الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً بكم إلى حلقة جديدة في (آيات الحج في القرآن الكريم) مع ضيفنا الشيخ صالح بن عواد المغامسي إمام وخطيب مسجد قباء والذي نرحب به مع مطلع هذه الحلقة، فأهلاً بكم فضيلة الشيخ.
الشيخ: حياكم الله أستاذ فهد وحيا الله الإخوة المستمعين والأخوات المستمعات.
الملقي: الآية التي معنا في هذه الحلقة هي قوله تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97].
فهل المقصود هو المسجد الحرام أم ماذا؟
الشيخ: الآية التي قبلها: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:96-97].
فالكعبة والمسجد الذي حولها هو المقصود ببيت الله الحرام، بدليل أن الله قال: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97].
فمقام إبراهيم يقيناً ليس من الكعبة، فهذا دليل على أن المقصود بها المسجد.
والآية في اللغة: العلامة، ولها معاني أكثرها في القرآن الكريم، كقوله جل وعلا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً [البقرة:248] أي: لعبرة.
لكن هنا (آيات بينات) أي أمور تلفت الأنظار غير ما تعارف الناس عليه، فالحجر في أصله علامة قسوة، لكن هذا الحجر من دلائل احترامه شرعاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قبله، وبدأ به في الطواف من دون أركان الكعبة كلها، على هذا نحرر المسألة على النحو التالي:
نستصحب قول الله جل وعلا: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ [الحج:32].
فشعائر الله يجب أن تعظم، هذا عموم، والسؤال المطروح هنا علمياً، كيف تعظم؟ لا سبيل إلى معرفة كيفية تعظيمها إلا بمعرفة كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معها، وإذا جاء سيل الله بطل سيل معقل، والدين يؤخذ عن أنبياء الله ورسله، ونحن مطالبون بالاقتداء بنبينا صلى الله عليه وسلم.
تأتي أخطاء من هنا وهناك حول هذه المسائل، فمثلاً النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون تعظيمه؟ فننظر للصحابة كيف تعاملوا معه، فنعرف تعظيمه، وهم لم يتخذوه وسيلة بينهم وبين الله، فلا يأتي أحد ويقول إن من تعظيمه اتخاذه وسيلة بيننا وبين الله في الدعاء، لأن الصحابة الذين أنزل عليهم القرآن وكان حياً بين أظهرهم لم يصنعوا هذا.
كذلك كل شعيرة من شعائر الدين لها نوع من التعظيم، مثلاً الله يقول: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [الحج:36].
وتعظيمها بأن تقلد وتهدى إلى البيت وتنحر، فنحرها هدياً بالغ الكعبة من تعظيمها.
استسمان الأضاحي من تعظيم شعائر الله، لكن لا يمكن أن نقول: إن نحر الحجر أو استسمانه من تعظيمه، فننظر كيف عظم النبي صلى الله عليه وسلم شعيرة الحجر؟
بدأ به مقبلاً بوجهه، ومن أخطائنا أن نأتي بجواره ونضعه على يسارنا، والصواب أن يأتي الإنسان أول المطاف إلى الحجر فيقابله بوجهه، فالنبي صلى الله عليه وسلم: (استلمه وقبله) وفي رواية (سجد عليه ثم جعل الكعبة عن يساره) كما قال جابر ، أي: بعد أن استلم الحجر.
إذا تعظم شعيرة الحجر باستلامها أو بتقبيلها، وإذا عجزنا فبالإشارة إليها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الموروث القديم حتى الجاهليون كانوا يعلمونه، ولذلك اختصموا في وضعه، وقدر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يضعه لما وضعه في رداء، ثم أخذت كل قبيلة بطرف، ولو لم يكن لهذا الحجر قدر، لما من الله على نبيه بأن يكون وضع الحجر على يديه، لأن الله لا يختار لنبيه إلا الأفضل والأكمل، ولو لم يكن للحجر شأن، لما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم به، دون أركان الكعبة كلها، ولو لم يكن للحجر شأن لما قبله صلى الله عليه وسلم.
ولا يعني هذا أن يفهم أحد أن لازم ذلك أن يعتقد أن الحجر يضر أو ينفع، فإنا نعلم أن الحجارة لا تضر ولا تنفع، بل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لا يضر ولا ينفع، يعني إنما جرت هداية البشر به، لكن لا يملك أحد لأحد ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، هذا نفاه الله عن جميع خلقه.
فإذا قبلنا الحجر لا يعني أننا نعتقد أنه يضر أو ينفع، وإنما نحن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الملقي: هناك قضية أثيرت قبل فترة ولعلكم اطلعتم على شيء منها في إحدى القنوات الفضائية، وهي دعوى وجود رموز وثنية عند المسلمين في الحج، وكان هناك تركيز على هذه القضية .
الشيخ: هذا من الجهل، وهذا يسوق إلى مسألة عجيبة نبه عليها رجل اسمه محمد الطاهر كردي المكي ، وهو أن قريشاً الوثنية كانوا يعظمون الوثن والحجارة، ويختلقون الأصنام مثل هبل واللات ومناة والعزى، ومع ذلك صرفهم الله أن يعبدوا الحجر أو يعبدوا المقام، رغم أنه موجود بين أظهرهم؛ لأنه سبق في علم الله أنه سيأتي في دين الله تعظيم الحجر، وتعظيم المقام بما يناسبهما، فلو قدر أن قريشاً كانت تعظمهما وتعبدهما لقال القرشيون: أبقى محمد على شيء من ديننا، لكن الله صرفهم تماماً عن أن يعبدوا الحجر أو يعبدوا المقام. وهذا ملحظ عظيم، وأظن أن بركة العلم لها دور كبير في استنباط هذه المسائل والتنبيه إليها، وتذكير الناس بها، حتى يكون هناك حياة الاجتهاد في الأمة منبعثة منبثقة باقية، فالدين أجل وأكبر وأعظم من أن يحويه صدر رجل واحد.
وحتى محمد الطاهر كردي له كتاب نسيت اسمه، ولعلي أعرج عليه بحلقات قادمه، لكنه نبه إليه ونقله عنه ساعد في كتابه فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم، وهو كتاب تاريخي فقهي مطبوع موجود في الأسواق.
الملقي: هذا الحدث حمل أكثر مما يحتمل، حتى يعتقد بعض الناس عند قراءة التاريخ أن الكعبة عطلت في هذا الزمان، وأن القرامطة كأنهم نفوا وجود المسلمين في فترة معينة.
الشيخ: هذا الحدث شابه شيء، لكن مجمله يدل على أن قوماً أعطوا جرأة في سفك الدماء، جاءوا إلى الكعبة والناس يحجون، فأخذوا الحجر معهم، في تلك الأيام.
الملقي: وهل حصل ذلك دون هدم الكعبة.
الشيخ: نعم، دون هدم الكعبة، إنما نزعوا الحجر انتزاعاً ثم أخذوه، فمكث الناس عشرين عاماً -كما قال أهل التاريخ- إنما يشيرون إلى موضع الحجر في طوافهم، ثم رد بعد عشرين عاماً إلا ثلاثة أيام تقريباً، والآن الذي يتأمل في الحجر يجد أنه إناء فضي، داخله مادة لزجة تجمع قطع الحجر، وهي ثمان قطع على هيئة تمرات، منها الكبير ومنها الصغير متلاصقة بعضها ببعض، هذا هو الحجر المكسور الذي كان أصلاً للحجر الأسود.
والسنة أن يقبل الحجر وإن لم يستطع فليمسح عليه، وإن لم يستطع أشار إليه؛ لكن إذا كان معه شيء استلم به الحجر، مثل ما كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالمحجن، ويجوز له أن يقبل ذلك الذي استلم به، فالنبي عليه الصلاة السلام استلمه بالمحجن ثم قبل المحجن.
والركن اليماني يستلم ويقبل، لكنه لا يشير إليه، وهناك قول في مذهب الشافعي رحمة الله تعالى عليه بالإشارة إليه، والمسألة فيها خلاف، لكن الأرجح والعلم عند الله أنه إما أن يستلم وإما أن يترك، وكلاهما في الجنوب من الكعبة، وهما من الكعبة ركناها اليمانيان.
النبي عليه الصلاة السلام يقول: (الإيمان يمان والحكمة يمانية) ومما يمدح به أهل اليمن أن ركني الكعبة تجاه اليمن.
أما الركنان الشاميان فلم يستلمهما النبي صلى الله عليه وسلم لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم.
الشيخ: طبعاً هذا تخليد لذكرى خليل الله جلا وعلا، وهذا من الثناء الذي وعده الله نبيه لما قال في دعائه: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84].
إنما الخلاف بين العلماء في هذا المقام، هل مكانه الحالي هو مكانه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والمسألة فيها أقوال عديدة تصل إلى أربعة:
منهم من قال: إن مكانه الحالي هو المكان الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين، هذا قول.
وقال آخرون: إن المقام كان ملتصقاً بالكعبة، وأخر إلى هذا الموضع، بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مروي عن مجاهد .
وقال آخرون: إنه كان ملتصقاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأخره إلى هذا الموضع عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقيل غير ذلك.
والذي يظهر لي أن هذا المكان مقامه منذ أن كان النبي صلى الله عليه وسلم، لكن قول مجاهد أنه كان ملتصقاً بالكعبة له وجه من القوة، لكن الذين نقلوا حجة النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقلوا لنا أن النبي أخره.
لكن نقبل قول مجاهد ؛ لأنه لا بد أن يكون المقام ملتصقاً بالكعبة، حتى يستفيد منه إبراهيم ويرتقي عليه، لأنه إذا كان بعيداً لن يستفيد منه، لأن المقام وضع حتى يرقى إبراهيم عليه ويبني الكعبة.
وقصة المقام أنه حجر ارتقى عليه إبراهيم، حتى يكمل ما ارتفع من بناء الكعبة، والقبة الموجودة مستحدثة.
قال أبو طالب :
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل
الذي يهم المؤمن أن الإنسان في كل أحواله عبد لله، فلما ألان إبراهيم لله قلبه، ألان الله الصخر تحت قدميه.
ومقام إبراهيم جعله الله جل وعلا مكاناً للصلاة: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].
وقد ثبت في حديث حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت، ثم أتى المقام، وتلا قول الله جل وعلا: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].
وصلى خلف المقام مستقبلاً البيت صلوات الله وسلامه عليه.
فمن الخطأ أن يأتي أقوام ويحولوا بين الناس وبين الكعبة بالجلوس ينتظرون الصلاة.
وهذا نداء أيضاً للمسئولين في رئاسة الحرم، أن يهتموا بمسألة إقامة الدروس في صحن الكعبة، الحقيقة أن إقامة هذه الدروس لا شك في نفعها وخيرها، لكن ينبغي أن يقدم مصلحة الطائفين، لأننا نلحظ أن الدروس في العشر الأواخر من رمضان بالذات تؤذي الطائفين، بل تعيق الطائفين والحق الأول لهم، فإذا قدم الطائفون على المصلين فمن باب أولى أن يقدموا على من يستمعون الدرس.
الملقي: هل الأثر الموجود في الصخرة لم يمسه أي تغيير.
الشيخ: لقد تغير كثيراً، وقد نبه إلى هذا بعض الحفاظ من شراح الأحاديث، وقالوا: إن كثرة استلام الناس له، وتبركهم به على مر الأزمنة أذهب كثيراً من المعالم منه.
الملقي: يتوقع أن قدم إبراهيم عليه الصلاة السلام أكبر وأضخم؟
الشيخ: كان الناس ضخاماً وما زال الناس ينقصون إلى يومنا هذا.
وبعض الروايات تذكر أن بعض من لهم في القيافة رأى أثر قدمي إبراهيم في الصخر، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صبي يلعب، فقال: إن هذه الأقدام شبيهة جداً بالتي على مقام إبراهيم، وهذا يؤيده قول النبي عليه الصلاة السلام في رحلة المعراج: (فرأيت رجلاً ما رأيت أحداً أشبه بصاحبكم منه)، يقصد عظيم شبهه عليه الصلاة السلام لأبيه خليل الله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر