من هذه الآيات الغيث الذي يحيي الأرض بعد موتها، ويحيي القلوب الميتة، فهو غيث الأرض بما تنتفع به من ماء، وهو غيث للقلوب بما تنتفع به من معرفة عظمة الله وقدرته على الإحياء.
وإن الإيمان القائم على التفكر في الكون والنظر في أسراره لا يخشى عليه من عاديات البث المباشر ولا غيرها من الوسائل الهدامة.
وهاهم علماء الغرب يشهدون بأنه لا حياة سعيدة إلا بالإيمان.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
قف في الحياة تر الجمال تبسما والطل من ثغر الخمائل قد همى |
وشدت مطوقة الغروس ورجعت وترعرع الفنن الجميل وقد نما |
والمؤمن اطلع الحياة بهيبة أهلاً بمن حاز الجمال مسلما |
قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى:28] تحققت هذه الآية، وعشناها حدثاً خالداً، ورأينا آثار الله قبل أيام.
عشنا القحط والجدب والفقر، كانت أرضنا وجبالنا وحدائقنا مغبره قاحلة ميته، فعدنا إلى الله في صلاة استسقاء وكنا صائمين، وكم في الجموع من صائم صادق، وكم فيهم من مخلص توجه بدعائه إلى الحي القيوم، قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62] فما كانت إلا الاستجابة من الذي خزائنه لا تنفذ وغناه لا ينتهي، ليقرر لنا أموراً عجيبة في المعتقد وفي الحياة، وفي الآخرة، يقول سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى:28].
ثم قال سبحانه: يُنَزِّلُ الْغَيْثَ [الشورى:28] والتشديد هنا للمبالغة، وهي للمبالغة في الإنـزال، وكأن الناس يتحرون شيئاً ينـزل فنـزل عليهم بعد لأواء.
ثم قال: (الغيث) ولم يقل المطر لأن الغيث له سر عجيب، يغيث به الله البلاد والعباد، ولو قال المطر لاحتمل أن يكون عذاباً وتدميراً، فغالب ذكر المطر في القرآن عذاب وتدمير وخسف وإبادة، قال تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [الشعراء:173] ولكن قال: الغيث ليغيث الله به البلاد والعباد، قال تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [الشورى:28] لقد تراجعت كثير من النفوس وشكت في قدرة الباري.
ولقد أخفقت كثير من الأرواح التي تربت على الفلسفة الغربية المادية التي لا تؤمن بالله، ولقد ظن دعاة المادة الذين يعبدون المادة ويلتجئون إلى غير الله، أن لا إله ولا قدرة ولا رحمة ولا عناية، ويستهتر بعضهم فيقول: كم من صلاة وكم من دعاء وما نزل الغيث! ولكن الله أسكت منطوقهم وفضح شريحتهم، وأبطل إرادتهم بالغيث الذي نزل هنيئاً مريئاً في أيام متعددة، فقد صلينا وبعد ساعات نزل الغيث، والله يقول: مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [الشورى:28] من بعد أن ظنوا أن لا رحمة، اتجهت العجماوات والببغاوات، والحشرات والكائنات إلى الله، وهذا أمر معلوم بالفطر.
والله يقول في حديث قدسي يرويه أبو يعلى: {وعزتي وجلالي لولا شيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع؛ لخسفت بكم الأرض خسفاً ولمنعتكم القطر من السماء} ولكن عناية الله ورحمته وحلمه عن كل مجرم وعاص أنه نظر سبحانه إلى هذه العجماوات والحيوانات، وإلى الأطفال والشيوخ الركع السجود، وإلى حملة القرآن والدعاة، والصالحين، فأغاث الله البلاد والعباد.
قال تعالى: وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى:28] ما أحسن التعبير! وما أجمل العبارة! وصل الماء إلى بيوتنا قبل نزول الغيث.
لكن ما حل المشكلة وما قام بالأمن القلبي وما نزلت علينا السكينة بشيء كنـزول الغيث، نعم امتلأت خزاناتنا من الماء الذي وصل إلينا من البحر، وصهاريجنا وبيوتنا، لكن حدائقنا يابسة، وأزهارنا قاحلة وجبالنا ميتة، فلما قال: وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى:28] عاشت الأرض وترعرعت واهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج:6].
اهتزت: لبست حلة وتراقصت على القطر.
وربت: أخرجت أزهارها وثمارها وأشجارها، وغرد البلبل وسار الطير وأنشد الصداح الأناشيد على أفنان الشجر؛ شاكراً المولى تبارك وتعالى.
وفي نزول الغيث يقول سبحانه: وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى:28] وعبارة (الولي الحميد) جُعلت هنا لعبرة، فالولي: الذي ولايته عامة وخاصة، فأما نحن فولايته لنا خاصة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لماذا؟ لأننا حملنا الإيمان، واسلمنا لله، وأتبعنا رسول الله.
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم |
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم |
وفي نزول الغيث دروس: أولها: أن إجابة الدعاء معجزة وكرامة، وأن هناك صلة بين هذا المخلوق الضعيف والله القوي الباقي تبارك وتعالى، وهو درس من دروس التوحيد، عاشه عليه الصلاة والسلام حقيقة أمام أكثر من ألف من أصحابه ونقلتها لنا كتب العلم، فمن كان في شك فليشك , ومن كان في ريبة فليرتب.
أما نحن فنقول: قال تعالى: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات:23] عاش الصحابة في عهده عليه الصلاة والسلام قحطاً وفقراً وجوعاً وجدباً، أتوا يصلون الجمعة والشمس تقطع الظهور لا غمام ولا سحاب ولا قزعة، دخلوا المسجد في حرارة الصيف المحرقة، فالرمضاء تلتهب وتكاد تأكل الناس، والسموم محرقة للوجوه.
وتقدم عليه الصلاة والسلام إلى المنبر، لم يكن عنده سابق حدث بما سوف يجري في الخطبة، كانت خطبته عن الإيمان، وكان يتكلم بها كالسيل بما فتح الله عليه.
وفي أثناء الخطبة دخل أعرابي المسجد فقاطع الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، صاح الأعرابي وقد بلغ به اللأواء إلى أن يصيح، قال: يا رسول الله! فسكت عليه الصلاة والسلام والتفت الناس إلى الأعرابي، قال: { يا رسول الله! جاع العيال، وضاع المال، وتقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا -ولم يتلعثم عليه الصلاة والسلام، ولم يفكر وقطع خطبته والتفت إلى الحي القيوم- فرفع يديه في لحظة وأخذ يقول: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، يقول
فأتت من وراء سلع بـالمدينة ثم توسطت سماء المدينة وثارت كالجبال، والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينزل من على المنبر ولم ينته من كلامه، ثم أزبدت وأرعدت وأمطرت، وإذا الماء ينهمر على وجهه الشريف الذي هو كالبدر، ويتقاطر الماء على لحيته ويتصبب فيتبسم، قطعه التبسم عن الكلام.
ما رأي دعاة الإلحاد في هذه القضية؟ أي تحليل علمي على هذه الحادثة؟
ما هو مدلولها، أصدفة يدخل الأعرابي وصدفة تقطع الخطبة، وصدفة ترتفع اليد، وصدفة تأتي سحابة كالترس من وراء الجبل ثم تمطر في لحظة وتسيل المدينة؟!
فتبسم عليه الصلاة والسلام:
طفح السرور عليَّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني |
ويقول: أشهد أني رسول الله، ونقول له: نشهد نحن الملايين أنك رسول الله، ونشهد أن رسالتك الخالدة التاريخية أثبتت قوتها وصدقها ونبوغها وروعتها وجلالها وجمالها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أيها المسلمون: إن الله كما أحيا الأرض يحيي القلوب، فيا من أراد حياة القلوب! ليست حياة القلوب إلا عند محمد عليه الصلاة والسلام وهذه المادة المخدرة، مادة الطاقة التي يملكها القلب ليكون حياً حرام على أي منهج إلا منهج الإسلام.
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه |
قد مضينا في ضياء الوحي حباً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحدوه خطاه |
قد شربنا من كئوس الوحي حباً وارتوينا وكتبنا في العلى بالاسم تمجيد الإله |
إذاً: غوث القلوب بالإيمان والوحي، ومن أراد أن يغيث قلبه فليبادر إلى الإيمان وذكر الواحد الديان والرسالة الخالدة، فوالله! ليس له من دون الله مغيث، ولو جمع لذائذ الدنيا وطاقات الدنيا وانفصل عن الإيمان ما كان إلا موتاً إلى موت وخيبة إلى خيبة.
هل تصور أحدكم حديقة مر بها وقد مات شجرها واختفى زهرها وذبل وردها، حديقة ظن أنها لا تعود لها الحياة أبداً، هاجرت منها الطيور وفارقها الهدهد وهجرها الحمام، لا ماء ولا رواء ولا خضرة ولا حياة، أصبحت الأشجار تهوي بها الريح في غبار تشمئز منه النفوس، واليوم عد إلى الحديقة وانظر إليها، عادت كما كانت عليه ولبست حلة، واهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ [الحج:6] وهي أعظم قضية، قضية الإيمان.
أعظم آية في نزول الغيث أن الله هو الحق، فالقلوب ما اتجهت يوم أتى هذا الجدب إلى الشرق أو الغرب بل اتجهت إلى الله.
خرج سليمان عليه السلام يستسقي بالناس، وإذا بنملة رفعت أرجلها تقول: يا رب اسقنا، يا رب لا تحرمنا القطر بعصاة بني آدم، نملة ونحلة ويرقة وورقة، كلها تلتجئ إلى الله، قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج:6].
وهي القضية الثانية الكبرى، مع ذلك الله حق ويحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير، وأن نعتبر بهذا، فإنه دليل قاطع وحجة باهرة على إحياء الموتى بعد أن يموتوا، والله قادر على ذلك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يقول في ملحد زنديق اعترض على هذه القضية، قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78-79].
فهذه قضايا في نزول الغيث.
قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى:28] وارتاحت قلوبنا وعادت لنا الحياة، واخضوضرت أوراق الأشجار، وسرى النسيم وعادت الأطيار المهاجرة، ونزل الأمن والسكينة، وعاد الصالحون في توجه عظيم إلى الله، يشهدون أن الدين حق وأن الله حق وأن الرسول عليه الصلاة والسلام حق.
إنه -والله- سر من أسرار هذا الدين العظيم الذي وصل هذه الأمة الربانية بربها، تستسقي في الصباح وينـزل الغيث في المساء إجابة لدعوتها ودعوة الصادقين من أبنائها.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله الجليل العظيم لي ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك |
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك |
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك |
الورد والزهر والشجر والأطيار يشهد أن لا إله إلا الله.
وفي كل شيء له آيه تدل على أنه الواحد |
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد |
قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53] حتى يتبين لهم أن الرسالة صحيحة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام صادق، وأن مبادئنا خالدة، وأن تعاليمنا سماوية ربانية، إنه الإيمان.
هم الآن يعودون إلى الإيمان، وبعض الناس من المسلمين يخرجون من الإيمان، بحثوا عن كل لذيذة فوجدوا الحياة بلا إيمان لعنةً وغضباً وسحقاً وتهافتاً، تطوروا في الصناعة والمادة، فهم سيروا الضوء وطوروا الذرة ولكن امتلأت مستشفياتهم بالقلق والهموم والغموم، والتشنج والانتحار وانتشر السلب والنهب، قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] وقال تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [النمل:66] والأمن حرمه الذين لا يعيشون الإيمان: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي دينا |
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينا |
والهداية ليست إلا لأهل الإيمان، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [يونس:9].
ومن وعوده لهم أنه يدافع عنهم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38].
ومن وعوده أن العزة لهم، قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
كما يقول كريسي موريسون في كتابه: (الإنسان لا يقوم وحده):
يا أبناء لا إله إلا الله! قدمنا لكم الثلاجة والبرادة والطائرة والصاروخ، وما قدمتم لنا الإيمان.
وهذا أستاذ الفلسفة في جامعة هارفارد، اسمه وليم جيمس يقول:
إن أعظم دواء للقلق أدركته ولا شك هو الإيمان، لكن نقول له: لو ذقت أنت حلاوة الإيمان التي نعيشها نحن، لآمنت ولصدقت ولرأيت السعادة والنور، عنده حد وقدر نسبي من الإيمان والتصديق فكيف لو رأى الإيمان، ما كان ينبغي أن تفتح مستشفيات لمرضى النفس، ولا أرق ولا هموم ولا غموم، لكن لما انحرف الجيل عن المسجد والقرآن والذكر والأوراد وعبادة الواحد الديان، امتلأت المستشفيات النفسية بالمرضى، بمرض القلق والأرق والتشنج، فحلنا وقضيتنا وعلاجنا ودواؤنا الإيمان.
يهددننا الناس والعالم بالبث المباشر، وكثير من الناس يرد منهم حلولاً، منهم من يقول: بتطوير شاشتنا لترد على شاشاتهم، ومنهم من يقول: بالتشويش على رادارهم وهذا لا يستطاع، ولكن نحن نقول: نملأ قلوب جيلنا وأمتنا بالإيمان فإذا تحصنا بالإيمان فلن يغلبونا أبداً.
لا تحدثني عن البث المباشر والعربسات وأقمار المقامر |
أنا بثي دعوة قدسية تطفئ الشمس وتخزي كل كافر |
والمذيعون علي والبرا وأبو بكر وعمار بن ياسر |
ويقول الفيلسوف فرنسيس بيكون، وهو مشهور، وهو الذي ترجم له الزركلي في الأعلام وغيره يقول:
إن قليلاً من العلم قد يبعدك عن الله وكثيره يقربك من الله.
وهذا القرآن يصدقه، والحكمة ضالة المؤمن، يقول: أنا ببحوثي واكتشافاتي دلني العلم على الله، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] لكن ربما تعرض لي سائل يقول: الواقع يكذب نظرية بيكون لأنا نجد من يحمل الماجستير والدكتوراه والشهادات العالية، ولا يصلى في المسجد ويهجر القرآن، ويفجر ويتناول المسكر، فأي نظرية صادقة.
نقول: نحن نتحدث عن علم القلوب لا عن علم الجيوب، ونتحدث عن علم القبر لا عن علم القِدر، لأن هناك علماً اسمه علم القبر وهناك علم القدر.
فعلم القبر الذي يدلك على الله، قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] وقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9] وقال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11] وقال تعالى: وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ [الروم:56].
فهذا العلم هو الذي يرفعك ويقربك إلى الله، أما علم البطن والفرج والجيب والمرتب، فهو الذي أنتجته شهادات مزورة، قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِين * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:175-176] وهذا علم لا ينفع صاحبه وهو ردى وعمى عليه.
وهذا مثل ما حصل لـسخروف، قبل أن يموت، فقد نشرت الشرق الأوسط قبل موته بشهر في موسكو مقالته عن الإيمان، وهي وثيقة تشهد الله على أنفسهم أنهم يعلمون أن لا إله إلا الله في أنفسهم.
ويقول هنري كورد صاحب شركة عالمية أمريكية: أعتقد أن الله تعالى لم يتخلَ عني في تلك الفترات من حياتي، فكان يساعدني على تصريف أموري، ولولا الله لانهارت أموري. وقد ذكر الله هذا في القرآن، قال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65] إذا تقطعت بهم الحيل والأزمات واشتد الحبل؛ عادوا إلى الله ورجعوا إليه.
ويقول الطبيب النفساني كريميونت في كتابه: الرجل الحديث يبحث عن الروح:
جاءنا كثير من المرضي من الشعوب المتحضرة، وأكثر المرضى في القلوب من الشعوب المتحضرة، أهل القرى قليل مرضهم، المعقدون صناعياً هم أكثر الناس مرضاً؛ لأن علمهم ما دلهم على الله، قال: وكلما وجدت مشكلة وجدت أصلها؛ افتقارهم إلى الإيمان بالله العظيم الكريم، ليتهم يؤمنون، قال تعالى: فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الانشقاق:20].
شبابنا في قضية الإيمان متردد في أن يقدم أو يحجم، قال تعالى: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا [النور:50] أم كأن الرسالة ارتابت في أذهانهم، أم كأن الأغنية الماجنة خير من التلاوة السعيدة، والمجلة الساقطة أحسن من الكتاب الإسلامي، والجلسة الحمراء خير من مجالس العلم، أم هداية استالين أعظم من هداية محمد عليه الصلاة والسلام، أم النار خير من الجنة، فما لهم لا يدركون هذا ويتفكرون.
ويقول المهاتما غاندي، وما أدراك ما غاندي! إنه عدونا، قتل مليون مسلم وتسبب في عقم مليون امرأة مسلمة في الهند، وهو يقدس في بعض بلاد العلمنة التي لا تعرف المناهج الربانية، يقول: بغير الصلاة كان يتحتم عليَّ أن أصبح معتوهاً أبله منذ مدة طويلة. وهذا مع أن صلاته خاطئة، فكيف لو عرف صلاتنا؟!
كيف لو ذاق سجودنا؟!
كيف لو عرف مساجدنا؟!
كيف لو عاش هذه اللحظات الإيمانية؟!
لكن يعطيهم الله بقدر هذه المعرفة القلبية ما يؤنسهم، وهذا جزاء الكافر إذا ركن إلى غير الله في الحياة، فجزاؤه وقتي في الدنيا ولكن لا ثواب له عند الله.
ويقول ألكسس كاريل صاحب كتاب الإنسان ذلك المجهول وأنصح بقراءة هذا الكتاب، وقد نقل عنه سيد في كتاب الظلال أكثر كتابه هذا، نثره في الظلال من أوله إلى آخره، يقول:
لعل الصلاة من أعظم الموارد الحرارية للإنسان، إنها كمعدن الراديوم مصدر للإشعاع، ومولد ذاتي للنشاط.
ربنا قد عدنا إليك ورجعنا وتبنا، وعرفنا أن سر خلودنا وعظمتنا في الإيمان، اللهم فزدنا إيماناً وتوحيداً ومتابعة وفقهاً وهداية وعلماً.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله بها عليه عشراً} اللهم صلِّ وسلم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه الكرام البررة يا رب العالمين.
اللهم إنا نشكرك شكراً جزيلاً، نشكرك على هذا الغيث، ونشكرك على هذا الماء، ونشكرك على هذا الرزق، نشكرك على هذه الحياة، فبالأمس استسقينا فسقيتنا واستنصرنا فنصرتنا وافتقرنا فأغنيتنا واستهدينا فهديتنا، اللهم إنا نسألك ثباتاً على هذا الرزق الطيب والهداية والرشد والسداد حتى نلقاك مؤمنين.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر