معنا في هذا الدرس ثلاثة أحاديث للإمام الكبير الزاهد العابد المجاهد، الإمام البخاري رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه الله عن أمة محمد أفضل ما جزى عالماً مجاهداً زاهداً عابداً عن هذه الأمة الماجدة.
الحديث الأول: يقول الإمام البخاري، ويتفنن في التبويب، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ثم قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن الحسين المعلم قال: حدثنا قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
ويقول: [[والله ما نظرت منذ أربعين سنة إلى قفا أحد إلا الإمام]] يعني: أنه دائماً في الروضة وراء الإمام، فلا ينظر إلى قفا أحدٍ، أي: أنه لم يصلِّ في مرة من المرات في الصف الثاني، ولذلك سئل: من حافظ على الصلوات الخمس أعابد هو؟ قال: [[من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر من العبادة]].
وأما برنامجه اليومي فكان يصلي الفجر ويجلس في المسجد يسبح، وكان يلبس البياض دائماً، حتى أن من رآه يتذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ويذكر الله، وكان مخبتاً دائماً لا يرفع نظره، ولا ينظر إلى السماء من كثرة خشيته، حتى أن بعض الجواري يقلن لآبائهن: "مر بنا الأعمى اليوم" يقصدون: سعيد بن المسيب وليس بأعمى رضي الله عنه، لكن من كثرة خشوعه يظن الناس أنه أعمى، كان يجلس مستقبل القبلة حتى تطلع الشمس، ثم يصلي ما يسر الله له، ثم تنظم له حلقات العلم في المدينة، فيتهدر منه العلم كالبحر العجاج رضي الله عنه وأرضاه، فكان هو المفتي في الدولة الإسلامية، ثم يستمر إلى قرب صلاة الظهر فينام نومة في بيته، ثم يعود، والذي أثر عنه أنه صام الدهر إلا عيد الفطر وعيد الأضحى.
وكان يستمر فإذا أتى وقت الإفطار ذهب إلى ابنته -وقد ماتت زوجته وهي بنت أبي هريرة - فيفطر عندها ثم يعود إلى المسجد فيصلي، ثم يصلي العشاء، ثم يقرأ ما تيسر له من أوراده وذكره قليلاً، ثم يقوم ويصلي إلى الفجر، ويتقطع صوته بالبكاء، واستمر على البكاء من خشية الله حتى ذهبت إحدى عينيه، ولذلك قال له أحد تلاميذه: [[لو خرجت إلى العقيق الوادي الجميل الأخضر، علَّ بصرك أن يثوب إليك -يعني: بصره في العين الأخرى أما تلك فقد ذهب ضوءها ونورها- قال: وأين لي بشهود العتمة، ومن يضمن لي صلاة بألف صلاة في غير مسجده صلى الله عليه وسلم، فرفض أن يخرج]].
وكان شديداً في ذات الله لا تأخذه لومة لائم أبداً [[حاول عبد الملك بن مروان خليفة الدولة الإسلامية وأمير المؤمنين في تلك الفترة، أن يبايع لابنه الوليد بيعة ثانية ويلزم المسلمين بها -كما تعرفون ذلك- فتوقف المسلمون جميعاً حتى يبايع سعيد بن المسيب؛ لأنه رجل الموقف، ورجل الساعة في تلك الفترة، قالوا: "إذا بايع سعيد فسوف نبايع كلنا" وتوقفت الأقطار على فتواه، وأتى الوزراء إلى سعيد بن المسيب فرفض وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يبايع لخليفتين في وقت واحد) وحاول عبد الملك معه بشتى الوسائل، أعطاه المال فرفض، ومناه ورجاه فرفض أيما رفض، وفي الأخير أتاه والي المدينة فخيره بين ثلاثة خيارات: إما أن يخرج من المدينة حتى يبايع أهل المدينة؛ لأنهم لا يبايعون وهو موجود، وإما أن يلزم بيته فلا يخرج أبداً، وإما أن يدخل من باب ويخرج من الباب الثاني، ويتظاهر للناس أنه بايع ولا يبايع، قال: أما قولك أخرج لأعتمر أو أخرج من المدينة، فما كان لي أن أعتمر أو أدخل مكة بدون نية، وأما أن ألزم بيتي فوالله لا أترك شهود العتمة والصلاة في المسجد حتى يحال بين رأسي وجسدي، وأما أن أدخل من باب وأخرج من باب آخر فوالله لا أغر مسلماً أبداً. ثم حاولوا استدراجه فرفض، وجُلد رضي الله عنه ما يقارب مائة جلدة، وطيف به على بعير، وبكى أهل المدينة عن بكرة أبيهم على هذا الإمام العالم الزاهد العابد، وحاول أن يسترضيه عبد الملك قبلها، وكأن عبد الملك وجد في نفسه لأنه خطب ابنته العابدة الصوامة القوامة لابنه الوليد بن عبد الملك ولي عهد المسلمين والخليفة المنتظر، فرفض سعيد بن المسيب وحاول العلماء، ألا يرفض وقال: أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم أتريدون أن أدخل ابنتي بعد قيام الليل، وصيام النهار، وحفظ القرآن، على أبناء مروان، لا يكون هذا أبداً. وفي الأخير زوجَّها من فقير كان يدرس معه ماتت زوجته فسأله: لم تأخرت؟ قال: مرضت زوجتي ثم دفنتها وأتيت، قال: هل لك من دراهم؟ -قال: معي درهمان -وقيل: أربعة دراهم- قال: أتريد ابنتي؟ فدهش الرجل وما صدق وظن أن هذا من الأحلام!! زوجه رضي الله عنه من ابنته، فوجدها حافظة كحفظ أبيها، فقيهة كفقه أبيها، عابدة عبادة أبيها، زاهدة زهد أبيها، رضوان الله عليهم جميعاً
وقال رضي الله عنه: [[الناس في كنف الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فمن أراد أن يخرجه من كنفه سلط عليه المعصية]].
ومرت في كتب السير والتواريخ دعابة له رضي الله عنه: وذلك أن تاجرة عراقية أتت ببراقع؛ والبراقع: لباس يلبس في العراق، ولا يلبس في المدينة؛ لأن أهل الحجاز لا يعرفون ذلك، وظنت العراقية أنها سوف تكسب مالاً طائلاً فذهبت ببراقعها على بعير فنزلت في أهل المدينة، فما عرفوا ما هي السلعة هذه، فما شرت امرأة واحدة أبداً، وفي الأخير أرادت أن تعود إلى العراق بتجارتها، فعرضت لها امرأة فقالت: "إن كنتِ تريدين أن تبيعي تلك البراقع فتعرضي لأحد الشعراء ليمدح البراقع، فإنها سوف تباع في وقتها، فذهبت المرأة وأهدت إلى رجل هناك من أهل المدينة هديه، وهذا الرجل اسمه ابن عنين وهو شاعر، وقالت: امدح البراقع، فعرض بـسعيد بن المسيب في قصيدته يقول:-
قل للمليحة في الخمار الأسودِ ماذا فعلتِ بناسك متعبد(1) |
قد كان يمم للصلاة بوجهه حتى وقفت له بباب المسجد |
يقول إن لابسة الخمار فتنت حتى سعيد بن المسيب على عبادته وزهده وجلالته، فسمع سعيد بن المسيب، فاستغفر وتبسم وقال: [[والله ما كان من ذلك من شيء ولكن صدق الله: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:224-226]]].
رضي الله عنه وأرضاه كان إذا تكلم بكلمة في غير ذكر الله استغفر مائة استغفارة، توفي رضي الله عنه بعد هذا العمر المديد، وهو من فقهاء المدينة السبعة، وممن يتقرب بحبهم إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، نسأل الله أن يحشرنا في زمرته، وفي زمرة الأخيار الأبرار من أصحاب محمد ومن التابعين لهم بإحسان.
قال: حدثنا مسدد ومسدد هذا شيخ البخاري، مسدد كاسمه، يقول البخاري عنه: مسدد كاسمه، أي: أنه مسدد في كلامه وفي روايته رضي الله عنه، ولعلمكم أن رجال البخاري ومسلم كلهم نجوم يهتدى بهم، وعلماء أجلة وزهاد وعباد، وللعجيب أورد الذهبي والحفاظ اسمه فقالوا: مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مرعبل، هذا اسمه أي يروى كذا، لأنه أعجمي ولذلك لما سمع الفضل بن دكين هذه التسمية قال: هذه رقية العقرب.
يعني: يكفي أن تقول: بسم الله ثم تقرأ هذه على ماء ثم تشرب ملعقتين في الصباح وفي المساء وترقيك من العقرب، هذا الفضل بن دكين تلميذه وشيخ البخاري أيضاً، وهو صاحب دعابة حتى ذكر عنه أنه طرق عليه طارق في البيت، فخرج الفضل من عند الباب فقال الفضل: من بالباب؟ قال: رجل من ذرية آدم، ففتح له وقال: الحمد لله ظننت أن ذرية آدم قد انتهوا وانقرضوا، وإذا بك لا زلت حياً.
فـمسدد هذا كاسمه، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان إذا أطلق فهو يطلق على ثلاثة، لكن في البخاري يحيى بن سعيد الأنصاري ويحيى بن سعيد القطان؛ هذا يحيى بن سعيد القطان كان سبب موته أن سمع قارئاً يقرأ في سورة الصافات، فسقط من على الجدار، من خشية الله عز وجل ومات في ذلك اليوم.
عن شعبة بن الحجاج أبي بسطام الضخم الضخام راوية الإسلام عن قتادة بن دعامة السدوسي وهذا قتادة بن دعامة السدوسي، أحفظ عباد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، دخل على سعيد بن المسيب فقال: اسمع مني سورة البقرة فسمع منه سورة البقرة، فقال: والله ما أخطأ ولا لحن ولا أسقط حرفاً، فقال له سعيد بن المسيب: أنت أحفظ أهل الأرض.
وقال ابن المبارك: [[إن كان غير الدهر حفظ أحد فما غير حفظ
ثم قال: عن الحسين المعلم قال: حدثنا قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
في هذا الحديث مسائل، ثم نتعرض إن شاء الله للتحليل اللفظي والشرح المفصل.
والتخلي من الأخلاق السيئة التي تؤذي المؤمنين، ولذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في مسند الإمام أحمد أنه قال: (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئٍ مسلم). هذا الحديث العظيم دائماً ابن تيمية رحمه الله يعيد ويبدي في شرحه ويهتم به اهتماماً عظيماً، ونحن أحوج الناس اليوم إلى هذا الحديث، يقول صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: الإخلاص لله في العمل، ثم النصيحة لولاة أمور المسلمين، وملازمة جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط بمن وراءهم). هذه الثلاثة لابد منها، وهي تسمى التخلي أي: التخلي عن الأخلاق السيئة.
ولذلك كان إذا بايع رجلاً، وانتهت البيعة يقول جرير: [[السلعة التي اشتريت منك أحب إليَّ من الدارهم التي دفعت إليك، وقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، فإن تريدني أن أقيلها أقلتك]] حتى لا يغشه أبداً، وهكذا دائماً كلما بايع حتى لا يغشه أبداً، ولذلك وفقه الله وحفظه الله بهذه النصيحة، حتى لقي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وفي صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم}. وهذا حديث صحيح وهو أصل من أصول هذا الدين، وهو من الأربعين النووية، يجب أن يحفظ وأن يفهم، وأن يلاحظ وأن يهتم به، فإنه من أعظم الأحاديث على الإطلاق.
يقول عليه الصلاة والسلام: {ألا أنبئكم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون}. يألفهم الناس ويألفون الناس، والمقصود بهم في الحديث: المؤمنون ليس إلَّا.
المقصود به: المؤمنون الذين يألفهم المؤمن ويألفونه، أما المنافق فله أمر آخر، وكذلك الكافر، ولذلك يقول الله في سورة الأنفال ممتناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الأمة الإسلامية: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63].
ورد عند ابن جرير وغيره من المفسرين: أن الأوس والخزرج كانوا في مجلس من المجالس اجتمعوا فيه؛ والأوس والخزرج قبيلتان، مشهورتان، عظيمتان أزدتيتان، وهما الأنصار رضوان الله عليهم، كانوا في الجاهلية يتقاتلون، وبينهم يوم بعاث المشهور، فلما أسلموا ودخلوا في دين الله أفواجاً، فنسوا تلك الإحن، وتلك الأحقاد, وتلك الثورات، فلما اجتمعوا في مجلس من المجالس رآهم ابن شاس؛ رجل من اليهود عليهم لعائن الله، واليهود يغيظهم جمع المسلمين، ويغيظهم اجتماع كلمة المؤمنين، فقام ابن شاس هذا الرجل اليهودي، فأتى إلى الأنصار فجلس بينهم، وأخذ يذكرهم بأيام الجاهلية، أيام الحروب التي وقعت بينهم بعد أن اهتدوا والرسول عليه الصلاة والسلام موجود بينهم، وهو حي صلى الله عليه وسلم، وقد نزل عليهم القرآن، فأخذ يذكرهم فقام رجل منهم فقال: {نحن خير منكم يا أيها الأوس! قتلنا منكم يوم بعاث كذا وكذا، فقام الأوسي وقال: بل نحن قتلنا يوم كذا وكذا منكم كذا، وقال شاعرنا يقول ابن عمر: والله لقد قام صلى الله عليه وسلم بلا حذاء من كثرة ما أتاه صلى الله عليه وسلم من الدهش والفزع على هذا الأمر العظيم، فأخذ صلى الله عليه وسلم برده ومشى. قال: وإنه مهرول هرولة، ووراءه أبو بكر وعمر وكثير من المهاجرين فأتى صلى الله عليه وسلم وإذا هم يحاججون وقد أصبحوا صفين: الأوس في صف، والخزرج في صف، وقد سلوا السيوف، وامتشقوا الرماح، فقام صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس! مالكم، ألست برسول الله؟ قالوا: بلى، قال: أتشهدون أن لا إله إلا الله؟ قالوا: بلى، قال: أتؤمنون باليوم الآخر؟ قالوا: بلى، فأخذ صلى الله عليه وسلم يسألهم بالله العظيم، أن يثوبوا إلى رشدهم ويتركوا أمر الجاهلية، ثم قال: مالكم أتفعلونه وأنا بين أظهركم، كيف لو مت؟! ثم ألقى عليهم صلى الله عليه وسلم موعظة فبدأ الأوس يلقون السيوف والرماح في الأرض وأخذوا يتباكون، فأمر صلى الله عليه وسلم أن يتعانق الناس فتعانق الأوس والخزرج معانقة عظيمة وقام صلى الله عليه وسلم وسطهم وهو يبكي عليه الصلاة والسلام
ثم أمرهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بأن يذكروا هذه النعمة بعد أن كانوا متحاسدين، ومتحاقدين، ومتقاتلين، ومتباغضين.
فرجعوا إلى المدينة والرسول صلى الله عليه وسلم معهم، وقام عليه الصلاة والسلام فألقى خطبة على المنبر ودعا بقية الأوس والخزرج وأخبرهم بهذه النعمة، فعاد الإخاء، وهذه حكمة من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ليجدد للقلوب وليرد للأرواح ما فقدته في بعض الأوقات التي يضعف فيها البشر.
فقال عمر: قد كظمت وعفوت وأحسنت، قال ابن عباس: رضي الله عن عمر، كان وقافاً عند كتاب الله عز وجل
]].وسطر السلف الصالح من مواقف العفو والصفح أعظم الصور الرائعة التي حفظها الدهر، ولذلك يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه خرج رضي عنه وهو خليفة للمسلمين في وسط الليل، يريد أن يصلي في مسجد بني أمية الجامع في دمشق، وكان يخرج وحده في الليل يتفقد أمور الناس، وربما صلى في المسجد، وربما زار المقبرة، وكان هو الخليفة الوحيد في تلك الفترة خليفة المسلمين رضي الله عنه من المغرب إلى نهر السند شرقاً، [[فلما خرج ودخل المسجد في الظلام وطأ برجله أحد النوام، فقال: من هذا الحمار الذي وطأني؟ فقال عمر بن عبد العزيز: أنا عمر بن عبد العزيز ولست بحمار، ثم صلى رضي الله عنه، وانصرف]]. فيقول العلماء: "إنها من حسناته الفريدة التي يرى أنها قليلة لا يلتفت إليها بل هي من أعظم الحسنات؛ لأن أهل السلطان يغضبون على أي شيء، وأما هذا فرضي الله عنه، ما غضب" ولذلك يقولون: إنه من سلالة عمر رضي عنه وهم دائماً من أشد الناس في الحق، لكنهم من أعظم الناس عفواً عما يصلهم، أو ما يخص ذوات أنفسهم رضي الله عنهم.
[[وكان سالم بن عبد الله رضي الله عنه يطوف، فزاحمه رجل من أهل العراق، فكأن سالماً زاحم الرجل فالتفت إليه العراقي، فقال: والله إني لأظنك شيخ سوء، فقال سالم: ما عرفني إلا أنت، ثم انصرف من الطواف رضي الله عنه وأرضاه]]. وسالم هذا من الذين يتقرب بحبهم إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لزهده وجلالته، ولكن العفو والصفح يأتي إما بجبلة، أو تعلم، وهو موهبة من الله عز وجل، أو اكتساب يكتسبها الإنسان بالدربة، وبالعلم، وبالرياضة، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم لـأشج بن عبد القيس: {لديك خصلتان يحبهما الله: الحلم والأناة، فقال أجَبلني الله بهما أم تخلقت عليهما؟ قال: بل جبلك الله عليهما، قال: الحمد الله الذي وفقني لخلق، أو جبلني على خلق يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم}.
ومن أحلم الناس وأعظمهم حلماً: قيس بن عاصم المنقري وقد تعرضنا له بشيء من الإيجاز، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـقيس بن عاصم المنقري: {أنت سيد أهل الوبر}. هذا سيد بني تميم وشيخهم، كان من أحلم الناس بل ضرب في الحلم والصفح أروع الأمثلة، حتى أنه ما كان يغضب أبداً.
قيل للأحنف بن قيس: [[ممن تعلمت الحلم؟ قال: تعلمت الحلم من قيس بن عاصم المنقري، قالوا: بماذا؟ قال: كنا جلوساً عنده ذات يوم وكان محتبياً بثوب وهو جالس القرفصاء، فأتى ولد له فقال: يا أبتاه! قتل أخي، قتل أخي قال: من قتله؟ قال ابن فلانة -امرأة ربعية سكنت عندهم وحلت ورضعت معهم وكان معها ولد فقتل ولدها ولد قيس بن عاصم أي: أسقط عليه حجراً فقتله- قال الأحنف بن قيس: فوالله ما حل قيس بن عاصم حبوته، ولا تحرك، ولا تغير وجهه، ولا قطع حديثه، قال: فلما انتهى من الحديث قال: جهزوه، وغسلوه، وأتوني به أصلي عليه وأودعه، وخذوا مائة ناقة -لأنه كان غنياً ثرياً- وخذوا مائة ناقة واعطوها ذاك الولد لئلا يخاف ذاك الولد القاتل، وسلّوا أمه وعزوا أمه؛ لئلا تظن أنا نريد بها شراً، وعفىا الله عما سلف، قال الأحنف بن قيس: فمن ذلك تعلمت الحلم]]. وكذلك كأن الأحنف بن قيس هو سيد، بعد قيس بن عاصم وقيس بن عاصم هو الذي سارت بذكره الركبان يقول: عقد له البخاري باباً في الأدب المفرد وأخذ وصاياه العلماء بل حتى المحدثون جعلوه في كتبهم ولذلك يقول الأول:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما |
تحية من ألبسته منك نعمةً إذا زار عن شحط بلادك سلما |
وما كان قيس موته موت واحد ولكنه بنيانُ قوم تهدما |
تولى الأحنف بن قيس بعده ولاية بني تميم، فجلسوا في مجلس يسمرون، فقال رجل منهم: [[هل رأيتهم الأحنف غضب في يوم من الأيام؟ قالوا: والله ما رأيناه قد غضب في يوم من الأيام، فقال: فما لي إن أغضبته؟ فأعطوه شيئاً من المال، فدعا رجلاً سفيهاً من سفهاء بني تميم، وقال: خذ هذه الجائزة -ما أدري كم من الدنانير والدراهم وهي في عيون الأخبار والعقد، وغيرها من كتب الأدب والتاريخ- قال: خذ هذه الجائزة واذهب إلى الأحنف بن قيس ولا تكلمه، وإنما الطمه على وجهه، فإذا قال لك: مالك؟ فقل: إني سمعت أنك تتعرض لي وتسبني وتغتابني، فذهب وإذا الأحنف بن قيس جالس في مجلس بني تميم فتعرض له ذاك السفيه فضربه على وجهه، فقال له الأحنف: مالك؟ قال: سمعت أنك تعرضت لي وسببتني وشتمتني، قال: من أخبرك؟ قال: أخبرني فلان بن فلان، قال: ماذا قال؟ قال اذهب إلى سيد بني تميم فلان فاضربه، فقال الأحنف: أنا ليس بسيد بني تميم، إن سيد بني تميم جارية بن قدامة -سيد آخر لكنه يغضب من الريح إذا مرت- فذهب إليه وهو في مجلس آخر، فانطلق هذا السفيه، ثم أتى جارية بن قدامة فضربه على وجهه، فقام جارية بن قدامة ومعه سيفه فضرب يد الرجل فأنزلها في الأرض]]. وهذه مشهورة عن جارية بن قدامة؛ لأنه من أحد الناس، ومن أغضب الناس.
هذا نموذج للحلم أو الصفح الذي تمثل به أهل الجاهلية في جاهليتهم وزاده الإسلام قوة ومتانة، ولذلك أحلم الناس وأعظمهم عفواً هو رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
{دخل
وفي ذاك اليوم وقف صلى الله عليه وسلم، وأخذ بباب الكعبة وتكلم للناس ثم قال لقريش وقد أخذ السلاح من أيديهم: {ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء}. أي: مسامحين معفو عنكم من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، هذا عفوه صلى الله عليه وسلم وسماحته، وهذه قضايا الحديث.
وبقيت قضايا لفظية في هذا الحديث منها: قوله صلى الله عليه وسلم: { لا يؤمن أحدكم}. ورد في لفظ: {لا يؤمن أحد} بدون الإضافة، وورد: {لا يؤمن عبد} وورد: {لا يؤمن مسلم}. وأشملها: { لا يؤمن أحد} وهو أعمها في اللفظ، وأكثرها فائدة، ومعنى: { لا يؤمن} أي: الإيمان الكامل، أما أصل الإيمان فقد يحصل بدون أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه لكنه إيمان ضعيف، وإيمان ليس في تلك القوة التي يريدها الرسول صلى الله عليه وسلم.
{ حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} قال كثير من العلماء منهم النووي والقرطبي: "أن يحب لنفسه من خير الدنيا والآخرة".
ولذلك يورد ابن القيم في الوابل الصيب مسألة في الإيثار بالقربات: هل لنا أن نؤثر بالقربات؟ يعني: لك إذا رأيت مسلماً في الصف الثاني أن تترك الصف الثاني أنت وتتأخر وتقدمه مكانك، أو أتيت يوم الجمعة متقدماً وجلست في مكان، ثم أتى رجل متأخر من المسلمين، هل لك أن تجلسه مكانك وتعود؟
والذي يميل إليه ابن القيم وبعض العلماء: أن هذا وارد وأنه جائز ومشروع، وأن الله يثيبك على الإيثار في القربات.
ورأى بعض العلماء: أن هذا لا ينبغي وأن الإيثار يكون في أمور الدنيا في الأكل، والشرب، واللباس، وفي مجالس الدنيا، أما في القربات التي يقصد بها التقرب إلى الله فلا يُؤثر بها.
هذه المسألة: الراجح فيها ما ذهب إليه ابن القيم، وهو جيد في بابه فإن الله سبحانه يثيب ويعطي على مقدار ما جعلت أنت وما تنازلت عنه من الأحقية ومن الثواب الذي آثرت به غيرك؛ لأنه لا يوجد في النصوص ما يعارض ذلك أبداً، بل قد آثر كثير من الصحابة رضوان الله عليهم بعضهم، فـعمر رضي الله عنه يقولون: [[أنه آثر أبا بكر في الصلاة في بعض المواقف، وتأخر قبل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وآثره بالخلافة]] وآثر بعضهم بعضاً بالقيادة، والإمامة، وآثار بعضهم بعضاً بالمجالس، وصدور المجالس، والصفوف الأول، هذا هو الوارد، وكأنه الصحيح والله أعلم، والمسألة سهلة لا تقتضي هذا الخلاف.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} فمعناه: أن من لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فليس بمؤمن كامل الإيمان، وفي نفسه ضغينة، ولذلك يطلب من الإنسان أن يطهر نفسه من الحسد والحقد والغل، ومن لم يفعل فإنه سوف يبقى ناقص الإيمان حتى يلقى الله عز وجل.
والقضايا اللفظية سوف نتعرض لها بعد هذا الحديث إن شاء الله، إن كان هناك وقت، لكن نريد أن نربط بين الحديث الأول والحديث الثاني والثالث لأنها بمعنى واحد.
يقول الإمام البخاري باب: حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب، قال: حدثنا أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده} وفي حديث أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين} عليه الصلاة والسلام.
أولاً: طاعته عليه أفضل الصلاة والسلام -وهي اللازم الأول من القضية الأولى- طاعته عليه أفضل الصلاة والسلام بما أمر واجتناب ما عنه نهى وزجر، وتصديقه فيما أخبر، وهذه من أصول أهل السنة والجماعة.
الأمر الثاني: كثرة الصلاة والسلام عليه، عليه الصلاة والسلام، فإنها من حقوقه المتوجبة على المسلمين، وهذه من لوازم الحب.
الأمر الثالث: توقيره وتقديره عليه الصلاة والسلام.
الأمر الرابع: تقديم قوله على قول غيره، وسوف أبسطها إن شاء الله.
ولذلك من أراد أن يهتدي بغير هداه، فقد ضل سواء السبيل، وكثير من الناس تجدونهم في تراجم بعض أهل المعارف، والذين يدعون علم الفلسفة والزندقة، وعلم المنطق، وعلم الكلام الذين أعرضوا عن منهجه وعن سنته صلى الله عليه وسلم، والذين ادعوا الاهتداء وقالوا: نهتدي بغير هذا، فأضلهم الله.
وكم أكرر هذه الكلمة لجودتها ولقوتها؛ ولأنها كلمة حارة يتعظ بها من شاء الله أن يتعظ وهي قول شيخ الإسلام في مختصر الفتاوى: "من ظن أنه يهتدي أو من اعتقد أنه سوف يهتدي بغير كتاب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وبغير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".
لازم الحب الطاعة، والذي اعتقد محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم لا يعتقد طاعته فليس بصادق في محبته.
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع |
لو كنت حقاً صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع |
هذا من كلام ابن المبارك رضي الله عنه، ولذلك كذَّب الله مقالة اليهود، يقول تبارك وتعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] فقال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [المائدة:18].
قال أبو سعيد الخراز: "ائتوني بكلام من القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه فسكت الناس، قال: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة:18] " فمفهوم الآية بالمخالفة، أن الحبيب لا يعذب حبيبه، السبب في ذلك: أنهم كانوا يقولون: نحب الله عز وجل -وهذا التلازم بين الآيتين، بين آية آل عمران وآية المائدة- فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] لأن اليهود والنصارى يقولون نحب الله لكن لا نتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، فكذب الله مقالتهم ورد بدعتهم وفريتهم، وأدحض حجتهم وقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] وإذا رأيت الإنسان يقول: أنا أحب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم لم يتقيد بالسنة، ولم تظهر عليه معالم السنة فلا تقبل قوله، وكذبه في الحال؛ لأنه لم يطع الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا لعدم حبه له.
وأما المسنون فهو ما سوى ذلك كخطب الجمعة، وبعضهم أوجبها كما في رواية عن الحنابلة، وكالمناسبات التي ذكرها ابن القيم وهي خمس وثلاثون مناسبة ذكرها في جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام صلى الله عليه وسلم.
وورد في الترمذي أن أبي بن كعب سيد القراء قال: {يا رسول الله! كم أجعل لك من صلاتي؟ -أي: من دعائي- قال: ما شئت، قال: أجعل لك الثلث؟ قال: ما شئت وإن زدت فأحسن، قال: الثلثين؟ قال: ما شئت وإن زدت فأحسن، قال: أجعل لك دعائي كله، فقال صلى الله عليه وسلم: إذاً يغفر ذنبك وتكفى همك} فكان أُبيّ رضي الله عنه يجعل الدعاء، الذي يدعو به لنفسه ولأهله ولأولاده يجعله خالصاً كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كفاه الله همه وغفر الله له ذنبه بهذا العمل العظيم، الذي قدمه للرسول صلى الله عليه وسلم، وبلغ الجهد ببعض علماء الإسلام، أنهم كان يصلون على الرسول صلى الله عليه وسلم، في اليوم مئات المرات، وقرأت لـمحمد الحامد، علامة حماة، الشامي المجاهد الكبير، أنه كان يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم ألف مرة، لا تفوته أبداً، وفاتته مرة لما تعالج فقضاها في الليل ولما انتهى من ورده مات رحمه الله رحمة واسعة، ولذلك يقول علي رضي الله عنه: [[والله لولا ما ذكر الله ورسوله في فضل التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، لجعلت كل أنفاسي صلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم]].
فالأروع والأجزل في حياة المسلم أن يكثر دائماً وأبداً من الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن القيم المواضع التي يصلى ويسلم عليه صلى الله عليه وسلم فيها، منها: دخول المسجد والخروج منه، والتشهد، ورؤية المساجد، ودخول الأسواق، ودخول البيت والخروج من البيت، ونسيان الحاجة، وفي وقت الفقر، وفي البداية في العلم، وفي البداية في الخطب، والانتهاء من مجالس العلم، وفي لقاء الإخوان والأحباب، وفي موادعتهم ومفارقتهم، وفي مدارسة الحديث النبوي، وعند تذكره صلى الله عليه وسلم، وعند ذكر أصحابه، وعند ذكر شيء من مآثره، وعند دخول المدينة، وعند المرور على قبره صلى الله عليه وسلم إلى تلك المواضع العظيمة، التي من حفظها وحافظ عليها أجزل الله مثوبته، ورفع درجته، وكثر أجره، فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يعطي العطاء الجم، خاصة إذا كان المحب عظيماً عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو الذي أوصل لنا الهداية، وعرفنا بربه تبارك وتعالى، ونصحنا أجل النصيحة، وأرشدنا أعظم الإرشاد، وهدانا أكمل الهداية فعليه أفضل الصلاة والسلام، دائماً وأبداً ما ذكره الذاكرون وغفل عنه الغافلون.
هذا وارد عن عمر رضي الله عنه، وهذا شيء بسيط في جانب التوقير والتقدير من الصحابة والتابعين للرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اجلسوا -وهو في الشمس في الطريق- فجلس مكانه، فمر به صحابي فقال: مالك يا
والمذكور عن سعيد بن المسيب وهو الرجل الذي مر معنا رضي الله عنه وأرضاه أنه كان في مرض الموت، فلما حضر الموت، سأله سائل عن معنى حديث، فقال: اسندوني، فقالوا يشق عليك ذلك، فقال: والله لا يسأل عن حديث من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع والله لا بد من إسنادي فأسندوه، ثم قال: أضجعوني فأضجعوه فتوفي رضي الله عنه.
كل ذلك احتراماً للرسول صلى الله عليه وسلم أن يذكر حديثه وهو مضطجع، بل أسندوه توقيراً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكان ابن المبارك يمشي فسئل عن حديث، فقال: [[لا أجيب على الحديث؛ لأن من توقير الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديره وتعظيمه وتبجليه، ألا نجيب عن حديثه ونحن نمشي]] هذا كله في جانب الإجلال.
وأورد ابن تيمية في فتاويه لما تعرض لجانب الرسول صلى الله عليه وسلم نماذج كثيرة من إجلال التابعين والسلف الصالح للرسول صلى الله عليه وسلم.
وذكر لـجعفر بن محمد الصادق من ذرية علي رضي الله عنه: أنه كان إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم تغير وجهه واحمر حتى يشق على أصحابه، فيقولون مالك؟ قال: أيذكر عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أتغير.
كل ذلك إجلالاً له صلى الله عليه وسلم، والإمام مالك من أكثر الناس توقيراً له صلى الله عليه وسلم وتقديراً، حتى أنه حلف وأقسم بالله لا يركب دابة في المدينة أبداً، يقول: مدينة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفون، لا أركب دابة أبداً، وكان إذا قرب من المسجد يرفع حذاءه ويمشي حافياً، وكثير من العلماء إذا هبطوا في المدينة أو نزلوا المدينة، رفعوا الأحذية من أقدامهم ومشوا حفاة ومنهم بعض المحدثين: كـابن إدريس العراقي كان يبكي إذا نزل المدينة ويقول:
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا |
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا |
كله من أجل الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن المبارك رحمه الله: دخلت المدينة، فوجدت مالكاً مكثور عليه، قال: فأتيت فجلست في حلقته وهو يقرأ في الموطأ، قال: فتغير وجهه ثلاث عشرة مرة، يحمر ثم يعود ثم يحمر ثم يعود، فلما انتهى من درسه قلت: ما لك يا أبا عبد الله؟ قال: انظر لدغتني عقرب ثلاث عشرة مرة، ثم رفع ثوبه فرأيت اللدغة في رجله رضي الله عنه، قلت: مالك ما قطعت الحديث؟ قال: أقطع حديث حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل نفسي لا والله!! قال: ثم تفل في يده وقرأ الفاتحة ومسح رجله فكأن ما به شيء رضي عنه وأرضاه.
ويؤثر عن الإمام مالك أنه كان يرى الرسول صلى الله عليه وسلم كل ليلة إلا ليلة واحدة؛ لكثرة توقير الإمام مالك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتبجيله له صلى الله عليه وسلم.
ومن حسنات معاوية بن أبي سفيان، وهو كما تعرفون خال المؤمنين، وكاتب وحي الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه لما حضرته الوفاة، قال: [[أيها الناس! ما عندي من العمل والله ما أعتد به عند الله، إلا شهادة لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا أنا مت فخذوا أظفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشيء من شعره في ديواني -مكان الخليفة- واجعلوها في أنفي واجعلوها في عيني علَّ الله أن يرحمني بها، ففعلوا ذلك]]. فنسأل الله أن يرحمه بذلك وأن يرضى عنه، وهذه من حسناته العظيمة التي يعتد بها عند الله عز وجل.
وعمر رضي الله عنه كان في الحج يطوف، فلما انتهى من طوافه أتاه أعرابي فقال: يا أبا حفص! هل لي أن أسعى قبل أن أطوف؟ قال: لا. طف ثم اسع، وكان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الأعرابي -وهو لا يعرف شيئاً يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97]- قال: والله لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب بمثل ما أجبتني، قال عمر: خررت من يديك قاتلك الله، تستفتني وقد أفتاك الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولذلك في هذا الجانب قد يعذر الجاهل، لكن العالم، أو طالب العلم، أو من عنده شيء من فهم وإيمان فإنه لا يعذر أبداً، لمصادمة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع آراء غيره من الناس مهما بلغوا أبداً، فإنه لا ينبغي ولا يجوز، وليس بوارد أن تعارض بين رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بين قوله، وبين حكم أحد من الناس، مهما كان، ولذلك يقول العالم الأول المحدث:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان |
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فلان |
وهذا من كلام ابن القيم.
وقال غيره:
العلم ما قيل فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين |
فالعلم هو المأخوذ والمستفاد والمستنبط من كتاب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يأتي في الفقرة الثانية، ولكن قدمته لقصة عمر ولا غرو أن يفعله الأعراب فإنهم فعلوا أعجب من ذلك مع الرسول صلى الله عليه وسلم: {أتى أعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ماذا في الجنة؟ قال: فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال: يا رسول الله! إني أحب النوق -الإبل- فهل يجعل الله لي نوقاً في الجنة؟ قال: نعم. ما بذلت ناقة في سبيل الله إلا بسبعمائة ناقة في الجنة، فالتفت إلى الأنصار فقال: يا رسول الله! إن الأنصار يحبون زراعة النخل، أينبت الله لهم نخلاً وزراعة في الجنة؟ فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: أي نعم. قال: يا رسول! ماذا تخاف عليَّ؟ قال: أخاف عليك من فتنة المسيح الدجال، قال: وما هذا المسيح الدجال؟ قال صلى الله عليه وسلم: رجل أعور يضلل الناس، يعطيهم طعاماً ويوكلهم، وله جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار، قال: ما طعامه يا رسول الله؟ قال: طعامه الثريد؛ -الخبز باللحم- قال الأعرابي: والله لآكلن حتى أتضلع من طعامه، ثم لأكفرن به وأصدق بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فتبسم صلى الله عليه وسلم، والتفت إلى أصحابه من جرأة هذا الأعرابي} ولذلك كانوا مباشرة يردون على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو جالس، فيقول الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
أتاه أعرابي فقال صلى الله عليه وسلم: {ماذا تقول في الصلاة بعد التحيات؟ قال: أقول اللهم اغفر لي وارحمني وأسأل الله الجنة وأستعيذ من النار، أما دندنتك ودندنة
فهؤلاء يعذرون في جانب الجهل، ولذلك كما قال صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود: {من بدا جفا} أي: من ظهر ومن لم يساكن الناس ويخالط الأخيار والأبرار ويزورهم أتاه الجفاء، ولذلك في كتاب الإمام البخاري كتاب الأدب المفرد وسنده حسن يقول صلى الله عليه وسلم: {يا
ولذلك تجدهم من أقل الناس علماً، وفهماً، واستنباطاً، فالمقصود: أن من سكن في قرية فعليه أن يوجههم، وأن يعلمهم، وأن يرشدهم فإنهم من أقل الناس علماً، ومن أقلهم هداية ونوراً وبصيرةً، بخلاف أهل المدن، فإن فيهم الأخيار والأبرار وطلبة العلم، والدعاة المؤمنين، فنسأل الله أن يحشرنا في زمرة الصالحين.
فكل أحد لك أن ترد عليه، ولك أن تستدرك وتحتج عليه، ولك أن تؤول كلامه، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم فليس لك ذلك أبداً، ولا يجوز ولا ينبغي وليس بوارد.
ويقول الإمام الشافعي: "إذا وافق كلامي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوه، وإن عارض فخذوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم واضربوا بكلامي عرض الحائط".
والأوزاعي يقول: "ما أتاك من الرسول صلى الله عليه وسلم فهو العلم، وما أتاك من غيره فألقه في الحش". الحش: بيت الخلاء، وهذه مقولة مأثورة عن الإمام الأوزاعي، وصحيحة السند إليه.
وهذه مسألة ينبغي أن يتنبه إليها خاصة من يطلب العلم، أو من يريد عبادة الله عز وجل على بصيرة، أو من يريد مطالعة كتب السنة، خاصة الفقه الإسلامي، فإنه ينبغي أن يعول على الدليل، فعلم بلا دليل إنما هو إنشاء وتعبير، وإنما هو مجرد كلام، لكن المطلوب أن تقرن كل مسألة بدليل، يقول ابن تيمية في الفتاوى: "على طالب العلم أن يسند كلامه إلى دليل، من المعصوم صلى الله عليه وسلم وأن يعتصم به، فإذا استقر في ذهنه أن هذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن هذا هو المراد من كلامه صلى الله عليه وسلم"، فلا ينبغي أبداً أن يعول على كلام غيره مهما كان.
ولذلك فالفقهاء رضوان الله عليهم، إنما استنبطوا وأرادوا توضيح بعض المسائل، والشرح والبسط، وما أرادوا أن يشرعوا، الذي يشرع هو محمد صلى الله عليه وسلم، والفقهاء كلهم ينادون -أبو حنيفة والشافعي وأحمد ومالك رضوان الله عليهم- ينادون، باتباع السنة، لكن كذلك نستضيء بأقوالهم ونستفيد من استنباطاتهم في بعض المسائل الشائكة، أما أن نأخذ كلامهم بدون دليل، أو بدون مستند من آية أو حديث، فهذا ليس بصحيح وليس بعلم وهذا منهج خاطئ وغلط، فليتنبه الإنسان وليقرن بين الحديث والفقه في استنباط المسائل وفي عبادة الله عز وجل، وفي استخراج الفوائد.
ومن أحسن مناهج العلماء في ذلك، منهج ابن تيمية المجدد الكبير شيخ الإسلام، فإنه قرن بين الدليل وبين الفقه، ومنهج ابن القيم، ومنهج النووي وغيرهم من العلماء وابن كثير رضوان الله عليهم وأرضاهم، أما الذين يريدون أن يجعلوا هناك تقيداً بمذهب دون النظر إلى الأقوال الراجحة، أو الأدلة، أو الأقوال المعارضة، أو الناسخ والمنسوخ فهذا ليس بصحيح، فليتنبه له. هذه لوازم حبه صلى الله عليه وسلم.
يقول البوصيري:
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم |
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم |
فأكرم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، وأكرم الأمم أمته عليه أفضل الصلاة والسلام، حتى أنه يروى في بعض التفاسير: أن موسى عليه السلام لما رأى ما أعد الله لأمة محمد قال في الأخير: "يا رب! اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم". ومصداق ذلك: ما ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي} فلو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
فالأمر الثاني: استقراء خصال الخير فيه صلى الله عليه وسلم، الكرم، والشجاعة، والصبر، والحلم، والأناة والتواضع، الخصال التي فوق مئات الخصال والتي جعلها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيه وجمعها له، ولم يجمعها لأحد غيره.
فأوصي نفسي وإخواني بالاهتمام بهذه الشعيرة العظيمة، والسنة الكريمة وألا يفرط المسلم فيه أبداً، مهما شق عليه فإنه لا مشقة إن شاء الله، وليجتهد دائماً بالسواك مع كل صلاة، ومع كل وضوء، وعند تغير الفم، وهو من شعائر المسلمين وهو من أعظم ما أتانا به صلى الله عليه وسلم، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: {السواك مطهرة للفم مرضاةٌ للرب} وخاصة يوم الجمعة، فعلى المسلم أن يعتني به، وأن يكون مستحضر السواك يوم الجمعة، ليتكلم ويذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ويقرأ الكتاب وهو على طهارة طيبة وكاملة.
ومع الطيب يلبس أحسن الثياب: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]. والزينة: أجمل الثياب، وأن يتجمل الإنسان أحسن جمال يوم الجمعة، وأن يعتني بأن يظهر في المظهر اللائق الذي يليق بالمسلمين، وبالمناسبة فإن كثيراً من الناس إذا حضر مناسبة، أو حفلاً، أو زواجاً، أو سفراً، يعتني كثيراً بمظهره وملبسه، ويترك يوم الجمعة، وهذا يدل على عدم حرصه على الخير، وعلى نقصان الأفضلية في قلبه، فعليه أن يتنبه لذلك، ولتكن مقابلة الله سبحانه تعالى أعظم عنده من مقابلة الناس.
وحديث: {من لغا فلا جمعة له} عند أبي داود قال الشوكاني: فيه مجهول، لكن يستند بآثار وشواهد واعتبارات تدل على أن له أصلاً، قيل: لا جمعة له كاملة، أو لا جمعة مقبولة ولا صحيحة، ولا يكتب الله له شيئاً، ولأن من لغا ذهبت جمعته، فليتنبه الإنسان لذلك، ولذلك لا يجوز للإنسان يوم الجمعة قياساً على الحصى أن يستاك بالسواك، ولا أن يصلح ملابسه، ولا أن يخرج شيئاً من جيبه يفعل به أمراً ثم يرده، ولا أن يزاول عملاً من الأعمال، إلا أن يكلم الإمام والخطيب في أمر ضروري، أو حدث أمر ضروري لا بد منه كأن يغلبه الدم أو القيء، أو أن يغمى عليه، فهذا من الأعذار التي أجازها الشارع.
الجواب: حكم ذلك أنه لا يجوز فقد كره هذا الفعل كثير من أهل العلم، وهو أن تعلق الآيات بلوائح وأقمشة إلا في أمر ضروري في أماكن موقرة، كأن يعلق الإنسان آية الكرسي في بيته، هذا ليس فيه نهي والذي أعرفه في هذا الباب أنها جائزة إما للتذكير، أو يحفظها من لا يحفظها، أو تذكر الزائر والضيف في البيت، هذه ما كأن فيها نهي، لكن إذا علقت في مكان يقصد منه الإهانة، فهذا نعوذ بالله منه، إن قصدها قصداً فهو كفر، وإن فعلها جهلاً فهو مذنب، ومخطئ، وجاهل، ويؤدب على ذلك، وينهى، فمثل هذا البائع لا ينبغي أن يفعل ذلك، وينكر عليه، والحق مع من أنكر عليه هذا العمل، لأنه قد ارتكب محذوراً، وآية الكرسي ما وضعت لهذه الأماكن وضعت لبيوت الله عز وجل، وللمنابر وللصلوات، ولغيرها من المناسبات الشريفة العظيمة التي أنزلها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لها، وما بالك إذا كانت آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله عز وجل، ورد أن إبراهيم بن أدهم وجد لفظة: بسم الله مرمياً بها في السوق فبكى وهو شاب، فقال: "سبحان الله! اسم الحبيب يوطأ بالأقدام، والله لأرفعنه فطيبه بدرهم ورفعه، فسمع هاتفاً يهتف وهو نائم، قال له: يا من رفع اسمي والله لأرفعن اسمك". فرفع الله اسمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فأصبح من علماء الأمة، ومن زهادها، وعبادها فرُفع في الدنيا والآخرة.
الجواب: هذان إذا اجتمعا افترقا، وإن افترقا اجتمعا، معنى إذا اجتمعا افترقا: أنه إذا ذكر الله أو ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ذكر علماء الإسلام المؤمن والمسلم في موطن واحد معاً فهو بالتفريق، فالمؤمن: القائم بالعمل القلبي الذي يقوم بالأركان الستة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم؛ الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، هذا يقصد به المؤمن إذا ذكر مع المسلم، والمسلم إذا ذكر مع المؤمن يقصد به المسلم ظاهراً الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت الحرام، وقال الله تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]. فذكر المؤمن والمسلم هنا للتفريق.
أما إذا افترقا فهما يجتمعان، فإذا ذكر المسلم، فهو المسلم والمؤمن، فلك أن تسمي أمة محمد المسلمين، وهذا وارد، ولك أن تسميهم المؤمنين، وتسمي فلاناً مؤمناً إن شاء الله، وتسميه مسلماً هذا وارد؛ لأن المقصود: أن الإسلام إذا انفصل عن الإيمان أنه يشمل هذه الأعمال الباطنة والظاهرة، وإذا قلت: المؤمن كذلك يشمل العملين، هذا هو السر وهما كلمتان مترادفتان وليستا بمترادفتين مطلقاً بل بينهما اشتراك وتواطؤ كالنفاق والكفر، وكغيرها من الأمور التي نبه عليها بعض أهل العلم.
الجواب: ظاهر الحديث إذا استنصحك أي: طلب منك النصيحة، استنصاح: استدراج، أي: طلب وهو من أفعال التدرج، الاستفعال يعني: أنه طلب منك النصيحة وقال: انصحني في هذا الأمر، ولكن الأحاديث الأخرى تدل على أن للمؤمن أن ينصح أخاه المؤمن ابتداءً من نفسه بدون أن يطلب منه النصيحة، فهذا في الأمور التي يطلب فيها النصيحة، والأخرى في أمور التعقل التي من الحكمة أن تنصحه فيها، كأن تراه ضالاً منحرفاً، فلك أن تنصحه إذا أخطأ في بعض المسائل، أو تراه مسرفاً على نفسه، أو لا يحسن تربية أولاده، فتنصحه في هذا الباب.
أما أمور الدنيا فإنك لا تنصحه حتى يستنصح لك، فمثلاً: يريد أن يتزوج زوجة فتذهب أنت إليه فتقول: سمعت أنك تريد أن تتزوج فلانة فأنصحك ألا تتزوج فلانة، هذا من النصيحة التي ليست مطلوبة في هذا الباب ولا مقبولة وإنما قال صلى الله عليه وسلم: {وإذا استنصحك} ليخرج هذه النصائح الخاصة، أو التي لا تفعل إلا باستدراج، ومثل: أن يشتري السلعة أو يبتاع بيتاً أو كذا، فتذهب إليه وتقول -لأمرٍ الله أعلم به-: لا. إن بيت فلان فيه كذا وكذا وكذا، فهو لم يطلب منك هذا ولم يسألك ولم يطلب منك النصيحة، أما إذا طلب فلك أن تخبره كالشهادة، أما في الأمور الظاهرة، أو أمور الإسلام، أو أمور الآخرة فإنك تنصح له بدون أن يستنصحك.
الجواب: هذه المسألة مختلف فيها، والصحيح عند علماء الحديث وأهل السنة أنها ليست بواردة، وأن الأحسن ترك هذا التوسل؛ لأن التوسل به صلى الله عليه وسلم إنما هو بمحبته عليه أفضل الصلاة والسلام والاقتداء به، أمَّا بَعْد موته فهذا ليس بصحيح، ومما لا يجوز: أن يذهب الإنسان في مثل هذه المسائل إلى قبره فيتوسل به صلى الله عليه وسلم فهذا شرك والعياذ بالله، وليس بوارد ولا يجوز، أو يقول: بجاه محمد وهو مخالف لسنة محمد صلى الله عليه وسلم.
أما أن يقول: بحبي لك، أو بحبي لرسولك صلى الله عليه وسلم وبالاتباع لسنته صلى الله عليه وسلم فكأن هذا هو الصحيح، وكأن ابن تيمية يميل إلى هذا، واستدل على ذلك بحديث ولو أنه ضعيف، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في دعاء الماشي إلى الصلاة: {اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا رياءً ولا سمعةً، خرجت اتقاء سخطك، واتباع رضوانك، فاغفر لي ذنبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت}. الحديث يُستدل منه: أنه يسأل بحق السائلين، وحق السائلين أوجبه الله على نفسه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من دون أن يفرضه أحد عليه، وحق السائلين أن يعطي السائل وأن يمنح المستفيد منه تبارك وتعالى، وبحق ممشاي فهو العمل، ويقاس عليه حق اتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم فالإنسان يقول: "اللهم باتباعي لرسولك صلى الله عليه وسلم وبحبي له صلى الله عليه وسلم اغفر لي وارحمني". ويستدل بحديث الثلاثة الذين توسلوا إلى الله بأعمالهم، وهم الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار فإن هذا توسل بعمل، وذاك توسل بعمل، وأجاب الله توسلهم، وهذا توسل بالأعمال وهو وارد، أما التوسل بالجاه فلم يذكر عن السلف في ذلك، فتوقف كثير من العلماء خاصة أهل الحديث وأهل السنة في هذا الباب وقالوا: ليس بوارد، والأحسن أن يتقيد الإنسان في ألفاظه وأقواله وأفعاله بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، نسأل الله عز وجل أن يهدينا وإياكم سواء السبيل وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
الجواب: هذا للعلماء فيه أقوال، لكن تختلف أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم باختلاف المناسبات، فأما أحاديث الأصول؛ أصول الإيمان فإنه لا يحمل على غير ما دلت عليه، ومن حملها على غيرها فهو إما معطل، وإما مؤول، ولذلك يحذر ابن تيمية من حمل أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في باب الصفات، وباب الألوهية وباب الربوبية التي هي أصول الإيمان، وإنما يفعل ذلك الأشاعرة والمعتزلة والجهمية وغيرهم من الفرق التي ابتدعت في الأصول، ولذلك يلوون أعناق الأحاديث بسبب أنه يحمل كذا ويحمل كذا، وأما في الفروع فالأمر أهون كما قال ابن تيمية، ولذلك لم يؤلف في الفروع رحمه الله وقيل له: "لماذا لم تؤلف في الفروع؟ قال: أمر الفروع أهون وأسهل وأيسر، فإنه لو أخطأ العالم كان لخطئه أجر واحد، ولو أصاب له أجران، لكنه يؤلف في الأصول؛ لأن الخطأ فيها، مزلة ومهلكة.
فأما في الفروع -مثلاً- في الوضوء، وفي العبادات والمعاملات فيحمل كلامه على كذا، فهذا الذي حمل الحديث إن كان قصده صحيحاً ونيته صحيحةً فهذا يؤجر أجراً واحداً إذا أخطأ، وأجران إذا اجتهد وأصاب، وأما إن كان قصده التعصب إلى مذهبه ويعرف أن الحديث يدل على كذا لكن يحمله على محمل، ويلوي النص لياً، ويرفع من دلالة النص فهذا لا يجوز وهو آثم في هذا الباب، فالحمل قسمان: حمل في أصول الإيمان فهذا مزلة ومهلكة، وحمل في الفروع فهو يشمل شقين: إن حمله بحسن نية وحسن قصد وعلم الله أنه اجتهد فرأى هذا، فهذا وارد وصحيح، وإن كان حمله لهوى في قلبه أو تعصباً لرأيه ومذهبه، فهذا آثم ولا يجوز ذلك.
نسأل الله التوفيق والهداية، وأن يلهمنا رشدنا وأن يقينا شر أنفسنا، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر