إسلام ويب

فضل الوتر وقيام الليلللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن العبد المسلم قد يعاني طوال يومه من المشاق والتعب سواءً أكان في الدعوة أو في العمل، فجعل الله قيام الليل ليخلو بربه -عزَّ وجلَّ-.

    وقيام الليل يعطي الشخص القوة والقدرة على مشاق النهار، فيناجي العبد ربه في ذلك الليل، وخصوصاً وقت نزول الجبار جل وعلا في الثلث الأخير من الليل.

    وفي هذه المادة الحث على قيام الليل، وذكر فضائله، والأمور المساعدة على قيام الليل كما تطرق للحديث عن المسائل والأحكام المتعلقة بصلاة الوتر.

    1.   

    مجاهدة النفس

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد:

    فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] عهدٌ من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وحقٌ ألزم به نفسه، ولم يلزمه به أحدٌ من الناس، أن من جاهد فيه سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يهديه سبيله.

    قال أهل العلم: المجاهدة بالنية وبالعمل، والذي يدعي أنه يجاهد في سبيل الله يبذل وسعه للهداية، ومن لا يبذل وسعه ولا يعمل، فإنما هو مفترٍ على الله عز وجل.

    ولذلك ورد في الموطأ عن الحسن البصري رحمه الله موقوفاً عليه: [[ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلب وصدقه العمل]].

    ومن أسباب المجاهدة التي يزيد الله بها الهداية والإيمان على حد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد:17] من هذه الأعمال الصالحة: قيام الليل، ومن أجلِّ قضاياه التي سوف نتدارسها هذه الليلة: الوتر.

    وفي الوتر قضايا، منها:

    المسألة الأولى: حكم الوتر في الليل، هل هو واجب أم سنة؟ وما ورد في ذلك، وما هو الصحيح؟

    المسألة الثانية: الوتر على الراحلة، ويقاس عليها السيارة كذلك.

    المسألة الثالثة: عدد ركعات الوتر، وما حد أكثره وأقله؟

    المسألة الرابعة: ما يقرأ في الوتر، وفي ركعاته، من السور التي قرأها صلى الله عليه وسلم، وحافظ على قراءتها في الوتر.

    المسألة الخامسة: الدعاء الذي يقال في الوتر.

    المسألة السادسة: رفع اليدين ومتى ترفع؟

    المسألة السابعة: هل يمسح الوجه بعد الانتهاء من الدعاء؟

    المسألة الثامنة: إذا فات الوتر في ليل هل يقضى بعد أن يطلع الفجر، أم لا؟

    المسألة التاسعة: هل يُصلى من الوتر ركعة واحدة ويكتفي بهذه الركعة، ولا يزاد عليها؟

    المسألة العاشرة: هل يصلى بعد الوتر صلاة؟ أم يكتفي بالوتر في الليل؟

    المسألة الحادية عشرة: أفضل أوقات الوتر، وما هو الوقت الذي وردت بفضله النصوص؟

    المسألة الثانية عشرة: الوتر قبل النوم.

    1.   

    حديث ابن عباس في قيام الليل

    يقول الإمام البخاري رحمه الله تعالى، بسم الله الرحمن الرحيم -وكل كتابٍ نبدأ فيه بالبسملة-.

    كتاب الوتر، باب: ما جاء في الوتر.

    ثم قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن مخرمة بن سليمان عن كريب عن ابن عباس أخبره أنه بات عند ميمونة وهي خالته، قال ابن عباس: (فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها، فنام عليه الصلاة والسلام حتى انتصف الليل، أو قريب منه، فاستيقظ يمسح النوم عن وجهه، ثم قرأ عشر آيات من آل عمران، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوضأ وأحسن الوضوء ثم قام يصلي، فصنعت مثله -ابن عباس يقول فصنعت مثله- فقمت إلى جنبه صلى الله عليه وسلم، فوضع يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني يفتلها، ثم صلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى الصبح صلى الله عليه وسلم).

    أورد البخاري هذا الحديث في هذا الموضع مختصراً، وإلا فالروايات الزائدة سوف نوردها على ما أوردها أهل العلم، والإمام البخاري يتفنن في إيراد الأحاديث كما سلف في بعض المناسبات، منها:

    أنه قد يبتدئ بالحديث ويختصره، ومنها: أنه يتشبع في طول الحديث، ومنها: أنه يأتي بالحديث بالمعنى:

    يزيدك وجهه حُسناً     إذا ما زدته نظرا

    ترجمة ابن عباس

    وابن عباس تكرر معنا في أكثر من موضع، فمن هو هذا العملاق؟ ومن هو هذا الشاب الذي حرص على الهداية، وأولى أمور العلم جلَّ اهتمامه، وهو ما زال في العاشرة من عمره، بل قبل ذلك يهتم بتتبع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته، فآتاه الله على قدر نيته، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كما أسلفنا: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] فلما علم الله من ابن عباس أنه يريد وجهه، ويريد ما عنده؛ فتح عليه وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ:26] ورزقه علماً جماً؛ حتى يقال له: البحر. ويقال له: ترجمان القرآن. ويقال له: حبر الأمة وبحرها.

    قال مجاهد: [[وقفنا مع ابن عباس يوم عرفة، فأخذ يفسر سورة البقرة من بعد صلاة الظهر إلى صلاة المغرب حرفاً حرفاً، آيةً آيةً، مقطعاً مقطعاً، والله ما تلعثم في حرف، ولا توقف في آية، والله لو سمعه اليهود والنصارى لأسلموا]].

    ويقول ابن كثير في البداية والنهاية: ثبت أن ابن عباس رضي الله عنهما لما أتته الوفاة، وعرضت جنازته للناس، وكفن في أكفان بيضاء، وقام الناس ليصلوا عليه، وثلَّ قائمٌ أبيض فدخل في أكفانه، وسمعوا هاتفاً يقول: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-29].

    ورئيت له منامات رضي الله عنه وأرضاه، وهو ممن له قدم صدقٍ في الإسلام، حتى أنه رآى جبريل كرامة له ولم يره كثير من الصحابة.

    معاشرة النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله

    يقول: ذهبتُ ليلة من الليالي عند خالتي ميمونة، وهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له تسع نسوة مجتمعات، كل امرأة يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً من لياليه المباركة الخالدة؛ يعلمهن مما علمه الله، وينشر لهن السنة لينشرنها في نساء الأمة.

    فعلم ابن عباس أن هذه الليلة ليلة خالته ميمونة فأخذ نفسه وذهب وسبق الرسول عليه الصلاة والسلام بعد صلاة العشاء، ودخل وهو لا يريد النوم ولا العشاء، ولكن يريد قوت القلوب والأرواح، يوم أن تتغذى القلوب والأرواح بغذاءٍ لا يشبه غذاء الناس، ولذلك يقول الألبيري:

    فقوت الروح أرواح المعاني     وليس بأن طعمت ولا شربتا

    فقوت الروح: الهداية، والذكر، وآيات الله البينات، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الواضحات.

    وعلم ابن عباس أن خالته حائض؛ وهي في الروايات التي وردت صحيحة، حائضٌ لا يمكن أن يقربها تلك الليلة صلى الله عليه وسلم.

    فأتى في فراش ميمونة خالته، فنام في عرض الفراش، ودخل صلى الله عليه وسلم في الليل فالتفت فرأى ابن عباس، وعرف ابن عباس، وقال: {نام الغُلَيم؟} أي: نام الغلام، ولكن الغليم كلمة تَحَبُّبّ، ويصغر الاسم للتحبب، وللتعظيم، وللتصغير، وللتهويل، وهذا للتحبب، قالت ميمونة على حد ما ترى: { نام يا رسول الله} وهو لم ينم:

    نامت الأعين إلا مقلةٌ     تذرف الدمع وترعى مضجعكْ

    فهو يريد العلم، ويريد أن ينتبه لما يقول صلى الله عليه وسلم، فيسمع هذه المحادثة؛ لأنه نقلها للناس.

    فقرب عليه الصلاة والسلام من الفراش وأتى يحدث ميمونة ساعة، يقول ساعة على حسابه الزمني:

    وفيه العشرة مع الأهل، وحسن الخلق، ومحادثة الأهل، وهذه من سنته صلى الله عليه وسلم، ولا يعتذر المعتذر بكثرة أشغاله، ولا أعماله، ولا ضيوفه، ولا 000، فأكثر الناس عليهم أشغال وأعمال، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشغله ذلك عن محادثة أهله صلى الله عليه وسلم، فلما حادثهم نام عليه الصلاة والسلام ولكن ابن عباس لم ينم.

    فقال ابن عباس: { فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه} والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم نامت عيناه، أما قلبه فما نام، فقلبه يسبح، وقلبه مع ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك إذا نام لا ينتقض وضوءه.

    ويقوم من النوم صلى الله عليه وسلم ويذهب إلى المسجد، فتقول عائشة رضي الله عنها: {يا رسول الله! إنك نمت؟ قال: يا عائشة! إنها تنام عيناي ولا ينام قلبي} وكان ربما حدث صلى الله عليه وسلم في نومه بالآيات، فقام يقرأها على لسانه، ورؤياه صلى الله عليه وسلم حق كفلق الصبح، فإذا رأى رؤيا تقع، حتى أنه يقول قبل معركة أحد، وهو يستقرئ الأنباء للصحابة ويقول قبلها بليلة بعد أن صلى الفجر، وبعد صلاة الفجر سوف تبدأ المعركة صباح السبت، وسوف يبدأ الالتحام مع أبي سفيان في معركة أحد، قال: {رأيت البارحة كأن ثلماً أصاب سيفي، وكأن بقراً تنحر، وكأني أدخلت يدي في درعٍ حصينة، قالوا: يا رسول الله! ما أوَّلت ذلك؟ قال: أما الثلم في سيفي -كُسْر، وهو في الذبابة، في رأس السيف- فهو رجلٌ من أهل بيتي يقتل، وأما البقر التي تنحر؛ فهؤلاء المؤمنون يصابون ويستشهدون في سبيل الله، وأما أنني أدخلت يدي في درعٍ حصينة؛ فهي المدينة ندخل فيها وتحصننا بإذن الله} وبدأت المعركة وقُتل حمزة، وكان من أول من قتل في المعركة حتى وقف صلى الله عليه وسلم عليه وتغيظ كثيراً وبكى كثيراً وحلف ليمثلن منهم بسبعين، واستشهد من المسلمين سبعين، ودخل في الأخير صلى الله عليه وسلم المدينة.

    صور من معايشة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن

    قام عليه الصلاة والسلام بعد أن نام، قال ابن عباس: {فرأيته في الظلماء} فما كانت هناك سُرُج ولا كهرباء، وكان بيته صلى الله عليه وسلم يلتقي رأسه بطرف الجدار ورجلاه الشريفتان بالطرف الآخر من ضيق بيوته صلى الله عليه وسلم.

    كفاك عن كل قصر شاهق عمدٍ     بيتٌ من الطين أو كهفٌ من العلَم

    تبني الفضائل أبراجاً مشيدة     نصب الخيام التي من أروع الخيم

    فهو أتى ليبني الأرواح والقلوب عليه الصلاة والسلام، أما الأجسام والدور والقصور فلهن أناس متخصصون خلقهم الله لها، ولذلك يقول معاذ، أحد دعاة الإسلام، لما حضرته الوفاة: [[والله إني لم أكن أحب الحياة لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولا لعمارة الدور، ولا لرفع القصور؛ ولكن لمكابدة الليالي، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر، ولظمأ الهواجر]] وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].

    قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب النوم من عينيه، وأخذ يتلو: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191].

    قرأ الآيات العشر حتى ختم سورة آل عمران، ثم قام عليه الصلاة والسلام.

    وعند ابن جرير الطبري وابن مردويه بسند يقبل التحسين قال بلال: {خرجت أؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة الفجر، فوجدته يبكي صلى الله عليه وسلم، فقلت: مالك يا رسول الله! بأبي أنت وأمي؟ قال: يا بلال! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله! قال: أنزلت عليَّ آياتٌ بينات، ويلٌ لمن قرأها ولم يتدبرها، قلت: وما هي يا رسول الله؟ فأخذ يقرأ وهو يبكي: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191]}. وربما كان عليه الصلاة والسلام يقوم فيصلي من الليل، وفي بعض الأحيان يقوم ويتوضأ ويخرج إلى المدينة، وينشط إلى بيوت الأنصار والمهاجرين وهم يقرءون القرآن، فيبكي وهو يستمع لهم صلى الله عليه وسلم.

    ومن ذلك ما ثبت في الصحيح عن عمر وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم قالوا: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فسمع أبا موسى الأشعري يقرأ القرآن، فوضع صلى الله عليه وسلم يديه على نافذة المسجد في الليلة الظلماء وهو ينصت لـأبي موسى} وأبو موسى الأشعري من أهل اليمن، أُوتي صوتاً ما أجمل منه! ولا أحسن منه! ولا آثر منه! يقول مسروق: [[سمعت أبا موسى يقرأ، فوالله ما سمعت صنجاً ولا طنجاً ولا نأياً ولا وتراً أعجب من صوته!]] فأخذ صلى الله عليه وسلم يستمع وينصت -وذاك يصلي ويقرأ وهو لا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستمع له- وأخذ صلى الله عليه وسلم يبكي، فلما سمع نساؤه بكاءه صلى الله عليه وسلم، أتين ووضعن أيديهن معه وبجانبه يستمعن ويبكين، فلما أصبح الصباح لقي الرسول صلى الله عليه وسلم أبا موسى وقال له: {يا أبا موسى! لو رأيتني البارحة وأنا أستمع إلى قراءتك، وقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود، فقال أبو موسى: يا رسول الله! أتستمع لي البارحة؟ قال: إي والله، قال أبو موسى: والذي نفسي بيده يا رسول الله! لو علمت أنك تستمع لي لحبرته لك تحبيراً} أي جوَّدته أكثر مما سمعت، وحسنته أكثر مما وقع في أذنيك ليكون أكثر تأثيراً.

    ولذلك تسابق أبو بكر وعمر مرة ثانية إلى أبي موسى يبشرانه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستمع إليه، قال عمر: [[لما صليت الفجر ذهبت إلى بيت أبي موسى لأبشره ببشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت أبو بكر قد سبقني، فقلت: والله لا أسابقه بعد اليوم]] كلما أتى عمر رضي الله عنه يسابق أبا بكر سبقه أبو بكر.

    ألا لا أحب السير إلا مصعداً     ولا البرق إلا أن يكون يمانيا

    ولذلك كان أبو بكر أسبق الناس، فهو في الجهاد أستاذ الجهاد، وفي العبادة أول الصحابة، وفي الخلافة الرجل المرجى والمرشح رضي الله عنه وأرضاه، لا لشيء إلا لشيء وَقَر في قلبه وهو الخشية، حتى كان يصلي بالناس ويقطع قلبه بالبكاء وهو لا يزال في سورة الفاتحة لما علم من معرفة الله عز وجل.

    وقد أسلفت لكم أنه يخرج عليه الصلاة والسلام في المدينة، وفي تفسير أبن أبي حاتم بسند جيد عن امرأة من الأنصار قال: {خرج صلى الله عليه وسلم ذات ليلة يتمشى في شوارع المدينة، فسمع عجوزاً من الأنصار تصلي في الليل، وتقرأ: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] فوضع رأسه صلى الله عليه وسلم على سائر الباب، وجعل يستمع معها وهي تردد وتقول: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] فيقول: نعم أتاني، نعم أتاني، وهو يبكي حتى الصباح صلى الله عليه وسلم}.

    هذه بعض الملامح لمعايشته لهذا الكتاب العظيم.

    استفتاح الرسول صلى الله عليه وسلم صلاته في الليل بالدعاء

    وقام صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته، فخرج من بيته صلى الله عليه وسلم، فعَلِمَ ابن عباس وعمره ما يقارب عشر سنوات أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عاد فسوف يبحث عن ماء أو يتوضأ.

    قال ابن عباس: [[فقمت إلى شَنِّ قِرْبَة -معلقة في طرف البيت- فحللت وكاءها، وسكبت الماء للرسول صلى الله عليه وسلم وقدمت له]] فلما جاء صلى الله عليه وسلم رجع ابن عباس وتناوم مرةً ثانية.

    فقال صلى الله عليه وسلم وهو يحدث نفسه: {من وضع لي الماء} ثم التفت إلى السماء صلى الله عليه وسلم، وقال: {اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل}؛ فعلمه الله التأويل أي: تفسير القرآن، حتى ما وجدت آية ولا سورة إلا ويعرف متى نزلت، وأين نزلت، وما معناها، حتى كبار الصحابة كانوا يسألونه رضي الله عنه وأرضاه، وفقهه الله في الدين.

    فقام عليه الصلاة والسلام يصلي، وقبل أن يصلي أخذ يستاك عليه الصلاة والسلام، يستقبل القبلة، وقال دعاءً تنخلع منه القلوب، روته عائشة وابن عباس، قال: {اللهم لك الحمد، أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، وعليك توكلت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} ثم قال -كما صح في صحيح مسلم - عن عائشة: {اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم}.

    من لم يكن له رصيد من الدعاء بعد كل صلاة، وفي دبر الليل، وقبل الصلاة، وبين الأذانين، وفي آخر ساعة من الجمعة، وفي يوم عرفة، وفي مناسبات الخير؛ فإنه سوف يبقى قلبه قاسياً إن لم يتزود بزاد الدعاء؛ ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما عند الترمذي عن سلمان: {إن الله يستحي من العبد إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً} قال أحد الصالحين؛ وهو من علماء الجزائر، الثورة على الفرنسيين في الجزائر قال: في إحدى المرات في غارة على الفرنسيين -وهو من علماء ثورة الجزائر على فرنسا -: أمسيت ليلة من الليالي فرأيت عمر بن الخطاب في المنام ومعه الدرَّة، فقلت له: يا أمير المؤمنين! ابتلانا الله بهؤلاء احتلوا بلادنا، وقتلوا أطفالنا، وشيوخنا، ونساءنا، فما المخرج؟ قال: فضرب على كتفي بالعصا، قال: أتخاف والله معك؟! فقلت له: يا أمير المؤمنين! -وقد عرفت أنه عمر -: ما هي النجاة؟ قال: عليك بالدعاء، قال: فما نسيت يديه وهو يدعو لنا في المنام.

    فمن أراد النجاة فعليه بالدعاء، ولذلك يقال في الأثر: [[لا يهلك مع الدعاء أحد]].. وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].

    موقف المأموم من الإمام وحكم الحركة القليلة للمصلي

    قام عليه الصلاة والسلام فابتدأ صلاته، فلما أصبح في الصلاة قام ابن عباس فأخذ ماءً وتوضأ ثم اقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام، فوقف عن يساره، يعني: تجاه جهته اليسرى صلى الله عليه وسلم.

    والمأموم إذا كان منفرداً يبقى عن يمين الإمام.

    فأرسل صلى الله عليه وسلم يده من وراء ظهره وألقاها على ابن عباس وفركه وهو في الصلاة ثم حوله إلى يمينه؛ قال ابن حجر: يؤخذ من هذا أن المعلم له أن يفرك أذن الطالب، وقد مرت هذه في مناسبات، وكانت أفهم له، بشرط أن يكون صغيراً في سنه، ولا يتأذى بذلك.

    فحوله عن يده اليمنى، وعند ابن خزيمة: أنه كلما نعس ابن عباس أرسل صلى الله عليه وسلم يده وفرك أذن ابن عباس حتى يوقظه في الصلاة. لماذا ينعس؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يستمر في القراءة حتى ينسى المكبر أنه كبر.

    يقول ابن مسعود رضي الله عنه: {قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي، فصلى فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء، قيل له: وبماذا هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأدَعَهُ}.

    وقال حذيفة كما في الصحيحين: {قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتدأ سورة البقرة، فقلت: يركع عند المائة، فواصل حتى خَتَمَها، ثم افتتح سورة النساء فقلت: يركع عند المائة، فاختَتَمَها، ثم افتتح سورة آل عمران، ثم اختتمها صلى الله عليه وسلم]].

    فهو صلى الله عليه وسلم وابن عباس بجانبه جعل يده على أذن ابن عباس وفركه ليستيقظ، وفي رواية صحيحة أوردها ابن حجر: لئلا يستوحش في الظلماء. يقول: لئلا يستوحش ابن عباس، فيظن أن من طول قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم أو إسراره من الرسول صلى الله عليه وسلم تركه واقفاً، أو استيحاش من باب أنه يطول عليه الوقوف. والله أعلم.

    ولا يقاس على قوَّته صلى الله عليه وسلم قوة أحد من الناس، والإنسان فقيه بنفسه لا يستمع مثل هذه الأحاديث فيأتي فيقف ليلة كاملة من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر وبعدها يترك صلاة الفجر، فهذا لا أحسن في الأولى ولا في الثانية؛ أما في الأولى: فشدد على نفسه وخرج عن السنة، فإن سنة الله بين الغالي والجافي، والحسنة بين السيئتين، والقصد القصد تبلغوا. وأما الأمر الثاني: فأنه قد يفوت من الفرائض ما هو أعظم منه، ولا يفوتكم أن الرسول عليه الصلاة والسلام جُمِعَت في جسمه الطاهر قوة ثلاثين رجلاً، فهو أجمل وأقوى وأفصح وأحلم وأبر وأصبر الناس، حتى يقول علي؛ وأنتم تعرفون من هو علي بن أبي طالب، سيف الله المنتضى، من أشجع الناس يقول: [[كنا إذا اشتد الكرب، وحَمِي الوطيس، واقتربت الرماح، الحدق واحمرت اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم في المعركة، فوجدناه أقرب القوم إلى العدو]] من قوة جسمه صلى الله عليه وسلم.

    ولما التقوا في معركة هوازن في حنين، كان عليه الصلاة والسلام في المقدمة الأولى للجيش، وفرَّ جميع الجيش إلا ستة أنفار، فلم يثبت إلا هو وخمسة معه صلى الله عليه وسلم، وهذا من القوة التي أعطاه الله إياها.

    قضايا من حديث ابن عباس

    وفي حديث ابن عباس هذا قبل أحاديث الوتر قضايا:

    القضية الأولى: أسلفنا منها: أن الغلام الصغير، الذي لم يبلغ الحُلُم له أن يدخل على إحدى محارمه دون استئذان، في غير الأوقات الممنوعة من الزيارة، يدخل على المحارم بغير إذن، ويجلس معهن.

    ومنها: الحديث مع الأهل، والاستئناس معهم.

    ومنها: أنه لا بأس بالسمر بعد العشاء؛ لأن هناك حديث أبي برزة { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها} وقال: الحديث، أي: الحديث الذي لا ينهى عن الفحشاء والمنكر، ويلهي ويكون فيه لغو، ويصد عن صلاة الفجر، فهذا يكرهه صلى الله عليه وسلم.

    أما الحديث مع الضيوف، أو الأهل، أو الحديث في العلم، وفي مدارسة الشرع؛ فهذا لا بأس به، ولذلك عقد البخاري باباً في صحيحه، باب السمر مع الضيف، فلا بأس بالحديث مع الأهل بعد صلاة العشاء.

    وفيه: أن المحْدِث حَدَثاً أصغراً له أن يقرأ القرآن؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام -كما قلنا- لا ينتقض وضوءه بالنوم، لكن ليس عندنا دليل أنه نام متوضئاً صلى الله عليه وسلم.

    ما هو وجه الاستدلال؟

    وجه الاستدلال: أنه لما قرأ صلى الله عليه وسلم هذه غيباً، يرد السؤال: كيف يقرأ صلى الله عليه وسلم غيباً وهو لم يتوضأ بعد، لأنه توضأ فيما بعد.

    وفيه دليل على أن المحْدِث حَدَثاً أصغراً غير حَدَث الجنابة له أن يقرأ القرآن غيباً، لأن الجنب لا يقرأ القرآن، لا غيباً ولا نظراً، والمحْدِث حَدَثاً أصغراً لا يمس القرآن، وله أن يقرأ القرآن غيباً بهذا الحديث وبغيره.

    منها: في أثر سلمان قال: [[خرج عمر رضي الله عنه إلى البرية -إلى الخلاء- فقضى حاجته، ثم أتى يقرأ القرآن وهو لم يتوضأ]] يقرأه غيباً رضي الله عنه وأرضاه، فقال رجل من أهل نجد من اليمامة: [[يا أمير المؤمنين! كيف تقرأ القرآن وقد أحدثت ولم تتوضأ؟ قال: أأخبرك نبيك مسيلمة أنه لا يجوز أن يقرأ القرآن إلا من توضأ؟]] يقصد: مسيلمة الكذاب؛لأنه من اليمامة، وهذا مسيلمة صفَّى حسابه خالد بن الوليد سيف الله: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45].

    وأحاديث أخرى، ومنها: الحديث الذي في موطأ مالك مرسلاً لكنه معضود، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم -قال ابن عبد البر أشبه المتواتر-: {أن لا يمس القرآن إلا طاهر} فعُلِم بمفهوم المخالفة أن له أن يقرأ القرآن غير طاهر، ليس جنباً لكنه محدث حدثاً أصغراً، فهذه من القضايا.

    ومنها: الجماعة في النافلة: لك -إذا أوترت- أن توتر بأهلك في البيت، ولا تتخذها عادة دائماً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعلها دائماً، لكن في بعض الأحيان توتر وأهلك معك، وإذا أتاك أناس وأرادوا أن يتنفلوا معك تتنفل فيهم بالليل، أو بعض الأوقات كصلاة الضحى، ولا تتخذ عادة، ففي صحيح البخاري عن عتبان بن مالك قال: {زارني صلى الله عليه وسلم في بيتي فقال: أين تريد أن أصلي لك من البيت؟ قال: فعرضت له حصيراً، وغسلته بالماء، ونضحته، فقام صلى الله عليه وسلم فصفنا خلفه، وصلى بنا ركعتين} قال أهل العلم: هذه صلاة الضحى، وهذا يقتضي جواز الجماعة في صلاة الضحى لا على الدوام، أي: أنها لا تتخذ على الدوام.

    والمسألة التي تستفاد كذلك من هذا الحديث: الائتمام بمن لم ينو الإمامة، تأتي في المسجد وأحد الناس يصلي وما نوى أن يكون إماماً، لكن هو فاتته الصلاة فقام يصلي وحده، فلك أن تدخل معه، ويكون إماماً لك، وأنت مأموم، وتصلي معه، وهذا يؤخذ من هذا الحديث؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قام يصلي من الليل ما نوى أن يكون إماماً، وإنما نوى أن يصلي ويتنفل حتى جاء ابن عباس.

    ومنها كذلك: أن من أراد أن يتنفل، مثلاً: صلى صلاة الظهر في المسجد، ثم قام يصلي ركعتين بعد الظهر وأتى رجل متخلف، فرأى هذا يتنفل، فله أن يدخل معه، ولو كان هذا متنفلاً وهذا مفترضاً، فدخلتَ معه وصليتَ صلاة الظهر، وهو يصلي نافلة، وهذا مأخوذ من هذا الحديث.

    ومنها صورة ثالثة كذلك: أنك إذا أتيت المسجد والناس قد صلوا، وما أدركتهم في الركعة الأخيرة مثلاً، فلما سلم الإمام قمت تقضي، وقام بعض الناس يقضوا معك، فلك أن تجعل الذي بجانبك إماماً وأنت مأموماً وتصلي بصلاته، هذه الصورة الثالثة تؤخذ من هذا، وهي جائزة لأنه لم يرد حديث بمنعها.

    ويؤخذ كذلك: موقف الإمام وأنه دائماً على يسار المأموم إذا كان واحداً، ولو كانوا جماعة فيصلون عن يمينه أو خلفه، والسنة إذا كثروا فخلفه، والواحد على يمينه ولا يصلي يساره؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه: يرى أن يصلي الإمام وسطاً، وأن يجعل الناس عن يمينه ويساره، ورد عليه أهل العلم بأن هذا منسوخ.

    المسألة التي تليها وتستفاد من هذا الحديث: أنه لا بأس بالحركة القليلة في الصلاة؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام تحرك في الصلاة، وأخذ بأذن ابن عباس، وحاله هنا: فلك مثلاً أن تؤخر ابنك عن مكان تخاف منه وأنت في الصلاة، وإذا كنت قريباً من الباب أن تفتح الباب؛ فقد صح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح لها الباب وهو في الصلاة، وفي سنن أبي داود بسند جيد عن سهل بن الحنظلية قال: {أرسل صلى الله عليه وسلم بطليعة قوم ليأخذ أخبار العدو، فأخذ صلى الله عليه وسلم يلتفت مرة وهو في الصلاة}.

    ولا يحمل هذا على الترخص، ولا على التنطع، ولا على الخروج عن الخشوع الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم.

    ولكن نخبركم بهذا وعندكم خبر به من باب إبراء الذمة، ومن باب عرض بعض سننه صلى الله عليه وسلم للناس، ومن باب إيجاد بعض الرخص لبعض المكروبين في صلواتهم، أو الذين يظنون أنه لا يجوز إحداث شيء في الصلاة، فقد وردت الحركة القليلة عنه صلى الله عليه وسلم.

    ويؤخذ من هذا الحديث: الاضطجاع مع الحائض؛ فالمرأة إذا حاضت فلزوجها أن ينام في فراشها الذي تنام فيه، وأن يؤاكلها ويشاربها ويحادثها، ولا بأس بذلك كله.

    ومنها: الاعتداد بصلاة الصبي الصغير؛ فأنت إذا لم تجد جماعة، ولا رجل تصلي معه، لك أن تصلي مع ابنك بعد أن يتوضأ، وتجعله معك وتتم لكما جماعة، وإذا أتيت في المسجد ووجدت إماماً ومعك صبي فلك أن تصف مع الصبي وراء الإمام، وتعدُّ بالصف مع الصبي؛ ففي صحيح البخاري عن أنس قال: {صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصففت أنا واليتيم من ورائه والعجوز من ورائنا}.

    وأدخل عليه الصلاة والسلام المسجد وهو مريض، في رواية ابن عباس قال: {عليه عصابة دسمة، وهو يتخطى مع الفضل وعلي حتى أدخل، فأجلس على يسار أبي بكر وأبو بكر يصلي بالناس} فأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم إماماً، وأصبح أبو بكر بجانبه مأموماً، وأصبح أبو بكر يردد بعده الناس وهو عن يمين الرسول صلى الله عليه وسلم، فالذي على اليسار هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس أبو بكر.

    1.   

    أحكام صلاة الوتر

    وأما الوتر ففي حكمه خلاف بين أهل العلم:

    ذهب الجمهور إلى أنه سنة وليس بواجب.

    وأما بعض الأحناف فقالوا: واجب؛ واستدلوا على ذلك بأدلة منها: أنه يقضى بالنهار.

    ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما تركه في حضر ولا سفر.

    ولكن هذه الأدلة ظنية، والصحيح أنه سنة وليس بواجب.

    ومن الأحاديث التي تبين سنية الوتر:

    قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي طلحة في الصحيحين، قال: (كنا جلوساً مع الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد، فجاء رجلٌ من أهل نجد؛ ثائر الرأس، نسمع دويَّ صوته، ولا نفقه ما يقول، فأقبل علينا، فإذا به يسأل عن الإيمان، قال: الإيمان أن تؤمن بالله، -وفي لفظ البخاري: يسأل عن الإسلام- قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله -وفي هذا الحديث تداخل بين الإيمان والإسلام - ثم قال: وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، قال: يا رسول الله! وما هي الصلاة؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع).

    فأخذ من هذا أن الخمس الصلوات هي الواجبة، أما غيرها فتطوع، فلا يدخل غيرها في الوجوب كالوتر، ولا ركعتي الضحى، ولا تحية المسجد، ولا غيرها، إنما الواجب ما ذكره صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث.

    فحكمه على الصحيح أنه سنة؛ لكنه سنة مؤكدة، لا يُترك في سفر ولا في حضر.

    ومن تركه هل يقضيه بعد أن يفوته في الليل أم لا؟ سوف يأتي هذا الكلام.

    الصلاة على الراحلة وعدد ركعات الوتر

    ويؤخذ من سنته صلى الله عليه وسلم أنه صلى على الراحلة، ويقاس على ذلك السيارة، فلك أن تصلي الوتر وأنت مسافر على سيارتك بعد أن تستقبل القبلة عند تكبيرة الإحرام، ثم لا بأس أن تتوجه وأنت تصلي في أي مكان وجهت بك سيارتك.

    ويؤخذ من ذلك أن الوتر سنة، وأقل عدد ركعاته ركعة، وأكثره لا حد له.

    وهل يجوز أن يصلي المسلم ركعة واحدة؟

    أورد ابن حزم في المحلى وابن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي وسعيد بن منصور في سننه أن كثيراً من الصحابة صلوا ركعة واحدة؛ منهم: معاوية وسعد بن أبي وقاص وعثمان رضي الله عنهم وأرضاهم.

    فأما عثمان رضي الله عنه وأرضاه فورد أنه دخل الحرم، قال تميم الداري: [[كنت عند المقام -مقام إبراهيم عليه السلام- فدخل رجلٌ وهو متلثم، فدفعني وأخرني عن المقام ثم قام ففك لثمته فنظرت إليه فإذا هو أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، فقام يصلي، فقرأ القرآن في ركعة من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، ثم سلم والأذان يؤذن]].

    ولذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا قرأ قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] بكى وقال: [[ذلك عثمان بن عفان]] وقال حسان لما قُتل عثمان رضي الله عنه:

    ضحوا بأشمط عنوان السجود به     يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا

    وثبت أن عثمان انخرمت في يده أربعة مصاحف؛ من كثرة ما يقرأ، فأربعة مصاحف انخرمت أو تقطعت وتمزقت من كثرة ما يمسكها.

    وهو على العموم أكثر من يقرأ القرآن من الصحابة الأخيار، حتى أنه كان يتوضأ ويصلي صلاة الفجر فيبقى والمصحف معه يقرأ حتى صلاة الظهر، وقال له بعض الصحابة: [[لو رفقت بنفسك يا أمير المؤمنين؟ قال: والله لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من القرآن]] رضي الله عنه وأرضاه، فالشاهد: أنه صلى ركعة.

    ومعاوية صلى العشاء ثم صلى ركعة وذهب لينام، فسئل ابن عباس وقيل له: [[إن معاوية صلى ركعة؟ قال: ذاك رجلٌ فقيه]] يعني: عنده فهم في الدين.

    وصلى سعد بن أبي وقاص ركعة رضي الله عنه وأرضاه.

    لكن الأولى والأحسن ألا تُتخذ عادة، وللمسلم أن يصلي ركعة واحدة، لكنه خلاف النصوص الوفيرة الكثيرة عنه صلى الله عليه وسلم: أن أقل الوتر ثلاث ركعات؛ لما روى أبو داود بسند جيد عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أوتر بسبع فهو أفضل، أو بخمس، أو بثلاث} وهذا الحديث صححه ابن حبان والحاكم، فالثلاثة أقل الوتر، فمن شاء أن يوتر ويقلل فعليه أن يداوم على ثلاث ركعات، يقرأ في الأولى: سورة الأعلى، وفي الثانية: سورة الكافرون، وفي الثالثة: سورة الإخلاص؛ والدليل على ذلك حديث أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه، وهو صحيح عند النسائي قال: {كان صلى الله عليه وسلم يصلي الوتر ثلاث ركعات يقرأ في الأولى: بـسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1] وفي الثانية: بـقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] وفي الثالثة بـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] لا يسلم إلا في آخرهن} ففي هذه الرواية، أي: رواية النسائي والحاكم عن عائشة: لا يفصل بينهن.

    وقال: محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر: يفصل بين الوتر، ولم ينقل في حديثٍ صحيحٍ أنه يوصل بين الوتر، قال ابن حجر: بل يوصل بينها، ومن صلاها كالمغرب، فجائز له ذلك.

    أما حديث أُبَي الذي أسلفت في سنن النسائي أنه يقول: {لا يسلم إلا في آخرهن} فلكم أن تراجعـوه في الصفـحة (481) من فتح الباري المجلد الثاني.

    فهذا -بارك الله فيكم- هديه صلى الله عليه وسلم، أو ما قاله في الوتر؛ لكنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الوتر إحدى عشرة ركعة، تقول عائشة في صحيح مسلم: {ما زاد صلى الله عليه وسلم في رمضان، ولا في غير رمضان على إحدى عشرة ركعة، فإذا فاتته من الليل صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة}.

    ففي هذا دليل على أن التراويح السُّـنَّة فيها، والأَولى والأفضل أن تُصلى إحدى عشرة ركعة، ومن زاد فلا بأس، ومن صلى ثلاث عشرة ركعة، أو إحدى وعشرين، أو ثلاثاً وعشرين، أو زاد فلا بأس، لكن الأَولى والسُّـنَّة هي هذه وهي التي وردت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم.

    ما يقرأ فيه؟

    ذكرنا لكم أنه يقرأ فيه بِسُوَر: الأعلى، والكافرون، والإخلاص.

    دعاء الوتر

    ما هو دعاء الوتر؟

    إذا أوترت، وقرأتَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] وركعت كما هو معروف، فبعد أن ترفع صلبك من الركوع، ترفع يديك هكذا وتقول: اللهم اهدني فيمن هديت؛ لحديث الحسن بن علي رضي الله عنه وأرضاه؛ ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في سنن الترمذي، وقال ابن حجر: فيه ضعف؛ ولكن له طرق تشهد له فيصبح بها حسناً، قال صلى الله عليه وسلم: {إذا أوترت، فقل: اللهم اهدني في من هديت، وعافني في من عافيت، وتولني في من توليت...}. الحديث.

    ولك أن تدعو بما تيسر، سواء هذا الدعاء أو غيره من الدعاء الذي يجمع لك خيري الدنيا الآخرة.

    آداب الدعاء

    من آداب الدعاء:

    1- أن تبدأ بالحمد لله والصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تدعو.

    2- وترفع يديك بعد أن تقول: سمع الله لمن حمده، لما ثبت في مستدرك الحاكم، قال صلى الله علـيه وسـلم: {إذا رفعت صلبك فارفع يديك وادع الله عز وجل يُجِبْك} أورده ابن القيم في زاد المعاد.

    3- وهل بعد أن تنتهي تمسح وجهك أم لا؟

    الراجح والصحيح ألا تمسح وجهك؛ لأن مسح الوجه لم يرد فيه حديث صحيح، وإنما هو حديث ضعيف، قال ابن تيمية: أما مسح الوجه في الصلاة فلم يرد. ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم حديثٌ صحيح في ذلك، فالأولى أن يمسح خارج الصلاة مرة في الدعاء ويترك مرة، أما داخل الصلاة فلا يمسح الوجه.

    حديث مسح الوجه بعد الدعاء

    السؤال: هل حديث مسح الوجه في الصلاة لا يصح؟

    الجواب: بعض أهل العلم يصححه، منهم ابن حجر، والصحيح: أنه ضعيف، ولكن له شواهد، وابن تيمية يقول: على احتمال تحسين الحديث فيمسح الوجه خارج الصلاة مرة، وعلى احتمال ضعفه يترك مرة.

    وقد أفتى فيه كثير من أهل العلم؛ منهم: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، يقول: خارج الصلاة يمسح مرة ويترك مرة، أما داخل الصلاة فلا يمسح.

    تفصيل نظر الداعي إلى يديه

    السؤال: هل الذي يدعو ينظر إلى يديه؟

    الجواب: لم يرد هناك شيء في النظر، ولكن الأَولى والأرجح أن ينظر إلى كفيه؛ لأنها الوجهة والقصد والمطلوب، وأجمع لقلبك، فينظر هناك عند كفيه، ولا يحيل بصره؛ لأن الداعي إذا دعا إنساناً أو طلبه فمن الأدب أن لا يحرف بصره عنه، وعند عبد الرزاق في المصنف بسند جيد يقول صلى الله عليه وسلم: {إذا قام العبد في الصلاة قام الله عز وجل تجاهه، فإذا انصرف العبد ببصره انصرف الله عنه} وهذه الرواية عن عطاء، ولكن لها شواهد تؤيد أنها صحيحة أو تبلغ الصحيح لغيره.

    قراءة المعوذتان والنفث قبل النوم

    السؤال: الرسول صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه كان يقرأ المعوذات قبل أن ينام وينفث في يديه ويمسح جسمه بذلك، فهل هذا من المسح في الدعاء؟ وهل هذا يقتضي أنه يجوز أن يمسح الداعي بيديه وجهه؟

    الجواب: هذا سؤال جيد، لكن هذا في غير ما نحن فيه، لأن هذا قرآن، وفعل الرسول عليه الصلاة والسلام له يريد به البركة على جسمه، وقد كان يمسح ما أقبل من جسمه وما أدبر.

    وأما ذاك فمسح من باب طول التكريم، وقيل: إظهاراً للنعمة، وقيل: تبركاً لعلَّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يجيب الدعاء.

    حكم قضاء الوتر

    إذا فات المسلم الوتر في الليل، فالسُّـنَّة والذي تَرَجَّح من الأدلة: أن يقضيه في النهار، ولكن يقضيه شفعاً لا وتراً؛ أي: أنه إذا كان ترك في الليل ثلاث ركعات فيصلي في النهار أربعاً، وإذا كان ترك خمساً فتصلي ستاً، وإذا ترك سبعاً يصلي ثماناً.

    ولماذا اختلفت الهيئة في النهار؟

    لأن وتر النهار صلاة المغرب، ووتر الليل صلاة الوتر، والدليل حديثٌ حَسَنٌ، حَسَّنه ابن خزيمة وغيره من أهل العلم، فاقتضى أنه يقضى سبعاً، والدليل عليه ما مر معنا في صحيح مسلم عن عائشة قالت: {كان صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، فإذا فاته الوتر صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة} أي: أنه يجعل بدل إحدى عشرة اثنتي عشرة.

    ولكن السؤال: لماذا روى أبو داود وأهل السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: {من فاته الوتر فليقضه وتراً إذا ذكره} وهذا على نظرين اثنين:

    النظر الأول: أن هذا قول لبعض أهل العلم؛ وذكره محمد بن نصر المروزي، وأن من الناس من يرى أن يقضى الوتر؛ وهي فتيا لبعض أهل العلم، فيقضى على هيئته ثلاث ركعات في النهار أو خمس.

    النظر الثاني: وقيل: إن هذا الحديث فيه ضعف، ويؤخذ بحديث عائشة الصحيح عند مسلم، والأَولى أن يقضى شفعاً في النهار.

    أفضل أوقات صلاة الوتر

    مسألة وهي: ما هو الوقت الأفضل في الوتر؟

    قال أبو هريرة - كما في الصحيحين -: {أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت: بركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر -وفي المسند بدل: صيام ثلاثة أيام في كل شهر ورد: بغسل الجمعة-}.

    قال ابن تيمية: إنما قال صلى الله عليه وسلم لـأبي هريرة أن يوتر قبل أن ينام؛ لأنه كان مشغولاً بتدارس الحديث في الليل، فخاف أن ينام عن مثله، فقال: {أوتر قبل أن تنام} ووقع لـأبي هريرة هذا، فكان يوتر قبل أن ينام، ويتدارس الحديث ثم يصلي ما تيسر، أو ينام.

    وقال ابن تيمية أيضاً: إنما قال صلى الله عليه وسلم: {وركعتي الضحى} لتعوض ركعتي الضحى عن قيام الليل في آخر الليل الذي قد لا يتسنى لـأبي هريرة وأمثاله من الناس أن يصلوا ركعتي الضحى. فلْيُعْلَم هذا، فمن أوتر قبل أن ينام ولا يستطيع أن يقوم الليل له أن يصلي الضحى وهي صلاة الأوابين، فيكفر الله بها عنه، ويكتب له أجر ثلاثمائة وستين مفصلاً من مفاصل جسمه في هاتين الركعتين الخفيفتين، فهذا وقت.

    أما أوقاته الأخرى فالأفضل تأخيره إلى الليل؛ لحديث أبي أيوب الأنصاري: {اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً} وهو في سنن أبي داود كذلك، وصححه ابن حبان والحاكم.

    ولك أن توتر بعد صلاة العشاء، ولا بأس أن توتر قبل أن تنام، لكن أفضل أوقات الوتر آخر الليل، والوقت الفاضل كذلك قبل النوم، والوقت المفضول بعد صلاة العشاء.

    والإنسان يعرف عادته، وقدرته، وما يستطيع له، و: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].. فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

    سؤال: من نام بعد أن أوتر في الليل، ثم قام آخر الليل، هل يعيد الوتر، وقد أوتر في أول الليل، أم ماذا يفعل؟

    الجواب: يصلي شفعاً ولا يوتر، وهذا رأي الإمام مالك وأورده في الموطأ أنه يصلي شفعاً ولا يوتر وكأنه الصحيح، وهو الأولى؛ لأنه لا وتران في ليلة.

    فإذا أوتر في أول الليل فليصل شفعاً ركعتين، أو أربعاً، أو ستاً، أو ثماناً.

    وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: أن من أوتر في أول الليل، وقام في آخر الليل وقد أوتر في أول الليل أنه يصلي ركعة واحدة تشفع له ما صلى، ثم يبدأ يصلي من جديد على الشفع ثم يوتر.

    لكن الأَولى ما ذهب إليه الإمام مالك لظاهر الحديث: أنه إذا أوتر في أول الليل يكتفي ويصلي ما يسر الله شفعاً.

    حكم الصلاة بعد الوتر مباشرة

    هل يصلى بعد أن يصلي الوتر مباشرة؟

    ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى ركعتين بعد الوتر جالساً، فلك أن تصلي بعد الوتر جالساً ركعتين.

    قال النووي: يحتمل أن هذا لبيان جواز الصلاة بعد الوتر؛ لأن بعض الناس يتوهم أنه لا يجوز أن يصلي بعد الوتر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بهاتين الركعتين.

    1.   

    الأمور المساعدة على قيام الليل

    ما هي الأمور التي تعين المسلم على قيام الليل؟

    وأما فضل قيام الليل، فمهما عدَّد المعدِّد، ومهما تكلم المتكلم عن فضله فإنه أكثر من أن يذكر، ومن أراد تربية نفسه وروحه وقيادة قلبه إلى الله عز وجل فعليه بقيام الليل، ولو بمقدار حلب شاة، وورد في مجمع الزوائد بأسانيد تفيد أنه حديث حسن: (لا بد من قيام بالليل ولو بقدر حلب شاه) فهذا الوقت الصغير القصير الذي يمكن أن يقوم الإنسان ولو قبل صلاة الفجر بدقائق، يمكنه من الدعاء المستجاب إن شاء الله؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينـزل في الثلث الأخير إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه) فهذا هو وقت الإجابة وهو من أعظم الأوقات.

    ومما يعين على قيام الليل: التقليل من الخطايا والذنوب؛ فإنها توبق العبد، وتقيده عن قيام الليل، وعن الأعمال الصالحة، قيل للحسن البصري: [[يا أبا سعيد! لا نستطيع القيام؟ قال: قيدتكم خطاياكم ورب الكعبة]] فعلى العبد أن يستغفر كثيراً قبل أن ينام، وأن يتوب إلى الله.

    يقول ابن تيمية: للعبد أن يأخذ وِرداًً من الدعاء، وحبذا لو كان قبل النوم، يقول في المجلد العاشر، والحادي عشر: حبذا أن يكون قبل النوم ليكون كفارة لما أسرف به وفعله في نهاره، ولا بد من الذنوب والخطايا.

    فعلى العبد أن يستغفر قبل أن ينام كثيراً، وأن يذكر الله لينام وهو تائب منيب، فإن توفاه الله كان من الخالدين الصالحين: الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16] وإن كان من الباقين كتب الله أجر يومه، وغفر ذنوبه.

    ومما يعين على قيام الليل: التسبيح ثلاثاً وثلاثين، والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتكبير ثلاثاً وثلاثين؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بها علياً وفاطمة -رضي الله عنهما- فقال: (هما خيرٌ لكما من خادم) قال ابن القيم: يريد أنها في القوة مثل الخادم. فهي مجردة تقوي العبد، وتجعل عنده نشاط وهمة، ومن يسر الله له الخير تيسر.

    وكذلك أن ينام الإنسان مبكراً، وألاَّ يسهر كثيراً في غير طارئ إلا في مدارسة علم، أو في جلسة خير، أو قراءة القرآن وتدبره، وإذا علم أنه سوف يقوم لصلاة الفجر وتدبره، أما إذا علم أنه سوف تفوت عليه صلاة الفجر، فحرام أن يسهر هذا السهر، فليُعلم هذا.

    وفي البداية والنهاية لـابن كثير قال ابن كثير: توفيت زبيدة زوجة هارون الرشيد، وأم الأمين، فرئيت في المنام، وزبيدة هذه هي التي أجرت عيناً في مكة، المسماة: عين زبيدة، فرئيت زبيدة هذه في المنام، فقال لها ابنها: ما فعل الله بك؟ قالت: كدت أهلك -أي: أُعَذَّب- فقال: وأين العين -عين زبيدة - وأجرها وثوابها التي أجريتِها للحجاج؟ قالت: ما نفعتني بشيء، كادت تهلكني تلك العين، قال: ولِمَ؟ قالت: ما أردت بها وجه الله فما نفعتني. قال: وما نفعك إذاً؟ قالت: نفعتني رحمة الله، ثم إنه ما مرت عليَّ ليلة إلا أقوم في السحر، فأتوضأ ثم أقوم على شرفات القصر -قصر هارون الرشيد؛ لأنه خليفة وهي زوجته- فأنظر في السماء وأقول: لا إله إلا الله أدخل بها قبري، لا إله إلا الله أقضي بها عمري، لا إله إلا الله أقف بها في حشري، لا إله إلا الله يغفر بها ربي ذنبي.

    فهذا العمل القليل نفعها أكثر من تلك العين، والمشروع الضخم الذي عد في التاريخ من أفضل المشاريع التي عرفتها الأمة، ما نفعها بشيء: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] إن عملاً لا يراد به وجه الله لا ينفع صاحبه أبداً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما أورده المنذري في الترغيب والترهيب: (يا معاذ! أخلص عملك يكفيك القليل) فإن المقلَّ مع الإخلاص يكفيه وهو من السابقين عند الله عز وجل، والمكثر بلا إخلاص لا ينفعه، كالذي يحمل الحجارة على ظهره فهو لم يستفد منها، ولم يسلم من حملها وثقلها، فليُعلم هذا.

    نسأل الله عز وجل لنا ولكم التوفيق والهداية.

    1.   

    الأسئلة

    أحوال السلف في البكاء من خشية الله

    السؤال: كيف نوفِّق بين ما ذكر في الدرس من أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه كان إذا قرأ لا تسمع قراءته من كثرة البكاء، وبين الأوزاعي الذي كان لا يبكي أمام الناس، فإذا خلا بنفسه بكى حتى يَرثِِي له الجيران؟

    الجواب: هذا ثابت في الصحيح من حديث عائشة: {كان أبو بكر رجلاً أسيفاً -وفي لفظ: حزيناً، وفي لفـظ: رقيقاً-} وورد في كتاب الزهد للإمام أحمد بسند جيد: [[أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه دخل مزرعة رجل من الأنصار فرأى طائراً يطير من شجرة إلى شجرة، وهو خليفة، فبكى حتى جلس، فقال له الصحابة: ما لك يا خليفة رسول الله؟ قال: أبكي من هذا الطائر، يرد الماء، ويأكل الشجر، ثم يموت، فلا حساب ولا عذاب، ثم قال: يا ليتني كنت طائراً!]] فبكى الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا معلوم.

    وفي مسند الإمام أحمد -وأول مسند فيه أبو بكر - في الصفحات: الأولى، والثالثة، والرابعة: أنه وقف على المنبر فبكى، ثم رفع رأسه وقال: [[أيها الناس! وقف صلى الله عليه وسلم موقفي هذا، ثم بكى ونكس رأسه، ثم رفع رأسه، ثم قال: أيها الناس! نسأل الله العفو والعافية]] فعُلم أن أبا بكر لا يمتلك عينيه رضي الله عنه، طبيعته هكذا، وإيمانه، واتصاله بالله جعله لا يملك عينيه أبداً، بل ربما كان في حياته يقولون: [[إذا ذكر صلى الله عليه وسلم دمعت عيناه على لحيته رضي الله عنه وأرضاه]].

    وأما الأوزاعي فأورد ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة الأوزاعي، وأورد الذهبي، صاحب سير أعلام النبلاء: أنه كان لا يبكي أمام الناس، وإذا خلا أغلق على نفسه بابه وبكى طويلاً حتى يَرثِي له جيرانه، من خشية الله عز وجل.

    ويوفق بينهم أن الأوزاعي استطاع أن يملك شعوره وجوارحه, وأن يملك عواطفه فاستطاع ألا يبكي، أما أبو بكر فما استطاع، يقول المتنبي:

    إذا اشتبكت دموع في خدود     تبين من بكى ممن تباكَى

    فهذا استطاع، وذاك لم يستطع، فرضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً.

    حكم قضاء الوتر بين أذان الفجر والإقامة

    السؤال: هل يقضي الوتر بين أذان الفجر والإقامة؟

    الجواب: هذه المسألة فاتتنا، وقد تعرض لها ابن حجر، هل يقضى الوتر بين أذان الفجر وبين الإقامة؟

    ورد في حديث عند محمد بن نصر المروزي أنه صلى الله عليه وسلم قال: {إذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بركعة} وهو في الصحيح من حديث ابن عمر، قال: {وقف رجلٌ يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! صلاة الليل؟ قال: مَثْنَى مَثْنَى، فإذا خشيت الفجر فأوتر بركعة} فقال: خشيت الفجر، أي: أنه لا صلاة وتر بعد الفجر.

    لكن أورد ابن حزم، صاحب المحلى: أن الصحابة أوتروا بعد الفجر.

    وخلاصة المسالة: أن من فاته الوتر، وأتى الفجر فله أن يصلي ولو ركعة بعد أذان الفجر إلى الإقامة، ولا بأس بذلك، وأما أن يتخذها عادة دائماً فلا يصح هذا، والصحابة لم يفعلوه، ولا الرسول صلى الله عليه وسلم.

    من الأسباب المعينة على قيام الليل

    السؤال: هل التخفيف في وجبة العشاء من الأسباب التي تعين على قيام الليل؟

    الجواب: وهذا الكلام الذي أورده الأخ الكريم أورده الغزالي في إحياء علوم الدين يقول: إن من الأسباب التي تعين على قيام الليل: أن يخفف الإنسان عشاءه.

    حكم قضاء النافلة

    السؤال: من نسي النافلة، ثم ذكرها، ماذا عليه؟

    الجواب: إذا كان في الليل الثاني فله أن يقضيها، ولو ذكرها بعد أيام؛ لأن هذا من باب قضاء النوافل، والنوافل تقضى ولو بعد أيام.

    حكم صلاة الوتر بسلام واحد

    السؤال: هل يصلي الوتر بسلام واحد؟

    الجواب: هذا هو الصحيح، وهذا هو الأولى والأغلب؛ لكن المسألة التي أوردتُها قبل قليل فهي لبيان الجواز، فمَن صلاها بسلام واحد فجائز؛ لحديث أُبَي الذي أورده في سنن النسائي أنه صلاها صلى الله عليه وسلم بسلام واحد، ولكنه كان غالباً يصليها بفاصل، وما هذا إلا لأبين الجواز من الأفضل، ولكن الأفضل أن يفصل مثنى مثنى، أي: بسلام.

    من لا يستطيع قيام الليل؟

    بقيت مسألة لا بد من التنبيه عليها، وهي: أن كثيراً من الناس لظروفهم ولأعمالهم ولمشاغلهم، وما عندهم من الأسر لا يستطيعون أن يداوموا على قيام الليل، فما هو الذي ينوب عن قيام الليل؟ وكثير من الناس ليس عندهم مال ينفقونه في سبيل الله، ولا عندهم طائل في المال ولا في الدخل، فماذا يفعلون؟ وكثير من الناس كذلك لا يستطيعون أن يجاهدوا في سبيل الله، فماذا يفعلون؟

    وكل هذه الأسئلة يجيب عنها سؤال معاذ رضي الله عنه وأرضاه، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَن أعياه الليل أن يكابده، والنهار أن يصومه، والمال أن ينفقه، والعدو أن يجاهده، فعليه بذكر الله عزوجل} فأدلكم وأدل نفسي على أكبر وأفضل وأيسر وأسهل عمل في الإسلام يعدل القيام والصيام والنفقة والجهاد، ويعدل كل نافلة في الإسلام بعد الفرائض: عليكم بذكر الله، معنى ذلك: أنك تذكر الله في بيتك ومسجدك وطريقك وسيارتك؛ حتى تصبح عادة، ولذلك ورد عنه صلى الله عليه وسلم عند الترمذي، كما أورده ابن حجر في بلوغ المرام في باب الذكر؛ يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: {أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه} فكلما ذكر الله عز وجل، وكلما حرك العبد شفتيه كلما كان قريباً من الله، فينوب عن قيام الليل والصدقة والأنفاق وعن كثير من البذل.

    وعند ابن تيمية في المجلد العاشر رسالة من سائل اسمه أبو القاسم المغربي، بسؤال مشهور؛ قال فيه: دلني على أفضل عمل بعد الفرائض؟ قال: عليك بذكر الله.

    فأفضل عملٍ بالإجماع بين أهل العلم هو: ذكر الله عز وجل.

    فعلى المسلم أن يعود نفسه على التسبيح، لأنه قد يسبح في المجلس الواحد أو في دقائق معدودة ما يعادل أجر نفقة كثيرة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: [[لأن أقول: سبحان الله! أحب إليَّ من أن أنفق درهماً في سبيل الله]].

    وعند الترمذي بسند حسن؛ قال صلى الله عليه وسلم: {من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غُرِسَت له نخلة في الجنة}.

    فعلى الإنسان أن يستعين بالله عز وجل، وأن يكثر من الذكر والدعاء لتنوب عن هذه الأمور، ثم إن تيسر له القيام والصيام والنافلة والجهاد والإنفاق فعليه بذلك، والله الميسر.

    أفضل الذكر

    السؤال: ما هو أفضل الذكر؟

    الجواب: أفضل كلمة أتى بها صلى الله عليه وسلم بعد القرآن وهي من القرآن: لا إله إلا الله؛ فليس في الإسلام أفضل منها، وكل الكلمات تضم شفتيك بها: التسبيح والتكبير والتحميد والاستغفار والحوقلة، أما لا إله إلا الله فالإنسان لا يستطيع أن يضم شفتيه فيها، ومن أراد أن يجرب فليجرب إذا انتهت صلاة العشاء مائة مرة ليكتب الله له مائة حسنة، ويمحو عنه مائة سيئة، فتكون له عدل عشر رقاب، وتكون له حرزاً يومه ذلك حتى يمسي، كما في حديث أبي هريرة عند البخاري.

    حكم الذكر مع انشغال القلب

    السؤال: بعض الناس يذكر الله عز وجل وقلبه مشغول، فلا يذكر إلا بلسانه.

    الجواب: الذكر على ثلاث مراتب:

    المرتبة الأولى: أن تذكر الله بقلبك وبلسانك.

    والمرتبة الثانية: أن تذكر الله بقلبك دون لسانك.

    والمرتبة الثالثة: أن تذكر الله بلسانك دون قلبك.

    وكل هذه مأجور ومشكور فيها، وثوابك حاصل لكن على درجات، أفضلها: الدرجة الأولى، مهما حركت شفتيك فالله معك، ومهما تلفظت فالملائكة تسجل ما قلت، سواءً أحضر قلبك أم غاب، فعليك بالاشتغال بذكر الله عز وجل: {سبق المفردون: قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات}.. أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] فاذكروا الله يذكركم.

    حكم حديث: لا تصلوا ثلاثا، لا تشبهوا

    السؤال: ما حال حديث: {لا تصلوا ثلاثاً، لا تشبِّهوا بها صلاة المغرب

    الجواب: هذا الحديث وارد، يقول: {لا تصلوا ثلاثاً، لا تشبِّهوا بها صلاة المغرب} وهذا لا يحضرني سنده إلى الآن، فأنا أبحث عنه، ومن عنده سنده فليفدنا بهذا الحكم على هذا الحديث.

    حكم صلاة الوتر بعد جمع التقديم

    السؤال: هل يُصلِّي المسافر الوتر بعد العشاء إذا جمعها مع المغرب؟

    الجواب: إذا جمعت العشاء والمغرب جمع تقديم فلك أن تصليها، فلو صليتها مع العشاء بعد صلاة العشاء لصح هذا، لكن الأفضل أن تجعله قبل نومك، ولكن لو صليته مباشرة بعد العشاء لصح الوتر، فهو وتر الليلة، والليلة تبدأ من غروب الشمس إلى بداية الفجر، بلا شك.

    وفي ختام هذه الجلسة نتوجه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يتجاوز عنا وعنكم سيئها.

    اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.

    اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين!

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718756

    عدد مرات الحفظ

    768431843