وفي هذه المادة الحديث عن هذه الأحكام والمسائل المتعلقة بأحكام الميت والجنائز.
أمَّا بَعْد:
نجتمع هنا لنتفقه في دين الله عز وجل، ولنتعلم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، علَّ قلوبنا أن تلين، وعلنا أن نرحم من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
ولا زلنا في كتاب الجنائز من صحيح الإمام البخاري رحمه الله، والقضايا المهمة التي سوف يتكلم عنها في هذه الليلة هي:
الصلاة على الميت، وأثر الإسلام في مراعاة المسلم حتى بعد موته، وملاحقته حتى في قبره بالدعاء والترحم والصلاة، وطلب المدد من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى له.
القضية الثانية: متابعة الجنائز والمشي معها وتشييعها وحكم ذلك وفضله.
القضية الثالثة: وهي الداهية وهي الكبرى، معتقد أهل السنة والجماعة في نعيم القبر وعذابه، نسأل الله أن ينعمنا وإياكم في القبور، ونعوذ به من عذابها.
ونعيم القبر من معتقد أهل السنة والجماعة، ومن لا يؤمن بذلك لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً ولا ينظر إليه ولا يزكيه يوم القيامة وله عذاب عظيم، والذين خالفوا في ذلك المعتزلة والخوارج وكأمثال بشر المريسي فقالوا: لا عذاب هناك، وإنما العذاب في الآخرة، وقال بعض المعتزلة: بل العذاب على الكفار، وأما المؤمنون فلا يعذبون في قبورهم، ودلت النصوص -كتاباً وسنة- على خلاف ما قالوا كتاباً وسنة، بل القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.
والقبر هو الواعظ والشاهد الكبير الذي يشاهده كل كبير وصغير، وكل ملك ومملوك، وكل غني وفقير، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ [التوبة:101] روي عن الحسن قال: [[مرة في الدنيا ومرة في عذاب القبر]] وأخرج هذه الرواية الطبري، وقال غيره: بل مرة في القبر ومرة في جهنم، وقال عز من قائل: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].
والبرزخ: هو حياة القبر، والحياة البرزخية هي التي تفصل بين الحياة الأخرى والحياة الدنيا وهي حياة القبر، إما نعيماً وإما عذاباً.
والموت فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءه |
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه |
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران |
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده |
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ |
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [الأنعام:93] قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: هذا دليل على عذاب القبر. فنعوذ بالله من عذاب القبر.
وأما النصوص فقد تضافرت منه صلى الله عليه وسلم على ذلك، ففي صحيح البخاري: (أن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه الناس سمع قرع نعالهم) وعند البزار ورواية عند أبي داود: (سمع خفق نعالهم).
فلذلك فقد بوب له البخاري باب: الميت يسمع خفق النعال، قال عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه لأهله: [[إذا مت فلا تتبعوني بنائحة ولا نار]] وقال لابنه عبد الله: [[قف عند قبري مقدار ما تذبح الجزور وتوزع]] والجزور: هي البدنة أو الناقة توزع، أي بهذا المقدار؛ ليستأنس به في قبره، وذكر ابن القيم في كتاب الروح أحاديث كثيرة في هذا الباب بما يكفي ويشفي.
ومر عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: {مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير -وفي لفظ: بكثير- أما أحدها: فكان لا يستنزه من بوله -أي: لا يتنظف من البول- وأما الآخر: فكان يمشي بين الناس بالنميمة، ثم دعا عليه الصلاة والسلام بجريدة نخل رطبة فشقها نصفين على القبرين، وقال: أرجو أن يخفف عنهما العذاب ما لم تيبسا}.
وسوف تأتي هذه القضايا، وإنما الذي نستفيده من مقاصد هذا الدرس: مراعاة الإسلام لهذا المسلم من يوم يضع رأسه على الأرض، ومن يوم تأتي به أمه إلى أن يموت.
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا |
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا |
ومن أحسن من كتب في هذا الموضوع ابن القيم رحمه الله في كتاب تحفة المودود في أحكام المولود وبين ما هي عناية الإسلام بهذا المسلم من يوم أن يأتي طفلاً على الأرض إلى أن يشب ويترعرع ثم إلى أن يلقى الله، ونحن مأمورون بالدعاء للمسلمين بظهر الغيب، وأن نتناسى ما بيننا وبينهم من أحقاد.
السر الأول: أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يشفع هؤلاء المسلمين في هذا الميت، في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليه أربعون مسلماً لا يشركون بالله شيئاً شفعهم الله فيه}. أي: قبل شفاعتهم ورحم هذا الميت.
السر الثاني: أننا نظهر التضامن حتى في الموت مع المسلم والإخاء بتلك الرابطة التي ربط بها محمد صلى الله عليه وسلم بيننا، فماذا كنا قبل الإسلام؟! وكيف كان تآخينا وتعاوننا قبل هذا الدين؟! قال تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63].
السر الثالث: المسامحة والمعافاة، فأنت إذا وقفت على قبر المسلم أو على جنازته تصلي عليه وبينك وبينه حزازات، أو حقد، غفرت له وعفوت عنه وسامحته، وهذا بعد أن ترى مشهده وتراه معروضاً أمامك، ولذلك ذكر أهل السير أن علياً رضي الله عنه لما جرى بينه وبين الصحابة ما يجري بين البشر في معركة الجمل، وقتل طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وهما من العشرة المبشرين بالجنة، فقال علي: [[بشر قاتل
السر الرابع في الصلاة على الجنائز: إظهار شعائر الإسلام ضد أعداء الإسلام من الصهيونية، التي هي نبتة اليهودية والنصرانية والشيوعية وكل مغرض لهذا الدين، فنظهر أننا متآخون في الحياة وفي الموت، ونظهر أننا لا نسلم أخانا ولا نتركه؛ بل ندعو له حتى يلقى الله.
السر الخامس: أن نتذكر بالصلاة عليه قدومنا عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ورجوعنا إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب |
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلَّ الردى مما نرجيه أقرب |
نشاهد ذا عين اليقين حقيقة عليه مضى طفل وكهل وأشيب |
فهذا من أعظم الواعظ، ولذلك في سيرة عثمان رضي الله عنه أنه كان إذا رأى القبر بكى حتى يغشى عليه ويرش بالماء، فيقال له: مالك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار؛ فإذا أفلح العبد في القبر فقد أفلح}.
قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا يونس: قال ابن شهاب: حدثني عبد الرحمن الأعرج: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن كان له قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين).
ويونس هذا كان يصوم الدهر على اختلاف في حكم صيام الدهر وسوف يرد، وكان يبيع حتى باع تجارة بأربعين ألفاً -يبيع في البز- وتبين أن فيها ثوباً مغشوشاً فذهب إلى التاجر ورد التجارة كلها، قال ذاك: قد سامحتك وعفوت عنك، قال: لا والله إلا أن تعود لأنها بيعة لا يبارك الله فيها دخلها غش فأقلني فأقاله، والربح له، ولكنه خاف من الله، لأن الدين النصيحة.
وابن شهاب هو الزهري؛ الإمام العلم الكبير الذي مر معنا في أكثر من حديث.
أيا ليلة من طولها وعنائها على أنها من دارة الكفر نجت |
يقول: إنني أمضيت ليلة طويلة، والعرب كانوا إذا قدموا على الملوك والسلاطين امتدحوا بطول سراهم وأنهم تعبوا ووجدوا مشقة، فـأبو هريرة يروي قصته للرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: إنني كلفت نفسي وأتلفت راحلتي حتى ألقاك، على حد قول المتنبي لما أتى إلى كافور:
قطعت المرورى والشناخيب دونه وجبت هجيراً يترك الماء صاديا |
وصل أبو هريرة إلى المدينة في صلاة المغرب، وكان أمير المدينة سباع بن عرفطة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى خيبر غازياً، فتقدم أبو هريرة وكان عنده فهم عن الإسلام، فأسلم على يد الطفيل بن عمرو الدوسي، فـأبو هريرة حسنة من حسنات ذاك الداعية الكبير الطفيل بن عمرو الدوسي، قال أبو هريرة: فصليت المغرب فقرأ بنا الإمام: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين:1] قال: فقلت في نفسي: ويل لفلان -رجل من زهران- له مكيالان، يستوفي بواحد ويبخس بآخر، يعني: هذا الكبير للطوارئ إذا أراد أن يأخذ من الناس، والصغير للإنفاق في البيع، قال: فلما صليت اليوم الثاني لحقت الرسول صلى الله عليه وسلم في خيبر فأسلم أبو هريرة وعاد إلى المدينة، فأخذ كلما سمع حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفلت منه؛ لأنه لا يستقر في ذهنه، فشكا للرسول صلى الله عليه وسلم، فهم أمة عربية لا يكتبون ولا يحسنون الحساب، وليس لديهم دفاتر ولا سجلات ولا آلات، وإنما يسمعون الكلام، فإن قر واستقر فبها ونعمت، وإن ذهب فإلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فقال: {يا رسول الله! أنا لا أجيد ولا أحفظ ولا أعي شيئاً مما تقول، فقال عليه الصلاة والسلام: ابسط رداءك، فبسط جبة له، وأخذ صلى الله عليه وسلم بيديه ودعا وأخذ يضعها في الجبة، قال: ضمها عليك، فضمها عليه قال: فوالله ما نسيت حرفاً منذ ضممتها إلى اليوم} بل هو حافظ الأمة وكان يسرد الحديث كالفاتحة لا يخرم منه حرفاً، حتى قال بعض التابعين: [[رأينا
قال: فلما خرج صلى الله عليه وسلم تعرضت له، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أتكلم، وعرف عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أعطاه من المعجزات وأعطاه من قوة الإلهام وأعطاه من قوة البصيرة ونفاذ القدرة ما لم يعط غيره من الناس، قال: فضحك صلى الله عليه وسلم وأخذ بأصابعي هكذا وشبكها بين أصابعه، قال: ثم جرني معه إلى البيت عليه الصلاة والسلام، قال: وكانت تلك الليلة ليلة أم سلمة، فدخلت معه صلى الله عليه وسلم فقال: هل من عشاء؟ قالت: نعم فقربت لنا عشاءً فأخذ صلى الله عليه وسلم يقربه منه، ويباسطه صلى الله عليه وسلم ويكلمه حتى يهنأ ويمرأ على حد قول الأول:
أباسط ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب |
وما الجود للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب |
فلما انتهى قام وما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم لأن هذا هو جواب السؤال الذي ورد على الرسول صلى الله عليه وسلم.
حمل عليه رضي الله عنه بعض أعداء الإسلام، مثل أبي رية في كتابه، ومثل المستشرق المجري جولد زيهر في كتب لهم، وإنما أعرضها لأن كثيراً من طلبة العلم لا يعرف هذا، ورد عليه علماء الإسلام، وردوا على هذه الفرية، بل هو رضي الله عنه حافظ تقي أمين عابد زاهد ممن نتولاه ونحبه ونشهد له بالخير.
يقول ابن كثير عنه: كان من العباد الكبار، والزهاد المرموقين، وكان يسبح في اليوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة، قالوا: لماذا؟ قال: لأن ديتي اثنا عشر ألف درهم رضي الله عنه.
وكان فيه دعابة، فهو خفيف الروح، يسري على القلوب كالماء الزلال، فيحبب نفسه عند أطفال المدينة، وعند أهلها، وهذه من المآخذ التي أخذها أبو رية على أبو هريرة، أنه كان يأتي والأطفال يلعبون بعد صلاة المغرب فيقع بينهم فيفرون ثم يتحرك ويقوم، ولما تولى إمارة المدينة بعد مروان بن الحكم، أراد أن يهضم نفسه، فأخذ حزمة من الحطب ودخل السوق، وقال: افسحوا للأمير؛ أي: وسعوا للأمير طريقاً، يريد أن يهضم نفسه بتقوى الله عز وجل.
توفي رضي الله عنه على فراشه بعد أن ترك علماً جماً، فهذا عرض سريع لسيرة أبي هريرة، وإنما نسوقها لأغراض تربوية، ولنستأنس بسيرهم، ولنعطر ونضوع مجالسنا بأخبارهم.
القيراط عملة عند العرب تعرفها، قيل: أقل من الدرهم، وقيل: أكثر، والصحيح أنها أقل، فالرسول صلى الله عليه وسلم قرب لهم هذا بتسمية القيراط، وإلا فإن القيراط هنا مثل جبل أحد من الأجر العظيم يحصل للمؤمن إذا تبع الجنازة حتى يصلي عليها، وإذا مكث حتى يصلى عليها وتدفن فله قيراطان، يعني: أن من تبع الجنازة ولم يصل عليها فله أجر عند الله، لكنه لا يحصل على القيراط إنما يحصل عليه إذا صلى على الميت، ويحصل على القيراطين إذا تبعه حتى يدفن.
فمن السنة في الجنازة: أن يسرع بها، يقول عليه الصلاة والسلام: (أسرعوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم -أو أكتافكم-) ولذلك كان يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الجنازة تصيح بصوت يسمعه كل من خلق الله إلا الثقلين، إذا كانت شقية تقول: يا ويلها أين تذهبون بها). نعوذ بالله من ذلك!
فالسنة في الجنازة أن يسعى بها وأن يهرول بها، ولذلك خرج بعض الصحابة على بعض التابعين وهم يمشون رويداً رويداً، قالوا: مالكم؟ قالوا: نمشي بسكينة، قالوا: هرولوا بها؛ فإنا كنا نسرع بها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الصحيح أنه يجوز أن يدفن بالليل، دل على ذلك أحاديث منها: حديث أبي هريرة في البخاري: {توفي رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفناه من الليل، فأخبرناه عنه، فقلنا: يا رسول الله! توفي رجل البارحة فدفناه من الليل}.
فكيف نجيب على حديث جابر؟
يجيب عليه بعض أهل العلم كـابن حجر وغيرهم، يقول: إنما زجر الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا؛ لأنها حادثة عين، كان هناك رجل دفن بالليل، فلم يحسن كفنه في الليل، وما اعتنوا بكفنه، فضموه ودفنوه بالليل، فزجر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدفن الميت بالليل حتى يرى كفنه ويحسن، فإذا أحسن كفنه فلا عليه، سواء بليل أو نهار، وهذا الذي يدل عليه حديث أبي هريرة أنه لا بأس أن يدفن الميت ليلاً، وهذا لا شك فيه، بل هو الصحيح، على أن بعض أهل العلم ذهب إلى حديث جابر ورجح أنه لا بد من النهار.
وذكرنا الإسراع بها وأنه من السنة، وأن المسلم عليه أن يحضر هذه الجنائز وأن يتقي الله عز وجل، قال عطاء: [[حضور الجنازة خير عندنا من صلاة النافلة]].
وفيها الاتعاظ العظيم، وتذكر الرحيل والقدوم على الله عز وجل.
فالسنة أن المسلم إذا لم يكن يحمل الجنازة مع الناس وليس براكب على سيارة أو دابة، أن يمشي أمام الجنازة إلى المقبرة، والسر في ذلك والله أعلم كما استشفه بعض العلماء، يقولون: من باب كأنهم شافعون فيه، أو كأنهم قدموا بين يديه يشفعون ويدعون ويترحمون قبل أن يصل إلى المقبرة، وهذا من الأسرار التي تعرض للفائدة.
ومن السنة كذلك ألا تتبع الجنازة بنار ولا بنائحة، وقد زجر عليه الصلاة والسلام أن تتبع الجنازة بنار، لأن هذا علامة شؤم، وإيذاء للميت أن يتبع بنار، أو ما شابه ذلك، وهذا لحديث عمرو بن العاص في صحيح مسلم: {ولا تتبعوني بنار ولا نائحة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك}.
وأما النواح فقد علمتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة، ولعن صلى الله عليه وسلم النائحات، وقال للنساء: {ارجعن مأزورات غير مأجورات} وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة، فهذا من السنن في المشي مع الجنازة.
ومن السنن: ألا يرفع الصوت بالذكر لأنه بدعة، وبعض الأماكن والمناطق إذا ساروا بالميت، قالوا: لا إله إلا الله، ورددوا كلهم بصوت جميعاً، وهذا لم ترد فيه سنة ولا حديث عن المعصوم عليه الصلاة والسلام بل هو بدعة، والأولى للمسلم أن يتمسك بالسنة حتى يرد النص: {ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.
إذاً القول الأول: أنه يستحب المشي أمام ا لجنازة.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يستحب المشي وراء الجنازة للاعتبار.
وأقول: إذا وردت النصوص فالحكمة فيما جاءت به النصوص، وابن عمر يقول: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم و
على أن الأمر فيه سعة، وليس هناك إثم إذا مشى وراءها، فهي من باب الأولى والأفضل، فلو مشى خلفها فهذا ليس به بأس، بل ثبت أن كثيراً من الصحابة مشوا خلف الجنازة رضوان الله عليهم وأرضاهم.
وأقول: إن النور إن كان للحاجة فلا بأس به، لأن من عادة أهل الجاهلية أنهم كانوا يوقدون ناراً في سرج ويذهبون وراء الميت وكأنه كان ناراً، أو نوراً، أو كان مشهوراً، ولذلك تقول الخنساء في أخيها:
وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار |
فهم يشهرون بالميت وينوحون عليه ويذهبون بالنار معه لشهرته في الحياة، وقد كذبوا في ذلك.
{مر بجنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام لها، فقالوا: يا رسول الله! إنها جنازة يهودي، قال: أليست بنفس} ولذلك يقام حتى على جنازة الذمي اتعاظاً واعتباراً وادكاراً.
والسنة كذلك أن المسلم إذا ذهب مع الجنازة ألا يجلس حتى توضع في القبر؛ هذه هي السنة، مع العلم أنه ورد عن علي رضي الله عنه { أنه مرت به جنازة وهو بـالكوفة فلم يقم، فقال له بعض الصحابة: لماذا لا تقم؟ قال: كنا نقوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ترك ذلك } ولكن يبقى هذا لصحة الأحاديث فيه، ولضعف المعارض لهذه الأحاديث الصحيحة.
قال جابر: (دفن صلى الله عليه وسلم شهداء أحد وكفنهم في ثيابهم، ودفن الاثنين والثلاثة في قبر واحد، ولم يصل عليهم، ولما دفنهم صلى الله عليه وسلم قال: أنا شهيد عليكم أنكم شهداء عند الله). وكان صلى الله عليه وسلم يؤتى بالجماعة من الناس وهم شهداء وهم قتلى فيقول: (أين الأحباب منهم في الدنيا) يسأل صلى الله عليه وسلم: أين المتآخون والمتصادقون، فيجعل الأخ مع أخيه، والصديق مع صديقه، والصاحب مع صاحبه، ويقول: (أيهم أكثر أخذاً للقرآن فيشار إليه إلى أحد فيجعله من تجاه القبلة كالإمام عليهم) وهذا فيه أن الشهيد لا يصلى عليه.
وأما حديث عقبة بن عامر في مسلم: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد). فالصحيح أنها ليست بصلاة، وإنما هو دعاء، وذلك بعد ثمان سنوات من موتهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة ذهب إلى المقبرة ودعا لهم في الليل وترحم عليهم، ثم رجع وتوفي بعدها بأيام صلى الله عليه وسلم، فهذا إنما هو زيارة ودعاء لهم، وليست صلاة، فهذا يجمع بينه وبين الحديث الذي قد يرد عليكم، وقد أورده ابن كثير في التفسير وغيرهم من أهل العلم، فليعلم هذا.
فيكبر التكبيرة الأولى ثم يقرأ بالفاتحة، وهذا دل عليه حديث النسائي عن سهل بن حنيف قال: {من السنة أن يصلى على الجنازة فيكبر التكبيرة الأولى ثم يقرأ الفاتحة، ثم يكبر الثانية فيصلى على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يكبر للثالثة ثم يدعو للميت، ثم ما ذكر شيئاً بعد الثالثة}.
فالسنة أن يكبر التكبيرة الأولى ثم تقرأ الفاتحة، والثانية أن يصلى على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأفضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم الصلاة الإبراهيمية: {اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد} ثم يكبر للثالثة ويدعى للميت.
وحفظ من دعائه حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: {صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فاقتربت منه حتى مست ثيابه ثيابي، وسمعته يدعو لرجل من الأنصار ميت وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خير من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه 000}. الحديث، قال: فوددت والله أنني أنا الميت.
وحفظ من دعائه صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة الصحيح أنه قال: {اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده} إلى أدعية كثيرة، والدعاء مطلق، والأحسن أن يتقيد بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، ومن دعا بالرحمة والغفران للميت، فلا بأس به على ما فتح الله له.
وأما المولود فيدعى له كما هو تعليق البخاري عن الحسن البصري قال: [[اللهم اجعله فرطاً وذخراً وأجراً لوالديه]].
هذا في الدعاء، ثم يكبر الرابعة ثم يقف ثم يسلم، ومن السنة كذلك كما في سنن أبي داود: أنه يسلم تسليمتين، فمن سلم تسليمتين فلا شيء في ذلك؛ بل هو سنة، ولكن الأغلب تسليمة واحدة، وقد أخذ الجمهور بتسليمة واحدة، وأخذ الأحناف بتسليمتين.
وهل يكبر ثلاثاً أم أكثر؟ ورد عن أنس رضي الله عنه أنه كبر ثلاث تكبيرات، ويكبر خمساً كما ورد عن زيد بن أرقم في صحيح مسلم: {أنه كبر خمس تكبيرات، وقال: فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم}.
وفي السنن: [[أن علياً رضي الله عنه صلى على سهل بن حنيف فكبر عليه ست تكبيرات، وقال: هو من أهل بدر]].
هذه الصلاة على الميت على وجه الإجمال، ولكل سنة من هذه السنن أو الشعائر حديث ودليل يدل عليها.
حتى جاءت عمتي -أخت هذا المقتول- فقالت: يا رسول الله! أخي في الجنة فأصبر وأحتسب؟ أم هو غير ذلك فسوف ترى ماذا أصنع؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أهبلت؟! أجننت؟! أهي جنة واحدة؟ والله إنها لجنان كثيرة وإن عبد الله في الفردوس الأعلى، قال جابر: فلما وصلنا المدينة حملنا أبي والشهداء على الجمال، فدخلت بهم الجمال مع الغروب إلى المدينة ليدفنوا في المدينة، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعيدوا الشهداء يدفنوا في مضاجعهم فأعادوهم.
وفي يوم أحد وقف النبي صلى الله عليه وسلم وهو متأثر لأنها شبه هزيمة، قتل سبعون من أصحابه، وقتل عمه وشج صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته، وأتاه من الكلل والإعياء ما لا يعلمه إلا الله، فقام صلى الله عليه وسلم فقال: {صفوا ورائي لأثني على ربي} ما أحسنها من كلمة في هذه الأزمة وفي هذا الموقف، فصف الصحابة بعده -هذا من السيرة استطراداً مع هذه القضية- فلما صف صلى الله عليه وسلم يثني على الله عز وجل، وإذا بـأبي بن خلف؛ ذاك الفاجر المجرم الذي لم يقاتل في المعركة، وكان من كفار قريش، وإنما كان يترصد ويريد أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فاعتزل المعركة وأتى بسيف يقولون: سمه بالسم شهراً كاملاً حتى أصبح السيف أزرق، وعلف فرسه من البر، وقال: أقتل محمداً على هذا، فلما أخبر صلى الله عليه وسلم، قال: أنا أقتله إن شاء الله، فلما وقف صلى الله عليه وسلم يدعو نزل ذاك بفرسه من الجبل، يقول بعض الصحابة: ظننا أن الجبل أقبل معه، من قوة الرجل وقوة الفرس ما قاتل من أول النهار، وإنما أراد أن ينهك صلى الله عليه وسلم من كثرة المقاتلة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقاتل من الصباح إلى العصر، وهو جائع وعاطش ومرهق، فيأتي هذا فيستغل هذه الفرصة ويستغل نقطة الضعف.
فيتحرك الصحابة يريدون أن يباغتوا هذا، وبينهم من هو أشجع منه بمئات المرات كـالزبير وعلي وكغيره من الصحابة، فأشار صلى الله عليه وسلم أن اتركوه، فلما قارب صلى الله عليه وسلم إنهاء الدعاء، قال: ناولوني حربة، فناولوه حربة صلى الله عليه وسلم فهزها، ثم قال: بسم الله، فأطلقها، وذاك الرجل قد تدجج تحت ثيابه بدرعين اثنين، حتى يقولون: ما ترك من جسمه شيئاً لأنه كان حذراً من مثل هذه الضربة، وترك موضعاً كالدرهم.
فلما قال صلى الله عليه وسلم: باسم الله. أرسلها فوقعت في ذاك الموضع، فسقط صريعاً على وجهه ثم حمله الكفار، وقالوا: لا بأس عليك، وقالوا: ما خرج من الدم إلا كالدمعة الواحدة، فقال وهو يحلف بلاته وعزاه: لو أن ما بي بأهل ذي المجاز -وهي سوق عظيمة عند العرب- لماتوا عن بكرة أبيهم، فقربوه من النار، يريدون أن يسروه بالنار حتى لا تأتي الطيور عليه بالجراثيم، فمات عند النار وسوف يدخل النار إن شاء الله.
قال جابر: فلما دخلنا المدينة قال عليه الصلاة والسلام: {يا
يقول أبو قتادة في الصحيح: {تقدم صلى الله عليه وسلم ليصلي على رجل من الأنصار، فقال: أعليه دين؟ فقالوا: عليه ديناران يا رسول الله! فتأخر صلى الله عليه وسلم، وقال: صلوا على صاحبكم، قال
والصحيح: أنه يصلى على المسلم ولا يسأل هل عليه دين أم لا؟ لأنه لو توقف الصلاة على الذي ليس عليه دين ما بقي من الناس أحد لا يصلى عليه، ومن الذي يموت -إلا القليل النادر- وليس عليه دين، بل يصلى عليه ويترحم، وهو من الذين يقبل الله عنهم إذا كان مسلماً أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم، ومن أخذ الدين من الناس يريد قضاءه قضى الله عنه، وإن أخذه يريد إتلاف أموال الناس أتلفه الله.
أما الصلاة على المنافق: فمن اشتهر نفاقه بين المسلمين وأصبح منافقاً له علامات، مثل: التكاسل عن الصلوات، أو بغض القرآن وآيات الله عز وجل، والحديث النبوي، ومجالس الخير، وأهل الالتزام والعلم والصلاح والاستقامة، فهذا لا يصلى عليه: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] وعقد البخاري باباً في ذلك.
أما صاحب البدعة فإنه لا يصلى عليه زجراً له، أفتى بذلك سفيان الثوري وفعلها مع كثير من المبتدعة، مع العلم أنه لو كانت بدعته خفية أو خفيفة وهو متلبس بها وليس على المسلمين ضرر فيها فالأولى أن يصلى عليه، لكن كثير من الأئمة تركوا الصلاة عليه زجراً له ولغيره من المبتدعة.
أما المنافق فلا يصلى عليه زجراً له وتأديباً وأداءً للواجب، لأن الواجب في حقنا ألا يصلى عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم لما صلى على عبد الله بن أبي بن سلول أنزل الله عليه: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84].
قال عمر رضي الله عنه: {وقف صلى الله عليه وسلم يصلي على
والعجيب أن عبد الله بن أبي أخرجه صلى الله عليه وسلم من قبره بعد أن توفي، وأتى ابنه عبد الله الرجل الصالح وقال: يا رسول الله! إن أبي كما علمت أساء إليك وأساء إلى الإسلام، وإني أخاف عليه من العذاب، وأريد أن تكفنه في ثوبك الذي يلي جسمك، وأبوه كافر لا يغفر الله له أبداً وهو خالد مخلد في النار؛ لأنه منافق كافر، فمن رحمته صلى الله عليه وسلم وإكرامه لهذا الشاب الصالح أن أعطاه ثوبه، حتى قال الإمام البخاري: باب: هل يخرج الميت بعد أن يدفن.
فأخرجه صلى الله عليه وسلم ووضع عليه رجليه ونفث في ثوبه صلى الله عليه وسلم، ثم خلع ثوبه الذي يلي جسمه رحمة منه وكفنه فيه، فقال الصحابة: يا رسول الله! تكفنه بثوبك!! قال: وماذا يغني عنه ثوبي -يعني ماذا ينفعه ثوبي لا يغني عنه شيئاً- لكن إكراماً لابنه؛ لأن ابنه كان له المواقف المشرفة في الإسلام.
ففي غزوة المريسيع لما تضارب رجل أنصاري ومهاجري قال عبد الله بن أبي: صدق الأول حين قال: جوع كلبك يتبعك، وسمن كلبك يأكلك، أشبعناهم -أي: المهاجرين- وآويناهم، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، يعني: أنهم هم الأعزة والصحابة المهاجرون هم الأذلة، فسمع الرسول صلى الله عليه وسلم المقالة فسكت وأخبر بها عبد الله بن عبد الله بن أبي، فلما سمع ذلك وقف عند مدخل المدينة -وكان لها سور- فدخل صلى الله عليه وسلم ودخل المهاجرون والأنصار، فلما أتى أبوه ليدخل قال: والله لا تدخل، قال: ولم؟ قال: حتى يأذن لك رسول الله، قال: ولم؟ قال: لأنك الأذل ورسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز، فأنت ذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عزيز، فأخبر صلى الله عليه وسلم قال: أذنت له فليدخل، ثم أتى عبد الله إلى الرسول وقال: يا رسول الله! إن أبي فعل ما فعل، وسمعت أنك تريد أن تقتله، فوالله لا أرضى أن أعيش وأنا أرى قاتل أبي يمشي على الأرض، لكن دعني حتى آتي برأسه الآن قتيلاً، فقال صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به ونصبر حتى يلقى الله.
ويتساءل ابن حجر فيقول: إلى متى يصلى على الميت؟
ولأهل العلم ثلاثة أقوال في ذلك:
الأول: أنه يصلى عليه مطلقاً متى شئت فاذهب وصلِّ عليه، وهذا قول ضعيف، لأن معنى ذلك أن نجعل المقابر مساجد؛ دائماً نصلي عليها ويمر الناس ويصلون صلاة الجنازة.
القول الثاني: أن يصلى عليه ما لم يبل جسمه أو نعلم أنه بلي جسمه، وهذا من علم الغيب، لكن أوردته لأنه ورد.
القول الثالث أنه: يصلى عليه إلى شهر وهذا هو الصحيح.
جاء عن بردة بن الحصيب أنه أخذ عصاً ووضعها على القبرين، وقال: [[إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك]].
ورد أهل العلم من السلف وقالوا: هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم لأمرين:
الأمر الأول: أن الله جعل فيه من البركة والتوفيق والصلاح والخير ما لم يجعل في غيره، فهي خاصة به.
الأمر الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم علم أنهما يعذبان، أما غيره فقد يمر برجل في روضة من رياض الجنة، ويقول: إنه ليعذب وما يعذب في كبير، أو يمر برجل فاجر كافر من اليهود، ويقول: أرجو أن يرفع الله عنه العذاب ما لم ييبس، أو شيوعي من الشيوعية العالمية، ولهذا فإن القول بخصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بهذا هو الصحيح.
لأنه في بلد ما صلي فيه عليه، ولأنه فيه تأليف لملوك العرب أن يسلموا، لأنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم مقالة من الناس اتهموا فيها النجاشي أنه لم يسلم فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه أسلم وآمن وقال: قوموا صلوا على أخيكم -وهو النجاشي - فهذا هو الكلام الوارد.
رجل زنى فرجم حتى مات، هل يصلى عليه أم لا؟ رجل سرق ولما أقيم عليه الحد مات، شرب الخمر فجلد فمات من آثار الجلد، ورجل قتل نفساً فقتل إعداماً هل يصلى عليه أم لا؟
هذه لأهل العلم فيها آراء ولكنها تجتمع على قولين:
القول الأول: أنه لا يصلي إمام المسلمين عليه ويصلي عليه بقية الناس ردعاً وتأديباً لغيرهم، لأنه لو صلى عليهم لتوهم الناس أنهم محسنون، وهم مسيئون، فلا يصلي الإمام عليهم وإنما يصلي عليهم بقية الناس لأنهم لا زالوا مسلمين، وهم مسلمون عند أهل السنة والجماعة، أما عند المعتزلة والخوارج فيقولوا: ليسوا بمسلمين بل كفار، لكن نحن ندين الله عز وجل أنهم لا زالوا في دائرة الإسلام، وأننا نخاف عليهم العذاب ولا نقنطهم من رحمة الله، وهم تحت رحمة الله عز وجل إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.
والقول الثاني: أنه لا يصلى عليهم مطلقاً، وهذا الرأي فيه إجحاف، بل صلى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض من أتى هذا الأمر، فصلى على ماعز، وعلى الغامدية التي زنت في عهده صلى الله عليه وسلم ورجمت حتى ماتت.
فأهل الكبائر يصلي عليهم الإمام بعض الأوقات إذا علم أنه ليس هناك ضرر ولا يمكن أن يتجرأ الناس على المعاصي، وإن رأى أن من الحكمة ترك الصلاة عليهم فلا يصلي ولكن لابد أن يصلي عليهم المسلمون؛ لأنهم مسلمون ولأنهم ما خرجوا عن دائرة التوحيد ولعل الله أن يرحمهم، وعلمهم عند الله عز وجل يحاسبهم بما فعلوا.
ولعل قائلاً يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على ماعز لأنه تاب من المعصية، نقول: هذا وارد ولقد استشكله بعض أهل العلم كما صرح بذلك الصنعاني صاحب سبل السلام، لكن الصحيح: أن أهل الكبائر سواء تابوا أو لم يتوبوا هم في دائر الإسلام، فمن أصر على كبيرة هل يخرج من الإسلام؟
هي مسألة إسلام وغير إسلام، وأنا لا أتكلم في مسألة لماذا صلى عليه الصلاة والسلام أو لم يصل؟ لكن من المقويات عند بعض أهل العلم أن ماعزاً صلى عليه صلى الله عليه وسلم لأنه تاب، وكذلك الغامدية، فنقول كما قلنا سابقاً: أنه إذا رأى الإمام أن المصلحة أن يصلي عليه فليصلِّ، وإذا رأى أن من المصلحة ألا يصلي عليه فلا يصلي، لكن لا بد أن يصلي عليه نفر من الناس.
في السنن عن سمرة بن جندب، قال: {أتي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه} بمشاقص أي: نحر نفسه بالسكاكين، فلما مات أُتي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يصل عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا في قاتل النفس خاصة، فكأن الظاهر: أن قاتل نفسه لا يصلى عليه؛ لأنه استعجل، ولأنه أعدم نفسه فارتكب أمراً أكبر من الكبائر وهو إزهاق روحه، وقيل: هذا من الإمام كما في أهل الكبائر ويأخذ حكم أهل الكبائر، فيصلي عليه المسلمون، وكأن الصحيح هذا القول الأخير، ولكن الإمام لا يصلي عليه زجراً له.
هل السقط يصلى عليه أم لا؟ يعني: جنين سقط من بطن أمه هل يصلى عليه أم لا؟
لأهل العلم آراء في تلك وإنما أعرضها للمعرفة وللاستبيان وهي ثلاثة آراء:
منهم من قال: لا يصلى على السقط أبداً.
ومنهم من قال: يصلى عليه مطلقاً.
والصحيح التفصيل: أنه يصلى عليه إذا نفخ فيه الروح، فإذا سقط وكان مسلماً حكماً كما يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في تعليقاته على الفتح؛ لأن أبويه مسلمان وهو مسلم حكماً؛ لأنه مولود على الفطرة أو أنه أتى على الفطرة في بلاد الإسلام، فهذا يصلى عليه لحديث المغيرة بن شعبة عند أحمد وأبي داود والنسائي بسند حسن قال: {والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالرحمة والمغفرة}.
من السنة أن يقف الإمام عند رأس الرجل وعلى وسط المرأة، وهذا دل عليه الحديث الصحيح: وهو أن جابراً أو سمرة بن جندب قال: {أتي صلى الله عليه وسلم بامرأة ماتت بجماع -قالوا: بولادة في بطنها- فصلى عليها وقام وسطها} فالإمام إذا أتي بالجنازة إن كان رجلاً وقف عند رأسه، وإن كانت امرأة وقف على وسطها، وإن كان هناك رجالاً ونساء دفعة واحدة فليصلِّ عليهم مرة وليجعل الرجال مما يليه، ثم الأطفال ثم النساء في الأخير، ويصلى على المجموعة بصلاة واحدة جميعاً -مهما كثروا في العدد- لفعله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان إذا أتي بمجموعة من الناس صلى عليهم صلى الله عليه وسلم، وإنما المقصود أن يقف على وسط المرأة قيل: الحكمة ليستر الإمام المرأة، وقيل: ليعرف الناس أن هذه امرأة ميتة فيغيرون الدعاء ولا يدعون بدعاء الرجل.
الجواب: يقول صلى الله عليه وسلم: {يجمع خلق أحدكم أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم ينفخ فيه الروح} فينفح فيه الروح بعد مائة وعشرين يوماً وهو أربعة أشهر وهو الصحيح.
والشيخ عبد العزيز بن باز ذكر هذا كما في الفتاوى لكنه لم يذكر الحديث؛ لأنه أحاله على حديث ابن مسعود المعلوم.
الجواب: لا يشق وإنما يدفن معها وقد نص على هذا البخاري في بابه، وسوف تأتي هذه المسائل وهي من المسائل التي ليس لها باب يخصها، فهذه يصلى عليه وعليها صلاة واحدة ويدفنا معاً.
الجواب: عمل السلف على ما ذكر، أما هذا فمن كلام أهل الطب، يعني: فلا أعرف في المسألة جديد، هل يشق البطن ثم يخرج الطفل ليربى، لكن أعرف أن القرون المفضلة والأدلة منه صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة ومن الأمة بالإجماع: أنه يدفن معها، لأنهم ما كانوا يعرفون عملية، وهذه المسألة تعرض على اللجنة الدائمة للإفتاء ليروا ما الحل في مثل هذه المسألة، وهي من المسائل الجديدة التي وجدت عند المسلمين.
الجواب: أنا لا أقصد إمام المسجد، المقصود هو: الإمام المسئول عن المسلمين، إمام المسلمين الذي يقف موقف الرسول صلى الله عليه وسلم أو من ينوب عنه، فإن كان من عادته أن يصلي على الناس كالقاضي أو رئيس المحاكم إن كان من عادته أن يصلي على الأموات فليترك على أهل الكبائر تأديباً لهم.
يدخل الميت إلى قبره من جهة رجليه -أي آخر القبر- لحديث عند أبي داود عن أبي إسحاق السبيعي قال: رأيت عبد الله بن زيد أدخل رجل القبر من جهة رجليه وقال: هذه السنة، فيدخل من أرجل القبر مما يلي أرجل الميت.
ويوجه الميت إلى القبلة لقوله عليه الصلاة والسلام في الكعبة: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً) فيوجه على جهته اليمنى ويستقبل به القبلة ليكون مواجهاً ظاهراً وباطناً: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].
لكن إذا علمت القبلة في مثل هذا الحال فعليه أن يوجه به إلى القبلة ليكون على الفطرة وليكون على منهج رسول الله عليه الصلاة والسلام.
والمريض من الأولى أن يوجه به إلى جهة القبلة عند سكرات الموت، مع العلم أن الأئمة مختلفون في هذا، فـسعيد بن المسيب رحمه الله لا يرى التوجيه إلى القبلة لأنه يقول: إن لم يكن موجهاً عليها في الحياة فلا ينفعه عند الوفاة. لكن الصحيح: أن يوجه عند سكرات الموت إلى القبلة؛ لأنها قبلتنا أحياءً وأمواتاً، ولأنه مقدم على الله عز وجل، وعلَّ الله أن يتداركه برحمته.
وبعض الناس يقوم عند القبر فيعظ الناس عن الموت أو عن ما بعده أو عن نعيم القبر وعذابه فهل هذا وارد؟
الصحيح: أنه وارد وأنه سنة، والبخاري عقد باباً في كتاب الجنائز: باب: الوعظ على المقبرة، وأتى بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دفنت زينب كما في حديث علي والبراء وعظهم وبكى صلى الله عليه وسلم ثم قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) وكان الأئمة والسلف الصالح يعظون الناس على المقبرة، والذي يحذر منه عند المقبرة كثرة الضحك أو المزاح أو الكلام الذي لا يمت إلى طاعة الله ولا إلى تقواه وهذا من سوء الأدب إن لم يكن من قلة الدين نعوذ بالله من ذلك.
أما بالنسبة لوضع شيء من الريحان أو غيره مع الميت فهذا لا بأس بها فيما أعلم، وتجدون في صحيح البخاري باب: وضع الإذخر وغيره مع الميت؛ لأنها وضعت لفائدة ولمصلحة، وهذه فيها رائحة طيبة، وفي الصحيحين أن العباس قال لرسول الله لما حرم قطع أشجار مكة وقال: {إلا الإذخر فإنه لبيوتهم ولقبورهم} يعني: يضعونه في القبور، فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الكلام، وكثير من الصحابة الشهداء ما وجدوا لهم إلا أشياءً بسيطة كفنوا بها ثم كملوا فكملوا بالإذخر وببعض الشجر عليهم، فلا بأس بالريحان أن يوضع في القبر.
ولا يدفن الميت وهو واقف بل السنة أن يدفن على جنبه، أما الضرورات فلها أحكام خاصة، لكن السنة عند المسلمين أن يدفن على جنبه مستقبلاً القبلة أما أن يدفن وهو واقف فليس بوارد.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبور وأن يصلى عليها، فليعلم هذا.
ومن السنن في القبر: ألا يرفع أكثر من شبر، ولا يجصص، ولا يبني أو يجلس عليه، ففي صحيح مسلم قال أبو الهياج الأسدي: قال لي علي رضي الله عنه: {ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: بلى، قال: ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها} فلا يرفع، ولا بأس بكتابة اسم الميت على القبر، ليعرف وليزوره الزائر ويدعو له، أو وضع خشبة ليعرف بها لا للتبرك ولا لأنه لا يعذب حتى لا تجف الخشبة وقد جفت، فليعلم هذا.
وفي ختام هذه الجلسة أتوجه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال وأن يتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون، اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر