أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته:
ما زالت هذه الجلسة مع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم العطرة، وأيامه المشرقة، وأنفاسه المتوهجة بنور الإسلام صلى الله عليه وسلم، وإن كان للحياة سعادة، وللعيش لذة، وللعمر مواهب؛ فإنما هو في تذكر سيرته صلى الله عليه وسلم.
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يوفقنا لاتباعه صلى الله عليه وسلم، وأن يحشرنا في زمرته، وأن يجعلنا من الشاربين من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
ومعنا في هذا الدرس هديه عليه الصلاة والسلام في السفر.
ماذا كان يفعل في سفره صلى الله عليه وسلم؟ في قصره.. إفطاره.. أذكاره.. نوافله عليه الصلاة والسلام.
وقد ذكر الله عز وجل السفر في كتابه، فذكر سفر الأنبياء، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ [الأنعام:11] ولما دمر قرى قوم لوط، وحاسبهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى، قال لقريش وللمشركين عامة: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً [الفرقان:40].
يقول: أما مروا وهم مسافرون في رحلة الصيف إلى الشام على قرية قوم لوط فرأوها مدمرة؟ لماذا لم يتعظوا؟! فالذي يسافر ولا يتعظ لم يستفد من سفره.
وذكر الله عز وجل أن إبراهيم عليه السلام لما سافر إلى مكة، وعاد منها مودعاً أهله قال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].
وذكر سبحانه سفر لوط عن قومه، وقال: وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [العنكبوت:26] فانظر إلى تأدبه مع الله فقال: مهاجر، ولم يقل: مسافر؛ لأن من سافر لطاعة الله ولو كان في نزهة فهو مهاجر بإذن الله.
وذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى موسى عليه السلام، وأنه لما كلّ وملّ وجاع في السفر قال لغلامه: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً [الكهف:62] وكان يسافر لطلب العلم.
وقد عقد البخاري في كتاب العلم باباً قال: باب السفر في طلب العلم، ثم أتى بقصة موسى عليه السلام يوم سافر للخضر وركب البحر؛ فأتى بهذه القصة.
وهنا سبع وعشرون مسألة، نتدارسها في هذه الجلسة المباركة، التي نسأل الله أن تكون خالصة لوجهه، وأن تكون كفارة لكل مجلس باطل جلسناه، أو لغو تحدثنا فيه، أو مجلس ضيعناه.
قيل لـجعفر بن محمد الصادق: لماذا لا تصاحب الناس والإخوان؟ قال: أخاف وحشة الفراق.
وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى إذا ودع أصحابه بكى وقال:
هو الدهر قد يعطيك من فلتاته رزية مال أو فراق حبيب |
وابن المبارك ودع أصحابه وهم سائرون في الغزو؛ فبكى كثيراً، وقال:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا |
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا |
وعمر بن الخطاب كانت من أسعد اللحظات في حياته تلك الساعة التي ودَّع فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال له: {لا تنسنا يا أخي من دعائك}.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذا لـعمر، والحديث في الترمذي وقد تكلم فيه بعض أهل العلم، لكن الصحيح أنه حديث حسن، قال: {لا تنسنا يا أخي من دعائك} فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذا وعمر حسنة من حسناته، وتلميذ من تلامذته، وقد كان عمر ذاهباً ليعتمر.
ثم يقول عمر وهو يبكي ويتذكر هذه الكلمة بعد وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام: [[كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها]].
والرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا ودع أصحابه كما في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب يقول: {أستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم} وفي الصحيح أن ابن عمر قال: {كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ودع أحدنا قال: استودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك}.
فالمسلم ينبغي له أن يقول هذا الدعاء، فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إذا استودع على شيء حفظه، والله لا تضيع ودائعه، وأحسن وأعظم ما يحفظه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الدين، والعمل، والإخلاص، والتوجه، وخواتيم العمل.
وفي السيرة لـابن هشام وابن إسحاق قصة عبد الله بن رواحة وقد ذكرها ابن كثير وهي أن ابن رواحة لما ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان أرسله يغزو في سبيل الله في مؤتة وهي قريبة من معان، فتخلف ابن رواحة عن أصحابه وصلى الجمعة مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال له عليه الصلاة والسلام: {ما خلفك عن أصحابك؟ قال: ليكون آخر عهدي بك أن أراك على المنبر، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد فاتتك غدوة خير من الدنيا وما فيها} فلما ودعه بكى ابن رواحة، فقال الصحابة: مالك تبكي يـابن رواحة! أعادك الله علينا بالخير؟ قال: لا والله.
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وطعنة ذات فرغ تقذف الزبدا |
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غاز وقد رشدا |
فكان الصحابة كلما مروا على قبره يتباكون، ويقولون: يا أرشد الله من غاز وقد رشدا- ولما انتهى نظر ابن رواحة إلى النخل وفيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال وهو يبكي:
خلف السلام على امرئٍ ودعته في النخل خير مودع وخليل |
وودع صلى الله عليه وسلم معاذاً وقد ذكر القصة الذهبي في سير أعلام النبلاء في المجلد الأول، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم ودع معاذاً فبكى معاذ طويلاً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له:{يا
والرسول صلى الله عليه وسلم قد ودع كثيراً من أصحابه فكان يوصيهم بذكر الله وبتقوى الله عز وجل كما ودع أبا ذر.
قال بريدة بن الحصيب: [[كان إذا كان لنا قائد في الغزو اختص صلى الله عليه وسلم بهذا القائد، فأوصاه بتقوى الله في ذات نفسه، ثم خطب في الناس فأوصاهم بتقوى الله عامة]].
وأما أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فإنه استعرض الجيش -الغازي في سبيل الله- الذي خرج إلى الشام، وكان أميره يزيد بن أبي سفيان أخو معاوية، وهو خير من معاوية وأفضل عند أهل السنة والجماعة، فودعه أبو بكر وأوصاه بتقوى الله، وقال: [[الله الله في الإخلاص، ثم قال: إنما ثقل الحق على قوم لأنهم ملوه، وإنما خف الباطل على قوم لأنهم أحبوه]] ثم ودعه، وودع خالداً ودعا له كثيراً.
وعمر رضي الله عنه وأرضاه ودع جيش سعد الذي ذهب إلى القادسية، وخطب فيهم خطبة عظيمة، ثم أخذ سعد بن أبي وقاص ومال به عن الجيش، وقال له: [[يا سعد بن وهيب! -سعد هو: سعد بن مالك بن أبي وقاص، لكن سماه سعد بن وهيب ليصغر من شأنه في نفسه، ويحقره كي لا تعجبه نفسه- قال: يا سعد بن وهيب! لا يغرنك قول الناس أنك خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، وإن أفضلهم عند الله عز وجل أتقاهم]] ثم أوصاه وذهب.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يوصي الناس بالاستخارة قبل السفر.
قال أهل العلم: الاستخارة قبل السفر في السفر الذي ما ترجحت مصلحته، فأنت مضطرب لا تدري أتقدم على هذا السفر أم تحجم، فكان من الحكمة أن تستخير الله عز وجل، أما سفر حج أو عمرة أو طلب علم، فهذا واضح، وإن استخرت فلا بأس وأنت مأجور على هذا، لكن السفر الذي لم يظهر لك وجه المصلحة فيه فعليك أن تستخير الله، بعد أن تتوضأ وتصلي ركعتين، ثم تدعو بالدعاء المعروف في حديث جابر، وبعدها سوف يسهل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أمرك.
ولذلك يقول لبيد بن ربيعة:
زعم البوارح أن رحلتنا غداً وبذاك ينعاق الغراب الأسود |
يقول: نحن مسافرون غداً وقد أخبرنا بذلك الغراب؛ لكن ليس عند الغراب خبر، إن الأمر إلا عند الله عز وجل، ولذلك لام الله المشركين؛ لأنهم يستقسمون بالأزلام، فكلما أرادوا السفر ضربوا بالقداح، فإن خرج اخرج خرج، وإن خرج لا تخرج ترك، وهذا من عبادة غير الله عز وجل.
قال ربيعة -كما في سنن الترمذي -: {كنت مع
وكان عليه الصلاة والسلام إذا انطلق في السفر، قال: {اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطو عنا بعده، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل} وزاد بعضهم: الولد لكن الرواية الصحيحة الأهل.
فهذا الدعاء يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليه، ويستحفظ الله عز وجل في أهله بعده، ثم يسأل الله عز وجل تسهيل السفر، وطي الأرض؛ لأن الأرض تطوى للصالحين، وهذه من كرامات الصالحين.
ومن تيسير الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقطع المسافات الطويلة في وقت قصير، وكلما كثُر صلاح الرجل، واستغفاره، وذكره لله، سهل الله عليه السفر، فلم يأته من وعثاء السفر شيء، أو ما يشغله في سفره، وأعاده الله سليماً معافىً.
ومن السنة والحكمة والمصلحة أن يكثر الإنسان من الذكر، خاصة آية الكرسي والمعوذات وقل هو الله أحد، إذا ركب دابته، ويتعوذ؛ ليحفظ الله عز وجل عليه كيانه، وإيمانه، ودينه؛ لأنه لا يدري بالمتالف ولا بالحوادث، والدعاء يرد القضاء بإذن الله، وإنما تلف من تلف في الحوادث؛ لأنهم ما ذكروا الله وما استعصموا بالله عز وجل، فلوا أنهم دعوا الله وتعوذوا به؛ لأعاذهم الله عز وجل، ولكن إذا وقع القضاء والقدر لطف الله بسبب الدعاء.
وأسفاره ثلاثة أنواع: إما حج، أو عمرة، أو غزو في سبيل الله عز وجل.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فأسفاره صلى الله عليه وسلم تدور على هذه الأنواع الثلاثة: إما حج، أو غزو في سبيل الله، أو عمرة يعتمر فيها، ولكن ذكر أهل العلم أن هناك سفراً لطلب العلم، وهذا من أعظم الأسفار، وسفر لزيارة الصالحين، وسفر للتفكر في آيات الله المعروضة، وسفر للنزهة، وسفر للمعصية، وقد ذكر ذلك ابن تيمية في فتاويه.
وتساءل شيخ الإسلام: هل يجوز أن تقصر إذا سافرت في المعصية؟ نعوذ بالله من المعاصي ما ظهر منها وما بطن، ومثّل على ذلك بمثال، يقول: كأن يخرج يريد قتل إنسان في المدينة أو في قرية بعيدة، هل له أن يقصر ويفطر، أو سافر لمعصية أخرى لأخذ مال أو نحو ذلك، فقال: نعم. له أن يقصر، وله أن يفطر؛ لأن الله أطلق السفر في القرآن ولم يقيده بشيء، وأما بعض أهل العلم كـأبي حنيفة فقال: أما سفر المعصية فلا يقصر فيه، وهذا سوف يأتي معنا.
إذاً أسفاره صلى الله عليه وسلم حج وعمرة وغزو، ولك أن تسافر في غير ذلك لنزهة، أو لتفكر في آيات الله المعروضة في الكون: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53].
وذكروا عن الجنيد بن محمد أنه كان كثير الأسفار، فقيل له: مالك كثير الأسفار؟ قال: لا أذكر الآخرة إلا إذا رأيت الفيافي، وهي الصحاري الطويلة العريضة، فهناك يتذكر الآخرة.
وبعض الناس إذا خرج من المدن والقرى وأصبح في الصحراء؛ يتذكر فناء العالم، ودمار هذه المعمورة، وانتقال الناس والرحيل إلى الحي القيوم، فيخشع ويلين، فما عليه أن يسافر إذا أراد بعمله وجه الله عز وجل ليستعين به على طاعة الله.
يقول كعب بن مالك كما في صحيح البخاري وصحيح مسلم: {كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج خرج صباح الخميس} فكان أحسن الأوقات له صلى الله عليه وسلم يوم الخميس، يتفاءل فيه عليه الصلاة والسلام وكان يعجبه الفأل، فيخرج يوم الخميس في الصباح، لكنه في بعض الأسفار لا يستطيع أن يحكم ظروفه ليخرج في هذا اليوم، فكان يخرج في أي يوم من الأيام، إلا يوماً واحداً ووقتاً سوف أتكلم عنه.
وأما أحب الأوقات له صلى الله عليه وسلم فكان الصباح بعد صلاة الفجر، وكان صلى الله عليه وسلم يسافر في الغالب بعد صلاة الفجر، وكان يقول كما في حديث أبي صخر الغامدي في مسند أحمد: {بارك الله لأمتي في بكورها} أي: في صباحها يوم تصبح، وفي أثر: أن الأرزاق تقسم والأرض تطوى في الصباح، وهو أعظم وقت يستغله المسلم، ولذلك تقرب له المسافات بإذن الله عز وجل، وينهي أعماله؛ لأن الوقت في الصباح مبارك.
وذكر أهل العلم أن أبا صخر الغامدي راوي هذا الحديث:{بارك الله لأمتي في بكورها} أخذ بهذه الوصية، فكان يبيع ويشتري منذ الصباح الباكر، قال: فكثرت أمواله، حتى لا يدري أين يضعها، والقصة هذه في مسند أحمد وما ذاك إلا لأنه أخذ بوصيته صلى الله عليه وسلم.
والسفر في كل الأيام مقبول بإذن الله، وأحسنها يوم الخميس، وأحسن الأوقات الصباح بعد الفجر، وأما الجمعة فاختلف فيها أهل العلم، قال قوم: لا يسافر حتى بعد فجر يوم الجمعة، وقد رووا: {أن ملكاً ينادي من سافر يوم الجمعة ويقول: لا وفقك الله ولا صحبك الله في سفرك} وهذا الحديث ضعيف لا تقوم به حجة، وقد سافر بعض الصالحين بعد فجر يوم الجمعة، لكن الذي نُهي عنه بعد النداء الثاني من صلاة الجمعة، فلا يسافر المسافر أبداً، أمَّا بَعْد الفجر فله أن يسافر، ولو ترك السفر يوم الجمعة لكان أحسن وأولى حتى يسدده الله؛ لأن يوم الجمعة وقت تفرغ وعبادة، ووقت مقام مع الحي القيوم، وهو عيد المسلمين، فلو صرف السفر يوم الجمعة لكان أحسن، أمَّا بَعْد النداء الثاني فإنه حرام لا يجوز له، ولن يوفق في سفره، إذا عصى الله ورسوله وسافر بعد النداء الثاني.
جعله في السفر مؤمناً؛ لأنها كلمة مطلقة، فكل متق مؤمن، وليس كل مؤمن متقياً، فالمؤمن أقل درجة، أي: أنه يشترط في أكل الطعام ودخول البيت أن تتحفظ أو تستصحب الصالحين أكثر من السفر، أما السفر فكل من آمن بالله عز وجل رافقه، فأما استصحاب الجلوس في البيوت مع الناس فالواجب أنك تؤاخي المتقي لله كثيراً: {فلا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي} لأن الفجرة -والعياذ بالله- تتنزل عليهم اللعنات، ومن كان مع قوم أشركهم؛ فإن الشر يعم والخير يخص.
ولذلك قال جعفر بن محمد الصادق لابنه وهو يوصيه كما في تراجمه: يا بني! لا تصاحب أربعة: لا تصاحب الفاجر، ولا تصاحب عاق الوالدين، ولا تصاحب الكذاب، ولا تصاحب البخيل.
فأما عاق الوالدين فإن الله غضب عليه، فكيف ترضى عليه وقد غضب الله عليه.
وأما الفاجر فإن اللعنة تتنزل عليه، فإياك أن تتنزل عليه لعنة فيصيبك منها مصيبة.
وأما البخيل فيبيعك أحوج ما تكون إليه.
وأما الكذاب كالسراب يقرب لك البعيد ويبعد عليك القريب.
فهؤلاء الأربعة أوصى هذا الرجل الذي له قدم صدق في الإسلام ابنه ألا يصاحبهم، وقس عليهم أمثالهم، والمسلم آتاه الله بصيرة من لدنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
والمسافر إذا سافر عن أهله انكسر قلبه بالفراق والوحشة؛ فإذا انكسر قلبه؛ أجابه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فثلاثة دعوتهم مقبولة عند الحي القيوم، الوالد لولده، والمظلوم على ظالمه، والمسافر، وعند أبي داود: {الصائم حتى يفطر، والوالد لولده، والمظلوم على ظالمه} ورواية المسافر صحيحة؛ فإن له دعوة لا ترد بإذن الله.
فعلى المسلم أن يغتنم سفره في الدعاء، وكثرة التهليل والتكبير والتسبيح، وأن يلتجئ إلى الحي القيوم.
وفي صحيح مسلم قال أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: {كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، فسرنا؛ فعرض له جبل اسمه جمدان - جمدان جبل يقع بين مكة والمدينة - فقال: سيروا هذا جمدان سبق المفردون، قلنا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات}.
قال سهل بن سعد: {دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنية، فتعبنا فيها - هذه الثنية هي: جبل شائك ركبوه بفرسانهم وخيولهم فتعبوا فيه - فلما نزلوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه، فقال الصحابة: نستغفر الله ونتوب إليه، قال: أبشروا وأملوا في ربكم ما يسركم! هذه والذي نفسي بيده! الحطة التي عرضت على بني إسرائيل يوم دخلوا الباب، قال لهم الله عز وجل: وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ [الأعراف:161]}.
لما دخل اليهود باب أريحا في فلسطين قال لهم الله: قُولُوا حِطَّةٌ [الأعراف:161] أي: قولوا: غفرانك يا رب! نستغفرك ونتوب إليك من الذنوب والخطايا، فأخذوا يستهزئون ويتبطحون على أدبارهم، ويقولون: حنطة في سنبلة، وحنطة في شعرة، فأخزاهم الله عز وجل وقطع دابرهم، فقبلها أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، وقالوا: نستغفرك الله ونتوب إليك.
قال أهل العلم: من تعب في سفره، أو صعد جبلاً، أو حمل حملاً ثقيلاً، فليقل: نستغفر الله ونتوب إليه؛ لأنه لم تأت مشقة في سفر إلا بالذنوب التي لا نخلو منها طرفة عين، فإن ذنوبنا عدد أنفاسنا، نذنب ونحن جلوس في بيوتنا، وتذنب قلوبنا وأبصارنا وأسماعنا، ولا يغفر الذنب إلا الحي القيوم، فالجأ إليه واستغفره دائماً وأبداً.
والمقصود هنا: كثرة الدعاء في السفر والتهليل والتكبير؛ ليصحبك الله عز وجل وليؤنسك مما تخاف.
فالرجل قد يكون حليماً مع أهله وفي بيته، ولكن إذا سافر انكشفت أموره، ولذلك لما استشهد عمر رضي الله عنه وأرضاه رجلاً قال: [[من يزكيه؟ فقام رجل من الناس يزكيه، قال: هل صاحبته في سفر؛ فإن السفر يسفر عن أخلاق الرجال، قال: لا. قال: اجلس فإنك لا تعرفه]] وقال: هل جاورته؟ هل عاملته بالدرهم والدينار؟
إذاً: فالسفر يخرج أخلاق الرجال؛ لأنه وقت كربة ومشقة وجوع وملل، وثلاثة لا يُلامون في سوء أخلاقهم: المريض، والصائم، والمسافر.
ولذلك أمر بحسن الخلق في السفر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس أخلاقاً إذا سافر.
وإذا صحبت أرى الوفاء مجسماً في بردك الأصحاب والخلطاء |
وتمد حلمك للسفيه مدارياً حتى يضيق بحلمك السفهاء |
فهو صلى الله عليه وسلم كما وصفه ربه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
إذاً فحسن الخلق والتحمل، والذي لا يعرف من نفسه أنه لا يتحمل فلا يسافر مع المؤمنين.
وهذا الإمام أحمد بن حنبل، قال له علي بن المديني: سمعت أنك تريد الحج فأريد أن أحج معك، قال: لا. حج وحدك وأحج وحدي؛ لئلا تملني أو أملك.
اعلموا بارك الله فيكم، وقد علم كثير منكم أو علمتم جميعاً أن أقوال العلماء في مسافة القصر في السفر متعددة متشعبة، بعضهم قال: يقصر في بردان أو ثلاثة برود أو أربعة، كما بين مكة إلى عسفان، وما بين مكة إلى جدة، وما بين مكة إلى الطائف، وقد نُقل هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما في صحيح البخاري تعليقاً، وأتى مسنداً عنه صحيحاً إليه، وذكره ابن تيمية في المجلد الثالث والعشرين من فتاويه، وورد عن أنس أنه فرسخ، وورد عنه أنه ميل، وورد عن آخرين قولهم: مسافة ثلاثة أيام، وآخرين: يومان، وغيرهم أربعة فراسخ، واضطربت الأقوال في هذه المسألة.
والنتيجة والتحقيق -إن شاء الله- الذي عليه المحققون كـابن تيمية وابن القيم، أنه ليس هناك مسافة للقصر في السفر، وليس هناك سفر له مسافة، بل كل ما سمي سفراً فاقصر فيه.
فإذا تعارف الناس في لغتهم أن هذا الخروج يسمى سفراً فاقصر فيه، أما إذا أنكروا من قلوبهم وأنكروا عليك أن هذا ليس بسفر فلا تقصر فيه، كأن تقول: سوف أسافر إلى الطائف فلا ينكر عليك أحد، أو إلى مكة، أو بيشة.
أما أن تقول: أسافر من هنا إلى السودة، أو الخميس، أو القرعاء فسوف ينكر عليك الناس، فليس بسفر.
فالخلاصة: أن ما سمي سفراً سواء طال أم قصر فهو سفر، قال ابن تيمية: وقصر صلى الله عليه وسلم إلى عرفة هو وأهل مكة، وعد ما بين مكة إلى عرفة مسافة سفر، فلما حج أهل مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قصروا، ولو كان ليس سفراً لكانوا أتموا بعده صلى الله عليه وسلم حينما سلّم، لكنهم قصروا فصلوا ركعتين، ولو كان عليه الصلاة والسلام يريد أن يتموا، لقال لهم: {أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر} كما قاله يوم الفتح لأهل مكة، يوم صلى بهم صلى الله عليه وسلم، وقال: {أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر} أي: مسافرون، وأما في منى ومزدلفة وفي عرفة فما قال لهم هذا صلى الله عليه وسلم، بل سكت عنهم، فعلم أن السفر لا يتحدد بطول المسافة، والذين حددوه بواحد وثمانين كيلو متر؛ ليس لهم برهان ولا دليل: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [الأنعام:ة148].. قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111].
ومن حدده بالأيام فالأيام تختلف، كما يقول ابن تيمية، بعضهم يقطع مسافة يومين في يوم واحد، وبعضهم يقطع مسافة ثلاثة أيام في ساعات، إما لجواده المسرع، أو لأن مركوبه سريع، والآن الطائرة قد تقطع مسافة عشرة أيام، في ساعة واحدة، فكيف نحدد للناس بأمكنة وأزمنة ما أنزل الله بها من سلطان، ولا ذكرها الله عز وجل في كتابه، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وإنما الأقوال كلها مضطربة.
إذاً فكل ما سمي سفراً فاقصر فيه، فهذا في مسافة القصر.
وكان عليه الصلاة والسلام يقصر الرباعية ركعتين، إلا صلاة المغرب وصلاة الفجر؛ لأن الفجر مقرة على أصلها ركعتان، وصلاة المغرب وتر النهار فلا تقصر.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا سافر سفراً قصر فيه، وليس هناك سفر سافر فيه صلى الله عليه وسلم فأتم فيه أبداً، ورواية الدارقطني التي تقول عائشة: {سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصر وأتممت، وأفطر وصمت} رواها الدارقطني وضعفها، وقال الإمام أحمد: هذا حديث كذب لا يثبت، وقال ابن تيمية: حديث باطل لا يصح أبداً.
فعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما سافر إلا وقصر.
والقصر أفضل في السفر، ولا يظن أحد من الناس أن هذا بالرأي، فيقول: كيف يكون أفضل أن أصلي ركعتين وأترك أربع ركعات؟ هذا الدين ليس بالرأي، يقول أبو الحسن علي رضي الله عنه وأرضاه: [[لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه]] لأن باطن الخف يلامس الأرض والوساخات، والشارع الحكيم أمرنا أن نمسح على ظهر الخف، فهذا يخالف العقل؛ لأن العقل يقول: امسح على باطن الأقدام، أما ظاهرها فإنها نظيفة، قال: ليس الدين بالرأي إنما الدين بالنقل، ثم قال: {ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه}.
أما نوافله صلى الله عليه وسلم في السفر، فما كان يتنفل العشر الرواتب، بل كان يتركها وهو مسافر عليه الصلاة والسلام، وهذه العشر يقول عنها ابن عمر كما في الصحيحين: {حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، ركعتين قبل الفجر، وركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء} وكان صلى الله عليه وسلم يترك هذه العشر، وهذا عين الحكمة؛ لأنه يصلي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين فكيف يقوم يتنفل بعدها.
ولذلك قال بعض تلاميذ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لماذا لا تتنفل؟ قال: لو كنت مسبحاً لأتممت، ولو كنت متنفلاً لأتممت الفريضة، فكيف أتنفل؟! لأن الله شرع هذه الرخصة للتيسير على الناس، فكيف تصلي ركعتين ثم تقوم تتنفل، فلا نافلة في السفر، إلا الوتر، فالوتر لم يتركه صلى الله عليه وسلم حضراً ولا سفراً أبداً، وإذا نام عنه من سفر أو مرض أو تعب، فإنه يصلي من النهار اثنتي عشرة ركعة.
لكن سؤال: هل ترك صلى الله عليه وسلم الوتر مرة في عمره؟
الجواب: نعم. ترك صلى الله عليه وسلم الوتر ليلة مزدلفة، يوم نام عليه الصلاة والسلام ليلة مزدلفة وصباح يوم منى يوم يرمي جمرة العقبة، في تلك الليلة ترك الوتر عليه الصلاة والسلام،وهو الظاهر من كلام أهل العلم، فإنه صلى العشاء ثم نام، وما قام عليه الصلاة والسلام حتى أذن لصلاة الفجر، حتى تلك الليلة ما قام يصلي فيها أبداً، وقد ذكر ابن القيم: أنه فعل ذلك ترويحاً على الناس، ويقول: من قامها فقد خالف السنة، ولا نقول: أنه خالف السنة لأنه يصلي في الليل، لكن إذا قام واعتقد أنها سنة أن يقوم في تلك الليلة فهو المخالف، أما من قامها ليتنفل فهو مأجور مشكور وأجره على الله.
لكن الرسول عليه الصلاة والسلام ترك الوتر في تلك الليلة، فما أوتر حتى أصبح، وبعد أن أصبح لم يوتر عليه الصلاة والسلام، فترك في عمره تلك الليلة.
إذاً فالوتر لا يترك في السفر، إلا في ليلة مزدلفة لمن تعب أو كلّ أو ملّ، ومن أوتر فلا عليه، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يوتر تلك الليلة.
فهذا هديه صلى الله عليه وسلم في السفر في الصلاة والوتر.
ويتساءل ابن تيمية من له ورد من الصلاة مثل صلاة الضحى في السفر، هل له أن يصليه؟ قال: نعم. له أن يصلي ذلك، وهو مأجور وأجره على الله عز وجل، فإن كان له ورد واستطاع أن يحافظ عليه في السفر فليفعل، أما التي تركها صلى الله عليه وسلم فلا تفعلها أنت، بل تتركها كما تركها صلى الله عليه وسلم، فلك أن تصلي من الضحى ثمان ركعات أو ست أو أربع أو ركعتين، وليس عليك شيء وأنت مأجور في هذا.
والجواب: بإذن الله وبعونه وبتوفيقه، أن الإفطار لمن يشق عليه الصيام في السفر أفضل، وأما إذا تساوت المشقة وعدمها فسيان إفطاره وصيامه، ولو أفطر لكان أحسن، وأما إذا وجد يسراً في سفره وسهولة، فإن صام فله ذلك وهو مأجورٌ وليس عليه شيء.
وقبل أن أبدأ في هذه المسألة -مسألة القصر في الصلاة- يقول أبو حنيفة: من صلى الظهر أربعاً في السفر فصلاته باطلة، وعليه أن يعيد الصلاة ركعتين، وتبعه الأحناف في هذا.
وقال ابن تيمية: القصر في السفر أفضل، وسئل الإمام أحمد عن القصر والإتمام في السفر، قال: أكره الإتمام؛ لأنه مخالفة لسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
أما الإفطار في السفر فيفطر إذا حصل له مشقة، ومن لم يفعل وقد شق عليه، فقد عصى أبا القاسم عليه الصلاة والسلام، قال جابر كما في الصحيح: {سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحنا بـكراع الغميم} وكراع الغميم: بلد بين مكة والمدينة، ولذلك ضحك العلماء من تفسير الغزالي لقوله صلى الله عليه وسلم: {لو أهدي إليَّ ذراع لقبلته، ولو دعيت إلى كراع لأجبت} والكراع أي: كراع الشاة، قال: الغزالي: لو دعيت إلى كراع الغميم - أي: إذا دعيت إلى هناك- لذهبت، فقال أهل العلم: فتح الله عليك وبيّض وجهك، ليس هذا المعنى، بل المعنى كراع الشاة، أما كراع الغميم فلم يتعرض له صلى الله عليه وسلم في الحديث.
فيقول جابر: {فلما أصبحنا في كراع الغميم أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن الناس شق عليهم الصيام في السفر، وهم صوام، فنزل عليه الصلاة والسلام وأخذ ماءً بارداً فشرب وشرب الناس} فهذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8] والذي قال له: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] والذي قاله فيه: طَهَ * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:1-2] والذي قال فيه: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157].
أما النافلة في السفر، فلك أن تصوم نافلة، وهو من الخير أن تصوم إذا استطعت، ولا عليك إذا كان لك ورد أن تحافظ عليه، قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها كما في صحيح البخاري في باب نوافل الصيام: {جاء
فإذا صام المسافر فيشترط ألا يشق عليه ذلك؛ لأن الله عز وجل رخص له أن يفطر من الفريضة، فكيف يشق على نفسه بالنافلة في السفر؟!
وأما الذي لا يشق عليه فله أن يصوم في السفر وهو مأجور كالحضر لهذا الحديث الذي معنا، وقد صام صلى الله عليه وسلم في السفر.
والصيام يختلف عن القصر في الصلاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما أتم أبداً في سفره، وأما الصيام فقد صام في بعض أسفاره، ولذلك في الصحيح عن أبي الدرداء قال: {سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم و
قولٌ يقول: لا يحدد المسح إلا في الإقامة، أما في السفر فامسح ما بدا لك، وهذا قول الإمام مالك وابن تيمية، وقد مسح ابن تيمية سبعة أيام في سفره من دمشق إلى الاسكندرية في مصر، وخالفه وغضب عليه علماء الشافعية، مثل ابن مخلوف وابن الزملكاني، وقالوا: خالف السنة، لكن عنده دليل، ومعه أناس منهم عمر رضي الله عنه، وعقبة بن عامر وغيرهم، فالإمام مالك يرى أنه لا يحدد المسح.
وقوم قالوا: ثلاثة أيام في السفر ويوم وليلة في الحضر وهو الصحيح.
وقوم قالوا: لا يحدد في السفر ولا في الحضر وأنكروه، وهم الرافضة الضلال المبتدعة الذين هم أغبى من الحمير.
قال الشعبي لما ذكر هذه المسألة: إذا دخلت باب الزج، فخذ بيدك أحد أهل باب الزج وحرج عليه فإنه حمار، وقد ذكر هذا ابن تيمية في منهاج السنة؛ لأنهم ضلوا في هذه، يقول الإمام أحمد: سبحان الله! نقل المسح على الخفين سبعون من الصحابة وأنكرها الضلال. يعني الرافضة.
يقول سفيان الثوري: من عقيدتنا المسح على الخفين. فأدخلها في مسائل الأصول؛ لأنه خالف فيها تلك الفرقة الضالة.
إذاً فالمسح في السفر ثلاثة أيام، والثقوب في الجورب لا عبرة بها، بل لك أن تمسح ولو كان به ثقوب وقد ذكر ذلك ابن تيمية وقال: إنهم اشترطوا شروطاً في المسح على الخفين ليست في كتاب الله عز وجل ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما هذا من وضع الآصار والأغلال على الأمة، والتكليف بما لا يطاق، والله عز وجل يوم سن هذا ورسوله عليه الصلاة والسلام إنما هو للتيسير على الناس، فكيف نأتي إلى الناس بعد أن يسر الله لهم المسح على الخفين ونقول: لا بد أن يكون مخروزاً، وأن يكون قائماً بنفسه، وأن يستطاع المشي عليه، بل شرطه الوحيد هو أن يسمى خفاً في لغة العرب.
ثم يقول ابن تيمية: وهل كانت خفاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا مشققة، فقد كانوا قوماً فقراء ليس عندهم شيء، فكانوا يلفون اللفائف على أرجلهم حتى أن أحدهم يأخذ من قماشه -من بزه من ثوبه- ويقطعها ثم يلف بها على أرجله ويمسح عليها فيبدو منها ما شاء الله أن يبدوا.
وفي سنن أبي داود عن ثوبان رضي الله عنه وأرضاه، قال: {أرسلنا صلى الله عليه وسلم في سرية، فأمرنا أن نمسح على العصائب -أي: العمائم- وعلى التساخين الخفاف} إذاً فالأمر فيه يسر وسهولة، فالخف عند العرب هو الذي يستر المكان ستراً لا تشدد فيه، فلا يشترط أن يأتي إنسان بناظور وينظر في رجله هل يرى رجله من تحت الجورب أو لا يراها، أو يصب ماء حاراً هل يحس به أو لا، فالتعمق والتدقيق ليس وارداً في الإسلام، إنما يلبس ويتوكل على الله عز وجل ويكون سهلاً ميسراً ويمسح على جوربه بشرط أن يدخلهما على طهارة.
وقد ورد في البخاري ومسلم من حديث المغيرة بن شعبة قال: {خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهويت لأنزع خفيه، قال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين} فإذا أدخلت رجليك طاهرتين، فلتمسح عليهما في السفر ثلاثة أيام، ولا تخلعها إلا بعد حدث، أي: يستمر على الوضوء بعد الثلاثة إذا كان متوضئاً فإذا أحدث بعد الثلاثة الأيام فليخلعها.
وهذا هو الأحسن -ثلاثة أيام- لكن من زاد أربعة أيام أو خمسة أو ستة أو سبعة فله ذلك، وما أتى بمحرم، بل سبقه إلى هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كلامه من السنة إذا وافق السنة، لقوله عليه الصلاة والسلام: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي} قال عقبة بن عامر [[أتيت من الشام، فدخلت على عمر رضي الله عنه وأرضاه، فرأى في رجلي خفين، فقال: متى لبستها؟ قال: لبستها من الشام، قال: كم أخذت؟ قلت: سبعة أيام، قال: هل خلعتها؟ قلت: لا. قال: لو خلعتها لأوجعتك ضرباً]] لأنها خلاف السنة، فهو أخذها سبعة أيام، وذكر ذلك ابن تيمية وفعلها، فمن فعل ذلك فلا عليه إن شاء الله، لكن الثلاثة الأيام هي الأقرب للدليل.
إنسان فيه شجة في رأسه، وإذا اغتسل آذاه الماء في رأسه، ماذا يفعل؟ حكمه أن يغتسل في بقية جسمه، وأن يتيمم لهذه الشجة، وفي لفظ عند أبي داود يعصب عليها ويمسح على العصابة، ثم يتيمم لها، فمن كان فيه جرح في أعضاء الوضوء فليترك هذا الجرح وليتوضأ ولا يغسل يترك هذا المنطقة، ثم يتيمم بعد الوضوء تيمماً كاملاً.
والتيمم يكون في السفر؛ لأن الماء قليل في السفر، فعلى المسلم أن يتيمم في حالات: منها: إذا خاف على نفسه، حيث نزل في مكان وبجانبه وادٍ يعرف أن فيه ماء، ولكن يعرف أن هناك سباعاً ضارية وحيّات، وأن هناك أعداء، فله أن يتيمم في مكانه ولا يذهب إلى ذاك الوادي.
أو إنسان قام في الصباح وعنده ماء، وادٍ مسيل أو غدير كبير، وقام وإذا الماء أصبح قريباً من التثلج، وخاف على نفسه إذا توضأ واغتسل، فله أن يتيمم ويصلي ولو كان عليه جنابة، وقد دل على ذلك النصوص ظاهراً وباطناً، وتكلم فيها أهل العلم، إلا أن يكون عنده شيء من وقود أو حطبٍ فيسخن به الماء فهذا واجبه، لكن يقول ابن تيمية: إذا خاف أن يسخن الماء؛ فيخرج وقت الصلاة، فعليه أن يترك التسخين وأن يتيمم ويصلي ولا يعيد الصلاة؛ لأن إدراك الوقت واجب، أما هذا الفعل عند تحقق هذا الشرط فإنه يسقط بالعجز، قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
قال p=1000202>عمرو بن العاص
: {خرجت في سرية -هذا الحديث أصله في الصحيح، وذكره بطولهقال الذهبي: وكان أبو عبيدة حسن الخلق رضي الله عنه وأرضاه متواضعاً، فتنازل عن الإمرة، فتأمر على الناس عمرو بن العاص، فقام يصلي بهم الفجر-لأن الأمير كان هو الذي يصلي بالناس- فتيمم من الجنابة وصلى بهم وهو جنب، لأنه عندما قام من النوم ليغتسل وجد الماء بارداً لا يستطيع أن يستعمله فتيمم، فأتى إلى المدينة فسبقه الجيش إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن أول وهلة حكم الرسول صلى الله عليه وسلم على فعله هذا أنه صحيح، لكن أراد أن يستدعيه ليرى ماذا في ذهن عمرو، وكان عمرو رجلاً داهية ذكياً لبيباً كما يقول ابن عباس، يقول لـعلي: أجعلت أبا موسى رضي الله عنه قريناً لـعمرو -ذكر هذا الذهبي في ترجمة عمرو - قال: لا تزنه بـعمرو فإنه رجل باز قارح مارس داهية.
فلما دخل عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم: { يا
إنما هنا تبسم صلى الله عليه وسلم فأقره.
فمن حدثت له هذه الحالة وهو مسافر فعليه أن يتيمم ويصلي ولا عليه، سواء كان جنباً أم محدثاً. بشرط أن يعلم الله عز وجل أنه متقٍ له وأنه لم يستطع أن يسخن الماء أو يحدث شيئاً، وإذا خاف أن يفوته وقت صلاة الفجر، وعلم أنه لن يسخن الماء أو يحضر الماء في ذلك الوقت، فليصلِّ بتيممه والله المستعان.
فمن كان له ورد كركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وجزء من القرآن، فماذا يحصل إذا سافر؟
له على الله الحي القيوم المنان أن يكتب له أجره ولو لم يصم، ولم يصل ركعتي الضحى، ولو لم يأت بورده، وقد صح ذلك في حديث مسلم، قال عمر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا سافر العبد المسلم، أو مرض، كتب الله له من الأجر -أجر عمله- ما كان يعمل صحيحاً مقيماً} لأنه علم الله أنه يعمل في الحضر هذا فأعطاه أجره في السفر، فليكن للعبد في الحضر نافلة، فإن سافر واستطاع أن يأتي بها، فبها ونعمت، فيضاعف الله له الثواب، ويكثر له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الأجر، وإن لم يستطع فسوف يكتب الله له الثواب ولو لم يفعل ذلك؛ لأنه مسافر، وهذا في النوافل.
فالمسلم ينبغي له أن إذا قضى حاجته ومقصده وطلبه؛ أن يعود إلى أهله؛ لأن السفر يمنعه طعامه وشرابه واستقراره وراحته، وهناك أمور ينبغي أن ينبه عليها؛ لأن بعض الناس قد يضيعون أوقاتهم في الأسفار التي لا طائل منها، فتتشتت قلوبهم، وقد سأل سائل ابن تيمية -في كتاب الجهاد- أي بلد أسكن؟ قال: اسكن في البلد التي تسكن فيها نفسك وتجد قلبك خاشعاً فيها.
فالمسلم يسكن في البلد ويستقر، ولا يشتت عمره في الأسفار، فإنها تشتت الأعمار.
لكن قد يُبتلى المسلم بظروف تحوجه إلى السفر، منها ضيق الرزق، فإن في السفر فتح من الله عز وجل ورزق، ولذلك سافر سفيان الثوري إلى بغداد فقالوا: مالك؟ قال: سافرت إلى بلاد سلة الخبز فيها بدرهم، ومنها أن يكون معك نكد، إما جارٌ أو صاحب، أو كُبدت في بلد.
فغرب فالتغرب فيه نفع وشرق إن بريقك قد شرقتا |
ولا تلبث بأرض فيها ضيم يذيب القلب إلا أن كبلتا |
فالسفر لهذه الأمور ولهذه الدواعي، ولذلك يقول المتنبي:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم |
يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم |
ولما سمع أحد الأنصار -كما في السير- هذا الحديث، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله، ليلاً، قال: وما في ذلك؟ فطرق أهله، فوجد مع امرأته رجلاً لمخالفته للسنة -نسأل الله العافية- فالرجوع يكون نهاراً أو يكون ليلاً إذا أخبر أهله وكان عندهم خبر بقدومه قبل وقت، ليكونوا على أتم استعداد ولا يفاجئهم أو يباغتهم، ولا يخلفهم؛ لأن طارق الليل لا يطرق إلا لخوف أو لحاجة ملحة.
لذلك لما أتى محمد بن مسلمة لقتل اليهودي، قالت زوجة اليهودي: إن هذا صوت يقطر منه الدم. فكان أحرار العرب يفتخرون بإجابة الصوت والداعي ولو في الليل، ويقولون: يجيب الأحرار في الليل لا في النهار، أو كما قالوا.
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع |
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع |
متى كان؟ وقد تكلم ابن حجر عن هذه متى كانت؟ هل هو في قدومه من مكة إلى المدينة في الهجرة، أم من رجوعه من تبوك، وكأن ابن القيم والداودي المحدث رجحا أنه عند رجوعه من تبوك عليه الصلاة والسلام، ولكن لا يهمنا هذا وهذا، إنما كان عليه الصلاة والسلام يستقبل بالأطفال، فربما أركب بعضهم أمامه وخلفه، وقبلهم عليه الصلاة والسلام ودعا لهم.
ولما دخل ونظر إلى أحد قال: {هذا أحد جبل يحبنا ونحبه -وفي رواية- وهو من جبال الجنة} وقال: {هذه -للمدينة - طابة} عليه الصلاة والسلام.
فدعاء الرجوع من السفر وارد، وفي حديث صهيب رضي الله عنه وأرضاه، قال: { أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نقول إذا أردنا أن ندخل قرية: اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، نسألك خير هذه القرية وخير ما فيها وخير سكانها، ونعوذ بك من شر هذه القرية وشر ما فيها وشر سكانها} وقد تُكلم في سند هذا الحديث، لكن هذا في باب الفضائل، فإنه إذا أتى الحديث في الفضائل تسهل فيه ما لا يتسهل في الحلال والحرام، وهذه الكلمة ذكرها ابن تيمية في المجلد الثامن عشر من فتاويه رحمه الله، وهي كلمة للإمام أحمد ثبتت عنه، أنه قال: إذا أتى الحديث في الحلال والحرام تشددنا، وإذا أتى في الفضائل تساهلنا.
وقد يفهم بعض الناس أن التساهل في أحاديث الفضائل معناه: أننا نتساهل حتى نجعل بعض الأمور مستحبة بأحاديث ضعيفة، وهذا ليس بوارد، لكن معنى كلام الإمام أحمد وابن تيمية رحمهم الله أن الفضائل ما كان لها أصلٌ في الدين يعضدها، فإن الذكر أمر الله به في الكتاب، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا أتى حديث في فضل الذكر، فلا نقف عنده وندقق كما ندقق في الحلال والحرام؛ لأن للذكر أحاديث وآيات تسندها وتعضدها، وتبين أن لها قاعدة في الإسلام.
كحديث من دخل السوق فقال: {لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كتبت له ألف ألف حسنة، ومحيت عنه ألف ألف سيئة} هذا حديث ضعيف، لكن ابن تيمية أتى به في الكلم الطيب، وسكت عنه، فلما أتى الأستاذ الأجل الشيخ الألباني، حذف هذا الحديث على قاعدته، وهو موفق ومن أنصار السنة جزاه الله عن الإسلام خير الجزاء؛ لأن الحديث علىقاعدته ضعيف حتى في الفضائل والأذكار، مع العلم أن ابن تيمية يوضح أنه إذا كان له أصل في الفضائل فلا بأس.
إذاً: فالحديث الذي سقناه حديث ضعيف، لكن لا بأس بإيراده في مثل دخول القرية والمدينة.
فالرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن هذا لحكمة هي ظاهرة شاهرة معروفة عند الناس.
ولذلك يذكر ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم، أن من فعل العجم وعاداتهم أن كل إنسان منهم يأكل وحده، أما العرب فلما جعل الله لهم من فطر سليمة، ومن كرم السجايا فإنهم يجتمعون سوياً، فلم يرد لا من السنة ولا من الأدب أن يكون مزادة كل أحد وصحنه وقدره لوحده، بل هذا من اللؤم، يقول أبو تمام:
وإن أولى الموالي أن تواليهم عند السرور الذي واساك في الحزن |
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن |
وقد كان عبد الملك بن مروان -الخليفة الأموي- في مجلس سمر، مع أدباء وشعراء وعلماء، فقال: أي العرب أكرم؟ فذكروا رجالاً. قال: ما وددت أنه ولدني من العرب إلا عروة بن الورد - كان عروة قبل الإسلام- حيث يقول:
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بوجهي شحوب الحق والحق جاهد |
أوزع جسمي في جسوم كثيرة وأحسوا قراح الماء والماء بارد |
فإني امرؤ عافي إنائي شركة وأنت امرؤ عافي إنائك واحد |
يقول: أنت سمنت وتضحك مني أنني هزيل؛ لأني إذا نزلت أنزلت الناس على قدري، فأكلوا معي وبقيت كذا، وأنت؛ لأنه لا ينزل على قدرك أحد سمنت.
ولذلك يقول نافع رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن ابن عمر [[كان
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي |
من كرمه يقول: إذا صنعت الزاد وأحضرتيه، فالتمسي ضيفاً يأتي معي.
وذكروا في سيرة إبراهيم عليه السلام أنه كان لا يأكل طعاماً إلا ويدعو ضيوفاً يضيفهم، ولذلك ذكر الله له روغتين في القرآن، روغة كرم، وروغة شجاعة، فروغة الشجاعة: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات:93] وروغة الكرم: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26].
والبخيل لا يروغ، وإنما يخرج ظاهراً شاهراً بسكينته ويتنحنح ويتكلم، ويستخير الله ثلاثة أيام ثم يذبح ذبيحته.
أما إبراهيم عليه السلام فإنه خرج، قال ابن القيم: انظر إلى روغته ما أحسنها! وانظر إلى عجلته، فخير البر عاجله، وانظر إلى ذبيحته ما أعظمها! عجل فيه، ثم جاء به سمين حنيذ، فهو عجل سمين وليس بهزيل، وهو حنيذ وليس بمطبوخ، ثم قربه إليهم ولم يقرب الضيوف إلى الأكل، ولكن قرب الطعام إليهم، إلى غير ذلك من الآداب.
فمن الهدي والسنة في السفر أن يجتمع على الطعام، وهو من كرم السجايا.
فنهى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن يسافر الواحد وحيداً فإن الوحدة تذم، إلا لمصلحة راجحة.
وقد قيل لـمالك بن دينار: مالك لا ترافق الناس، والرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن الوحدة، ويقول: { الواحد شيطان} قال: أنا شيطان بنفسي -تواضعاً منه- فكيف آخذ لي شيطاناً آخر، فأحب أن يسافر وحده.
فالمصلحة إذا ترجحت -لأن هذا ليس من باب الوجوب إن شاء الله- ورأى الإنسان أنه يقوم بنوافله، ويستطيع أن يذكر الله وحده، ويخاف أن إذا رافق أحد الناس أن يكثر من الغيبة، ومن تضييع الوقت، ومن اللغو، فلا عليه بإذن الله؛ لأن بعض الناس قد يكون حملاً ثقيلاً، وعبئاً عليك إذا سافر معك، فما عليك ألا تستصحبه، لكن احرص أن يكون معك أحد.
وابن تيمية تكلم في الحج في هذه المسألة: قال: إلا إذا احتاجت المرأة، مثل أن تكون حاجَّة، فما استطاعت أن تحج وهناك رفقة، وهم من الأخيار الأبرار، وتأمن على نفسها فلها أن تذهب معهم، أو كانت في مكان ثم خافت على نفسها من لصوص وسراق وقطاع فلها أن تسافر مع قوم صالحين لتنتقل من هذا المكان أو ما في حكمه من باب الضرورات.
يقول الأستاذ محمد قطب: نحن قوم مقلدون، لو وضع أحد الإنجليز حذاءه على رأسه؛ لأصبح في المشرق بعد ثلاثة أيام قوم يضعون أحذيتهم على رءوسهم، فيُخشى أن ينقلوا الكلاب ويغسلونها، ثم يستصحبونها في السفر، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن استصحاب الكلاب والجرس، وما في حكمه من النواقيس والأدوات وآلات اللهو والطرب والدف والمزمار والموسيقى، فهذه منهي عن استصحابها في الأسفار، وهذا هديه صلى الله عليه وسلم.
وأعظم ما يذكر به السفر القدوم على الله عز وجل، فالمسلم يتذكر أنه بانتقاله من بلد إلى بلد، أنه مسافر إلى الله عز وجل، وأن هذه الدار لا قرار فيها، فقبحاً لها من دار، فإنها تنغص بقدر ما تسر، وكلما تم فيها شيء تنغص، ولا يرتفع فيها شيء إلا كان حقاً على الله عز وجل أن يضعه، فليس للعبد مستقر إلا في الجنة، فحيهلاً:
فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم |
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها |
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها |
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها |
قصورها ذهبٌ والمسك تربتها والزعفران حشيش نابتٌ فيها |
نسأل الله أن يعيننا وإياكم على سفرنا إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يزودنا بزاد التقوى، وأن يجعلنا من المعتبرين المتذكرين المتفكرين، وأن يجعلنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من الذي اتبعوا رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، وأن يجعل هذا المجلس في ميزان حسناتنا، وأن يتقبل الله منا أحسن ما عملنا، ويتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر