أسأل الله عز وجل أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت، وأن يجعلنا وإياكم ممن إذا استمع القول اتبع أحسنه.
في روضة من رياض المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي جلسة تصلنا بسيرته العطرة النيرة، معنا هذه الليلة حديث رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، فحيا الله البخاري وحيا الله مسلماً، الحديث عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه وأرضاه، قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له: ثم قام عليه الصلاة والسلام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال رجال أبعثهم لقبض الصدقات، فيأتي أحدهم، فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، أفلا كان جلس في بيت أبيه وأمه فيرى هل يهدى إليه أم لا؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده، لا يأخذ رجل مالاً بغير حق إلا أتى به يوم القيامة، ولأعرفن رجالاً -هذه رواية في
قال أبو حميد: رأى بصري وسمعت أذناي.
هذا الحديث في الصحيحين، ومجمل قصة الحديث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يبعث لأخذ صدقات الناس، يبعث عليه الصلاة والسلام رجالاً من أصحابه، ففي هذه المرة بعث هذا الرجل واعتمد عليه صلى الله عليه وسلم، ووثق بدينه وإخلاصه وأمانته، فذهب هذا الرجل فجمع الصدقات، والناس لهم مقاصد في الهدايا، بعضهم يهدي للرشوة، وبعضهم لأغراض يصل بها إلى غرضه، فأهدوا له فقبل الهدية، ولو كان لم يعينه صلى الله عليه وسلم عاملاً ما أهدي له أبداً، فما أتته الهدايا إلا من هذا الطريق.
فأتى فدخل المدينة بفرقتين وطائفتين من الغنم، فسأله صلى الله عليه وسلم: ما بالك قسمت الغنم؟ أو كما قال، قال: هذا لكم، أي: لبيت المال وللزكاة، وهذا لي، فغضب عليه الصلاة والسلام، وقال له كلمة حارة ساخنة: (أفلا جلست في بيت أبيك وأمك فترى هل يهدى لك أم لا؟) ثم قام صلى الله عليه وسلم، فأعلن بياناً عاماً لكل من يلي شيئاً من أمر المسلمين خاصاً أو عاماً، أن الله يحاسبه يوم القيامة.
وفي المسند من حديث عبد الله بن المغفل بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يأتي أميرٌ يوم القيامة إلا وهو مغلول، فإن أصاب في ولايته فك الله غله، وإن لم يصب تدهده على وجهه في النار) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
عنوان هذا الدرس: (أنقذ نفسك أيها المسكين) الذي تولى شيئاً من الولايات، أو من يسأله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن شيء من الأموال.
يوم رجع الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة من الغزوات، فنظر إلى قرى الأنصار وإلى قبائلهم، واستعرضهم في اللائحة، فانتظر، فقال عليه الصلاة والسلام: (خير دور الأنصار بنو النجار) وهم أخواله أو أخوال أبيه عليه الصلاة والسلام، ومنهم أنس بن مالك، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارثة، ثم بنو ساعدة، وبنو ساعدة سيدهم سعد بن عبادة الكريم الغطريف الشجاع الجحجاح، فسمع بهذه المقالة فغاضه؛ لأنه قوي الهمة كيف يوضع في المرتبة الرابعة؟ فحرك ناقته واقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام, قال: يا رسول الله! فضلت علينا الناس، قال: (أفلا يكفيك أن تكون من الخيار؟) لأن الأنصار ما يقارب عشر قبائل أو أكثر، لم يذكر عليه الصلاة والسلام إلا أربعاً، قال صلى الله عليه وسلم: (أفلا يكفيك يا
ولو أنه تأخر في المرتبة، لكن هذا أمر الله قضاؤه وقدره، أما الأزد فهم أزد شنوءة الذين منهم ابن اللتبية صاحبنا هذه الليلة.
ونحن -للعلم- قبائل الجنوب أزديون حتى الموت، من قبائل الأزد، ومنه ابن اللتبية عبد الله، قدم على الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلم، فأرسله صلى الله عليه وسلم في هذه المهمة فأتى بهذا الخبر، وحديث وفد الأزد حديث ضعيف ولو أنه في فضائل الأعمال.
قدم وفدهم سبعة فرآهم صلى الله عليه وسلم عليهم من الأبهة والجلالة والمهابة ما يلحق بمستوى الرجال العظماء، فتكلموا فكانوا أحسن وأحسن، فقال عليه الصلاة والسلام فيما يروى عنه: (حكماء، فقهاء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء).
أما بني سليم فهم قبيلة عربية تسكن ساحل البحر الأحمر، وهم يجاورون جهينة وأشجع وأسد وتلك النواحي، وفيهم فضل كبير وخير كثير، لكنهم أسلموا متأخرين، ولذلك لم يجعلهم الله عز وجل كالمتقدمين، والمتقدم دائماً هو الذي يعرف له الفضل، يقول الهذلي:
ولو قبل مبكاها بكيت صبابةً لكنت شفيت النفس قبل التندم |
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا بكاها فقلت الفضل للمتقدم |
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى فيهم: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14].
أتوا إلى المدينة، فقالوا: يا رسول الله! آمنا، الناس حاربوك إلا نحن ما حاربناك أهذه منة؟ المنة لله ولرسوله، يمتنون على الرسول صلى الله عليه وسلم، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات:17].
من الذي له الفضل؟ ومن الذي له الكرم؟ ومن الذي له العطاء إلا الله، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات:17] وأنت هديتهم إلى طريق الإسلام، وأنت الذي قدتهم إلى دار السلام، وبينت لهم الكرامة والإكرام!! فأتوا كأن لهم الفضل عليك! لا والله. الفضل لله ثم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] فالمنة لله ثم لرسوله صلى الله عليه وسلم.
المسألة الأولى: عظم مسئولية الإمارة وخطورتها، وأنها حمل ثقيل، وأن الله عز وجل يسأل الناس وخاصة من تولى الولاية يوم القيامة في موقف عصيب، نسأل الله أن ينجينا وإياكم من كل خطورته.
المسألة الثانية: أخذ الصدقات من الناس، ولا تترك في أيدهم، فإنها لو تركت تلاعبوا بها.
المسألة الثالثة: محاسبة العمال، واستقصاء أخبارهم وطلب أعلامهم، ليكون الإمام وثيقاً في صلته بعماله، وسنورد قصصاً في ذلك.
المسألة الرابعة: هدايا العمال، هل يقبل العامل أو الأمير أو المسئول أو رئيس الدائرة، هل يقبل هدية من الرعية ومن الناس؟
المسألة الخامسة: التعميم في الدعوة بلا تشهير، وبلا تجريح، وبلا ذكر أسماء.
المسألة السادسة: إقامة الخطب للحاجة، ونفض القلوب وتوعيتها للتبصر بطريقها إلى الله تبارك وتعالى.
المسألة السابعة: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أمَّا بَعْد) في خطبته.
المسألة الثامنة: الهدية وما ورد فيها.
تصور قوله: إلا أتى به يوم القيامة! فمن يأتيك بالمال الذي في الدنيا؟ ومن يأتيك ببقر وغنم الدنيا؟ لكن يأتي بها الله ويصورها على أكتاف الناس.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: {فلأعرفن} جاءت اللام للقسم، وقيل: {فلا أعرفن} للنفي وهي الأصح.
قال: {فلا أعرفن} كأنه يقول: أرجوكم لا تحرجونني يوم العرض الأكبر عند الله، لا تخيبوا الأمة المحمدية بالخيانة، لا تفضحوا الأمة على رءوس الأشهاد.
يقول: {فلا أعرفن} أي: لا أرى هذا المشهد، {لا أعرفن رجالاً يأتون وعلى كتف أحدهم بعير له رغاء}... الحديث.
من سرق أو غل أو خان في الدنيا ببعير، حمله على أكتافه يوم العرض الأكبر, صحت بذلك الأحاديث، ويأتي البعير لا يأتي وهو ساكت، يأتي وله رغاء في الموقف والناس يشهدون، نسأل الله العافية والسلامة.
لأن ذلك موقف المنائح أو الفضائح، إما إنسان سدد واتقى الله في المال، وخاف في الولاية أو المسئولية فهو ممنوح ومشروح، أو إنسان سلم منها سلامة مطلقة، فأتى الله وهو أبيض نقياً.
إما إنسان مفضوح يوم العرض الأكبر، فيأتي وليس البعير ساكتاً ولكن للبعير حمحمة ورغو وزبد، يرغو حتى يسمعه الناس، ليعلموا فضيحة هذا الرجل.
في الدنيا تستر عن جيرانه، وتستر عن زوجته في بيته وعن أطفاله، لكن الذي يعلم السر وأخفى هو أعلم بأنه خان وبأنه غل، ولذلك فإن الغادر يأتي بلواء منصوب مكتوب عليه: هذه غدرة فلان بن فلان، ولا حسرة, ولا ندامة, ولا كسف, ولا كسحة, إلا في ذلك اليوم.
الدنيا همها سهل وبسيط، وهي نسبية (ستون سنة أو سبعون) وينقضي فيها ومن فيها، لكن على رءوس الأشهاد يوم العرض الأكبر {أو بقرة لها خوار} يأتي والبقرة محملة على ظهره تخور أمام الناس، لتخبر أنه خان في مال الله عز وجل، الذي استرعاه الله فيه، ولذلك ما بلغ الصحابة إلى هذا الزهد والتقشف والاحتماء من أموال الناس هذه المنزلة، إلا بسبب هذه الأحاديث وأمثالها.
ولما تولى عمر الخلافة ما أخذ قليلاً ولا كثيراً حتى يقول على المنبر: [[والله الذي لا إله إلا هو، ما أخذت من مالكم شيئاً إلا بردتين (ثوبين) ثوب في الصيف وثوب في الشتاء]] وعين له راتباً كان يقوم بأحواله كفافاً، فإذا بقي دقيق، أو شيء من زبيب أو سمن رده إلى بيت المال.
لما اشتهت زوجه الحلوى قال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها |
حسبي وحسب القوافي حين أرويها أني إلى ساحة الفاروق أهديها |
يا رب هب لي بياناً أستعين به على حقوق العلا قد نام راعيها |
قل للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها |
هذا هو التاريخ المشرق، هذا هو الرجل القرآني الفذ الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوف يمر بنا على الطريق مع علي وأبي ذر وأبي أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] وسوف نستمع إلى أخبارهم في الإمارة.
{أو شاة تيعر} أو يأتي هذا الرجل الخائن الذي خان في شاة عليه الشاة، وفي حديث أبي ذر وأبي هريرة اللذين هما في الصحيحين {أن من غل ذهباً صفحت له صفائح فأحرق بها} وهذا شاهده في القرآن، وهو الذي يكنز ويغل ويخون وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35].
يا خونة! هذا كنزكم، يا خونة! هذا ميراثكم، يا خونة! هذا مالكم في الدنيا.
فالله الله أن يراقب الإنسان نفسه مع الله، ولا يستصغر أي مسئولية، قال صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} درهم واحد، ريال واحد، شيء من حب، شيء من زبيب، شيء من ثياب، إنها مسئولية أمام علام الغيوب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94].
يقول عليه الصلاة والسلام: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه} هذا الحديث صحيح، فمن رفق ورحم رحمه الله، ومن شق عليهم وأخذ أموالهم وأتعسهم أتعسه الله في الدنيا والآخرة، وفي حديث لكن في سنده نظر: {الناس عيال الله أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله} وقد ضعفه كثير من العلماء ولو أن معناه صحيح.
لما عرف الصحابة تيقنوا أن الإمرة لا تصلح أبداً، وأنهم إذا أقدموا على الإمرة أقدموا على النار، فكانوا يستعفون الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول لأحدهم: اذهب يا فلان، يقول: اعفني يا رسول الله من الإمرة.
قام عليه الصلاة والسلام في الناس خطيباً في المسجد، فقال: {والذي نفسي بيده، لا نولي أحداً منكم على عمل فينقصنا ولو مخيطاً أو شعرة إلا أتى بها يوم القيامة، فقام رجل أسمر من الأنصار، فقال: يا رسول الله! خذ عملك والله لا أتول لك عمل، قال: ولم؟ قال: سمعتك تقول: كيت وكيت، فرفع عليه الصلاة والسلام أصبعه وقال: والذي نفسي بيده، لقد قلته، والذي نفسي بيده، إني أقوله الآن، أن من تولى عملاً فنقصنا مخيطاً أو شعرة ليأتين به يوم القيامة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فأحجموا جميعاً.
حتى يقول عمر: [[ما أحببت الإمرة في الإسلام إلا مرة واحدة]] ما هي يا أبا حفص هذه المرة؟!
ما هي هذه الليلة التي أحببت فيها الإمرة وأنت لا تحب إلا الآخرة؟
يقول: ما أحببت المنصب والتولي إلا مرة واحدة! اسمع يا هذا إلى الصادق، الصادق مع الله، والصادق مع القرآن، والصادق مع نفسه وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] يقول -وهو حديث أسوقه من رواية ابن عباس، قال- {أرسل صلى الله عليه وسلم لفتح خيبر أبا بكر فلم يفتح عليه، ثم أرسل عمر فلم يفتح عليه، فاهتم الناس وباتوا يدوخون ليلتهم كيف تفتح خيبر؟ تحصن بها اليهود حتى تعرضت لجيش المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأراد صلى الله عليه وسلم أن يقتحمها اقتحاماً، لكن أراد أن يفتحها أولاً بجيش وكتيبة، لكن في الليلة الثالثة صمم عليه الصلاة والسلام على اقتحامها بكرة النهار، وأحرق شيئاً من النخل والمزارع} حتى يقول حسان وهو يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم في قصيدة عسكرية رائعة، ويذم اليهود:
وهان على سراة بني لؤي حريق بـالبويرة مستطير |
يقول: الأمر سهل، انظروا بني لؤي -أي: أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم- ماذا فعلوا بكم يا إخوان القردة والخنازير؟ فأتوا تلك الليلة وناموا وهم في هم لا يعلمه إلا الله، تحصنت خيبر، والرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة قلت نفقتهم، وذهب طعامهم وشرابهم، وأتاهم أمر عظيم، فقال صلى الله عليه وسلم، بعد صلاة العشاء، في ليلة دامسة بطيئة النجوم، لكنها طيبة متفائلة بإذن الله: {لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله}.
ما أحسن هذا الرجل! فمن هو هذا الرجل؟! هو أبو الحسن علي بن أبي طالب.
يقول محمد إقبال:
أما أبوها فهو أكرم مرسل جبريل بالتوحيد قد رباها |
وعلي سيف لا تسل عنه سوى سيفٍ غدا بيمينه تياها |
يقصد فاطمة.
فقال عمر: [[فأحببت الإمرة تلك الليلة]] يريد أن يكون هو، لا والله ليس للإمرة، ولا للفخر، ولا للشهرة، ولا للرياء والسمعة، ولكن لعله أن يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فكلهم ما أتاهم النوم، خاصة كبار الصحابة, الأسماء اللامعة، النجوم التي تأتي دائماً في المقدمة ما أتاهم النوم، يريدون هذه المواصفات، وبعد صلاة الفجر النبي صلى عليه الصلاة والسلام بالناس، وعلي شاب فقير عليه كساء مخمل أتاه من البرد وكان أرمد تلك الليلة ما يرى مد يده أبداً.
قادوه إلى الصلاة وهو في طرف الناس، ما طلب الإمرة ولا سعى لها ولا حرص عليها، قال عليه الصلاة والسلام: {لأعطين الراية رجلاً يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله يفتح الله عليه}.
أين علي بن أبي طالب؟
قال الصحابة: يا رسول الله! مريض ما بات البارحة، ولا يبصر شيئاً أبداً، فذهبوا إلى أبي الحسن رجل المواقف المشهودة في الإسلام فأخذوه، ولذلك يقول وهو يبكي لما مرَّ بسورة الحج: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:48] قال: [[أنا أول من يجثو عند الرحمن يوم القيامة للخصومة على ركبي يوم أتحاكم أنا ومن بارزني في بدر]].
يقول: أنا أول من يجلس على العرصات في القيامة للخصومة يوم أتحاكم أنا ومن بارزني في بدر؛ لأنه بارزه رجل من الكفار، وبارز هو رجلاً, كانوا ثلاثة من المسلمين وثلاثة من الكفار، فسوف يحكم الله بين الثلاثة والثلاثة.
والقضية معروفة، الحق معروف والباطل معروف، لكن الله ليس بظلام للعبيد، يأتي بالثلاثة المبارزين من حزب الحق مع الثلاثة من حزب الضلال والغي، فيقول: لماذا تختصمون؟ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19].
فـعلي -رجل المواقف أتى يقودونه بيده- حتى وقف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: {خذ الراية} والرسول صلى الله عليه وسلم يتبسم، قال: [[يا رسول الله! والله ما أبصر شيئاً حتى مد يدي]] أرمد العينين، فقرب منه صلى الله عليه وسلم فتفل في عينيه، فإذا هو يرى كرؤية قلبه إلى الحق ما كأن به قلبة واحدة، فأخذ الراية بيده، قال: ماذا أفعل؟ -يتلقى التعليمات- ماذا أفعل يا رسول الله؟ أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، وعلي رضي الله عنه وأرضاه الرجل الذي يضرب هامات الملاحدة والطغاة في سبيل الله. علي يجزر الكفار جزراً، قال صلى الله عليه وسلم: {يا
قال أحد الصحابة وأظنه بريدة بن حصيب: [[والله إنا كنا نهرول معه هرولة]] أي: يهرولون، كان شاباً متيناً قوياً، ولو أنه فقير لكن كان بطيناً، حتى أورد عنه في السيرة أن أحد الخوارج، قال: نراك زاهداً وأنت بطين، كبير البطن، قال: [[أما أعلاه فعلمٌ، وأما أسفله فنعمة من نعم الله]].
فأخذ يثب ويثب معه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كالأسود، فأتى يناديهم: انزلوا يا أعداء الله! انزلوا لموعود الله! عرض عليهم الإسلام فلم يقبلوه، ثم نزل له مرحب في القصة التي مرت بنا كثيراً، فقتله علي وفتح الله على يديه، قال عمر: [[فما أحببت الإمرة إلا ذاك اليوم]].
أما غيرها فكان يتملص من كل جهة لا يريدها، حتى يوم تولَّى الخلافة في أول يوم وقت البريقات والتشريفات والهناء والترحاب قام يبكي على المنبر حتى ما استطاع أن يتكلم.
عمر رضي الله عنه أورد عنه ابن جرير أنه ما استطاع أن يتكلم أبداً، ثم قال في اليوم الثاني: [[اللهم إني بخيل فاجعلني كريماً لأوليائك، اللهم إني شديد فاجعلني رحيماً بأوليائك]] إلى آخر خطبته الصادقة رضي الله عنه وأرضاه.
أتى العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم ورأى أن له حقاً في تولي الإمرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يولي الناس، لا ينظر إلى نسب، ولا ينظر إلى أسرة، ولا ينظر إلى قبيلة بل ينظر إلى أتقاهم وأقربهم إلى الله وإلى رسوله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] حتى ورد في المسند أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: {لو كان
وسالم هذا يقول في اليمامة: [[بئس حامل القرآن أنا إذا انهزم المسلمون اليوم أو أوتي المسلمون من قبلي]] حضر اليمامة فاغتسل وتكفن، وكان يحفظ القرآن، وأخذ العلم وحفر لأقدامه إلى ركبه في الأرض، وقال: [[والله لا أتزحزح وقبري هنا]] فأتت كتائب مسيلمة، ووقف يقاتل ويقاتل حتى قتل في سبيل الله، فهذا هو سالم الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم ذلك.
فـالعباس أتى وقال: يا رسول الله! وليت فلاناً، ووليت فلاناً أريد أن توليني ولاية، لأن المتولي يكسب، يكسب أولاً أناساً يخافونه، ويرهبونه، ويحترمونه، ويقدرونه، حتى أقل دائرة من الدوائر إذا كان رئيسها على ظهر المنصب وفي المنصب وجد تقديراً من الناس، لأن تقدير الناس في الغالب على الدنيا، لكن إذا عزل أصبح في طرف المجلس.
وقبل ذلك يعانقونه وينادونه ويقولون: يا أبا سعيد، ويا أبا علي، ويا أبا عبد اللطيف, حياك الله وبياك، يا حسنة الدهر ويا بركة الزمان، لكن إذا انتهى، انتهى ودادهم معه.
وكم في الحفل أبهى من عروس ولكن للعروس الدهر ساعد |
في قصيدة طويلة يقولها أحد الأدباء من الشافعية، معنى كلامه: أن هذه الدنيا تقاس بالرتب، لكن إذا انتهت رتب الدنيا فلا ينتهي الدين، ولذلك كان ميزان الصحابة تقوى الله عز وجل، فقال: يا رسول الله! ولني ولاية، قال: {يا
يقول: تريد النجاة من النار؟! تريد النجاة من العار؟! تريد النجاة من الحساب والعذاب والنكال؟! نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها.
بالله ماذا ينفع الإنسان يوم القيامة، وقد تولى إمرة الدنيا جميعاً، ثم لم يعدل ولم ينصف ولم يتق الله ثم خسر نفسه؟ والخاسر الخاسر من خسر نفسه، قال: {نفس تنجيها ولا إمارة تحصيها} فأخذها رضي الله عنه وأرضاه وصية من المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكن أبا ذر لزهده رضي الله عنه وأرضاه كان صريحاً، حتى يقول بعض العلماء: رُبي في الصحراء؛ فهو صريح كالصحراء، وعاش في الصحراء؛ فهو صادق كالصحراء، {أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! وليت فلاناً، ووليت فلاناً، ووليت فلاناً، فلماذا لم تولني؟ قال: يا
هذه الإمرة يقول صلى الله عليه وسلم: أحب لك من الخير ما أحب لنفسي، وأنصح لك لأني أحبك ما أنصح لنفسي، فلا أنصحك أن تتولى أبداً، ثم قال له: إنك ضعيف، قالوا: ضعيف الرأي، ولا يدل ضعف الرأي على ضعف الفضل، بعض الناس من أولياء الله الأبرار قصره في الجنة كالربابة البيضاء، بعض الناس من أفضل الناس الذين يمشون على الأرض، لكن لا يعرف البيع ولا الشراء ولا يخادع، ولا يماكس، لكنه صادق، طيب القلب، وفيه طيبة وقرب وسهولة، ليس عنده تصريف ولا تحريف، لكنه يقوم بشئون دينه، فهذا من الفضلاء الكبراء.
لكن بعضهم يجمع مع الدهاء والقوة في الدين والعمق قوة في الدنيا كـعمر بن الخطاب، هذا رجل الدنيا والآخرة، إن أتيت في طريق الجنة وجدته من السابقين، وفي طريق الدنيا يقول: [[لست بالخب ولا الخب يخدعني]] يقول: أنا لست خباً، لكن ما يخدعني أحد، فنصح صلى الله عليه وسلم أبا ذر، وقال: { نعمت المرضعة وبئست الفاطمة } أول ولاية المنصب والمسئولية والإدارة أو غيرها بشرى للناس وللأهل والأقارب، ويوم العزل يوم مأتم، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة، هذا أمر.
ثم أتى أبي بن كعب رضي الله عنه سيد القراء إلى عمر، فقال: يا عمر! كيف تولي الناس وتتركني؟
قال عمر: [[والله يا أبا المنذر! إني أحبك كحبي لنفسي، ولكن ما تركتك من الإمرة لئلا أدنس إيمانك]] فبقي وأخذها نصيحة من عمر، فلم يتول ولاية حتى لقي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
هذه هي طائفة من بعض قصص الصحابة يوم أحجموا عن هذه الأمور، ولذلك كانوا يقفون أمام عمر فيوليهم، فيقول أحدهم: لا، لا أريد ذلك.
يأتي بـأبي عبيدة فيوليه إمرة الجيوش فيتملص ويحاول أن يتخلص، فيرغمه عمر رضي الله عنه، يأتي بـسعيد بن عامر قال: والله لا أتولى، قال: [[والله لا تضعون الخلافة في عنقي ثم تذهبون وتتركونني]] فولاه غصباً.
وهذا منهج السلف الصالح وصل حتى القرن الرابع والخامس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أتوا بـأبي حنيفة ليولونه القضاء، فقال: أنا لا أصلح للقضاء، قال الخليفة له: كاذب أنت تصلح للقضاء، قال: مادام أني كاذب فلا أصلح للقضاء فتركه من القضاء، وأُتي به في المرة الثانية، وقال: أنا لا أصلح للقضاء، قال: تصلح، قال: ما أستطيع، فحاولوا معه وحاولوا، ثم جلدوه ثمانين جلدة وأعفوه من القضاء.
وورد أن الإمام مالك حاولوا معه بكل الوسائل فرفض، وأتوا كذلك بـإسماعيل بن إبراهيم بن علية فولوه القضاء، فذهب ابن المبارك فكتب له: ويلك من الله! إن في الحديث القضاة ثلاثة, اثنان في النار وواحد في الجنة، فانظر أن تكون من الاثنين، فكتب لـابن المبارك ما فهمت ما تقول.
أبى هذا إلا أن نقشر له العصا، فكتب له قصيدة؛ لأنه ما فهم بالنثر فيفهم بالشعر، قال:
يا جاعل العلم له بازياً يصطاد أموال المساكين |
أين رواياتك فيما مضى عن ابن عون وابن سيرين |
إن قلت أخطأت فقل لي إذاً زل حمار الشيخ في الطين |
فذهبت قصيدة طويلة، وكان ابن المبارك من أشعر الشعراء، وشعره من أجمل ما يقال! فذهب فلما قرأ القصيدة عرف، فبكى حتى بل الورقة، ثم دخل على هارون الرشيد، قال: شبتُ يا أمير المؤمنين! اعزلني، فعزله، قال: عرفت من ضلَّلك يـابن علية! قال: من هو؟ قال: ابن المبارك؛ لأنه ينصحهم ابن المبارك ولا يريد لإخوانه أن يتعرضوا على نار تلظى، النصيحة في الدنيا وليست في الآخرة، وابن المبارك لم يتول أبداً، وكذا الإمام أحمد وابن تيمية.
مسألة:
لكن هنا مسألة، أن يبقى هذا المنصب والدائرة والمكان بحاجة لك، وأنت -إن شاء الله- من أصلح الموجودين فلا تتأخر، قال يوسف عليه السلام: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55] فيوسف رأى أن الأمور تنتهي، وأن الكفار يتولونها فتقدم لأخذها.
وقد عزل عمر رضي الله عنه أبا هريرة من البحرين، لماذا؟
لأن قدامة بن مضعون أحد الصحابة رضي الله عنه وأرضاه من أهل بدر، يظن أن الخمر ليست محرمة: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:93].
قال: إنه ما دام أنه لا جناح علينا فيما طعمنا وشربنا فشرب الخمر، فأُتي به إلى عمر، وكان هو صهر عمر، أخت عمر عند هذا، ولكن عمر لا يعرف في الحق لومة لائم، بل على نفسه التي بين جنبه، فقال للصحابة وجمعهم ماذا ترون؟
قالوا: هو مريض، قال علي: [[نرى يا أمير المؤمنين أن تتركه حتى يتشافى، قال: لا والله؛ لأن يلقى الله وهو مطهر بالحد خير من أن يموت وما طهرته]].
فذهبوا إليه فسألوه، قال: الخمر ليست محرمة؛ لأن الله يقول: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة:93] فاستشار الصحابة، قال علي بن أبي طالب: إن كان أصر على رأيه فيقتل بالسيف، وإن لم يكن فيجلد جلداً، فسألوه، فرأوا أنه متأول فجلدوه, وهو من الأخيار الأبرار الذين أخطئوا، والإجماع منعقد كتاباً وسنة ونقلاً على أن الخمر حرام، وأن من شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة، لكن هذا الرجل له عذر ولم يصله بلاغ من الله، وقد قدم دمه في خدمة الإسلام رضي الله عنه وأرضاه.
فعزل أبا هريرة لأنه أدلى بشهادته، لكن بصورة تختلف عما يطلب منه عمر، ثم أتى عمر واحتاج لـأبي هريرة، قال: تولّ، قال: والله ما أتول، قال: ولم؟ قال: أخاف ثلاثة واثنتين، قال: قل خمساً، قال: لا. أخاف ثلاثة واثنتين، قال: ما هي الثلاث والاثنتين؟ قال: [[أخاف أن يجلد ظهري، ويؤخذ مالي، ويسفك عرضي، وأخاف في الآخرة أن أُوتى مغلولاً، وأن أرد على وجهي في النار، قال عمر: يا بن أم أبا هريرة! أنت خير أم يوسف الذي يقول: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55] قال: يوسف كريم ابن كريم ابن كريم، وأنا ضعيف ابن ضعيف ابن ضعيف]] أو كما قال، وهو صادق رضي الله عنه.
فمن وجد في نفسه قوة كما أفتى في ذلك أهل العلم، حتى ابن تيمية في باب القضاء: يقول: إذا تركت القضاء عند المسلمين، ورأيت أمور المسلمين تضيع، ويتولاها كل فاجر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، يريد المال من أي جهة، ثم يستعبد عباد الله ويجعلهم خولاً، فهذا يستثنى في هذه الصورة، إذا رأى الإنسان من نفسه قوة، وعلم أنه سوف يتقي الله عز وجل.
فأرسله صلى الله عليه وسلم ليقبض الصدقات ولم يتركها للناس، فكان من أبر الناس, ومعاذ رضي الله عنه لم يتدنس من مالهم بشيء.
وممن أرسلهم صلى الله عليه وسلم لجمع الصدقات من الناس عمر بن الخطاب، فمر بالناس جميعاً، وأتى -وهذا الحديث صحيح- وقال: {يا رسول الله! كل الناس دفعوا لي الصدقة إلا ثلاثة، قال: منهم؟ قال: عمك
قال صلى الله عليه وسلم: {وأما
يقول: شيء أوقفه في سبيل الله تطلب منه الصدقة، خالد كان له مائة فرس، ومائة سيف، ومائة درع في بعض الروايات، قال: هي وقف في سبيل الله.
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذله |
هو البحر من أي النواحي أتيته فدرته المعروف والجود ساحله |
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله |
{وأما
هذا في ابن جميل وأمثاله، والشاهد: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرسل أصحابه، لكن يرسل الأمناء، فيرسل أهل الأمانة، والاستقامة، أرسل للنصارى أبا عبيدة، وقال: {لأرسلن معكم أميناً جد أمين}.
ويشترط في من يتولى الأموال على الزكوات والصدقات والتبرعات وهذه الأمور، أن يكون عنده قوة وأمانة.
القوة العقلية: يكون مصرفاً، مقدماً، محرفاً، مزيلاً، محيلاً.
والأمانة أن يكون أميناً، ولذلك تقول ابنة الرجل الصالح, قيل: شعيب أو غيره: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص:26] فأمانة بلا قوة ضعف، وقوة بلا أمانة فجور، والقوي والأحسن والأطيب، أن يكون قوياً أميناً.
فأرسل صلى الله عليه سلم مع وفد نجران أبا عبيدة، وقال: {لأرسلن معكم أميناً جد أمين} والرسول عليه الصلاة والسلام أرسل عبد الله بن رواحة يشاطرهم النخل، ويخرس نخل اليهود، فوصل إلى اليهود -وانظر إلى إخوان القردة والخنازير، الذي يربى على الخساسة يموت على الخساسة، والذي يعرف الدساسة يموت على الدساسة والنجاسة والانحراف والعياذ بالله- أتوا فجمعوا لـابن رواحة أموالاً، لماذا؟ رشوة، سبحان الله! ما وجدتم إلا عبد الله بن رواحة الذي ينتظر الموت صباح مساء في سبيل الله، ما يريد الدنيا إلا لمرضاة الله، أما وجدتم إلا صحابياً من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أحسن من مشى على الأرض.
فأتوا وقالوا: يا ابن رواحة! خذ هذا المال، وراعنا في الخرص، فاحمرّ وجهه حتى أخذ ينتفض، ثم قال: [[يا إخوان القردة والخنازير! والله الذي لا إله إلا هو، إنكم أبغض عندي من أمثالكم، ومن عدّتكم من القردة والخنازير، وإن هذا لا يمنعني أو لا يحملني على الحيف -أي: على ظلمكم- والله لا أظلمكم ولا آخذ هذا قيد أنملة]].
قالوا: بهذا العدل قامت السماوات والأرض، وعاد ابن رواحة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما علم الله أمانة ابن رواحة وصدقه رزقه الشهادة في سبيله.
ولذلك ثبت في الصحيح، أنه اتكأ في حجر امرأته - كان ابن رواحة من الشجعان الكبار من الأنصار، وكان شاعراً مجيداً يشعر في المعمعة- يقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنه |
لتنزلن أو لتكرهنه |
إن أقبل الناس وشدوا الرنة |
ما لي أراك تكرهين الجنة |
هل أنت إلا نطفة في شنة |
جلس ابن رواحة يقرأ القرآن في حجر امرأته، وأخذ يبكي ودموعه تسيل على لحيته، قالت: مالك؟ قال: ذكرت قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72] فأخاف أن أترك وأطرح في النار ثم لا ينظر إلي.
فلما أخبر صلى الله عليه وسلم في بعض الآثار، قال: {لينجه الله عز وجل} كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:61] فنجاه الله بمفازته من الإيمان، حتى رأى صلى الله عليه وسلم سريره من ذهب يعترض في جو وسماء المدينة ليدخل الجنة، وقتل في مؤتة في أرض الأردن هناك حيث يعرفهم الله عز وجل.
عدو القتلى لـعمر في معركة بها شهداء، فقالوا: فلان بن فلان قتل، وفلان وفلان ولا نعرف كثيراً، فدمعت عين عمر، وقال: [[ولكن الله يعرفهم]] يعرفهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يعرف أين ولدوا، ويعرف كيف نشأوا، ويعرف الصادق من الكاذب، ويعرف المقبل من المدبر، فهو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى العالم بكل شيء.
هذا ابن رواحة رضي الله عنه الذي عرضوا له المال؛ لأنهم قردة وخنازير، يقدمون له رشوة، ولا يعلمون أن قلبه أكبر من الرشوة، لأن قلبه عظيم، يحب الله ورسوله فلا يحب الدنيا أبداً.
خذوا كل دنياكم واتركوا قلبي حراً طليقاً غريبا |
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا |
أرسله ثم لما أتى اعترضه، وقال: أين المال؟ أين الزكاة؟ فأخبره هذا, ولكنه فصل جزءاً من الزكاة لوحده، وقال: هذا لي، فغضب عليه الصلاة والسلام وأعلن تذمره صلى الله عليه وسلم من هذا التصرف، ثم تكلم عليه الصلاة والسلام بالكلام الذي سمعتم، فيؤخذ منه المحاسبة، وعدم ترك الأمور تذهب هكذا...!
ويقاس على ذلك: من كان مسئولاً في كلية، أو مدرسة، أو معهد، أو ثانوية، أو دائرة حكومية، أو مصلحة، أو شركة، أو مؤسسة، أن يتفقد دائماً من تحت يده بالحساب، وبالجلسة، وبالاستقراء من أخبارهم، ومتابعة دوامهم، وحضورهم، وذهابهم، وأدائهم للدروس، وتحضيرهم للمحاضرات والحصص فإن الله سوف يسأله عن رعيته، وعن أساتذته، وعمّن تحت يده، هذا هو أمر الإسلام في هذا.
عمر رضي الله عنه وأرضاه يحاسب عماله، إذا لم يحاسب عمر عماله فمن يحاسب عماله؟!
هو يحاسب نفسه قبل أن يحاسب الناس، ويحاسب زوجته في البيت وأبناءه، يأتي يوم عرفة في الحج الأكبر، فإذا حميت الشمس واجتمع الناس دعا عماله وصفهم بجانبه من ميمنته وميسرته، والي العراق، ووالياليمن، ووالي مصر، وواليالشام، كل الولاة في الأقاليم يجمعهم، ثم ينادي بالحجاج يا أيها الحجاج: هذا والي مصر -مثلاً- عمرو بن العاص تعالوا حاكموه، فيأتي كل أحد يتكلم بين يديه، هذا وهذا، فيحكم بينهم في يوم الحكومة الكبرى، يوم حقوق الإنسان، يوم أداء المظالم، يوم يتجلى الله للناس سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
حتى يأتي مصري، فيأتي بابنه، فيقول: مالك؟ قال: ابن هذا -أي: ابن الأمير عمرو - ضرب ابني، قال: ولم؟
قال: ابنه محمد سابق ابني فسبقه ابني على الفرس، فقال: أتسبقني وأنا ابن الأكرمين؟ فضربه، فقال عمر لـعمرو: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟]] متى بدأ هذا البيان عندكم ونحن في الإسلام أعرف بالإسلام؟ فأخذه وأخذ ابنه، وقال للصحابة: [[لا يحول بيني وبينهم أحد فأخذ يضربهم بالدرة]] وعمرو يقول: [[الله الله في نفسي يا أمير المؤمنين]] فأدبهما رضي الله عنه وأرضاه حتى رضي المصري.
يقول حارث بن زياد فلما دخلت نظر إلي عمر وسأل عن أخباري، قال: فسددت والحمد لله -أي: في الكلام- هو مسدد أمام داهية الدنيا، أمام إنسان أعطاه الله من الفطنة والذكاء, فجعله ملهماً تنطق السكينة على لسانه، يقول ابن عمر: [[كنا نتحدث: أن السكينة تنطق على لسان عمر رضي الله عنه وأرضاه]].
ويقول علي: [[لقد كفنت سعادة الإسلام في أكفان عمر رضي الله عنه]].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {إن يكن أناس محدثون بعدي وملهمون فإنه
فأخذ يسأله، قال: فلما أردت أن أقوم؟ قلت: -قال حارث بن زياد: وليتني تركت هذه الكلمة- عندما نظرت إلى عمر وعليه ثياب ممزقة ومرقعة، وهو يأكل خبز الشعير في ملح وزيت، فقلت: يا أمير المؤمنين! غيرك أولى بهذا، تكون بملبس رضي، ومطعم شهي، ومركب وطي، قال: فدخل؛ فأخذ خشبة؛ فضربني على رأسي، قال: [[ثكلتك أمك، والله إني كنت أظن أنك خير من ذلك، اذهب والله لا تلي لي ولاية]].
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، العدل والتولية عنده كشرب الماء، كله رضى لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لا يفعل شيئاً إلا إرضاءً لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو مسدد.
ولذلك كانوا يتحذرون منه دائماً وأبداً لأنه شديد الرأي، وسخره الله عز وجل في تلك الفترة ليحفظ به الإسلام، وقوة الإسلام وعمقه، هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
ومثل هذا علي بن أبي طالب، ثبت في البداية والنهاية من حديثه رضي الله عنه وأرضاه، أنه لما جمع الصدقات في الكوفة، أخذ بيت المال فوزعه، ثم غسله، ثم صلى ركعتين، ثم استقبل القبلة، قال: [[اللهم اعلم واشهد أني ما أخذت لأهلي حبة ولا درهماً ولا ديناراً ولا زبيبةً خوفاً منك]].
ثم يأتي عمر بن عبد العزيز المجدد، فيحاسب عماله، تولى الإمرة، وأول ما أخذ الخلافة أتى بكيس معه، وأتى بـمزاحم مولاه -هذا مزاحم يأتي ومعه السيف دائماً ومعه مقص- وأتى بكيس، وجلس على المنبر، وناظر الناس جميعاً، والأمراء من بني أمية في الصف الأول، والوزراء والعلماء والناس، يتولى أمر الأمة الإسلامية من سمرقند إلى أسبانيا، ومن تركستان إلى جنوب أفريقيا، فجلس على المنبر، وقال لـمزاحم: اُخرج عليّ الصك الأول، فخرج فقرأ صكاً للعباس بن الوليد بن عبد الملك، أنه أخذ أرضاً في حمص ليست له ولا لأبيه ولا لأمه، فلما قرأ عليه قصَّه من أوله إلى آخره ورمى به، فقام العباس من هناك، وقال: والله لا تفعل، ولا تستطيع أنت ولا أبوك ولا أمك -يقول لـعمر بن عبد العزيز - قال: عليَّ برأسه يا مزاحم! أعطني رأسه واترك الجثة، فسل سيفه، قال العباس: لا. سمعاً وطاعة، فتركه، مادام أن الأمر سيصل إلى هذه الدرجة فلا لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6].
يظن الأمر هيناً، يقبل التفاوض، لكن مادام أن هناك سيفاً فلا أستطيع، هذا العباس بن الوليد وقصته عند ابن كثير، وهي أكثر ما أخذت عن عمر بن عبد العزيز حتى نغصوا عليه، وسمموه في أكله، فمات مسموماً، لكن شهيداً إن شاء الله، وترك الدنيا لأهل الدنيا، ولكن سوف يلقى الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
الهدية التي تقدم للعامل أو للوالي أو للمسئول من أحد الناس الذين يتمصلحون غلول، لا يقول: هدية بل هي رشوة، لولا أنه في منصبه، ولولا أن عنده شيء ما له هدية، يأتي إليه يريد أن يأخذ منه أمراً، أو بينه وبين أحد الناس نقاشاً أو خصومة في أرض، فيذهب لا يتكلم في الأرض أولاً، بل يذهب ويقول لهذا المسئول: أريد أن تشرف بيتي شرف الله قدرك، أحبك في الله حباً جماً حتى ما أنام الليل من محبتك، فيقول: ماذا حدث؟!
قال: أحبك أن تشرف هذا البيت، وهو لم يعزمه من قبل أبداً، فيأتي فإذا عزمه، قال: فلان اعتدى علي وخاصمني، وأخذ أرضي، ماذا ترى؟
ذاك ينصرف قلبه إذا لم يكن فيه إيمان كالجبال؛ لأن الناس عبيد من أحسن إليهم.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان |
كان المغيرة بن شعبة أميراً في الكوفة، فجعل خادمه عند الباب، وقال له: لا تدخل أحداً من الناس إلا من آذن أنا بدخوله، فأدخل من أذن له إلا واحداً أتى.. عرفه فأدخله، فقال المغيرة: لماذا أدخلته؟ قال: أدخلته لأمر، قال: ولماذا؟ قال: أحسن لي يوماً من الأيام، قال: أحسنت، إن المعروف ينفع حتى في الكلب!
ولذلك قال الجاحظ وغيره: أحفظ الحيوانات للود الكلب، إذا أحسنت للكلب حفظ الود ولا ينساه، حتى يقول أحمد شوقي يهجو حافظ إبراهيم شاعر وادي النيل،يقول:
فأودعت إنساناً وكلباً أمانةً فضيعها الإنسان والكلب حافظ |
أي: أن الكلب يحفظ لكنه يقصد حافظ إبراهيم.
وعلي بن الجهم كان يرعى غنماً ومعه كلاب في البادية ما يعرف من الحضارة شيئاً، ما رأى في حياته قصراً ولا حديقةً، ولا رأى بستاناً، ولا رأى جسراً، ولا رأى جيشاً، فقط يرى التيس في الصباح يتصارع مع التيس، ويرى الكلب ينبح، فيظن الحضارة والإنسانية في هذا المحصول، وهو شاعر من أقوى الشعراء، وقد سبق هذا لكن بإعادته تتم الفائدة، فدخل على المتوكل يوم عيد الفطر، قال المتوكل: ماذا عندك؟ قال: عندي قصيدة؛ لأن الشعراء جميعهم يمدحون الخليفة، وكل الناس جالسون في المجلس, من حضر، قيل له: تفضل قل، قال:
أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب |
فقاموا يبطشون به أرضاً، فقال المتوكل: اتركوه، هذا رجل عاش في البادية ما رأى إلا التيس والكلب وقد مدحنا بما عنده، أي: أن أقصى ما عنده قد مدحنا به، فأنزلوه سنة في الرصافة ليرى الجمال والحدائق والبساتين ونهر دجلة والفرات ثم يأتي بعد سنة.
فأنزلوه فلما رأى الحدائق، ورأى الجمال، ورأى القصور، وأكل الدجاج الطري رجع بعد سنة، فقال قصيدته اللامعة في تاريخ الأدب مطلعها يقول:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري |
وأسكت الشعراء في ذلك اليوم، ثم مدح الخليفة بمدح بلغه النجم أو الثريا.
هذا علي بن الجهم، لكن ما هو الشاهد معنا؟
الشاهد: أن إسداء هذه الأمور والخدمات للناس وللعمال خاصة, معناها: رشوة، لكن استثنى الفقهاء من إذا كان بينهم هدايا من قبل، كأن يكون حبيباً له، وليس عنده معاملة ولا مشكلة ولا شيء من أمور الدنيا، فله أن يهدي له، يذهب ويعطيه ما تيسر ويأخذ هديته، أما أن يقف؛ فإذا أتت أمور من أمور الدنيا أهدى له فهي غلول، يلقى الله وقد غلها ويعيدها يوم القيامة وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161].
فهذا أمرٌ لا يغيب عن الأذهان.
أيها الإخوة الفضلاء: إن هدايا العمال غلول، والهدية للعامل رشوة يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26] فحق على أي مسئول عنده لبعض الناس مراجعة أو مداولة أو مرافعة، ألا يقبل من أي خصم خدمة من الخدمات؟
ولذلك قال في آداب القاضي: ألا يكون معزوماً عند الناس، لا يجعل بيوت الناس مقاهي دائماً، السلام عليكم يذبحون له، سوف ينصرف قلبه يوماً من الأيام.
القاضي يكون قاضياً عالماً، له هيبة وقيمة، ولا يكون خادماً يتجول في بيوت الناس ويأكل ويشرب على سفرهم، ثم يأتي في اليوم الثاني ويجالس الخصوم، ويعرف أن هذا أكرمه، وهذا ما أكرمه، حينها سوف يخفق في القضايا ويفشل فشلاً تاماً، إلا إذا كان صارماً كالسيف.
قال أهل العلم: لا بأس أن يحضر في الولائم كالزواجات إذا كان من وجوده فائدة ونفع وكان متكلماً، وكان يعظهم ويأمرهم، وينهاهم فلا بأس، أما أن يصبح سبهللاً في كل وادٍ وكل مكان، فهذا فيه ريبة وشبهة وشك والعياذ بالله، هذا أمر يتنبه له.
الرشوة في صورة الهدية: يأتون بالرشوة ويقولون: هذه هدية لك وهي رشوة، فالأسماء لا تغير المعاني، يقول عليه الصلاة والسلام: {أناس يأتون في آخر الزمان يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها} يتناولون المخدرات، يقولون ليست بخمر، شيء من المعطيات والتركيبات الكيميائية يسمونها: مشروبات روحية، وهي خمر، فهذه الأسماء لا تغير حقيقتها، الرشوة رشوة ولو سماها صاحبها صدقة أو هدية أو زكاة، هي رشوة.
أقسام الرشوة:
والرشوة لها أقسام: وهي هدية العمال:
منهم من يرشي العامل ويظن أنه يهدي له بالعزائم والولائم، ومنهم من يقدم له الخدمات، ومنهم من يكثر الزيارة حتى يصادقه، ومنهم من يجاوره، ومنهم من يرسل عليه أناساً. ومنهم من يتداولون المنافع كأن يكون هذا مسئول في دائرة وذاك مسئول في دائرة أخرى، فيقول: اخدمنا في هذا المعاملة، أو أنجزنا فيها وسوف تراها -إن شاء الله- محفوظة لك عندنا.
يحفظه في مال الله، يتصرف في معاملات ومسئوليات وضعها الله في عنقه، ولن نقصر عليك إن شاء الله، فينفذ له هذه المعاملة على أن ينفذ له ذاك معاملة، فإن كان منها إضرار بالمسلمين، فهذا -والعياذ بالله- هو الغلول، وهو الرشا بالخدمات ليس بالمال, هذا أمر يعرف.
نحن أمرنا أن نكون هينين لينين بالمسلمين وألَّا نشهر بالناس، ولا نعلن الأسماء على المنابر، الرجل هذا اسمه عبد الله بن اللتبية، والرسول عليه الصلاة والسلام يعرف أنه عبد الله بن اللتبية، ويعرف أنه أزدي من أزد شنوءة، لكنه لم يقم يوم الجمعة، ويقول: يا أيها الناس! اسمعوا أرسلنا عبد الله بن اللتبية إلى بني سليم قبل أيام، ففعل وفعل، لا. هذا أسلوب جارح، إنه أسلوب لا ينفع، إنه أسلوب إحباط المساعي، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يستخدم التشهير أبداً، يعمم المقال فيعرف المخطئ أنه أخطأ، ولكن الناس لا يعرفون من هو المخطئ فيتنبهون.
فحق على الإنسان أن يتجنب التجريح والتشهير بالناس، ذواتاً، ومناصب، وأسماء لتبقى دعوته طيبة وتقبل، ويعرف الحق ويؤخذ، فهذا درس من هديه صلى الله عليه وسلم في تصرفاته مع الناس، وفي الدعوة، والحكمة، والقول اللين: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].
تكسف الشمس، فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم ابنه صلى الله عليه وسلم، فقام وأعلن أنها {لا تكسف لموت أحد ولا لحياته} يأتي أناس فقراء فلا يجدون من يعطيهم، فيقوم عليه الصلاة والسلام يخطب ويخبرهم، وتأتي أمور وقضايا مهمة للناس، فيقوم صلى الله عليه وسلم فيتكلم فيهم، مثل هذه الخطب تكون للحاجة ويجمع الناس لها، يبصرون بأمور دينهم حتى يكونوا على بينة.
فصلى الله عليه وسلم، ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا ترك شراً إلا حذرنا منه، نشهد بالله العظيم، نشهد بأسمائه وصفاته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن رسوله أدى إلينا الأمانة كاملة مكملة، بيضاء نقية كالشمس، ما كتم ولا ظلم ولا خان، وإنما بلغها كالشمس بيضاء ليلها كنهارها، فعليه الصلاة والسلام، فإن كان تقصير فمنا، أما هو فاستشهد الناس -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- يقف يوم عرفات والناس أمامه، بعد أن بلغ الجهد، وتعب، وظمأ، وجاع، وعذب، وشرد، وحورب، وذهب أصحابه، وفي الأخير يقول: {يا أيها الناس! إن الله سوف يسألكم عني}.
سبحان الله! الله يسأل الناس هل بلغكم؟ بعد هذا التعب وهذه المشقة، يقول للناس يوم حجة الوداع: {إن الله سوف يسألكم عني فما أنتم قائلون؟ فقام كبار الناس ووجهاء الصحابة، يقولون: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، وبلغت الأمة، قال: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد}.
قال بعض المفسرين لما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ص:20] قالوا: فصل الخطاب: (أمَّا بَعْد) وأمَّا بَعْد لفصل ما بعدها عما قبلها، أو: أي الشأن هذا، أو: أمَّا بَعْد، فالشأن كيت وكيت، فالخطيب من آدابه أن يقول: أمَّا بَعْد: وهي غالباً اقتداءً به صلى الله عليه وسلم، ليكون فاصلاً بين كلامه، حتى استخدمت في الشعر، قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، يكتب لـعمر بن عبد العزيز قصيدة يرثي ابنه:
باسم الذي أنزلت من عنده السور الحمد لله أمَّا بَعْد يا عمر |
وقف ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه عند زمزم في الشمس، فأتى أعرابي فظلل ابن عباس بمظلته وابن عباس يشرب، ثم ذهب الأعرابي، وذهب ابن عباس، وبعد سنوات أتى الأعرابي قال: يا ابن عباس! لي عندك يدٌ أريد أن تكافئني بها؛ لأنه احتاج فهو فقير، قال: ما هي يدك؟ قال: رأيتك بين الحجاج تشرب من زمزم وقد صهرتك الشمس فظللتك بكسائي، قال ابن عباس: [[حياك الله من معرفة، أهلاً وسهلاً فأجلسه بجانبه، فأغدق عليه من المال والأشياء، وقال: سامحني ما كافأناك بيدك؛ لأنك نفعتنا في وقت شدة، ونحن نعطيك من رخاء]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.
فالحكمة أنك تقبل الهدية إذا علمت أنه لا يترتب عليها مفسدة في عرضك ولا في دينك، لأنك إذا رددت الهدية وجد صاحبها عليك، وكان هذا سوء تعامل مع الناس.
مر الرسول عليه الصلاة والسلام بـصعب بن جثامة بـوادي ودان فأهدى له شقاً من حمار -أي: حمار وحشي- فرده صلى الله عليه وسلم، وقال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم)؛ لأنه صاده من أجله، فإذا علمت أنه يجرح شعوره رد الهدية فلا ترد الهدية، بل اقبلها وأثب عليها بالدعاء، وبإجازتها بهدية أخرى.
والهدايا من أحسن ما يفعل، خاصة الهدايا التي تنفع في الآخرة من علم ونفع عام، نسأل الله التوفيق والهداية.
الجواب: هذا إدخال كلام في كلام، عمر الذي يقول لـأبي: [[لا أريد أن أدنس دينك]] والرسول صلى الله عليه وسلم، قال لـأبي ذر: {إنك ضعيف} فهو ضعيف في رأيه، ويحب له الرسول صلى الله عليه وسلم الخير، ولو أنه جاء في الحديث يحب الخير لعمه ولـأبي ذر ذُكر كذلك.
فالرسول صلى الله عليه وسلم ولىّ الصحابة لأنهم يستطيعون، وأما أبو ذر وأمثاله فلا يستطيعون؛ لأن الأمر يحتاج إلى طاقات، وإلى قوة، وأبو ذر يمكن أنه تنقصه هذه الأمور، وهو رجل ضعيف رضي الله عنه وأرضاه.
الجواب: سبق أن قلنا أنها نزلت في ابن جميل وقال بذلك كثير من المفسرين.
وقال بعضهم: في جماعة من المنافقين ولا تعارض، فـابن جميل قد كان فيه شيء من هذا، والمنافقون فعلوا ذلك، وليست العبرة بخصوص السبب، ولكن العبرة بعموم اللفظ.
أما ثعلبة فليس حديثه بصحيح، ولو أن ابن جرير وابن كثير، وغيرهم من العلماء أوردوا قصته، فقصة ثعلبة لا تصح عند العلماء، وهي معارضة؛ لأنه ما قبل صلى الله عليه وسلم صدقته، ولا أبو بكر ولا عمر، فبقي هكذا، وأهل الذنوب تقبل توبتهم: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ)) فالمقصود: أن هذه معارضة، القصة وسندها لا يصح، حديث ثعلبة لا يصح، هذا ولو استشهد به كثير من الخطباء فهو حديث لا يصح.
ومثل ذلك على الذكرى حديث علقمة، الذي يقولون عنه: إنه عقّ أمه، فأتته سكرات الموت فلم يستطع ينطق بالشهادتين... القصة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لي حطباً، حتى سامحته أمه، هذا حديث كذب، موضوع باطل عن المصطفى عليه الصلاة والسلام, حديث علقمة هذا لا يحدث به، وكثير من خطباء المساجد يخطبون به يوم الجمعة، فلا بد للخطيب والواعظ أن يتأكد من الحديث الذي يعرضه على الناس، ويتكلم به على المسلمين، ليكون متثبتاً من معلوماته، متأكداً مما يقول، حتى لا يظلل الناس في الأحكام، والاعتقادات والعبادات.
الجواب: قال: اختصموا، ولم يقل: اختصما؛ لأن المثنى مرفوع بالألف، لكن هنا أتى بالجمع بعد المثنى، وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] قال أهل العلم: اعتبر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الأفراد في المجموعتين هنا، فإن الطائفتين هَذَانِ خَصْمَانِ [الحج:19] فيهم مجموعة، الخصم يكون مجموعة، تقول: جاء ضيف والضيف قد يكون عشرة، وتقول: آتاني خصم قد يكونوا عشرة أو عشرين، فاعتبر أفرادهم أكثر من واحد.
قال: هَذَانِ خَصْمَانِ [الحج:19] أي: فريقان، وقد يكون في الفريقين أكثر من اثنين، قال: اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19] وهذه من بلاغة القرآن، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الحجرات:9] الطائفة: قد تكون ألف، قال: اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] فاعتبر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالأفراد في المجموعتين ولم يعتبر بالجنسين.
الجواب: أولاً في أبي ذر أحاديث أذكر بعضها، منها:
حديث: { يا
{ويا
{ورحم الله
{وإذا بلغ البناء سلع فاخرج منها} يقبل التحسين.
{و
أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء، هذا في أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، لكنه روى أحاديث كثيرة تشرح البال، وهو من علماء الصحابة.
الجواب: الرسول عليه الصلاة والسلام لما علم الصحابة في التحيات، لم يعلمهم سيدنا، وكثير من الناس تسمعهم يقول: اللهم صلِّ على سيدنا محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، هذا ليس بصحيح هذا اللفظ (سيدنا) لم يرد في التشهد ولو أنه صلى الله عليه وسلم كما صح عنه أنه قال: {أنا سيد ولد آدم}؛ وقال في صحيح البخاري عن الحسن من حديث أبي بكرة، وقد أخذ الحسن على المنبر، قال: {إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين} هذا في المدح.
قال عليه الصلاة والسلام للأنصار: {قوموا إلى سيدكم} أي: سعد بن معاذ، فلا بأس أن يطلق على الناس لفظ "سيد"، لكن قال عمر: [[السيد: هو الله]].
وإن كان من باب التعظيم، وإدخال الغرور والعجب على الرجل فلا تقل له هذا اللفظ، أما في ألفاظ الصلاة فالأولى ألا تذكر, لأن الصحابة لم يذكروها, وما ذكرها صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، فالأفضل أن تقول: اللهم صلِّ على نبينا محمد، أو اللهم صلِّ وسلم على محمد رسول الله، أما لفظ سيدنا فلم يرد فيما أعلم في حديث صحيح، ولو أنه صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم.
الجواب: هذا الحديث ليس بصحيح، حديث باطل ولا يرفع إليه صلى الله عليه وسلم، حديث {لقد أمرت بمداراة الناس كما أمرت بأداء الفرائض} ليس من لفظه، ولفظ الحديث ركيك، والرسول عليه الصلاة والسلام حديثه كالنور، وكالشمس في رابعة النهار، فهو يعرف، أما في المداراة فقد ورد فيها أحاديث وآثار، منها: في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم عيينة بن حصن، فاستأذن على الرسول عليه الصلاة والسلام -هذا الغطفاني الفزاري - قال: {ائذنوا له بئس أخو العشيرة} فلما دخل انبسط له صلى الله عليه وسلم وكلمه، فلما خرج قلنا: يا رسول الله! قلت في عيينة كذا وكذا، فلما دخل انبسطت إليه وحييته، قال: {إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه} أي: المدارة، وعلق البخاري عن أبي الدرداء في كتاب الأدب، قال: [[إنا لنكشر في وجوه قوم، وإن قلوبنا لتلعنهم]] هذا في المدارة.
وهناك فرق بين المدارة والمداهنة:
فالمداهنة هي: أن تذهب شيئاً من دينك لحصول الدنيا.
والمداراة هي: أن تذهب شيئاً من دنياك لبقاء الدين، فلك أن تداري الناس وتعاملهم بالتي هي أحسن ببسمة؛ لأنك إذا قطعت الحبال بينك وبين الناس لا يبقى لك شيء، وسوف تخسر الناس ويخسرونك، فالمدارة بالبسمة، والكلمة الطيبة، تثني على من قدم خيراً، وتشكر أهل الفضل هذه هي المداراة.
وأما المداهنة فهي: أن تنافق -والعياذ بالله- لحصول شيء من الدنيا وتضيع دينك، تأتي إلى رجل فاجر، فتقول: لا إله إلا الله ما أحسنك للإسلام! وما أنصرك للإسلام! وما أقواك في دين الله! هذه هي المداهنة، وهي شعبة من النفاق، أما المداراة فواردة وجائزة.
وفي الختام! أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، والرشد والسداد، وأن يتولانا في الدارين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر