سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
درس هذا اليوم بإذن الله وقدرته عنوانه: (مع الذاكرين).
وعناصر هذا الدرس أذكرها، ثم أزف لكم بشرى التائبين.
فضل الذكر في القرآن، ثم فضله في السنة، وأخبار الذاكرين، وهديه صلى الله عليه وسلم في الذكر، وأقسام الذكر، ومن هم الذاكرون الله كثيراً، مناسبات الذكر وفوائده وأوقاته، وآخرها الذكر الشرعي والذكر البدعي.
وأزف لكم بشرى أن كثيراً من شباب الإسلام في هذه الأيام المنصرمة من أول رمضان قد عادوا إلى الله وأعلنوا توبتهم وراجعوا حسابهم مع الله، والله يقول لهم في محكم كتابه: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
كان منبر الرسول عليه الصلاة والسلام ثلاث درجات من خشب وفي رمضان { رقى عليه الصلاة والسلام المنبر في المدينة، رقى الدرجة الأولى، فقال: آمين، ثم رقى الثانية، فقال: آمين، ثم رقى الثالثة، فقال: آمين. قالوا: يا رسول الله! ما معنى آمين؟ قال: جاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصل عليك، قلت: آمين، ثم قال لي: يا محمد! رغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة، قل: آمين، قال: قلت: آمين. ثم قال لي: يا محمد! رغم أنف من دخل عليه رمضان وخرج ولم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين} رغم أنفه، أي: ألصق بالرغام، والرغام هو دقيق التراب، أي: خسئ وخاب وخسر وبعد عن الله عز وجل يوم أدركته هذه الفرصة الذهبية الهائلة، التي لا تتكرر إلا قليلاً، ثم فوتها وضيعها.
إخوتي في الله: أعظم درس في رمضان أن يتوب العبد مع أهله وأسرته وبيته، ويعيش عيشة إسلامية، والذين لم يهتدوا إلى الطريق فإنهم مساكين، وكذلك الذين ما عرفوا ذكر الله، ولا كتابه ولا الطريق إليه.
من هنا كان حقاً على المسلم أن يذكر إخوانه في هذا الشهر بدرس عظيم، طالما ذكَّرَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو درس الذكر: ذكر الله تبارك وتعالى.
أما فضل الذكر فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد العاشر من فتاويه: أفضل العبادات بعد الفرائض الذكر، وهو شبه إجماع بين أهل العلم. شبه إجماع أن أفضل النوافل بعد الفرائض ذكر الله تبارك وتعالى، ولكن ننصت نحن وإياكم إلى قضايا لننفذ إلى مسائل.
طريقان موصلتان إلى رضوان الله تبارك وتعالى: طريقة الفكر، وطريقة الذكر.
التفكر في آلائه ونعمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والذكر لأسمائه وصفاته وذكره الشرعي، قال سبحانه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191].
الصالحون إذا اجتمعوا ذكروا الله، والفجرة إذا اجتمعوا تذاكروا ما يقربهم من الشيطان، ذكر الصالحين تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل، وذكر المعرضين غناء ومجون وسفه وغيبة ونميمة وفحش.
يقول الأول:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس |
يقول: يا رب! قلوبنا إذا مرضت تداوت بذكرك فصحت، أما قلوب اللاغين فتمرض من كثرة اللغو فلا تحيا ولا تصح أبداً.
قال سبحانه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] والقلوب مهما علقتها بلذائذ الدنيا فلن تطمئن أبداً، تعلق بعض الناس بالمناصب، وبعضهم بالقصور، وبعضهم بالأموال، وبعضهم بالأولاد، ولكن لم تصح قلوبهم ولا طابت، وما انشرحت صدورهم أبداً؛ لأن الله يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى طه:124-126] ويقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41-42].
يقول ابن الصلاح: من ذكر الله في الصباح وفي المساء بالأذكار الشرعية المأثورة عن معلم الخير، فهو من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [[ذكر الله كثيراً أن تذكره في الليل والنهار، وفي الحل والترحال، وفي السراء والضراء]].
وقال ابن تيمية: من داوم على الأذكار الشرعية التي علمها معلم الخير عليه الصلاة والسلام وذكرها، كذكر دخول المسجد والخروج منه، ودخول الخلاء والخروج منه، والاستيقاظ والنوم والبدء بالطعام والانتهاء منه، ولبس الثوب وغيرها فهو من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
وقال بعض العلماء: ذكر الله كثيراً ألا يجف لسانك من ذكره.
والدليل على ذلك حديث عبد الله بن بسر في الترمذي وأحمد بسند صحيح، قال: { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله}
قالوا لأحد الصالحين وهو في سكرات الموت: اذكر الله. قال: ما نسيته لأذكره.
وكان الجنيد بن محمد رحمه الله -وهو من أولياء الله الصالحين- في سكرات الموت يقرأ القرآن، قالوا: أنت مشغول بالموت عن القرآن، قال: ومن أحوج الناس إلى العمل الصالح إلا أنا.
وقال سبحانه في كتابه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].
يقول أحد الصالحين: والله إني أعلم متى يذكرني ربي، قالوا: متى يذكرك ربك؟ قال: إذا ذكرته. يقول سبحانه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].
هل تذكرونا مثل ذكرانا لكم رب ذكرى قربت من نزحا |
واذكروا صباً إذا هادى بكم شرب الدمع وعاف النزحا |
أيها الإخوة الأبرار: ذكر الله في الكتاب على أضرب، إذا ذكر الذكر مطلقاً فمعناه التسبيح والتهليل والتحميد، ويذكر مقيداً ويبين القيد الذي ذكره الله معه.
يا شاباً قوي البنية بهي الصورة ألا أدلك على عمل يكفل لك أحسن الأعمال! عليك بذكر الله، لن تجد أبداً أفضل من الذكر، في صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال للصحابة: {سيروا هذا جمدان - جمدان جبل في خليص، لا يزال يبيت ويصبح ويمسي مع أهل خليص، جبل رآه عليه الصلاة والسلام كبير- فقال للصحابة: سيروا هذا جمدان سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات} والمفرد قالوا: هو الذي قطع صفته بالعمل الصالح، وقيل المفرد: هو الذي امتاز بالعمل، أي: امتاز بالذكر من بين إخوانه، وتجد الناس في المجالس كلٌ يذكر ما يحب.
يقول الغزالي صاحب الإحياء، محمد بن محمد أبو حامد: إذا دخل مجموعة في مجلس تكلم كل واحد منهم عما يحب، أو بما يحب، فالنجار إذا دخل في المجلس تجده يتكلم في الخشب وفي الأبواب، وكيف ركبت، وكيف صرفت، وكيف أخرجها النجار وصقلها.
أما الحداد فيتكلم في الحديد وفي تركيبه، وأما البناء فيتكلم في روعة البناء، وأما النقاش فيتكلم في الطلاء وفي نقشه من أصفر وأحمر وأبيض، وأما صاحب القماش والبزاز فيتحدث في الأقمشة.
ولكن أولياء الله يذكرون الله ويتحدثون فيما يقربهم من الله، والذاكرون هم أقرب الناس إلى الله تبارك وتعالى.
يقولون: إن يوسف عليه السلام -وناقل هذه القصة ابن رجب في جامع العلوم والحكم - نزل الجب يوم أنزله إخوانه، وكان غلاماً صبياً، أنزلوه في الجب وهو البئر، وقيل: فيه صخرة وبقية ما حول الصخرة ماء، فنزل على الصخرة في الليل، لا رفيق ولا صاحب إلا الله، ولا مؤنس إلا الله، فأخذ يذكر الله حتى يقول: كانت الحيتان تهدأ في البحر ولا يهدأ هو من التسبيح، وكانت الضفادع تسكن من النقنقة، ولا يسكن هو من ذكر الله، فالله حفظه؛ لأنه حفظ الله.
ويقول سبحانه عن يونس بن متّى: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144].
والمسبحون هم: الذين يجري ذكر الله على ألسنتهم في الضراء والسراء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح عند الترمذي وغيره: {ألا أدلكم على أفضل أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورِق، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله} أعظم من نوافل الجهاد، وأعظم من نوافل الصدقة، ونوافل الصيام؛ ذكر الله تبارك وتعالى دائماً.
وأما يوسف بن أسباط، فقالوا: كان يذكر الله مائة ألف، ويسبح الله ويهلله ويكبره.
فهؤلاء قوم قضوا أنفاسهم مع الله، ولا إله إلا الله كم نتكلم ونتحدث ونلغو، وكم نلهو، فأي نصيب جعلناه لذكر الله؟! وأي وقت صرفناه للذكر؟!
يقول عليه الصلاة والسلام عن الذكر والذاكرين في صحيح البخاري عن أبي موسى: {مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، كمثل الحي والميت}.
فالذين لا يذكرون الله فإن كانوا يأكلون ويشربون، ويغنون ويزمرون، ويطبلون ويسرحون ويمرحون فهم أموات، كما قال الله: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21] الميت حقيقة هو: الذي لم يعش مع القرآن والإيمان والمسجد وطاعة الله عز وجل، وما استنار بنور محمد عليه الصلاة والسلام، والذي لم يعرف معنى الحياة، قال الله: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].
والظلمات هي: ظلمات المعصية والشهوة، والبعد عن الله تبارك وتعالى، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم في الصحيح: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس} وفي رواية: {أو غربت} الدنيا سهلة، ذهبها رخيص، وفضتها رخيصة، ويوم توزن بالأعمال لصالحة لا قيمة لها، لأن قول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلى محمد عليه الصلاة والسلام مما طلعت عليه الشمس أو غربت.
وعند الترمذي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة} انظروا كم يفوتنا من النخلات، لا إله إلا الله! لو غرسنا بهذا الذكر عند الله في دار الرضوان كنا من الفائزين؟!
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها |
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها |
كان دائماً مع الله، وله ميزة وخصيصة عليه الصلاة والسلام أنه إذا نام لا ينام قلبه، أما نحن فقلوبنا تنام إذا نمنا، ولذلك لا ينتقض وضوءه صلى الله عليه وسلم إذا نام، وفي الصحيح أنه قام لصلاة الفجر؛ فقدم له الماء فقال: {يا
نامت الأعين إلا مقلة تذرف الدمع وترعى مضجعك |
فهو عليه الصلاة والسلام ذاكر لله دائماً وأبداً، فحري بالمسلم أن يقتدي به، وهذا الشهر هو شهر مدرسة وتربية، ومن لم يذكر الله في هذا الشهر ويراجع حسابه مع الله فمتى يذكر الله؟!
من لم يجعل له من شهر رمضان وقوداً للتوبة والعودة إلى الله، والندم والأسف على ما مر من أيام انتهت وانقضت، وساعات تمزقت مع العابثين واللاهين، وليال أغلى من الذهب والفضة ذهبت مع المعرضين، وأوقات أحلى من العسل فاتت وذهبت فمتى يتوب ويندم؟: يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام:31].. وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94] التفريط لا يدركه العبد إلا إذا قدم على الله:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان |
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني |
القسم الأول: ذكر بالقلب واللسان، وهو أرفع الذكر وأعظمه، فالذكر أن تذكر الله بقلبك ولسانك، تسبح باللسان وأنت تتفكر في معنى التسبيح، تستغفر باللسان وأنت تتفكر في معنى الاستغفار، وتصلي على الرسول عليه الصلاة والسلام بلسانك وأنت تعيش بقلبك معنى الصلاة، فهذا أرفعها.
القسم الثاني: ذكر الله بالقلب بلا لسان: من الناس من لا يحرك لسانه، لكن قلبه يذكر الله.
القسم الثالث: ذكر الله باللسان بغير القلب، وهذا مأجور عليه العبد، ولو أنه لا يصل إلى درجة ذكر القلب، ولا ذكر القلب باللسان، لكن يؤجر عليه، والدليل على ذلك ما رواه الترمذي بسند صحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {يقول الله تبارك وتعالى: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه} وقوله عليه الصلاة والسلام عند الترمذي عن ابن بسر: {لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} فدل على أن ذكر اللسان بغير قلب يؤجر عليه العبد.
أبو مسلم الخولاني، أحد التابعين الكبار، يقولون: كانت لسانه لا تفتر من ذكر الله، دخل على الأسود العنسي مدعي النبوة عليه لعنة الله في صنعاء اليمن، أحد الثلاثين الكذابين الذين زعموا أنهم أنبياء- فدخل أبو مسلم الخولاني على الأسود العنسي فكذبه، فقال له الأسود: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: لا أسمع شيئاً، فجمع له حطباً، وأوقد ناراً، وأُتي بهذا الرجل الصالح فألقوه في النار؛ فجعلها الله برداً وسلاماً عليه، فلما قدم على أبي بكر، عانقه أبو بكر وعمر، وقالوا: مرحباً بمن فُعل به كما فعل بإبراهيم الخليل عليه السلام.
هذا العبد يقولون: إنه كان لا يفتر أبداً من ذكر الله صباح مساء، وكان لا ينام إلا قليلاً من كثرة ذكره لربه تبارك وتعالى.
ومن أقسام الذكر: طلب العلم ومدارسته؛ بل هو أعظمها عند أهل العلم، فجلوسك في معرفة الصلاة ومعرفة الصيام، ومعرفة البيع والشراء، ومعرفة أبواب الفقه، والتفسير والحديث، من أعظم أنواع الذكر عند الله عز وجل، وهي مجالس الجنة ومجالس الإيمان.
أما الذاكرون الله كثيراً، فقد سبق عرض ذلك، وهم: الذين يذكرون الله في كل لحظة، ولا يفتئون يذكرون الله دائماً وأبداً، وأقول لكم كما يقول السلف: من حافظ على الأذكار الشرعية الواردة عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام، فهو من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
وهي من أحسن ما يرشح لقراءة هذا الموضوع.
لكن أقول: ذكر المناسبة عليك أن تتقيد به، لا تأتي بذكر في غير موضعه، صحيح أنك تؤجر عليه، لكنه خلاف الأولى.
مثل: إنسان ترك التسبيح ثلاثاً وثلاثين بعد الصلاة، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله مائة مرة، نقول: أنت مأجور، لكن خلاف الأولى، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يسبح في هذا الموضع فسبح أنت، ومن الأمر المسنون عنه عليه الصلاة والسلام قوله: {سبحان ربي العظيم في الركوع} فيأتي رجلٌ فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله في الركوع، أو لا إله إلا الله، هذا أمر آخر مقيد، وهذه عبادة، وكذلك في السجود والتحيات وبين السجدتين، فهذا ذكر المناسبات، منه ما هو واجب، ومنه ما هو سنة، ومنه ما هو الأولى أن تفعله، ففي الصلاة واجب ما ورد فيه فلا تتعداه، وفي غيرها هو الأولى والأحسن والأطيب وصعود الجبال وحمل الأثقال ذكرها: لا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول أبو موسى والحديث في الصحيح: {كنا نصعد ثنية، وكان الناس يرفعون أصواتهم بالتكبير ويقول -
ويناسب التفكر في آيات الله، وفي خلقك وبديع صنع الله؛ سبحان الله؛ لأنه للتسبيح وللتعجب من خلقه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ويناسب ذكر المعصية والخطيئة والذنب؛ استغفر الله وأتوب إليه.
وذكر الرسول عليه الصلاة والسلام: الصلاة والسلام عليه، صلى الله عليه وسلم دائماً وأبداً، إلى غير ذلك من المناسبات التي ذكرها معلم الخير عليه الصلاة والسلام.
والبدء بالطعام: بسم الله. والرفع من الطعام: الحمد لله. ودخول المسجد له ذكر والخروج من المسجد له ذكر.. وهكذا.
منها: أنه يطرد الشيطان، ويرضي الرحمن، ويؤنس الجليس، ويعظم الأجر، ويزيل الخطايا والذنوب، ويوجد بهاءً في الوجه، ويشرح الصدر، ويوجد أنساً بين العبد وبين الله، ويكفر الخطايا ويتحف الجليس، ويحفظ العمر.
ومنها: أنه يقود إلى أشرف الطاعات.
ومنها: أنه يمنع من السيئات والخطايا كالغيبة والنميمة.
ومنها: أنه يرد القلب إلى مولاه؛ فيراجع حسابه مع الله، ويتوب ويندم.
ومنها: أنه يكافئ كثيراً من الأعمال الصالحة بل يزيد عليها.
ومنها: أن الملائكة تذكر الذاكر.
ومنها وهو أعظمها: أن الله يذكر من ذكره، لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].
ومنها: أن الذاكر لا يزال في رعاية من الله وفي معية خاصة.
ومنها: أن الذاكر لا يأتيه وساوس ولا واردات ولا هواجس.
ومنها: أنه ينفي القلق والهم والغم والحزن وتكدير الحياة والعيش.
ومنها: أنه يمد في العمر، ويزيد فيه، ويبارك في ساعاته.
ومنها: أنه يثلج صدر المؤمن.
ومنها: أنه قوة على أعمال أخرى، فيفتح للمؤمن أعمالاً أخرى من الذكر.. إلى غيرها من الفوائد.
يقول ابن القيم: ومن أعظمها أنه ينفي النفاق عنك. فالمنافق لا يذكر الله، والله عز وجل ذكر المنافقين، فقال: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:142] ولا يداوم على ذكر الله منافق، فلا تجد المنافق يذكر الله في السوق، أو السيارة أو الطائرة أو المجلس، لا يفعل ذلك إلا مؤمن، وأنت جرب بنفسك، إذا أردت أن ترى هل أنت مؤمن أو منافق فاسأل نفسك، هل أذكر الله دائماً وأبداً؟ هل أذكر الله وأنا مع الناس، في الجلوس والخروج.. في السوق، والطائرة والسيارة، إن كنت تفعل ذلك فأبشر ثم أبشر بالإيمان.
فإن أعظم علامة للمؤمنين أنهم يذكرون الله كثيراً، حتى في القتال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
أحسن أوقات الذكر المطلق من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، ومن بعد العصر إلى غروب الشمس قال تعالى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:17-18] بالغدو والآصال، قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، هذه أحسن أوقات الذكر.
وكان عليه الصلاة والسلام يذكر ربه من بعد الفجر إلى طلوع الشمس، وفي حديث حسنه بعض أهل العلم وبعضهم يصححه، وبعضهم يضعفه: {من صلى الفجر في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كان كعدل حجة وعمرة تامة تامة تامة} والأقرب أنه حديث حسن، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك.
يقولون: كان ابن تيمية يجلس في مصلاه يذكر الله حتى يرتفع النهار، فيقول: هذه غدوتي ولو لم أتغد لسقطت قواي، فهذه من أحسن أوقات الذكر من بعد الفجر إلى طلوع الشمس، وهو وقت تفتح القلوب، وتفتح الأزهار، وتغريد الأطيار، وهطول البركات من الواحد الغفار، وهو وقت تنزل الأرزاق والفتوحات الربانية من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فعليك أن تكون في هذه الساعة من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
وبعد العصر إلى غروب الشمس، أو بعد الغروب بسويعات أو بساعة أو بنصف ساعة أو ما يشابهها ترفع كفيك، خاصة وأنك في هذه الأيام صائم، هنيئاً لك الصوم، صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {للصائم دعوة لا ترد} وأنت منكسر البال، ومنكسر البطن بالجوع، ومنكسر الإرادة ترفع كفيك إلى الله عز وجل تدعوه يجيب الله دعوتك. والثلاثة الذين يجيب الله دعوتهم لا شك في ذلك كما في حديث أبي داود: {المظلوم، والوالد، والصائم} فكن من الذاكرين الله كثيراً والداعين خاصة قبل الإفطار، فإن لك دعوة مستجابة يجيب الله دعوتك فيها؛ فاغتنمها حفظك الله.
فالذكر الشرعي هو ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، مثل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. إلى غيرها.
أما الذكر البدعي فهو: الذي أحدثه المبتدعة، وما أنزل الله به من سلطان، مثل أنهم يقولون: أعظم الذكر الاسم الأعظم، ويجعلون الاسم الأعظم الضمير (هو) يقول: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] ويقول: إِلَّا هُوَ [البقرة:163] قالوا: (هو) هو الذكر الأعظم.
فيأتي هؤلاء المبتدعة فيجلسون في الزوايا يقولون: هو هو هو، بدل أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، يقف أحدهم من صلاة العصر إلى المغرب يقول: هو هو هو هو.
قال أهل السنة: هذا ليس بذكر بل هذا نباح كلاب.
وابن عربي يقول: والدرجة الثانية في أعظم الذكر الاسم المجرد: الله الله الله الله. قال ابن تيمية: لم يأتِ به نص عنه عليه الصلاة والسلام، وليس في ترداده وحده مجرداً أثر إليه عليه الصلاة والسلام، فتجد بعضهم يقول: هو، وبعضهم يقول: الله الله الله الله، وبعضهم يأتي بالاسم مجرداً بلا طلب، فتجده يقول: يا لطيف! يا لطيف! وهو قد يؤجر إذا قصد به أن يدعو الله عز وجل لكن يبين دعاءه، ولا يبقى على هذا؛ لأنه ليس من الأدعية المأثورة أن تنادي بالاسم فحسب، كرجل يأتي عند الباب، ويطرق عليك بابك، يا محمد! يا محمد! فتقول: نعم، فيقول: يا محمد! وتقول: نعم، فيقول: يا محمد! يا محمد! حتى أن بعض المبتدعة ورد أنه أتى إلى المقدسات، فكان يردد يا لطيف! من العشاء إلى الفجر، قيل له: أليس عندك ذكر غير هذا؟ قال: أوصاني أحد المشايخ أن أقول يا لطيف! سبعة آلاف مرة عند قبر الرسول عليه الصلاة والسلام وهذه بدعة مركبة، كونها عند القبر وهذا أيضاً ذكر غير شرعي.
ومن المبتدعة كذلك من يذكر الله بغير أسمائه المأثورة الثابتة التي قال فيها: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180] ومن الإلحاد في الأسماء أن تسمي الله بغير اسمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، مثلما ذكر الغزالي، أبو حامد صاحب الإحياء: يسمون الله يا دهر الدهارير! فلذلك يدعو أحدهم فيقول: يا دهر الدهارير افتح علي، وهي ليست من أسمائه سبحانه، أو يا موجود! وهي ليست من أسمائه، أو اشتقاق ما لم ينزل الله به سلطاناً، يا يقظان! فهذه كلها إلحاد في أسمائه.
إنما يذكر بالأسماء والصفات التي وردت في الكتاب والسنة، يا كريم! يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! يا بديع السماوات والأرض! إلى غيرها مما ثبتت عنه عليه الصلاة والسلام، أو وردت في الكتاب والسنة.
هذا -أيها الإخوة- الذكر الشرعي والذكر البدعي، وهو آخر عناصر هذا الدرس، وأنا لا أحب الإطالة؛ لأنه سوف تكون هناك سلسلة من الدروس كل يوم إن شاء الله ينبني بعضها على بعض، وما حصل فيه كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولمن أراد الله به خيراً نفعته كلمة، والذي لا يريد الله به خيراً لا تنفعه محاضرات الدنيا ولا كتب الدنيا، وإنما يزيد بالسماع ضلالاً إلى ضلاله، وإعراضاً إلى إعراضه، وبعض الناس يفتح الله عليه بكلمة، ويستفيد بموعظة أو آية أو حديث، فيكون موفقاً في الدنيا والآخرة، وبعضهم لو تناطحت جبال الدنيا أمام عينيه، ما زاده إلا إعراضاً وعتواً.
التفت عليه الصلاة والسلام إلى السماء، والحديث عند أحمد، وقال: {هذا أوان انتزاع العلم -أي: انتزاع العلم من الصدور- قال
أيها الإخوة: أسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يجعل ما سمعنا حجة لنا لا حجة علينا، لنكون عاملين مؤدين صادقين مع الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر