عنه على شجاعته وعبادته:
[[بسم الله الرحمن الرحيم.. من فقد دخل عمالك مزرعتي، فوالذي لا إله إلا هو إن لم تمنعهم ليكونن لي ولك شأن
فأتى الرسول معاوية فقرأ الرسالة وكان حليماً يضرب به المثل في الحلم -يقول أهل العلم: تعلم عمر بن عبد العزيز الحلم من معاوية - فاستدعى ابنه يزيد، وكان متهوراً -وهذا يقوله الذهبي وغيره- فعرض عليه الرسالة، قال: ماذا ترى أن نجيبه، قال: أرى أن ترسل له جيشاً أوله في المدينة وآخره عندك في دمشق يأتون برأسه -وباستطاعته أن يفعل- قال: لا. بل خير من ذلك وأقرب رحماً، لأن بينهم رحماً.
فكتب بسم الله الرحمن الرحيم.. من معاوية بن أبي سفيان إلى عبد الله بن الزبير بن حواري الرسول وابن ذات النطاقين، السلام عليك ورحمة الله وبركاته وبعد.. فلو كانت الدنيا بيني وبينك ثم سألتها لسلمتها لك، فإذا أتاك كتابي هذا فضم مزرعتي إلى مزرعتك وعمالي إلى عمالك فهي لك، والسلام.
وصلت الرسالة ابن الزبير، فقرأها ابن الزبير فبلها بالدموع، وذهب إلى معاوية في دمشق وقبَّل رأسه، وقال: لا أعدمك الله الذي أنزلك هذا المنزل من قريش.
هذا العقل والتصرف وهذه الحكمة والإرادة القوية، لكننا نريد أن نصل إلى هذه المستويات فنعثر ونصل إلى درجة فنهبط، فنحاول ونكرر ونفعل كما تفعل النملة في محاولات، ولعلها المحاولة الواحدة بعد المائة أو الواحدة بعد الألف، ومن يدري فإننا في عصر تدريب وفي عصر تلق وتربية.
أسأل الله أن يزيدنا وإياكم توفيقاً وهدايةً ورشداً.
إذا كنت تبحث عن أخطائي لتبرر بها غضبك فأين حبك لي الذي كنت تتشدق به؟ لماذا لا تفتح باب التسامح في وجهي؟ لماذا لا تتبسم في وجهي؟ لماذا لا تزورني؟ لماذا لا تغفر زلتي؟ لماذا لا تدعو لي بظهر الغيب؟ عجبت لمن يدعي الحب في الله كيف لا يغفر زلات إخوانه! عجبت لودٍ ينقلب جفاءً! ولاحترامٍ ينقلب احتقاراً! ولأخوةٍ في الله تنقلب إلى علاقاتٍ سطحية!
أيها الإخوة! أقول لكم نحن نختلف عن سائر الأمم، لم نجتمع على حب وطن فقط، فليست الوطنية هي التي جمعتنا، فإن أوطاننا بلاد المسلمين، ولم نجتمع على دم فإن الدم دعوةٌ أرضية لم ينزلها الله في كتابه: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] ولم نجتمع على لغة فإن اللغات شتى بل اجتمعنا على عقيدة ومبدأ أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهذا المبدأ العظيم جعلنا نتآخى، يقول أبو تمام:
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذبٌ تحدر من غمامٍ واحد |
أو يفترق نسبٌ يؤلف بينناً دينٌ أقمناه مقام الوالد |
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل |
ولعلنا نكره شيئاً فيه خير كثير، ونحب شيئاً فيه شر كثير، ولله الحكمة البالغة.
لا تدبر لك أمراً فؤلوا التدبير هلكى |
وارض بالله حكيماً نحن أولى بك منكا |
فإذا رضيت بالله متصرفاً في شئونك الخاصة والعامة صرفك كما أراد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا تكره من أمر الله شيئاً، ورب ضارة نافعة، أحياناً تحصل أمور يكون فيها مصالح عظيمة، لا يدركها البشر بعقولهم ولا بتخطيطهم ولا بتصريفهم، منها أمور تكون قوة للإنسان ورفعة ومنزلة وحماية، وكفارة ودرجة، وهو كان يظن أنها نقمة، وأنها ضربة وكارثة، فلله الحكمة البالغة، فرضينا بحكمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولابد للعبد أن يقول كلما أصبح: { رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً} وفي سنن أبي داود بسندٍ صحيح أنه قال: {رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً كان على الله حقاً أن يرضيه}.
يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! نسألك أن تنصر جنود الإسلام وأن تسحق عبدة الأصنام وأن تكرمنا بحماية البيت الحرام.
اللهم اجمع كلمة المجاهدين وأيد عبادك الصالحين ورد كيد الكائدين، واقمع حسد الحاسدين.
اللهم ارفع لواء التوحيد واقمع كل كافرٍ عنيد، اللهم ارحمنا رحمة واسعة تسع ذنوبناً واسترنا ستراً يحجب عيوبنا يا أرحم الراحمين.
يقول الأخ: رسالة إلى إخواني المجاهدين الأفغان قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] إلى مجاهدي أفغانستان المسلمة.. إلى من رفعوا رءوس جميع المسلمين في شتى بقاع المعمورة عالياً.. إلى من أحيوا الجهاد الإسلامي المقدس.. إلى كتائب محمد صلى الله عليه وسلم.. إلى الذين نرى فيهم صدق الأنصار، وشجاعة المهاجرين، إلى من داسوا رءوس الإلحاد وكسروا جماجم الوثنية العصرية.. إلى من حطموا أسطورة الشيوعية بدمائهم الزكية.. إلى طليعة الأمة المحمدية: إنني أناديكم من فوق ثرى الجزيرة العربية.. من جوار مقدساتنا الإسلامية.. من مهبط الوحي.. من أرض الرسالة.. من قلعة القداسات.. بل أصرخ بأعلى صوتي من جوار قبر الإمام العظيم والمجاهد الفذ الزعيم وصفوة الخلق الكريم؛ محمد عليه الصلاة والسلام.
وأناشدكم الله جلت قدرته بأن تنبذوا خلافاتكم مهما كانت، وألا تتركوا لعملاء اليهودية العالمية والخونة فرصةً ليهددوا أمنكم، ويهدموا ما بنيتم خلال عشرات السنوات، فقد ضحيتم بالألوف المؤلفة من الشهداء، وأسلتم الدماء وقدمتم الجماجم وجعلتم الأرض لهباً لترتفع لا إله إلا الله، وأنتم الآن على أبواب النصر الكامل على أعدائكم وأعدائنا وأعداء الأمة.
إخواني! عليكم جميعاً قادةً وساسةً، وعلماء ودعاة وجنداً الاعتصام بحبل الله، وأن تلوذوا بعروة الله الوثقى، وألا تخيبوا أمل كل المسلمين وأمهات المسلمين ونساء المسلمين وأبناء المسلمين وعلماء المسلمين ودعاة المسلمين؛ لا تخيبوا أملهم فيكم، ولا تظهروا عدوكم عليكم بأنفسكم وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46] نسأل الله لكم الثبات والاتفاق، والاجتماع وتوحيد الصف.
هذه رسالة أشكر الأخ الذي أرسلها، وباسمكم جميعاً وباسم أبناء هذه البلاد المقدسة أشارك في إرسالي وأطلب من الإخوة مندوبي المجاهدين الأفغان في مكاتبهم أن يأخذوا هذه الرسالة وهذا الدرس والمحاضرة، وأن يقيموا الحجة على أولئك القادة، وأن يسألوهم أن يتقوا الله في الأمة الإسلامية وفي الملايين المملينة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وألا يعودوا فيقتتلوا ويسدد بعضهم السهام إلى نحر أخيه، ويقتل بعضهم بعضاً فإنها دعوى جاهلية يريد الشيطان وأعوانه استغلالها.
إن الإخوة المندوبين هنا عليهم مهمة أن ينقلوا هذه الرسالة في أقرب وقت، وأن يحملوا رسالة من حضر هذا المجلس وطلبة العلم في هذه البلاد، وفي كل البلاد الإسلامية علماءً وقادةً، ودعاةً وطلبة علم إلى أولئك بأن يتقوا الله في الأمة، وأن يناشدونهم أن يحفظوا هذه المسيرة وهذه النتائج الطيبة المرضية.
سلامٌ على الشيخين زاكٍ وعاطـر يفوح ببيت الله والحب غامر |
فقد أسعدا بالوصل خير فضيلـة وجمعا بحب الصالحين أفاخر |
الجواب: أثابه الله، وعند الأدباء مسألة معارضة القصائد، حتى إن بعض القصائد يذكرون عنها أنها عورضت ثمانين مرة على نفس البحر والراوية والقافية، وهذه قد توجد كثيراً وقد ذكر مثلها أبو الفرج وابن عبد ربه والذهبي وابن كثير، فلا بأس أن ينشأ على هذا، لكن فيما يصلح بين الناس ويؤاخي بين القلوب ويوحد بين الصف، لأنا بحاجة ماسة إليها.
الجواب: أشكرك على هذا السؤال، وكان في ذهني هذا وإني أقول: إن بعض الصحف وبعض الصحفيين يستغلون بعض الدورات وتجدهم يريدون المقابلة ولكن لهم بعض المقاصد والنوايا، ولا يدركها العبد، فأحياناً قد يتصل بك على عجلة ويأخذ منك كلمة ويختلس منك عبارة ويريد منك إثارة، ثم تضخم وتشاع وتكبر، ويكون لها أعظم الأثر في الناس، وقد جربت هذا، ولكن لا حليم إلا ذو تجربة، في مثل جريدة البلاد، وقد أخطأت كثيراً فيما فعلت، خاصة في صفحة (ماذا تقول لهؤلاء؟) ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما كنت قبلت المقابلة.
وحتى جريدة المسلمون فإنها أخذت المقابلة على أنها تنشر كاملة، لكنها أخذت كلمات طفيفة في بعض الزوايا فضخمتها بالخطوط العريضة، ودبجتها وأبرزتها وصغَّرت بعض الكلمات التي تحتاج إلى عرض وبسط، ثم أخذت تعرض المسألة بأسلوب المقصود منه الإثارة، وقد رأيت في بعض الصحف يقولون -مثلاً-: الشيخ فلان لا يرى في التصوير بأساً، ثم تبحث في المقابلة فلا تجد في الكلام ما يدل على ذلك. أو يقولون: الشيخ يطالب بحقوق للمرأة.. الشيخ يعترض على الشيخ الفلاني المذكور.. الشيخ ينقم أسلوب الداعية المذكور، فلانٌ يرى أن فلاناً مخطئ، وهذا يدل على أن هناك نوايا لم نكن نعتقدها ولا نظن بها، ولم نكن نظن أن مسلماً يريد هذه أو يريد في فترة من الفترات أن يوجد في النفوس شيئاً، فعسى أن تكون تجربة وأن يكون درساً، وكل شيء تستفيد منه فهو عبرة لك وفي مصلحتك.
نسأل الله أن يهدي وأن يصلح وأن يسدد.
الجواب: لا. هناك أسس في الولاء والبراء عند أهل السنة والجماعة بينت في مناسبات ومحاضرات ودروس، وبينها أهل العلم في كتبهم.
فإن الولاء والبراء النسبي واردٌ، والحب والبغض النسبي وارد وقد تكلم عنه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أن تحب الإنسان بقدر ما فيه من طاعة، وتبغضه بقدر ما فيه من معصية، وتحبه بقدر ما فيه من سنة وتبغضه بقدر ما فيه من بدعة.. وهكذا.
أما الحب المطلق العام الكامل فهذا لا يكون؛ لإنه ليس هناك أحدٌ كامل، لكن بقدر هذا وهذا فقد جعل الله لكل شيءٍ قدراً، فتهجر العاصي حتى يتوب من معصيته، كما فعل صلى الله عليه وسلم مع العصاة، وتهجر المبتدع حتى يتوب من بدعته، أما أن تهجر دائماً وتوالي وتحب دائماً وتترك أهل المعاصي وتجعلهم كالمؤمنين فهذا غير المنهج الذي بنيت عليه عقيدة السلف الصالح.
لكن الأمور الدنيوية -أيها الإخوة- التي يتذرع بها الناس في الهجران لا يحل لهم ذلك إلا ثلاثة أيام، ففي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يحل لامرئٍ مسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام}.
الجواب: أثابك الله وأكرمك، وجمع الله القلوب وأزال الله ما في النفوس، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال -وهذا لفظ أحمد في المسند - {إن الشيطان قد أيئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب} فلا تجد أحداً في جزيرة العرب يسجد لوثن ولا صنم: {ولكن في التحريش بينهم} وأما التحريش فسوف يستمر إلى قيام الساعة.
وهناك أناس جاهزون متبرعون، فكل صباح ينقلون الكلمات -مراسلون- وسوف يحاسبهم الله، فتجده من الصباح: قال فلان وقال علان، وسمعنا أن فلاناً يقول في فلان كذا وكذا، وهل صحيح أن فلاناً يقول كذا، وهل سمعتم ما قيل عن فلان، وهل بلغكم، فهؤلاء هم الذين يسعون بالعداوة والشنعاء والبغضاء بين المؤمنين لا خلاق لهم عند الله يوم القيامة، فالذين يفسدون الود والقلوب سوف يتعرضون لمقت المولى وغضبه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهم كما قال صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة نمام} وفي لفظٍ: قتات، فجعل الله عز وجل عقوبته ألا يدخل الجنة بسبب إفساده بين الناس.
الجواب: لا. الخلاف بينهم مثل الخلاف بيننا، فهم ليسوا رسلاً، ولا أنبياء ولا معصومين، فهم اختلفوا في بعض القضايا مثلما اختلفنا نحن، وأنا قرأت تراجمهم حتى إن بعضهم بلغه كلمة عن فلان فهجره وغضب عليه، مثلما يحدث بيننا، فقد تبلغنا كلمة عن أخ أو أحد فنغضب عليه، بل إن بعضهم غضب لأجل أمر.
فقضية أنك ترفعهم إلى درجة العصمة لا. لكن أقول هم أفضل منا، وليس بيننا وبينهم نسبة ولا تناسب ولا مفاضلة، فقد زكاهم الله من فوق سبع سموات وهم صفوة الخلق، وهم الرعيل الأول المفضل.
ولكن مع ذلك حصل منهم ما حصل، وأتى بينهم من الكلمات، وبعضهم اعتدى على بعض، وبعضهم حمل السلاح على بعض، وبعضهم هجر بعض، ومع ذلك قال الله عز وجل: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] فقضية أن نتنكر لوقائع التاريخ وقضايا السير ليس بصحيح، بل إن الله عز وجل عاتب رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن على بعض القضايا، وعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة على أشياء، ولامهم صلى الله عليه وسلم على بعض الأمور، لأنهم بشر يخطئون.
هذا ما أريد أن أقوله لكم -أيها الإخوة- في هذا المجلس.
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني |
وعندي من الخطايا والذنوب ما لا يعلمه إلا الله، ومع ذلك لا يعلمون ذلك، فماذا أفعل؟
الجواب: أولاً: لا يشترط أن تخبر الناس بذلك، والمطلوب من المسلم أن يحسن ظن إخوانه به، وأن يحمد الله عز وجل على ستر الله، وأن يستمر دعاء ربه ومولاه أن يوفقه.
ثانياً: أن الذي يصلح بينك وبين الناس وينشر عنك الذكر الحسن والثناء الطيب هو الله، وذلك بأن تصلح ما بينك وبينه، فإنك إن أصلحت ما بينك وبينه نشر الله لك الحب والقبول والثناء الحسن، وإذا أفسدت ما بينك وبينه نشر الله لك البغض والشنعاء واللعنة والمقت، حتى يقول بعضهم:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب |
إذا صح منك الود فالكل هينٌ وكل الذي فوق التراب تراب |
إلى آخر ما قال.
وعند ابن حبان {من أرضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضا الله رضي الله عنه وأرضى عنه الناس}.
وقضية أخرى أنه ليس هناك أحدٌ معصوم يسلم من الذنب إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام، فكلٌ له ذنب وكلٌ له خطأ وكلٌ له سيئة، لكن تب بينك وبين الله.
ثالثاً: ثم إنه لا يشترط -أيها الإخوة- أن الإنسان إذا عصى الله أن يقول للناس: لا تظنوا بي خيراً، بل إني عاص، فهذا ليس من منهج أهل السنة، بل يجب أن يستتر بستر الله ويفرح بحفظه، ويحمد الله عز وجل على أن أوجد له خيراً.
رابعاً: أنه قد يكون لك خير لا تدري أنت عنه، قد اطلع الله عليه وعلى سريرتك أنها خيرة، فنشر لك القبول والحب، وأنت لا تدري فبعض الناس يبلغ به سوء الظن بنفسه إلى درجة أن يحطم نفسه، ولا ينظر لنفسه إلا نظرة سوداوية من الوسوسة حتى تقول لأحدهم: أنت فيك خير، قال: لا. ليس في خير لو تعلم ما عندي لما زكيتني، أقول: أراك تصلي الصلوات الخمس، قال: لا. ولو، أراك تقرأ القرآن، قال: لا. ولو، أراك تحب الله ورسوله، قال: لا. ولو، فيسحق نفسه سحقاً ويحطمها تحطيماً.
وهذا ليس مطلوباً في الإسلام، لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [النور:21] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32] انظر كيف يفترون على الله الكذب في آيات كثيرة، فأخبرنا سبحانه أنا أهل نقصٍ وتقصير، أما البيت الذي بدأ به الأخ فهو لـأبي العتاهية وهو من أجود أبياته وهو ضمن أبيات يقول فيها:
إلهي لا تعذبني فإني مقرٌ بالذي قد كان مني |
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني |
وكم من زلةٍ لي في البرايا وأنت عليَّ ذو فضلٍ ومنِّ |
إذا فكرت في ندمي عليها عضضت أناملي وقرعت سني |
إلى أبياتٍ كثيرة، ويقول عبد الله بن محمد الأندلسي في قصيدته (أربِحِ البضاعة):
يا من سترت مثالبي ومعايبـي وحلمت عن سقطي وعن طغياني |
والله لو علموا قبيح سريرتـي لأبى السلام عليَّ من يلقاني |
وأبو نواس يقول:
إن كان لا يرجوك إلا محسـنٌ فبمن يلوذ ويستجير المجرم |
ما لي سواك وسيلة إلا الرجـا وجميل عفوك ثم إني مسلم |
ولما حضرت الشافعي الوفاة سالت دموعه فأنشد وقال:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا ربي لعفوك سلما |
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما |
وهذا أمرٌ عظيم، فإن الإنسان إذا ذكر رحمة الله وحلمه وكرمه تصاغر ما عنده من الذنوب، وإذا ذكر أخذ الله وبطشه وعذابه تقالَّ ما عنده من الحسنات، فالمؤمن يعيش بين الرجاء والخوف، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:1-3] والرجاء والخوف عند أهل السنة جناحان للطائر لا يطير إلا بهما، فأنت بين الخوف والرجاء.
نسأل الله أن يحفظنا وإياكم، وأن يجمع كلمتنا وأن يوحد صفوفنا، وأن يجمعنا بكم في دار الكرامة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر