على أي شيء رباهم؟ ما هو الهدف الذي جعلهم يعيشون من أجله أو يموتون من أجله؟
كيف كانت تربيته عليه الصلاة والسلام لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة؟
كل هذا ستعرفه في هذا الدرس إن شاء الله.
اللهم صل وسلم على محمد ما تضوع مسك وفاح، وما ترنم حمام وناح، وما شدا بلبل وصاح.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أنا من الأزد أنصار الرسول ولي وسيلة الحب إني من محبيه |
دمي ودمعي مدادٌ في مدائحه وفيض قلبي يعفورٌ يناديه |
أبي معاذ أناغي ورق دوحتـه حسان جدي سأبني في قوافيه |
أنا الليلة لا أتكلم عن سياسي بل أعظم من الساسة، ولا عن اقتصادي بل أعظم من الاقتصاديين، ولا عن عالم بل أعظم من العلماء، ولا أتكلم عن زعيم بل أعظم من الزعماء، ولا عن أديب بل أعظم من الأدباء.
المصلحون أصابعٌ جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء |
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الأنواء |
وإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحماء |
فصلى الله وسلم على بطل الصحوة الرائدة، وأستاذ الصحوة الخالدة، وموجهها ومعلمها؛ فما اجتمعنا إلا على رسالته، ولا تآخينا إلا على منهجه، ولا تصافينا إلا على مبادئه الخالدة.
شكر الله لمن شاد هذا المسجد، وشكر الله لإمامه، وشكر الله لمن قدم المحاضرة، وشكر الله لكم حضوركم، ورفع منازلكم، وجمعنا بكم في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.
تعالوا معنا ننظر كيف ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، كيف أخرجهم من النار.
يوم أتى زعماء الطين والتراب فسحقوا شعوبهم ليربوا منهم عبيداً وأرقاء وعمالاً وطبقات خافضةً مستعبدةً وجيوشاً مجندة، ربى محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه على الحب.
يوم أتى استالين ولينين وهتلر يسحقون البشر ويعذبونهم ويحرقونهم.
قالوا هم البشر الأعلى وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا |
أتى محمد عليه الصلاة والسلام ليخرج من الأمة العربية البائسة الأمية أمةً ماجدةً رائدةً خالدةً: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) [الجمعة:2].
يا قوميون: أين مدكم قبل الإسلام؟ أين تاريخكم قبل الرسالة الخالدة؟ طنطنتم في الصحف والمجلات، ودندنتم في الإذاعات بأن لكم مجداً قبل الإسلام، أمجد عنترة الإرهابي! أم مجد حاتم المشرف على الوثنية! أم مجد عبس وذبيان وداحس والغبراء!، لا.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها |
بل كرم الإنسان حين اختـار من خير البرية نجمها وهلالها |
لبس المرقع وهو قائد أمةٍ جبت الكنوز فكسرت أغلالها |
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها |
فأمدها مدداً وأعلى شانها وأزال شانئها وأصلح بالها |
كما ذكر أخي وزميلي المقدم: أن هذه الصحوة العارمة الرائدة تحتاج إلى موجه وإلى أستاذ وإلى بطل، وموجهها وأستاذها وبطلها محمد عليه الصلاة والسلام هو لا يزال يقود الركب بسنته حتى يسلم الأمة ويدخلها من باب الجنة عليه الصلاة والسلام، وإن هذه الصحوة رفعت الرءوس، فلك الحمد يا رب، ظن المستعمر أنه سوف يسحق شبابنا، وسوف يغريهم، وسوف يهاجمهم بالمرأة والكأس، فأبى الله إلا أن يتم نوره، ورد كيد المستعمر في نحره، وأقبلت وجوه الصحوة تسجد لله ويقول لسان حالها:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا |
أصول هذه المحاضرة خمسة أصول:
أولها: تربيته عليه الصلاة والسلام لأصحابه على الحب لله ولرسوله، حباً يقطع من أجله الجسم ويمزق من أجله شغاف الروح.
الأصل الثاني: تربيتهم على الشجاعة والإقدام، يقتحمون الأسوار ويسلمون أرواحهم للسيوف تمزقها لتدخل جنة عرضها السموات والأرض.
الأصل الثالث: الصراحة والوضوح، يأتي الطارف من الرعية والبدوي الأعرابي فيتكلم في حوار ساخن حار مع عمر وهو على المنبر ويقاطعه في الخطبة، ويستمع الجمهور لهذا الراعي مع هذا الفرد من الرعية بتربية محمد عليه الصلاة والسلام.
الأصل الرابع: اللين والرفق الذي سلكه محمد عليه الصلاة والسلام يوم قدم دعوته في أطباق الحب وعلى رياحين المودة وعلى باقة من الإخلاص والالتزام.
أما الأصل الخامس: فهو تربيته على الطموح وعلو الهمة، ولا يرضى أحدهم بالدنيا وقصورها وذهبها وسياراتها من أجل أن يبيع ولو طرفة عين شيئاً من مبادئه.
وفي سنن الترمذي بسند حسنه بعض أهل العلم: أن عمر لما أراد العمرة، قال له صلى الله عليه وسلم: {لا تنسنا من دعائك يا أخي}.
قائد عظيم وزعيم عملاق يقول لأحد تلاميذه: أخي، قال عمر -معلقاً-: كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما عليها، وذهب عمر إلى العمرة، لكن كأنه ترك قلبه مع الرسول عليه الصلاة والسلام وأشواقه وأحاسيسه وإشراقه.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا |
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا |
هذا هو الحب، والحب أثبت أصالته في المعركة، من الذي دفع أنس بن النضر أن يهب بسيفه من المدينة إلى أحد؟ فيقول له سعد بن معاذ: [[عد، عد يا
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود |
ويذهب فيقتل، فيبكي ابنه جابر، فيقول صلى الله عليه وسلم: {ابك أو تبك، والذي نفسي بيده! ما زالت الملائكة تظل أباك بأجنحتها حتى رفعته، والذي نفسي بيده لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان، قال: تمنّ -واسمع إلى الأمنية والطموح وعلو الهمة- قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمنّ قال: أتمنى أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك، فقال الله: فإني أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبدا}.
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا |
ومن الذي باع الحياة رخيصةً ورأى رضاك أعز شيء فاشترى؟ |
هل قتل أتباع استالين ولينين وهتلر على ذلك، كذب الأعداء الأخساء، كذب الدجاجلة، والله ما قادوا الشعوب إلا بالحديد والنار، أما رسولنا عليه الصلاة والسلام فقاد القلوب إلى الحي القيوم وهي تقيه من جراحات الأسهم وتحوطه بسياج من النور في أحد حتى تقع الأسهم فيها، وأحدهم يقول: نفسي لنفسك الفداء يا رسول الله.
أولاً: حب الله عز وجل وحب رسوله عليه الصلاة والسلام حباً صادقاً أكثر من الزوجة والأهل والمال والولد، ولذلك أحباب الله يسارعون إلى محاب الله، وفي حديث عند الطبراني من قوله عليه الصلاة والسلام: {يضحك ربك إلى ثلاثة -ولله ضحك يليق بجلاله لا نكيفه ولا نمثله ولا نشبهه ولا نعطله- أحد الثلاثة رجل حمله الحب سافر في قافلة وتعب في السفر، فلما نزل أصحابه قبل الفجر ناموا على الأرض، وأما هو فما نام، قام إلى الماء البارد فتوضأ واستقبل القبلة يبكي ويدعو ويناجي الواحد الأحد، فيقول الله لملائكته: يا ملائكتي! انظروا لعبدي هذا ترك فراشه الوثير ولحافه الدفيء وقام إلى الماء البارد يتوضأ ويدعو ويتملقني، أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة} أليس بحب؟ بل أعلى من كل حب.
في مذكرات لبعض الدعاة: أن شاباً مسلماً من بلاد الجزيرة العربية سافر إلى بلاد الإنجليز إلى لندن وهناك أعلن توحيده وأعلن صموده وأعلن إيمانه، لأنه خرج من بلاد الحرمين، من جزيرة التحدي للزنادقة وللملحدين، من جزيرة الإبداع والسمو والجمال والروعة والصفاء، وهناك سكن في بيت إنجليزي مع عجوز اضطر لذلك اضطراراً، وكان يقوم مع صلاة الفجر في البرد القارس المثلج إلى صنبور الماء فيتوضأ، وتلاحظه عجوز إنجليزية في البيت كل صباح، فتقول له: أمجنون أنت؟ قال: لا. قالت: وكيف تقوم في هذه الساعة لتتوضأ؟ قال: ديني يأمرني بذلك، قالت: ألا تتأخر؟ قال: لو تأخرت لما قبل الله مني، فهزت رأسها وقالت: هذه إرادة تكسر الحديد.
من الذي أتى بهذه الإرادة وزرعها في القلوب؟ إنه محمد عليه الصلاة والسلام.
والفيافي حالمات بالمنى عجباً من قلبك الفذ الكبير |
وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاليمه لا تزال كالفجر لامحة لمن أراد أن يستفيد من تعاليمه.
يقولون للشاب في الثلاثين: أَمن مستقبلك، فإذا مستقبله زوجة وسيارة وفلة، يصبح فيقول: أصبحنا وأصبحت الفلة لله! وأمسينا وأمست السيارة لله! يفكر في الفلة وهو ساجد، وفي الزوجة وهو راكع، وفي السيارة وهو على جنبه، أي طموح وأي شجاعة هذه! ويسعى من أجل الفلة، ويحيا من أجلها، ويسميها مستقبلاً وهذا ليس مستقبلاً، بل هو مستقلب، لأن المستقبل أن تكون مؤمناً بالله وأن تهيئ لك مكاناً في جنةٍ عرضها السماوات والأرض.
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا |
فأتى عليه الصلاة والسلام يربي الصحابة على الشجاعة والإقدام، وعلى أن أعظم ما يمكن أن يدفعوه أن يقدموا أرواحهم في سبيل الله.
قال الأستاذ المربي العظيم -نور الله ضريحه، وسقاه الله شآبيب الرضوان- قال: في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التوبة:111] قال في كلام ما معناه: أنزل الله صكاً من السماء أتى به جبريل وأملاه محمد، ونص المعاهدة (إن الله اشترى..... الآية) فتقدم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام بالثمن، ما هو الثمن؟ الأرواح، والسلعة؟ الجنة، فتبايعوا، فقال ابن رواحة: {يا رسول الله! ماذا تريد منا؟ قال: أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأطفالكم وأموالكم، قال: فما لنا إن فعلنا ذلك؟ قال: لكم الجنة، قال
أليس هذا أرقى علوم التربية عند ابن القيم؟ أما كان بالأولى أن تدرَّس كتب ابن القيم في الجامعات والمؤسسات والمدارس والندوات والأمسيات، ولا تدرس خزعبلات ديكارت وكانت، وكل عميل متزندق ملحد! إنها ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
أحد الحاقدين من القبوريين المبتدعة النبهاني، يقول: كتب ابن تيمية وابن القيم ما لقيت رواجاً في الأوساط لسوء نيات أصحابها، فتصدى له الألوسي، وقال: كذبت يا عدو الله، أما كتب ابن تيمية وابن القيم فهي الذهب الإبريز، والعسل المصفى، أما كتبك وكتب أشياخك فتصلح لأن تكون مخابئ الأحذية ومخالي يوضع فيها الشعير للحمير.
هذا هو الأصل: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17].
والشاهد: تربيته صلى الله عليه وسلم أصحابه على الشجاعة، ليس كـالنصرانية يقولون: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، احتقار العبيد سلوك البربر! والتربية عنده صلى الله عليه وسلم شجاعة في موضع الشجاعة، وحلم في موضع الحلم، وحزم في موضع الحزم، وخلق في موضع الخلق.
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [ الفجر:27-30].
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها |
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها |
عليَّ إن لاقيتها ضرابها |
أما الاستخذاء والخوف من الزلازل والبراكين، لو وقع بركان في الفلبين فإن بعض المنافقين يخافون وهم هنا يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون:4] لأنهم ما أعدوا إيماناً وما حملوا رسالة، يريدون ألا ترتفع عليهم الأسعار، ولا تنقطع منهم الأمطار، ولا تذبل عليهم الأشجار، ولا يغلى عليهم الخس والجرجير، لأن مستواهم هكذا وطموحهم هكذا وحياتهم هكذا: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
يأتي خالد بن الوليد بعدما قتل القواد الثلاثة، وخالد سيف الله سله على المشركين، فيقول: ناولوني السيوف، يعني: أعطوني السيوف لأريكم هذا الشغل الذي يبيض وجوه المؤمنين، أبو سليمان، فأخذ -بيض الله وجهه- السيف الهندي فكسره على رءوس الأعداء، ثم أخذ الثاني -هذه القصة يرويها ابن كثير - فكسره حتى كسر تسعة سيوف، ثم ما ثبتت في يده إلا صفيحة يمانية، قال ابن كثير: قتل بيده ذاك اليوم وحده خمسة آلاف.
تسعون معركة مرت محجلةً من بعد عشر بنان الفتح يحصيها |
و خالد في سبيل الله مشعلها و خالد في سبيل الله مذكيها |
وما أتت بقعة إلا سمعت بها الله أكبر تدوي في نواحيها |
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها |
جنود إسرائيل في بعض المعارك مع العرب يحملونهم بالسلاسل في الطائرات ويدخلونهم بالسياط والأمر العسكري، يفرون؛ لأنهم يقاتلون بلا مبادئ ولا شجاعة ولا طموح، وبعض الجيوش العربية دخلت إسرائيل، فقالوا لأحد قاداتهم: صلوا الظهر، قال: الصلاة إذا رجعنا إلى بلادنا، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، فترك جزمته وفر هارباً.
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار |
وليست على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما |
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما |
ألم يصدق؟! هل جامل؟ بعضنا اليوم يقول لأخيه وهو يكرهه: والله إني لأحبك، وهو يتمنى أن يمزق وأن يقطع وأن يموت، لكن الصحابة كانوا لا يعرفون المجاملة إنه دين الوضوح.
أليس وضوحاً وصراحة؟ لا مجاملة، لا استخذاء، لا معاكسة، لا تستر؛ إنما هو صدق واضح يوصله إلى رضوان الله عز وجل: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام:148].
رد عليه الصلاة والسلام أصحابه إلى أن يتكلموا بما في قلوبهم، وجعل من خالف قوله فعله منافقاً، والله أعلم بما في القلوب: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:11] أما المؤمن فقلبه ولسانه سواء.
تربية خالدة! وعلم رائع جميل! وما أحسنه إذا أخذ في ميزان التطبيق والعمل من محمد عليه الصلاة والسلام.
أتى عليه الصلاة والسلام بمدرسة اللين والرفق: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) يرسل الله عز وجل موسى وهارون إلى فرعون، فيقول لهما وهما في الطريق: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) [طه:44] اللين عجيب.
تخذني خليلاً أو تخذ لك صاحباً خليلاً فإني مبتغٍ صاحباً مثلي |
عزيز المنال لا ينال مودتي من الناس إلا مسلم كامل العقل |
ولا يلبث الأخدان أن يتفرقوا إذا لم يؤلف روح شكل إلى شكل |
وقال ابن المبارك:
إذا صاحبت قوماً أهل ودٍ فكن لهم كذي الرحم الشفيق |
ولا تأخذ بزلة كل قومٍ فتبقى في الزمان بلا رفيق |
بسمةٌ وحنوٌ ومعانقةٌ وبشاشةٌ تشترى بها القلوب، دايل كارنيجي الأمريكي مؤلف دع القلق وابدأ الحياة ومؤلف كتاب كيف تكسب الأصدقاء أتى بأمور في الإسلام، لكن ما درى الخواجة العميل أن هذه الأمور في تربيتنا، فأتى بعض المربين من عندنا فنقلوا من كتابه ولم ينقلوا من صحيح البخاري ولا من صحيح مسلم.
سبحان الله! ما هذا الغباء؟! تأخذون من الأجنبي ولا تأخذون من الحبيب القريب عليه الصلاة والسلام حتى يقولون: كيف تكسب الأصدقاء؟ كما قال دايل كارنيجي في صفحة (72) عليك أن تتبسم وأن تستمع لصديقك وأن تلين له جانبك لتكسبه صديقاً.
سبحان الله! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تبسمك في وجه أخيك صدقة) ويقول عند الترمذي: (ألا أنبئكم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ قالوا: بلى، قال: أحاسنكم أخلاقاً) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
يقول ابن تيمية: ليس الذكي الذي يعرف الخير من الشر، لكن الذكي الفطن الذي يعرف خير الخيرين من شر الشرين.
أمر عجيب! فيجلسه، ويقول: عليَّ بذنوب من ماء، فيأتون بذنوب من ماء، فيصبونه على بول الأعرابي انتهت المشكلة، ويمسح كتف الأعرابي ويتبسم له، ويقول: {إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من الأذى والقذر، إنما هي للتسبيح والتكبير والتحميد والتهليل} فيقوم الأعرابي ويتوضأ ويصبح مسلماً، ويخبرهم- صلى الله عليه وسلم- أنهم لو ضربوه ارتد فدخل النار.
فقام قال صلى الله عليه وسلم وتبسم إليه وضحك إليه، فقام الصحابة يريدون أن يلقنوه درساً، فقال- صلى الله عليه وسلم: دعوه ثم أخذه بيده فأعطاه من مال الله زبيباً وحباً وثياباً، فمن أراد الزبيب وجده، والحب أخذه، ومن أراد الإيمان واليقين والقرآن وطريق الله المستقيم كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وجده، وبعد أن أعطاه- قال: أحسنت إليك قال: نعم. فجزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خير الجزاء، قال: إذا خرجت فقل لأصحابي ذلك، فإنهم وجدوا في أنفسهم، فيخرج به صلى الله عليه وسلم، ويسأله أمامهم، قال: نعم، جزاك الله من أهل وعشيرةٍ خير الجزاء، فيتبسم صلى الله عليه وسلم، ويقول: { أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الأعرابي؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: مثلنا كرجلٍ كانت له دابة فرت منه فلحقها، فلما رآها الناس فرت لحقوها، فما زادت إلا فراراً، قال الرجل: يا أيها الناس! خلوا بيني وبين دابتي فأنا أعرف بها، فأخذ شيئاً من خضار الأرض وخشاش الأرض، فأشار للدابة فأتت وأكلت فأمسكها وقيدها، ولو تركتكم وهذا الأعرابي لضربتموه، ثم ارتد فدخل النار}.
عاد الأعرابي إلى قومه، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا عن بكرة أبيهم.
إنها الدعوة الرائدة! إنه الرفق واللين! وإن هذا الأصل الرابع من أعظم أصول التربية.
إن الجفاء والغلظة لا تكسبك إلا بغضاً وحقداً، وإن الرفق واللين يكسبك القلوب ويشتري لك الأرواح، قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: {والله ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي}.
ما أحسن البسمة! فيها السحر الحلال، قيل لأحد العلماء: ما هو السحر الحلال؟ قال: تبسمك في وجوه الرجال.
وفرق بين المتكبر الجافي الغليظ الذي لا يتبسم، وإذا تبسم كأنه يقطر عليك بالقطارة، أو كأنه ينفق عليك من دمه، أو كأنه يمن عليك بهذه البسمة، فلذلك يقول الشاعر في القسمين: الجافي الغليظ والمتبسم البشوش، يقول:
وجوههم من سواد الكبر عابسةٌ كأنما أوردوا غصباً إلى النار |
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار |
ليسوا كقومٍ إذا لاقيتهم عرضاً أعطوك من نورهم ما يتحف الساري |
تروى وتشبع من سيماء طلعتهم بوصفهم ذكروك الواحد الباري |
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري |
إنه أصل من أصول التربية اللين والرفق في حياته عليه الصلاة والسلام.
الطموح يا شباب الصحوة، الطموح يا شيوخ التوحيد، الطموح يا جنود الإسلام، إن محمداً صلى الله عليه وسلم ربانا لنكون مؤمنين، وإن تلكم التربية الغربية التي طمت وعمت علينا، فأخرجت من الطفل الذي كان مؤهلاً ليكون كـابن عباس في شبابه، أو كـابن الزبير طفلاً هوايته في جمع الصحف والمجلات، جمع الصحف والمراسلة، أو جمع الطوابع! لا قرآن لا صلاة لا جهاد لا دعوة لا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، بل جمع طوابع ومراسلة وصيد حمام، ومطاردة دجاج وأرانب، أهذه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؟ ربوه على ذلك، لا يعرف إلا الدراجة، وصيد الحمام والدجاج، وأكل السمك والمراسلة، ثم إذا ارتقى وانتكس ولم يعرف طريق محمد عليه الصلاة والسلام، أخذ عوداً، لم يزد الأمة إلا خيبةً وندامةً، فغنى فصفقوا له، وقالوا: أنت كوكب، فصدقهم، فألقوا معه مقابلة قالوا: كيف شققت طريقك في الحياة؟ قال: بدأت من الصفر - أنت تحت الصفر أنت تنزل تحت، فكيف تبدأ من الصفر؟! - قال: بدأت من الصفر، فصبرت واحتسبت، وثابرت وسهرت الليل.
سهرتَ الليل بسورة طه والأنفال والأعراف؟ سهرت الليل بمدارسة صحيح البخاري وصحيح مسلم؟ تسهر الليل على (هل رأى الحب سكارى مثلنا) أو:
يا من هواه أعزه وأذلني كيف السبيل إلى وصالك دلني |
جهنم هي الوسيلة، ولذلك سموه نجماً وليس بنجم قيل لـأبي علي الروذباري: ترك بعض الصوفية الصلاة، فقلنا لهم: صلوا، قالوا: وصلنا، يعني: وصلوا إلى درجة، قال: صدقوا وصلوا، ولكن إلى سقر، وما أدراك ما سقر؟!
كفاك عن كل قصرٍ شاهقٍ عمدٍ بيت من الطين أو كهف من العلم |
تبني الفضائل أبراجاً مشيدةً نصب الخيام التي من أروع الخيم |
إذا ملوك الورى صفوا موائدهم على شهيٍ من الأكلات والأدم |
صففت مائدةً للروح مطعمها عذب من الوحي أو هديٌ من الكلم |
همة همة تنطح الثريا وعزم نبوي يدكدك الجبالا |
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول |
دائماً في المرتبة الأولى؛ همته عالية، لا يعرف إلا أن يكون دائماً متفوقاً؛ في الذكر، في الصلاة، في الجهاد، في الصيام، في الدعوة، في الأمر بالمعروف في النهي عن المنكر، يضرب في كل غنيمة بسهم.
أيها الإخوة! هذه همة عالية ربى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، والذي يعيش بلا همة، ولا رسالة في الحياة ليس بحي: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21].
أحياتك تتركز على وظيفة فحسب، أو على بطن، أو على فرج، أو على فلة، أو على سيارة، لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام- يريد ذلك، أراد صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يكونوا للجنة، يقول عند ابن ماجة بسند جيد: {ألا من مشمر إلى الجنة؟ فإن الجنة والذي نفسي بيده، نورٌ يتلألأ وقصر مشيد وزهرة وخلود} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، قال الصحابة: نحن المشمرون يا رسول الله! قال: قولوا إن شاء الله.
علو الهمة، ما أرادوا حطام الدنيا، ووجدوا أن ملاذ الدنيا وسمنها وعسلها ولحمها ومراكبها لا تساوي دقيقة من جهادهم الذي بذلوه في رفع لا إله إلا الله محمد رسول الله، أفيأخذون هذا الجزاء على هذا البذل؟ لا. فوفروا جزاءهم عند الواحد الأحد.
يقول عمر على المنبر: [[والله إني لأعلمكم بأحسن الطعام، وألين اللباس، وأوسع الدور، ولكن أخشى أن يقال لي يوم القيامة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20]
يقول محمود غنيم:
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه |
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه |
إذاً: ربى عليه الصلاة والسلام أصحابه على الهمة، وهذا مطلب أساسي في هذه الصحوة الرائدة الخالدة المتجهة إلى الله.
إن من أسباب الصحـوة هذه علو الهمة، جربوا المبادئ الهدامـة، ذاقـوا الأطعمة البائسة الحقيرة، صنفوا في كل مكـان، فما وجدوا إلا الطريق إلى الله. أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ يونس:58].
تصور إنساناً يجمع مائة شريط غنائي في الجنس، وفيديو مهدم في بيته، ومجلات يتوسدها كمخلاة الشعير عند رأسه يقرأها صباح مساء أيُّ همة عنده؟! شاب لا يصلي الفجر في جماعة، أيُّ همة عنده؟! شاب لا يراود نفسه على حفظ القرآن والتزود من علم الكتاب والسنة والتحصن بالعلم (قال الله وقال رسوله) أي همة عنده؟! إنه قد جهل الأصل الخامس من أصول التربية التي علم الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه. إنها علو الهمة.
همة عالية، قال الذهبي - وأنا أوردها والعهدة على الذهبي في ترجمة خالد وكلكم يعرف خالداً أبا سليمان سيف الله المسلول: أتي له بقارورة من سم قبل معركة اليرموك قبل اشتداد المعركة، فقال له الروم: إنكم تزعمون أنكم متوكلون على الله، فإن كنت صادقاً فاشرب هذه القارورة فإنها مملوءة سماً، قال: باسم الله، توكلت على الله، حسبي الله ونعم الوكيل، ثم فتح القارورة فشربها، فما أصابه شيء: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174].
يا أمة المجد والأرواح أثمان في شدة الرعب ما هانوا وما لانوا |
كم ملحد ماجن ظن الحقوق له زفوا له الموت مراً وهو مجان |
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ |
هي من الهمة التي يريدها عليه الصلاة والسلام ألا يستخذي المسلم للمستعمر، وألا يعبد بطنه، وألا يعبد فرجه، وألا يعبد مغرياته وشهواته {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش} لأنه ما عرف الحياة، ما عرف أن الرزق بيد الله، وأن المعطي هو الله، وأن المانع هو الله، وأن المحيي والمميت هو الله، وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً [الفرقان:3].
ألا إن ريادة هذه الصحوة أن نعود إلى تربية محمد عليه الصلاة والسلام، التربية من الكتاب والسنة، علم النفس من الكتاب والسنة، الثقافة من الكتاب والسنة، نحن نصدر ولا نستورد، نحن نعطي ولا نأخذ، عندنا ثراء، نحن أغنياء بما عندنا من أصالة، وإن الفاشل والمنهزم الذي يذهب إلى كانت وديكارت ولينين واستالين ليأخذ سلعته ويبيع دينه، يقول لسان حالهم: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:14-18] ما عرفوا التربية، ما عرفوا الأصالة والعمق.
فقل للعيون الرمد للشمس أعينٌ تراها بحق في مغيب ومطلع |
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأهوائها لا تستفيق ولا تعي |
أولها: تربية أصحابه على حب الله عز وجل وعلى حب الرسول عليه الصلاة والسلام حباً منقطع النظير أشهى من الماء البارد والعسل المصفى.
الثاني: الشجاعة والإقدام، شجاعة تكسر أسوار الحديد المادي، وشجاعة تقتحم كل حجاب من حجب الشهوة والمادة.
الأصل الثالث: الصراحة والوضوح، صراحة تنبني على انطلاق الكلمة المعبرة من القلب الصادق الذي لا يعرف النفاق، ولا المجاملة ولا الالتواء، عند ذلك يقول عمر على المنبر: [[يا أيها الناس! لو رأيتموني اعوججت فما أنتم صانعون؟ فيسكت الناس ويقوم أعرابي -وقيل: إن عمر قال: يا أيها الناس! لو رأيتموني ملت عن الطريق هكذا، فماذا تصنعون؟ فسكتوا- وقام أعرابي وسل سيفاً من آخر المسجد، قال: يا أمير المؤمنين والله الذي لا إله إلا هو، لو رأيناك ملت عن الطريق المستقيم هكذا، لقلنا بالسيوف هكذا، قال عمر: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من لو قال هكذا، لقالوا بالسيوف هكذا]].
أليست صراحة ووضوحاً؟ بلى.
الأصل الرابع: لين ورفق يدخل الدعوة إلى قلوب الناس، لا عنف ولا قتل، لا إرهاب ولا تمزيق للأعراض، لا جرح للنفوس، لا مرارة، بل حب ينساب كالنور إلى الأرواح، أو كالماء البارد.
الأصل الخامس: طموح وعلو همة يرقى بها الإنسان ليعيش في الحياة سيداً وعبداً لله لا لغيره، فهذه العبودية التي تكون في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66].
فالصلاة والسلام على محمد ما ذكره الذاكرون، وما غفل عنه الغافلون، وما أتى إليه أتباعه يطلبون الهدي من سنته، فنسأل الله أن يثبتنا على منهجه، وعلى سيرته، وأن يفقهنا في دينه، وأن يجمع قلوبنا على تربيته الخالدة الرائدة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
هذه بعض الأسئلة نعرض منها ما يسره الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
الجواب: ننصحك بالعمل بسنته عليه الصلاة والسلام، فهو المقصود من السيرة: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] وضوابط حبه صلى الله عليه وسلم سبق فيها محاضرة، وهو شريط إسلامي اسمه ضوابط محبة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن أجمل جملاً علَّ الله أن ينفع بها.
الأمر الأول: من ضوابط محبته صلى الله عليه وسلم: العمل بسنته، فمن لم يعمل بسنته، فلا يحبه وهو دجال في دعواه.
الأمر الثاني: عدم الاعتراض على السنة، أو الاستهزاء، أو السخرية، لأنه قد يخرج إلى الكفر.
الأمر الثالث: كثرة الصلاة والسلام عليه- صلى الله عليه وسلم-.
الأمر الرابع: نشر سنته في الناس، وتعليم الناس سنته عليه الصلاة والسلام. هذه ضوابط أربعة، وربما يوجد في الشريط ثلاثة غيرها تدخل فيها ضمناً، وأما الكتب فأعظم كتاب صراحةً تحدث في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام بعد كتاب الله- عز وجل- كتاب زاد المعاد لـابن القيم وأنا أرشحه لأمور:
(لجودة تحقيقه، ولتحري صاحبه، ولإمامة مصنفه) ثم ما فيه من خير كثير.
وكتب السيرة عموماً ومن أحسنها كتاب ابن كثير في السيرة لكنه طويل، وكذلك كتاب الرحيق المختوم في سيرة النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، وعموماً كل كتب الحديث الصحيحة والحسنة تروي لنا سيرة محمد عليه الصلاة والسلام.
الجواب: نعم. أحسن كتاب كتاب الله- عز وجل- يدلك على محبة محمد- صلى الله عليه وسلم- وهناك كتاب جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم لـابن القيم، ومثله من الكتب وكتاب الأذكار للنووي، والوابل الصيب لـابن القيم، والمجلد العاشر والحادي عشر من الفتاوى لابن تيمية هذه من أحسن ما كتب في هذا الموضوع.
الجواب: وهذا السؤال تكرر كثيراً من الإخوة، أقول: اعتصم بالله عز وجل واصدق مع الله أن ينجيك من مزالق الفتن: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] وأوصيك بأمور: أولها: بكثرة الدعاء خاصة في أدبار الصلاة وفي السجود وفي آخر الليل دعاء حاراً صادقاً أن يثبتك الله حتى تلقاه، وإن كان لك والدة كما قال الإمام أحمد لبعض الناس، فاطلب منها الدعاء.
الأمر الثاني: الصلوات الخمس جماعة بخضوع وخشوع وتبتل.
الأمر الثالث: تدبر القرآن.
الأمر الرابع: الانتهاء عن المعاصي وكف الجوارح عن المخالفات.
الأمر الخامس: رفقة الصالحين والجلوس مع الصالحين ومقاطعة الفجار -والعياذ بالله- والمعرضين.
الجواب: يوجد في بعض المؤسسات العلمية -وقد مر بنا وبعض الإخوة يعرفون ذلك- أنه لما أتينا إلى علم الاجتماع درسونا سقراط بقراط، طاق، وطرباق وضعنا حتى انتهت الدراسة، وما بدأنا بمحمد ولا بـأبي بكر ولا عمر ولا بـعثمان ولا بـعلي والتاريخ زنوبيا الزباء في تدمر، وهذا يوجد أحياناً قد يوجد من بعض الناس دكتور يؤلف مادة فينسى الإسلام ويأتي إلى تدمر وإلى زنوبيا الزباء وبختنصر وحمورابي وسقراط وبقراط وينسى مجد الإسلام وعظمته وتاريخه.
تاريخنا من رسول الله مبدؤه وما عداه فلا ذكر ولا شان |
حتى يقول بعض الشباب من أهل الدعابة والنكت لأستاذ التربية: يا شيخ! ألا ينقض الوضوء القراءة في هذا الكتاب؟! يعني: إذا كنت على وضوء فقرأت في هذا الكتاب تحتاج تجدد وضوءك، مثلما سأل سائل أحد العلماء عندنا في أبها جاءنا عالم رفيع فسأله أحد السائلين: النظر إلى الحداثي -يعني أهل الحداثة الشعراء- ينقض الوضوء؟ قال: لا. ينقض الإيمان، وهو حدث أكبر ليس أصغر، حدثهم حدث أكبر.
الجواب: هناك كتاب اسمه العوائق لكن عليه ملاحظات، أنا ما قلتها لكن بعض طلبة العلم الجادين، وعلى كل حال لا تنجلي الطريق إلا بالكتاب والسنة، ولا يأتي الإنسان في بعض المزالق إلا لقلة علمه، أو فقهه، أو حكمته، فكلما تنور الإنسان بالكتاب والسنة بانت له العوائق وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].
من العوائق: تشتت الكلمة والفرقة، حزبية ممقوتة ضيقة أضيق من خناق الحمار، يموت فيها الشاب وهو حي يرزق بعينيه وأذنيه وقلبه، لكن لا يعرف الطريق، يضيق على نفسه بكتب محددة وأساتذة محدَّدين، وجلسات محددة، ونحن لا نثرب على الناس، لكن الإسلام أوسع وأعمق وأكبر، والإسلام قرآن وسنة، الإسلام هذا الجمهور العظيم الهائل الذي تعيش معه، كلهم إخوانك وأصحابك وأحبابك يسيرون معك في طريق إلى الله، فلا تضيق الطريق على نفسك وتحمل على أخيك وتكرهه بل صاف الجميع، واعمل مع الجميع، وعاونهم، وساعدهم؛ فلكل مسلم منك حظ ونصيب.
بـالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـالرقمتين وبـالفسطاط جيراني |
ومن العوائق: قلة العلم، جاهل يدعو كيف يدعو؟! ومن العوائق الحدة والعجلة والطيش والعنف يريد أن يأتي الدعوة بالتكسير، يريد أن يأتي بالهراوي والمشاعيب ويقود عباد الله إلى الجنة، ولو كان هاك أحد يستطيع لجعل الله ذلك للأنبياء، لكن أتوا بكتاب وببسمة وبسنة وبتعاليم ربانية، فقادوا القلوب بالحب إلى الجنة.
ومن العوائق: عدم معرفة الأولويات، وعدم التدرج في الدعوة، يرسل- صلى الله عليه وسلم- معاذاً، فيقول له: {ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إلا إله الله، وأني رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة} الحديث.
الجواب: تحديد الأخ أظنه وهماً، هذه الكلمة أنا قلت: منطلق الدعوة من المسجد وشاركني الشيخ أبو بكر الجزائري والدكتور/ التويجري تلك الليلة، لكن أما زيادة أني قلت: من المغرب إلى العشاء، فهذه من الإسرائيليات بسند منقطع وليأت بدليل، بل المسجد في الصباح والمساء وقبل الظهر وبعد الظهر وفي كل وقت، ولا يفهم أني أحجر الدعوة فقط في المسجد، فإذا حجرناها في المسجد، فمن يدعو أهل النوادي والمقاهي، وأهل الملاهي والشواطئ؟ من يقتحم أسوار أهل الخمارات والبارات؟! لكن قصدي أن نبدأ الدعوة منطلقة من المسجد كما فعل عليه الصلاة والسلام من أنوار المسجد بتخطيط المسجد، وتنسيقه، بروعته وحرارته، ثم ننتقل، أما أن أقول: تعكُف في المسجد فقط، إذا فهم ذلك، فإني أستغفر الله من فهمه، وأسأل الله أن يتوب عليه، وأما زيادته فقد وهم.
الجواب: أسمعكم أبياتاً، لأن أمامي كماً هائلاً من جنود هذه الصحوة الذين أعلنوا توجههم إلى الله، فكانت المناسبة أن آتي بقصيدة بين الأصالة والحداثة، وهي بنت أيام؛ حتى العقيقة ما عققت لها، وما سميتها إلا من قريب على كل حال، ومنها:
يا أمة المجد قومي مزقي الحجبا وأشعلي في ليالي دهرك الشهبا |
أتذكرين صلاح الدين سفسطةً من غير بذلٍ صلاح الدين قد ذهبا |
لأن بعض الناس عظامي؛ تراه معرضاً مطبلاً مغنياً معرضاً عن الله عز وجل منحرفاً، فإذا خابرته، أو عاندته، أو ناخيته، فال: جدي صلاح الدين، منا عمر، منا طارق، منا حسان.
إذا فخرت بآباء لهم شرف نعم صدقت ولكن بئسما ولدوا |
هذه قصيدة وشرح والأخ يطلب قصيدة بلا شرح.
لا تذكرنَّ صلاح الدين سفسطةً من غير بذلٍ صلاح الدين قد ذهبا |
قبر العظيم إذا ما زاره ذنبٌ رغا وأزبد لا حييت يا ذنبا |
لو أسمعوا عمر الفاروق نسبتهم وأخبروه الرزايا أنكر النسبا |
أبواب أجدادنا منحوتة ذهباً وذي هياكلنا قد أصبحت خشبا |
من زمزم قد سقينا الناس قاطبةً وجيلنا اليوم من أعدائنا شربا |
لكن أبشر هذا الكون أجمعه أنا صحونا وسرنا للعلا عجبا |
في فتية طهر القرآن أنفسهـم كالأسد تزأر في غابتها غضبا |
عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنبا |
أيها الإخوة! أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر