إسلام ويب

صبر الأولياء في منازل الابتلاءللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أصل الأعمال هو العلم بها، وثمرة العمل بهذا العلم هي الجنة، وإذا كان الذي قدر الله عليهم الابتلاء هم أكثر الناس حاجةً للصبر، فإنهم إن عملوا بالصبر، نالوا خيراً عظيماً.

    وفي هذا الدرس بيان فوائد الابتلاء، وذكر نماذج من أهل الصبر، ابتداءً من الأنبياء السابقين، ومروراً بنبينا صلى الله عليه وسلم، ثم أهل الصلاح من أمته.

    1.   

    الفطرة توحي الصبر

    الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً، اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.

    اللهم صل على نبيك الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، لسان الصدق الذي بلغ الوحي بأحسن عبارة، وأذن الخير الذي تلقى الوحي فصاغه بألطف إشارة، صلى الله على سيف النصر الذي كسر الله به ظهور الأكاسرة، وقصر به آمال القياصرة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأشكر مكتب الدعوة هنا في عنيزة وفضيلة الشيخ حمود الصائغ، وأشكركم على حسن استقبالكم، وقد سعدنا اليوم بزيارة شيخنا ووالدنا الشيخ محمد الصالح بن عثيمين، فكان مع اللقاء بعض الأبيات، أستأذنكم في إلقائها بين يدي المحاضرة، وهي تكملة لما مر في بريدة البارحة:

    قل للرياح إذا هبت غواديهـا     حي القصيم وعانق كل من فيها

    واكتب على أرضهم بالدمع ملحمة     من المحبة لا تنسى لياليها

    أرض بها علم أو حاذق فهم     يروي بكأس من القرآن أهليها

    عقيدة رضعوها في فتوتهم     صحت أسانيدها والحق في يرويها

    ما شابها رأي سقراط وشيعته     وما استقل ابن سينا بواديها

    ولـابن تيمية في أرضهم علم     من الهداية يعلو في روابيها

    إذا بريدة بالأخيار قـد فخرت يكفي عنيزة فخراً شيخ ناديها

    محمد الصالح المحمود طالعه     البارع الفهم والدنيا يجافيها

    له التحية في شعري أرتلها     بمثل ما يحمل الأشواق مهديها

    سالت قريحته بالحـق فاتقدت     نوراً فدنيا الهدى زانت نواحيها

    أمَّا بَعْد: فموضوعنا في هذه الليلة (صبر الأولياء في منازل الابتلاء) وهذا الموضوع توحيه الفطرة للعبد، يوم أن فطر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى العباد على الصبر وعلى الجزع، وعلى الشكر وعلى الكفران قال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:1-3] والصبر من مقامات العبودية عند أهل السنة والجماعة، بل ومن أعظم المقامات وقد ذكره الله في القرآن في أكثر من تسعين موضعاً، فمدح الصبر، ومدح الصابرين، وذم الذي لا يصبر، وبيِّن أجور الصابرين عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وما أعد لهم من درجات.

    مراتب الصبر

    والصبر في الإسلام على ثلاث مراتب:

    أولها: صبر على الطاعات، وثانيها: صبر عن المعاصي، وثالثها: صبر على الأقدار والمصائب.

    وأعظمها الصبر على الطاعات -إن شاء الله- على خلاف، لكن هذا الذي تميل إليه النفس، لأنها مقصودة الأداء وهو الصبر العظيم المطلوب، فتؤدي الطاعة وتصبر عليها وتصابر نفسك لتؤديها على أكمل وجه بخشوعها وخضوعها.

    والصبر عن المعاصي: حين تدعوك نفسك الأمارة بالسوء، فتصبر وتحتسب.

    وصبر على أقدار الله حين يكتب عليك الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من أقداره ما يريد أن يخفف به من ذنوبك، ويرفع به من درجاتك، إذا علم هذا فإن أولياء الله الصالحين كان يميزهم الصبر مع اليقين، سئل شيخ الإسلام ابن تيمية، قيل له: بم تنال الإمامة في الدين؟ قال: بالصبر واليقين، أما سمعت الله يقول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

    1.   

    سنة الابتلاء

    وعباد الله الصالحين ابتلوا في حياتهم بمصائب، فمنهم من ابتلي بالمال ففقد ماله، والله عز وجل يلطف بأقداره إذا حكم على عباده بها، فما على العبد إلا التسليم، ومنهم من أصيب في عقله بمصيبة، فذهبت بعقله، فبقي أبلهاً مصروعاً مبهوتاً، ومنهم من أصيب في جسمه، فأبطلت بعض حواسه أو أعضائه، ومنهم من أصيب بابنه، إما ضل، أو مات، أو ذهب عنه ولم يعد -كما سيأتي- ومنهم من أصيب بعرضه، واتهم تهمة وهو منها براء، وهي لا تليق به، ولا يليق بها، فصبر واحتسب، وسوف أعرض للصبر مع الأشخاص، وكان إلقاء الحديث سرداً على طريقة السلف الصالح، كما ذكر ذلك الشاطبي في الموافقات، وفي هذا العصر اهتم الناس بالتبويب والترتيب والصبر والحصر.

    إذا عُلم ذلك فإن الله قص قصص الصابرين ومدحهم، وقال جل ذكره في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:153-155] ومن هم الصابرون؟ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157].

    واختلف أرباب السلوك أو التربية في تعريف الصبر، فقال أحدهم: هو أن يقطع جسمك وأنت تتبسم،تلذذاً بقضاء الله، وقال الآخر: هو أن ترضى بما رضي به الله لك، فأحبه إلى الله أحبه إليك:

    إن كان سركم ما قال حاسدنا     فما لجرح إذا أرضاكم ألم

    وقال الثالث: هو أن تحتسب الأجر أعظم مما فاتك من العافية، إذا علم هذا فإن الله عز وجل يقول في محكم كتابه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] والله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

    فوائد الابتلاء

    والابتلاء سُنة من سُنن الله عز وجل، ويبتلي العبد لأربع فوائده:

    الأمر الأول: الرفعة في الدنيا؛ فإن المبتلين أعظم الناس رفعة، يكونون مبتلين في أول الطريق، فإذا صبروا واحتسبوا رفع الله ذكرهم أبد الدهر.

    والأمر الثاني: التربية؛ فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يربي القلوب بالابتلاء حتى تخلص وتصدق له عز وجل.

    والأمر الثالث: تحقيق العبودية؛ فإن الله يريد أن يكون هذا العبد عبداً له، ولا يمكن أن يكون عبداً بالدعاوى التي لا يقوم عليها دليل حتى يذعن، وكثير من الناس يعلن أنه عبد، ولكن إذا ابتلي نكص على عقبيه وخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين، فمن أعظم فوائد الابتلاء أنه يحقق لك مقام العبودية، إن كنت عبداً فهذا هو الابتلاء فاصبر له، لأن الذي كتب عليك الابتلاء هو الذي كتب عليك النعم.

    والأمر الرابع: الأجر والمثوبة عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وهو لا تضيع عنده الودائع إذا ضاعت عند الناس، ولا يخسر من يعامله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، بل يستفيد، ولا يهزم من يتولاه، بل ينتصر:

    فاشدد يديك بحبل الله معتصماً     فإنه الركن إن خانتك أركان

    أمور تخفف الابتلاء

    إذا عُلم هذا، فليعلم أن مما يخف الابتلاء عند كثير من أهل العلم، ما ذكره ابن القيم في كتابه زاد المعاد:

    أولاً: أن تؤمن بالقضاء والقدر، فإنه أعظم معالم أهل السنة والجماعة وفي أول حديث في صحيح مسلم عن يحي بن يعمر قال ابن عمر لما حدث أن قوماً في العراق لا يؤمنون بالقضاء والقدر قال: {والذي يحلف به ابن عمر، وفي لفظ والذي نفسي بيده، لو أنفق أحد منهم مثل أحد ذهباً ما تقبل منه حتى يؤمن بالقضاء والقدر} وفي حديث صحيح عن عبادة بن الصامت، أنه قال لابنه عندما حضرته الوفاة: {يا بني! عليك بالإيمان بالقضاء والقدر، فو الذي نفسي بيده، إن لم تؤمن بالقضاء والقدر، لا ينفعك عملك أبداً}.

    وفي سنن الترمذي بسند حسن من حديث ابن عباس في حديثه الطويل قال: {كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك -انظر ما أحسن الكلمات- احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة -ثم قال:- واعلم أن النصر مع الصبر واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك} فأول ما يخفف الابتلاء والمصائب قضية الإيمان بالقضاء والقدر، ومن لم يؤمن بالقضاء والقدر فلا قبل الله له صرفاً ولا عدلاً، ولا كلَّمة ولا زكَّاه وله عذاب أليم.

    ثانياً: أن تعرف أن ما أصابك إنما هو قليل بالنسبة لما أعطاك الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96] فما أصاب الله العبد بمرض أو هم أو غم أو حزن إلا كفَّر الله به من سيئاته، فاعلم أنها تكفر عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولا تضيع.

    ثالثاً: أن تتسلى بالمصابين والمبتلين من الناس، وأن تعلم أن كل دار فيها مصيبة، وأنه ما ملئت دار حبرة إلا ملئت عبرة، وفي كل واد بنو سعد، ولذلك قالت الخنساء: تسليت ببكاء الثكالى حولي، ثم قالت:

    ولولا كثرة الباكين حولي      على إخوانهم لقتلت نفسي

    فالتسلي بمصائب الناس وتذكرها، من أعظم ما يزيل الكرب عن النفوس، أو يخفف المصيبة، وذكر ذلك ابن القيم فقال: واعلم أن في كل دار بني سعد.

    إذا عُلم هذا فإن الذي يخففها أيضاً: أن تعلم أنها أقل مما كانت، فإن الله عز وجل يخفف بعض المصائب عن بعض، وأعظم مصيبة تصيب العبد مصيبة في الدين، فهي التي لا جابر لها، ولا مسلي، ولا معزي، ومن كل شيء عوض إلا من الله، فإذا فاتك فاتك، ومن كل شيء تسلية إلا الدين، فإذا فاتك فوالله ما بعده تسلية ولا عزاء ولا عوض، فاحمد الله عز وجل أن أصبت بمصيبة في جسمك، أو ولدك أو عرضك، ولم تصب بمصيبة في دينك، فإنها من أعظم المصائب، بل هي أم المصائب، ولا جابر لها إلا التوبة والعودة إلى الله عز وجل.

    1.   

    أنواع الابتلاء

    واسمعوا الآن إلى الصالحين في قصص عجيبة، وفي إيراد رحب واسع عذب، يورده سُبحَانَهُ وَتَعَالى في القرآن، ويورده رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة، وأهل السير من أرباب الحديث ومن حفظة السنة.

    يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن أيوب لما مسه الضر: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] أصيب بمرض في جسمه فمكث ثمانية عشر عاماً، لا يهدأ، لا يذوق طعاماً، ولا يتلذذ بشراب، ولا يكتحل بمنام، فلما بلغ ثمانية عشر عاماً -كما قال أهل التفسير- عاد وقالت له زوجته: لم لا تشتكِ على الله عز وجل؟ لم لا تعرض نجواك وشكواك على الواحد الأحد؛ فإنه يكشف الضر أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62] فقال: لا والله لا أدعوه حتى تتساوى أيام صحتي وأيام ابتلائي، فإن أيام الصحة لا تحسب عند كثير من الناس، نُصَح كثيراً، وننعم سنوات طويلة، فإذا أتت البلوى سنة استكثرنا السنة، وحسبناها وأحصيناها، أما أيام الرخاء فلا تحسب.

    فصبر أيوب مثل أيام صحته ثم قال، وانظر ما أحسن الأدب: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] أنا المريض وبيدك الشفاء، فإن كنت ترى أني قد أصبحت في حال ترضى لي بالعافية فعافني يا رب! فأحب ما أحببته أنت والأمر ما أحببته أنت.

    ولذلك ذكروا عن خليفة الإسلام الصادق الزاهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، يوم أن دخلوا عليه وهو مريض، فقالوا: ماذا أصابك؟ قال: الله أعلم ما أصابني؟ قالوا: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب قد رآني، قالوا: ماذا قال لك الطبيب؟ قال: يقول إني فعال لما أُريد، وأخذها بعض الناظمين فقال:

    كيف أشكو إلى طبيبـي ما بي      والذي قد أصابني من طبيبـي

    وذكر بعض الكتبة في ترجمة ابن تيمية أنهم دخلوا عليه وهو مريض، فقالوا: يا أبا العباس! مالك؟ فرفع رأسه وقال:

    تموت النفوس بأوصابها      ولم يدر عوادها ما بها

    وما أنصفت مهجة تشتكي      أذاها إلى غير أحبابها

    ولذلك انظر إلى يعقوب ما أحسن عبارته يوم قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18] ثم يقول: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] فالبث والحزن يشكى إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فهو من باب رفع الشكوى إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

    إذاً: الابتلاء بالأمراض والمصائب والزلازل والمحن من الأقدار التي يقدرها الله على الناس، والله عز وجل أعلم بالأجسام التي تتحمل المرض من غيرها.

    وفي الطبراني بسند فيه نظر، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: إني أعلم بعبادي، من عبادي من لو ابتليته لما صبر، ومنهم من لو عافيته لما شكر، فأنا أُصرِّف عبادي كيف أشاء) فله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الحكمة البالغة، فالمرض من الابتلاءات العظيمة التي مرت في تاريخ هذه الدنيا؛ منذ خلقها الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

    ابتلى الله عز وجل أيوب بهذا المرض، فقال هذه القولة: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] وذكر ابن حجر في الإصابة أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ابتلى أحد الصحابة الأخيار وهو عمران بن حصين بن عبيد الخزاعي، المجاهد الشهير الصحابي النحرير، ابتلاه الله بمرض مكث بسببه ثلاثين سنة لا يقوم من على فراشه، فقال له بعض الصالحين: لو شكوت، أو رفعت ضرك إلى الله؟ قال: أحبه إلى الله أحبه إلي، ما دام أن الله يرضى هذا لي، فأنا أرضاه لنفسي، فكانت الملائكة تصافحه بأيمانها مع كل فجر، وهذه من كرامات الأولياء التي أقرها أهل السنة والجماعة، فنحن نقول بها، يستبعد أن الملائكة كانت تصافحه؛ لأنه صبر واحتسب ثلاثين سنة، فشكر الله له سعيه، وجازاه في الدنيا بمصافحة الملائكة، والخير العميم والأجر والثواب عند الله تبارك وتعالى.

    الابتلاء بفوت الأعضاء

    وقد يبتلي الله عز وجل الإنسان في جسمه بفوت أعضائه، فالعقل نعمة من أعظم النعم، بل هي تأتي بعد نعمة الدين، ولكن إذا حكم الله بسلب عقل هذا المخلوق وأخذ عقله، فمالك إلا أن تسلم وتحتسب.

    عن عطاء بن أبي رباح في الصحيحين، قال: قال لي ابن عباس: يا عطاء! ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بأبي أنت وأمي نعم، قال: هذه المرأة السوداء، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: {يا رسول الله إني أصرع -أي: يصيبها مس من الجان فتصرع- فادع الله لي، قال: إن شئت دعوت الله لك، وإن شئت صبرت واحتسبت ولك الجنة -ما أحسن الخيارين! وما أحسن الخيار الثاني! عرض عليها خطتين، وخيرها بين طريقين، وأنزلها منزلتين- فقالت: أصبر وأحتسب، ولكني أتكشف فادع الله لي يا رسول الله! فدعا لها ألا تتكشف} فهي من أهل الجنة تمشي على الأرض؛ لأنها احتسبت عقلها وهو من أعظم النعم، فلما فوضت الأمر إلى الحي القيوم، جازاها الله بجنة عرضها السماوات والأرض.

    والله عز وجل قد يبتلي عبده بالبصر، والبصر نعمة من النعم الجليلة، يوم ترى الحياة، وتذوق الجمال، وتتعرف على الأشياء والذوات والأشخاص بالعينين الجميلتين، لكن إذا حكم الله بطمس نورهما، فمالك من حيلة إلا الصبر والتسليم، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {من ابتليته بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة} ما أحسن الكلام! وما أحسن إيراد الحديث! لم يقل عينيه، وإنما قال حبيبتيه؛ لأنه يحبب العينين إلى صاحبها، فكأنها أحب إليه من كل شيء، فيقول: من ابتليته، ولم يقل من أخذت عينيه، وإنما قال: ابتليت ليبين أن هناك أجراً ومثوبة، وأن هناك كنزاً مدخراً، وأن هناك جنة وموئلاً، فقال: {من ابتليته بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة} وما أحسن الجنة!

    قالوا لـيزيد بن هارون الواسطي -كما في سير أعلام النبلاء والتذكرة وهو شيخ الإمام أحمد، ومن حفاظ الدنيا، ومن رجال البخاري ومسلم، ومن أهل واسط، بل عالم واسط الوحيد- لما ذهبت عيناه، فقيل له: يا أبا خالد! أين ذهبت العينان الجميلتان؟ قال: أذهبهما والله بكاء الأسحار، لكن معه {عوضته عنهما الجنة}.

    و ابن عباس حبر الأمة عمي في آخر حياته، فأتاه بعض الشامتين يعزيه استهزاء في عينيه، فعزاه في عينيه، فعلم ابن عباس أنه شامت فقال:

    إن يأخذ الله من عيني نورهما     ففي فؤادي وقلبي منهما نور

    عقلي ذكي وقلبي غير ذي عوج     وفي فمي صارم كالسيف مشهور

    صدق رضي الله عنه، إن يأخذ الله نور العين، ففي القلب نور وبصيرة، وإن يأخذ الله ضياء هاتين العينين الجميلتين، ففي الروح ضياء خارق مشع يبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وما حيلة الإنسان إلا أن يصبر.

    ذكروا عن ابن هبيرة صاحب الإفصاح، الحنبلي الوزير الشهير الكبير التقي، الذي دعا الله في يوم منى بالغيث، فسقوا الغيث وهم في يوم منى، فقال وهو يبكي: يا ليتني دعوت الله بالمغفرة! وكان وزيراً للمستنجد العباسي، وقد أدركه ابن الجوزي، بل كان ابن الجوزي من أصحابه، فدخل عليه أحد الناس فسلم له ابن هبيرة جائزة ومسح على رأس هذا الشخص، ثم ذهب الشخص، فقال له الناس يا بن هبيرة! مالك أعطيته ومسحت على رأسه؟ قال: هذا عرفته ولم يعرفني، ضربني مرة على رأسي فذهبت عيني منذ ثلاثين سنة ما أخبرت أحداً بها، ما أخبر أحداً؛ لأن الشكوى إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    الصبر على فراق الأبناء

    والأبناء نعمة من النعم الجليلة، والله عز وجل ذكر عن الصالحين أنهم كانوا يقولون: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:7] ومن أحسن ما يجمل الحياة المال والبنون، فهم زينة الحياة الدنيا، وما أحسن من أن ترى أطفالك وأبناءك يترعرعون أمامك، ويهشون ويبشون بنور الإسلام، ويسجدون للواحد القيوم، ويرددون عليك آيات القرآن،ولكن إذا حكم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بأخذهم فما لك من حيلة.

    في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ليس لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة} ولم يقل الولد ليخرج الأخ، ولم يقل الأخ ليخرج الأب، ولم يقل الأب ليخرج الصديق والصاحب، وإنما قال الصفي ليدخل الكل في هذا، وما أحسن هذا الكلام! فالصفي هو كل من أصابتك لوعة من فراقه، أو حرقة، أو حزن، عوضك الله عنه إذا صبرت واحتسبت الجنة.

    وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا مات ابن العبد المؤمن قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى -وهو أدرى للملائكة الذين قبضوا نفسه- قبضتم ابن عبدي المؤمن؟ قالوا: نعم يا رب! وهو أعلم، قال: قبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا: نعم يا رب! قال: فماذا قال عبدي؟ قالوا: حمدك واسترجع -أي: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون- قال: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد} هذا الحديث حسن، والبيت هنا كالربابة البيضاء، أو كالكوكب الدري، مكتوب عليه بيت الحمد، يدخله الرجل الصالح يوم يحتسب مصيبته في ولده على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    والمرأة المسلمة تشارك الرجل في هذه المصائب، بل ذكر صلى الله عليه وسلم للنساء في فوت الأطفال ما لم يذكر للرجال، فإنه قال لما زارهن: {ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كانوا لها حجاباً من النار، قالت: امرأة واثنين يا رسول الله -اثنين عدد المفعولية- قال: واثنين، قالت: وواحد -في بعض الروايات- قال: وواحد} فالحمد لله أن جعل فضل موت ابن واحد تحتسبه عند الله؛ دخول لك جنة عرضها السماوات والأرض بإذن الله.

    الابتلاء بالأعضاء والأبناء

    قد يرزقك الله أعضاء تتمتع بها، وقوةً وحيوية وطاقة ونشاطاً، لكن له حكمة أن يسلب عنك القوة.

    ذكر أهل العلم وأهل السير والترجمة في سيرة عروة بن الزبير بن حواري الرسول عليه الصلاة والسلام، عروة الذي هو أكبر راوية في كتب الحديث عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها، الذي ذكروا عنه أنه كان يختم القرآن في أربعة أيام، وأنا لا أقف عند أربعة أيام، لأن الأولى الختم في سبعة أيام كما في حديث ابن عمرو، لكن الشاهد قوة العبادة والإقبال على الله عز وجل، فأراد الله أن يرفع درجته عنده، فكتب عليه ابتلاء.

    فقد سافر عروة بن الزبير إلى الشام وبينما هو في الطريق أصابته آكلة في رجله، فاجتمع عليه الأطباء، وقالوا: نقطع رجلك من القدم، فقال: أصبر وأستأني، فدخل المرض إلى ساقه، فقالوا: نقطعها من الساق، قال: أصبر وأستأني، فدخل المرض إلى الفخذ، فقالوا: مالك من حل إلا قطعها وإلا متَّ، قال: الله المستعان! إنا لله وإنا إليه راجعون، فقالوا لا نقطعها حتى نسقيك كأساً من الخمر، قال: يا سبحان الله! عقل منحنيه ربي أذهبه بكأس من الخمر، لا والله، ولكن إذا توضأت ودخلت في صلاتي فاقطعوها، فتوضأ واستقبل القبلة، وبدأ في صلاته ينادي رب العزة تبارك وتعالى، وهو يحلق بروحه مع تلك الآيات البينات، فتقدم إليه الأطباء بالمناشير، فقطعوا رجله، فلما غلبه الوجع سقط مغشياً على وجهه،وبعد ساعات استفاق، فقالوا: أحسن الله عزاءك في ابنك، رفسته دابة الخليفة فمات، يا سبحان الله!! في هذه الفترة، فترة الإغماء رفست ابنه دابة الخليفة فمات.

    انظر المصائب كيف تحدث، وانظر إلى ألطاف الله وحكمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في القضاء والقدر، ماذا قال؟ قال: الحمد الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم لك الحمد -لكن انظر إلى الذي يذكر النعم- إن كنت أخذت فقد أعطيت، وإن ابتليت فقد عافيت، أعطيتني أربعة أبناء، وأخذت ابناً واحداً، وأعطيتني أربعة أعضاء فأخذت عضواً واحداً فلك الحمد ولك الشكر، ثم قال:

    لعمرك ما مديت كفي لريبة      وما حملتني نحو فاحشة رجلي

    ولا دلني فكري ولا نظري لها      ولا قادني فكري إليها ولا عقلي

    وأعلم أني لم تصبني مصيبة      من الله إلا قد أصابت فتى قبلي

    رجع محتسباً إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لأنه الذي قدر.

    1.   

    صور من الابتلاء

    إبراهيم الخليل والبلاء المبين

    رفع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالبلاء درجة الأنبياء، ومحا به خطايا الصالحين، وإبراهيم عليه السلام أستاذ العقيدة، ومعلم التوحيد، الذي بث مذهب التوحيد في الدنيا وأسسه،فكان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أشبه الناس به، ابتلاه الله بمصائب، منها أنه جمع له حطب ثم أوقدت النيران ثم ردي في النار، فانقطعت به الحبال إلا حبل الله،وأوصدت أمامه الأبواب إلا باب الله، لكن انظر إلى التوكل على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أتاه جبريل فقال: ألك إلي حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم، فلما ألقي في النار ماذا قال؟ قال: حسبنا الله ونعم الوكيل.

    وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم لما ألقي في النار، وقالها رسولنا صلى الله عليه وسلم لما قيل له: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:173-174] فلما ألقي في النار تذكر عظمة الله، وألا كافي ولا حافظ ولا حامي إلا الله:

    يا واهب الآمال أنـ     ت رعيتني ومنعتني

    وعدا الظلوم عليَّ كي     يجتاحني فنصرتني

    فانقاد لي متخشعاً      لما رآك منعتني

    فالمانع هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فلما وقع في النار، أتت عناية الله عز وجل فقال الله عز وجل: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] لو قال برداً وسكت، لأصبحت زمهريراً يقطعه، ولكن قال: وسلاماً أي: بهدوء وراحة وعافية وصحة.

    وابتلاه الله بابنه، فلما شب إسماعيل عليه السلام -على الراجح من أقوال أهل العلم- وبلغ معه السعي، ودرج وسار وأتى، والابن إذا أصبح في هذه السن، أصبح يشاغف حبه القلب، لأنه إذا كبر قليلاً نقص حبه، ثلاثة يحبون في ثلاثة مراحل: المريض حتى يشفى، والغائب حتى يحضر، والصغير حتى يكبر، والصغير جداً من الأطفال قد لا يحب، ولكن توسط الحب بلوغ السعي، فيصبح شجى القلب، وشغاف الروح، فأراد الله أن يخلي قلب إبراهيم بحبه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه الخليل.

    قد تخللت مسلك الروح مني      ولذا سمي الخليل خليلا

    فكان من مقامات الخليل أن يكون أحب شيء إليه هو الله عز وجل، فلما بلغ معه هذا الابن الصالح السعي ابتلى الله أباه، فرأى في المنام ورؤيا الأنبياء حق -وعقد لذلك البخاري باباً في صحيحه: باب رؤيا الأنبياء حق- إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102] فقام الصباح بعد أن تأكد من الرؤيا فعرض الرؤيا على ابنه، لا مستشيراً ولكن ينظر إلى رد هذا الولد الصالح، فكان رده رد المؤمن الموحد: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:34]:

    وينشأ ناشئ الفتيان منا     على ما كان عوده أبوه

    فلما علمه ولقنه التوحيد وأرضعه مع اللبن عقيدة لا إله إلا الله إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102] فماذا قال؟ قال: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] وما أحسن التواضع! لم يقل افعل ما تؤمر ستجدني من الصابرين، وإنما قال: إن شاء الله، فالصبر والتثبيت منه تبارك وتعالى، فتقدم إليه، ولذلك يقول الله سبحانه: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات:106] لأنه ابتلاء ما سمع بمثله، ابنك، وقد بلغ السعي، بل صالح، ثم يأمرك الله أن تباشر الذبح أنت بنفسك، ما قال: يا إبراهيم مر فلاناً أن يذبح ابنك وأنت تختفي!! لا، بل خذ أنت السكين واذهب إلى ابنك واطرحه أمامك ثم اذبحه، فامتثل لهذا، فرفعه الله، وأثبت لله أنه صادق، وأنه من المحسنين وترك له لسان صدق في الآخرين، فالألسنة تثني عليه، وتمدحه أبد الدهر.

    فعليه السلام أولاً وآخراً، وجزاه الله في مواقف الصدق خيراً وأجراً ومثوبة.

    ابتلاء الله ليونس عليه السلام

    ذكر الله عز وجل المبتلين كذلك في الأزمات وفي الكرب، فمنهم يونس بن متى عليه السلام، خرج مغاضباً قومه، ولكن لم يستأذن ربه، فذهب إلى السفينة، ولما ألقي من السفينة ذهب في ظلمات ثلاث، ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وانقطعت به الحبال إلا حبل الله، ونسي كل أحد إلا الله،ما تذكر زوجة ولا ولداً، فقال وهو في الظلمات: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، دعوة أخي يونس، ما قالها مكروب إلا كشف الله بها كربه}

    وأكثر ذكره في الأرض دأباً      لتذكر في السماء إذا ذكرتا

    وناد إذا سجدت له اعترافاً      بـما ناداه ذو النون بن متى

    إذا ناديت واعترفت بـلا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، كشف الله كربك، وغمك، وحزنك، ورزقك من حيث لا تحتسب.

    فكان جزاء الصابرين عند الله أجراً ومثوبة، فانظر كيف أخرجه الله ونجاه وقال: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144].

    يعقوب وابنه يوسف عليهما السلام

    هذا يعقوب عليه السلام يصاب بمصيبة، والعجيب أن المصائب التي عرضت في القرآن على أنواع، وما كانت على وتيرة واحدة، فنوع الله المصائب والنعم على الناس، وله في ذلك الحكم البالغة، فإن يعقوب عليه السلام لم يبتلَ بأن يكون ابنه ضالاً كابن نوح عليه السلام، ولا بأن يذبح ابنه كما ابتلي به إبراهيم، ولكن ضل منه ابنه يوسف عليه السلام، فلم يدر أين ذهب فكان يردد دائماً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18] وبلغ يوسف في قلبه الشغاف من الحب، فلما ابتعد عنه كان مقدار هذا الابتعاد أربعين سنة:

    بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا      شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا

    نكاد حين تناجيكم ضمائرنا     يقضي علينا الأسى لولا تأسينا

    فأخذ يبكي ويكظم أنفاسه، حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، وأخذ يقول: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، فلما علم الله تفويضه ورده الأمر إليه، رفعه بالابتلاء لما صبر وشكر، وهذا عاقبة العبد يوم أن يفقد شيئاً غالياً نفيساً عليه، فيحتسب ذلك عند الله عز وجل.

    ويوسف عليه السلام ابتلي في عرضه، واتهم فصبر واحتسب، وفوض أمره إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فرفعه الله رفعة ما بعدها رفعة، وأثنى عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقال: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] لماذا؟ لأنه صبر على هذه البلوى العظيمة، ولذلك يذكر ابن القيم في مدارج السالكين نقلاً عن ابن تيمية، قال: إنما عَظُمَت مصيبة يوسف عليه السلام بأمور، وكان أجره ورفعته عند الله عز وجل لأمور:

    منها: أنه شاب، وهو أقدر على الفاحشة.

    ومنها: أنه غريب، والغريب لا يجد ملاماً ولا عتاباً من الناس.

    ومنها: أنه في بيت امرأة عندها سلطان، فهي لا تخاف على نفسها من السلطان ولا من تطبيق الحدود.

    ومنها: أن هذه المرأة جميلة.

    ومنها: أنها لبست حليتها وذهبها وفضتها.

    ومنها: أنها خلت به.

    ومنها: أنها غلقت الأبواب.

    ومنها: أنها هددته.

    ومع ذلك كله صبر، وقال: معاذ الله -وما أحسن هذه الكلمة!- فرفعه الله، فنحن نقرأ قصته دائماً في القرآن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

    فيا سبحان الله! كيف يرفع بعض الناس بالصبر، وكيف يرفعهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالابتلاء إذا عدوا ذلك قضاء وقدراً فآمنوا به وأنزلوه منازله.

    حادثة الأفك

    ومصيبة الابتلاء في العرض قد حدثت، وفي تاريخ الإسلام كما في قصة الإفك، حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها، الذي رواه البخاري في غزوة المريسيع، وفي كتاب المنافقين عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس ومن طريق الزهري أيضاً: أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها حدثت فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج -ما أحسن القصة حين تسوقها عائشة - لغزاة -أي: لغزوة- أقرع بين نسائه، فأيهن خرج نصيبها أو سهمها خرج بها صلى الله عليه وسلم، فخرجتُ معه في ذات غزوة، فلما قفلنا من الغزوة راجعين، نزلت في منزل ألتمس عقداً لي من ظفار فاتني، فارتحل الركب وما شعروا، وظنوا أني في الهودج -وهو البيت الصغير الذي توضع فيه المرأة- فحمل الهودج على الجمل، وذهبوا وارتحلوا من المنـزل، وظنوا أن أم المؤمنين الطاهرة بنت الطاهر، الصديقة بنت الصديق، المبرأة من فوق سبع سماوات أنها في الهودج، فذهبوا وأتت في وقت الظهيرة، فلم تجد أحداً، فماذا فعلت تغطت، وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون!! الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156] فجاء رجل من الصالحين المجاهدين الزاهدين الأخيار، اسمه صفوان بن المعطل، فوجدها متغطية، فقال: الله المستعان! زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: فو الله ما كلمني بكلمة، ثم أناخ بعيره، فأركبها على البعير فركبت، وذهب يقود البعير بزمامه وعائشة على البعير، والرسول عليه الصلاة والسلام قد نزل هو والصحابة منزلاً في الطريق.

    فأتى بالجمل وعليه عائشة فأما الذين آمنوا فزادهم ربهم إيماناً، وعلموا أنها طاهرة بريئة وأنها صديقة، وأما الذين في قلوبهم مرض فخار النفاق في قلوبهم، وعشعش الشك في نفوسهم، نعوذ بالله من ذلك، فقاموا يوشوشون بالأخبار: لماذا تأخرت؟ ولماذا أتى بها هذا الرجل؟ وما هو السبب؟ نفاق وكبر وعتو وإعراض عن الله وعن شرعه.

    والرسول عليه الصلاة والسلام لم يدر، ولما وصل المدينة، قالت عائشة: فأتاني مرض، فأنكرت منه صلى الله عليه وسلم ذاك اللطف الذي كنت أجده قبل ذلك يوم أمرض، لأنه وصله الخبر صلى الله عليه وسلم،ومرضت وهي في بيته، فكان يمر عليها وهي مريضة ويقول: كيف تيكم؟ ما يزيد على هذه الكلمة، قالت: فكان هذا يريبني، أي: أشك فيه، لماذا لا أجد تلك الحفاوة وذاك الحنان، وتلك الشفقة التي كنت أجدها قبل ذلك، فاستأذنته صلى الله عليه وسلم أن أمرض في بيت أبوي فأذن لي.

    فارتحلت رضي الله عنها وأرضاها بمرض، لكن لا تدري أنها أصيبت في عرضها، وهو أشرف ما يملكه الإنسان.

    ولذلك فأنت تريد أن يدمر بيتك ولا تصاب في عرضك، وأن تنتهي حياتك ولا تثلم في شخصيتك، وأن يذهب عنك كل شيء من ذوات الدنيا، وأن يموت أبناؤك وزوجتك وأحبابك وأقرباؤك ولكن لا تصاب في هذا المعلم أعني عرضك.

    ولذلك يقول سيد قطب رحمه الله: إن هذه الأيام أوقفت الرسول صلى الله عليه وسلم على أعصابه شهراً كاملاً، أصيب في عرضه، وفي رسالته، وشكك في مبادئه، ما أصبح عند المنافقين إلا في مقام التهمة، إنسان مصلح يريد تجديد أمر البشرية، والخروج بها من الظلام يصاب في عرضه صلى الله عليه وسلم وفي زوجته، كيف يثبت بعدها في الساحة، ويؤدي الرسالة ويعلم الناس، ويجاهد ويفتي، وهو متهم ومرتاب في عرضه عليه الصلاة والسلام، إنها مصيبة عظيمة.

    والعجيب أن من أقدار الله أن الوحي لم ينـزل في تلك الفترة حتى يربي الله الأمة، ويرى المؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب، فلم ينـزل الوحي شهراً كاملاً، فنـزلت عائشة في بيت أبوها تمرض، وأتى عليه الصلاة والسلام لا يدري ماذا يتصرف، الوحي لم ينزل عليه، وجبريل ما فاوضه في هذه المسألة، سمع عليه الصلاة والسلام أن زوجته اتهمت في عرضها، وهو يعلم أنها صديقة خيرة، لكن ليست عنده براهين وإثباتات وحجج تنفي هذه التهمة والشائعة التي استبيحت في الناس، وفي أوساط المجتمع.

    ذهبت عائشة رضي الله عنها ولم تدر، والنبي صلى الله عليه وسلم عاد إلى قريبه وابن عمه أبي الحسن أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه، الذي هو منه صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى، فقال: يا علي، ماذا ترى في أهلي؟ قال: النساء غيرها يا رسول الله كثير، كأنه يقول تزوج!! فذهب إلى أسامة فشاوره، فقال أسامة رضي الله عنه وأرضاه: يا رسول الله زوجك ما علمنا فيها إلا خيراً، فذهب صلى الله عليه وسلم إلى الجارية وشاورها، وقال لها: ماذا ترين؟ -التي كانت تخدم عائشة - فقالت: ما رأيتها إلا صائمة قائمة عابدة، إلا أنها كانت تنام فتأكل الداجن عجينها، يعني من غفلتها وبراءتها ولطفها، تأتي الشاة من طرف البيت فتأكل العجين الذي هو في الصحفة.

    والرسول عليه الصلاة والسلام لَمْ يخرج إلى الآن بحل لهذه المشكلة المريبة، وتأتي عائشة فتخرج مع نساء فتخبرها امرأة أنها اتهمت، قالت: فسقطت على وجهي، وزاد مرضي مرضاً، وهمي هماً، والله ما اكتحلت بنوم، والله لقد بكيت حتى ظننت أن البكاء يخرق كبدي، أو يخالف بين أضلاعي، فدخل عليها صلى الله عليه وسلم وقال: {يا عائشة: إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفريه -إلى الآن لم يتأكد النبي عليه الصلاة والسلام أنها بريئة- وإن كنت بريئة فسيبرئك الله عز وجل} فقالت عائشة لأبيها: رد عني؟ فقال: والله ما أعلم ماذا أقول، فقالت: لأمها كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري والله ماذا أقول، فجلست عائشة وقالت: والله ما مثلي ومثلكم إلا كما قال أبو يوسف -ونسيت اسمه من الهم والحزن واسمه يعقوب وهذا في الصحيح- فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18] وما برح صلى الله عليه وسلم، أو ما برح من مكانه حتى أتاه الوحي، فنام واستيقظ فإذا هو يتلو تلك الآيات إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11] فبرأها الله عز وجل من فوق سبع سماوات، ورفع لها عظيم الدرجات، ومحا عنها كثيراً من السيئات؛ لأنها صبرت في عرضها واحتسبت عند الله.

    وجلد صلى الله عليه وسلم بعض الذين ذهبوا بهذه الشائعة، نسأل الله السلامة والعافية.

    صور من صبر الرسول صلى الله عليه وسلم

    رسولنا صلى الله عليه وسلم ابتلي على كافة الأصعدة، في صعيد المعركة ابتلي بالقتال، فصبر واحتسب، مات ابنه عليه الصلاة والسلام فلذة كبده وشجا روحه، وهو في العامين من عمره، فصبر واحتسب، يقول أنس: ذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم له ابنه إبراهيم ونفسه تقعقع، فأخذه صلى الله عليه وسلم واحتضنه وهو في سكرات الموت، وبكى عليه الصلاة والسلام وكان يقول: {إنا لله وإنا إليه راجعون: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم! لمحزونون} ما أحسن هذه الكلمات.

    وابتلي عليه الصلاة والسلام بفقد بناته، فصبر واحتسب، وجلس عند قبرٍ، وأخذ ينكت الأرض ويبكي ويقول: {والذي نفسي بيده، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً}.

    وابتلي عليه الصلاة والسلام في دعوته بالشائعات، فقالوا ساحر، وشاعر، وكاهن، فاحتسب ذلك عند الله عز وجل.

    فمن هذا نأخذ: أن الابتلاء عجيب، وأنه أنواع، وأنه يمر بالمؤمن من حيث لا يشعر ولا يحتسب، فما عليه إلا الصبر، وقد ابتلي الصالحون سلفاً وخلفاً.

    يقول ابن القيم: يا هزيل العزم -أو كلمة تشبهها- ناح في الطريق نوح، وذبح فيه يحيى، وقتل زكريا، وسجن الأئمة، وجلدت ظهور العلماء، هذا طريق الابتلاء وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

    ابتلاء الإمام أحمد بن حنبل

    سُجِنَ الإمام أحمد رحمه الله إمام أهل السنة والجماعة، وجلد بالأسواط على ماذا؟ على زهده وعبادته، على علمه بالحديث يوم حفظ ألف ألف حديث ما بين مرفوع وموقوف ومسند ومقطوع وأثر وكلام تابعي على صيامه في النهار، وإعراضه عن الحياة الدنيا، وعلى أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وعلى دعوته المشعة الفياضة، واستقامته في ذات الله، وتربيته لأجيال الأمة وتعليمهم العلم، ابتلي بلاء يرفع الله به منزلته، وجلد، ووضع في السجن، وأخرج فكان كالذهب الأحمر إذا أدخلته النار فعاد ذهباً خالصاً أحمراً أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3] الدين ليس دعاوى:

    والدعاوى ما لم يقيموا عليها     بينات أصحابها أدعياء

    يدعي أحد الناس أنه يحب الله، فإذا سمع الأذان لا يتحرك إلى المسجد، فهذا منافق إن لم يكن له عذر شرعي، ويدعي أنه يحب الله ورسوله، وأنه يوالي الله ورسوله، ولكنه إذا أصيب بمرض تسخط وأنكر القضاء والقدر، وقال كلمات لا أصل لها، فأين الإيمان وأين الصدق؟! الإيمان معناه: أن تقوم إلى الماء البارد في صلاة الفجر، وهو أحب إليك من الجلوس مع الأخيار، في السمر، أو في مناجاة الأحبة، وفي الحديث: {إذا قام العبد المؤمن وتوضأ من الماء البارد -وهذا من الابتلاء في الطاعات- وترك فراشه الوثير ولحافه الدفيء، قال الله: يا ملائكتي! انظروا لعبدي، ترك فراشه الوفير، ولحافه الدفيء، وقام إلى الماء البارد يتوضأ منه، وقام يدعوني ويتملقني، أشهدكم أني غفرت له، وأدخلته الجنة}.

    وعلامة الصدق أن تثبت في صفوف المؤمنين في الصلاة، وأن تقدم إليها بشوق وحرارة، لأن المنافق قد يصلي، ولكن ليس هناك حب، ولا إخلاص، ولا انقياد، يقول جل ذكره: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:142] يصلون، ولكن كسالى، ويذكرون الله، ويقرءون القرآن لكن ببرود، ليس هناك صدق ولا إخلاص ولا محبة ولا اندفاع فلم ينفعهم ذلك.

    الإمام أحمد سجن لأنه يقول ربي الله، فرفع الله درجته، فأصبحنا نذكره في كل مجلس، وعلى كل منبر، وفي كل منتدى، وعلى رأس كل محفل، فانظر كيف رفع الله ذكره، وأما خصومه ومن عارضه فمحق الله ذكرهم، فلا يذكرون إلا قليلاً، مثل الوزير ابن الزيات الذي دعا عليه الإمام أحمد، فجلد وعذب وأدخل في الفرم وهو حي حتى قطع تقطيعاً، هذا ابن الزيات الوزير الذي اعترض على الإمام أحمد، فسلط الله عليه ظالماً مثله، فعذبه وابتلاه وقطعه.

    وأحمد بن أبي دؤاد شيخ المعتزلة المبتدع الذي هو أحمد أهل البدعة، وأحمد بن حنبل أحمد أهل السنة، دعا عليه الإمام أحمد فأصيب بالفالوج، لأن الإمام أحمد قال: اللهم عذبه في جسده، لأنه السبب في الجلد والسجن والضغوط السياسية للإمام أحمد، فقال الإمام أحمد: اللهم عذبه في جسده، فشل نصف جسده، والنصف الآخر سليم، قالوا: كيف حالك يا بن أبي دؤاد؟ قال: أما نصف جسدي هذا، فو الله لو أن ذباباً وقع عليه لكأن القيامة قامت، وأما نصف جسدي هذا، فوالله لو قطع بالمناشير قطعة قطعة ما أحسست به، لماذا؟ لأنه عارض الحق، أما الإمام أحمد فبقي مذكوراً في كتب الحديث، فهو يذكر آلاف المرات.

    أحد الصالحين دخل على ابن بقية، الوزيرالظالم، فضربه على وجهه بكفه فأجلسه، فقال الصالح العابد: اللهم إنه ضربني، اللهم فاقطع يده، فابتلاه الله بظالم فقطعت يده، ولذلك يقول ابن بقية:

    ليس بعد اليمين لذة عيش      يا حياتي بانت يميني فبيني

    ذكره ابن كثير في ترجمته.

    الابتلاء في حياة شيخ الإسلام

    وممن عاش مرحلة الابتلاء في تاريخ الإسلام شيخ الإسلام المجاهد الكبير ابن تيمية رحمه الله، فإنه ابتلي في عرضه بالتهم الرخيصة التي لا مصداق لها ولا حق، وابتلي بالسجن، فدخل السجن؛ لأنه يدعو إلى لا إله إلا الله، وإلى تصحيح المعتقد، وإلى الخروج بالناس من الظلمات إلى النور، فلما أدخل السجن رد عليه الباب، فالتفت إلى البواب وهو يوصد عليه قائلاً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13] دخل على سلطان عصره، السلجوقي، فقال له السلطان: يا بن تيمية يقول الناس: إنك تريد ملكنا، فتبسم ابن تيمية تبسم المستعلي بـلا إله إلا الله، الذي يريد ما عند الله والدار الآخرة، والذي ينظر إلى أن الدنيا رخيصة لا تساوي مجلس نصف ساعة في المسجد، وقال: أنا أريد ملكك؟! قال: يقولون ذلك، قال: والله الذي لا إله إلا هو ما ملكك وملك آبائك وأجدادك يساوي عندي فلساً واحداً! تظن أنني أسعى إلى ملكك، ونحن نسعى إلى تقرير لا إله إلا الله في الأرض، لتبقى حية أَبَدَ الدهر، ولذلك بقيت كتبه، وبقيت معالمه، وبقيت مدرسته حية في قلب كل مسلم، وما عرفنا اسم السلطان إلى اليوم.

    رفع الله ذلك العلم، وكان وحيداً لأنه يعبد الله، وأما السلطان بموكبه وجنوده وحاشيته فأخفت ذكره، فلا نعرف اسمه وللأسف، لأن هذا الابتلاء عاشه ابن تيمية لوجه الله تعالى، واحتسب، وأنا قلت لكم إن من ثمار الابتلاء الرفعة، ولا تجد مبتلاً صبر واحتسب إلا رفع الله ذكره، وأعلى شأنه، فأصبح يذكر أبداً بالدعاء والثناء.

    ومن الفوائد العظيمة للابتلاء لذة الانتصار، فإن الله عز وجل أقر عيون الصحابة بعد أن كانوا مستضعفين بالنصر، وما أحسن من الإنسان أن يجاهد ويبذل، ويعطي ثم ينتصر في آخر المرحلة.

    بلال بن رباح وعاقبة الصبر

    وبلال بن رباح: أهين من الوثنيين إهانة لا يعلمها إلا الله عز وجل، والله عز وجل يعلم أن بلالاً يقول: لا إله إلا الله، ويصلي، ويريد الله والدار الآخرة، ويراه يسحب في جبال مكة، ويوضع عليه الصخر، وبلال يقول: أحد أحد، وفي قدرة الله عز وجل أن يخسف بهؤلاء الكفرة، وأن يطلق بلالاً ويفك أسره، لكن هكذا يريد الله ليجعله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مدرسة من مدارس الابتلاء.

    وبعدها يأتي بلال بن رباح فينتصر إيمانه على الكفر، ويثبت يقينه على الطاغوت، ويهتدي بهدى الله عز وجل، فيصبح سيداً من السادات، فـبلال بن رباح معروف الآن، وأما خصومه فليسوا معروفين، بلال يعرفه مسلمو الملايو والسودان والعراق، وكل صقع يذكر فيه لا إله إلا الله يعرفه المسلمون، لأنه مؤذن الإسلام:

    فاستفاقت على أذان جديد      ملء آذانها أذان بلال

    وفي الصحيح لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أمر بلالاً أن يؤذن، فارتقى بلال على الكعبة المشرفة التي بنيت على التوحيد ليؤذن، وليغيظ به صلى الله عليه وسلم المشركين رؤساء الضلالة والطاغوت، يقول: انظروا إلى هذا العبد الذي لا يساوي في نظركم فلساً واحداً، أصبح سيداً بلا إله إلا الله، وانظروا إلى هذا المؤمن التقي المتوضئ اليوم يرتقي على الكعبة فيؤذن بلسان التوحيد لتسمعه آذان البشرية.

    وانظروا إلى من سحبتموه على الصخور، وأهنتموه وضربتموه وشتمتموه، يؤذن يوم الفتح أذاناً، فتستمع الدنيا، وينصت الدهر لأذان بلال:

    وقل لبلال العزم من قلب صادق     أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا

    توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً      به ترق أبواب الجنان الثمانيا

    فرضي الله عن بلال كيف ابتلي فصبر، فرفع الله ذكره أبد الآباد، هذا هو النصر، ولذلك يقول عمر: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، أصبح بلال سيداً من سادات هذا الدين، وأصبح واجهة وقدوة يتشرف المسلم أن ينتسب إلى مثل أمة منهم بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه.

    إذاً: يا أيها الإخوة الفضلاء! ويا أيها الأخيار النبلاء! من أعظم الدروس التي نستفيدها: أن الأجر والمثوبة مع المشقة، ولذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود {قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك وعكاً شديداً، فقلت: يا رسول الله -بأبي أنت وأمي- إنك توعك وعكاً شديداً! قال: نعم، قلت: ذلك بأن لك أجر رجلين، قال: نعم، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم} ثم قال عليه الصلاة والسلام وهو يتحدث لـابن مسعود {ما من مسلم يصيبه هم أو غم أو حزن أو كرب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله به من خطاياه} وفي لفظ {إلا حط الله من خطاياه كما تحط الشجرة ورقها}

    فانظر إلى الابتلاء معه الأجر والمثوبة، فاحتسب ما يصيبك في ذات الله عز وجل، من همٍّ أو غمٍّ، أو حزنٍ، أو حتى حر الشمس، فإن الشوكة إذا أصيب بها العبد فاحتسبها عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كتب له أجر ذلك.

    ومنها: الرفعة، فإذا ابتليت فاعلم أن الله أراد رفعتك، وما أراد خفضك، فإنه إذا علم أنك تريده والدار الآخرة رفعك بالابتلاء.

    ومنها: أنه علمك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى درساً من دروس العبودية لا ينسى؛ لأنك تذل بالابتلاء، وتتواضع لنفسك، وتتهذب أخلاقك، لأن بعض الناس جاهل ما تربى، فإذا أصيب بمرض أو أصيب بمصيبة ذل، وأسلس القيادة لله الواحد الأحد.

    ومنها: أنك تتربى كذلك على الصبر، وهي المدرسة الكبرى التي أراد صلى الله عليه وسلم أن تتقرر للناس، ولذلك يقول الإمام أحمد: تدبرت الصبر في القرآن فرأيته في أكثر من تسعين موضعاً، وقال أهل العلم: من ركب الصبر أوصله إلى الرضا، وقال عمر: أدركنا خير عيشنا بالصبر، وقال بعض الصالحين: لما صبرنا نجحنا وأفلحنا.

    من لا يصبر فلا حظ له، ولا حكمة ولا نهاية معه، ولا غاية منشودة يطلبها.

    فعلينا يا عباد الله! أن نصبر في كل ما أصابنا، وأن نحتسب أجرنا على الله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم، من حديث صهيب رضي الله عنه وأرضاه مرفوعاً: {عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته نعماء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن}.

    فاصبر على كل ما يصيبك في عرضك، فإن الأخيار وشباب الدعوة والصحوة الإسلامية الآن، أكثر ما يصابون في أعراضهم، متزمتون، متطرفون، رجعيون، مطاوعة، من هذه الألقاب والشائعات التي تلصق بهم، فعليهم أن يحتسبوا، وليعلموا أن رسولهم وقدوتهم صلى الله عليه وسلم أصيب بأشد من هذا، فقالوا عنه ساحر، وكاهن، وشاعر، ولكن صبر واحتسب، فأعلاه الله وخفض خصومه.

    واصبر على كل ما يصيبك في مجال الدعوة، فإنك تجد الجفاء والإعراض، وتجد تكبر المتكبرين وشتم الشاتمين، وسب السابين، فعليك أن تحسن خلقك، وأن تصبر، فإن النصر سوف يكون معك إن شاء الله.

    واصبر على كل ما يفوتك من الأحباب والأقارب، وكل ما يصيبك في جسمك من تعطيل بعض الحواس وتحتسب ذلك على الله، فنسأل الله لنا ولكم العافية، فإنا لا ندعو بالبلاء.

    ولما قرأ أبو علي الفضيل بن عياض قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31] قال: اللهم لا تبلونا فتفضحنا، يعني اتركنا مستورين، فإن بعض الناس يدعو بالابتلاء فإذا حصل لا يصبر، كما فعل بنو إسرائيل، كانوا يتمنون القتال فلما حضرت المعركة فشلوا، فنحن نسأل الله العفو والعافية، وفي حديث العباس أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في المسند: {ألا أحبوك يا عم} وفي رواية: {يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به، قال قل: اللهم إني أسألك العفو والعافية} وفي صحيح مسلم { أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى رجل من الأنصار، فوجده مريضاً قد ضمر جسمه، قال: مالك؟ قال: قلت: اللهم ما كنت معذبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فابتلاني الله، قال عليه الصلاة والسلام: ألا قلت أحسن من ذلك؟ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]}.فندعو دائماً بالعافية.

    وعند الترمذي: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك الصبر، قال: مالك دعوت بالبلاء،ولكن اسأل الله العافية} فنحن نسأل الله العافية وأن نكون مستورين، لأنا لا ندري علَّنا أن نبتلى فنفتضح، فنسأله أن يعافينا وإياكم من أي سوء، وأن يجعل أحسن الأقدار علينا ألطفه، وأن يرزقنا من الخير أعمه، ومن البر أتمه، ومن العيش أرغده، ومن الوقت أسعده، وأن يتولانا وإياكم في الدارين، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    1.   

    الأسئلة

    .

    معنى الصبر

    السؤال: ما معنى الصبر؟ وإذا حل بالإنسان أمر يكرهه وأخبر به أحداً، فهل يعتبر من غير الصابرين؟

    الجواب: الصبر أثابكم الله في اللغة معناه: الحبس، ومعنى الصبر في الاصطلاح: أن تحبس نفسك على طاعة الله عز وجل، تحبسها من الشكوى من أمر وقع عليك، والشكوى على ضربين اثنين وعلى قسمين: شكوى بدون تأفف ولا تسخط، وإنما عرض ومناجاة، وطرح على الأحبة فلا بأس في ذلك، ولذلك قال الإمام البخاري في صحيحه: باب من قال وارأساه، هل هذا من الشكوى، ثم أتى بحديث عائشة أنها قالت: {ذهب صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، ثم أتى فقلت: يا رسول الله وارأساه، فقال: بل أنا وارأساه} فالرسول عليه الصلاة والسلام قال هنا وارأساه، وكذلك حديث فاطمة لما قالت: {واكرب أبتاه، قال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم} فهذا ليس معناه التسخط على القضاء والقدر، وإنما معناه التسلية والبوح عما في النفس:

    ولا بد من شكوى إلى ذي قرابة      يواسيك أو يسليك أو يتوجع

    وأما الناحية الأخرى، فهي الشكوى بمعنى التسخط، وهذا لا يجوز، بأن تعرض حالك على الناس وكأنك تشكو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على الناس، فهذا لا ينبغي:

    وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما     تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

    وهذا من الخطأ، وهو مردود ومذموم، ولا ينبغي أن يزاول أو يفعل، بل يتقي الله العبدُ، ويشكو حزنه وبثه ومصابه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    أدعية تدفع المصائب

    السؤال: هل توجد أذكار أو أعمال يفعلها المسلم تدفع المصائب؟

    الجواب: هناك بعض الأحاديث في هذا الباب، منها حديث {لا يرد القضاء إلا الدعاء} وقد صححه بعض أهل العلم، ومنها حديث: {إن الدعاء والقضاء يعتلجان أيهما يغلب الآخر} فأما الدعاء فقد يخفف من المصائب، وأحسن ما يدعو به المؤمن كما سلف: اللهم إني أسألك العفو والعافية، وربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

    وهل الدعاء يرد القضاء، هذه مسألة، والصحيح أن يقال، نعم وبيانه أنه قد كتب وقدر أن العبد يدعو بهذا الدعاء، فيرد الله عنه ما كان سيحل به، فالدعاء يرده من هذا الباب، لأن الله قدر عليه القدر، وقدر عليه أنه سيدعوه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيصرف عنه هذا الأمر بالدعاء، فلا يَهْلك مع الدعاء أحداً، وأساس الفرج الدعاء، لأنا لو قلنا: إن الدعاء لا ينفع مع القضاء لأبطلنا الأسباب، فما فائدة أن يقول الطالب: اللهم نجحني في الامتحان، وقد كتب الله عليه أن يرسب، فهذا لا فائدة فيه! فنقول: لا، بل له فائدة، وعلى الطالب أن يدعو لأمرين: أولاً أنه ما علم الغيب، وما علم أن الله كتب عليه الرسوب، فلماذا يقول كتب الله علي الرسوب فلا أدعو؟!

    ثانياً: لعل الله قد كتب له أن يدعو فينجحه بسبب الدعاء، يوم كتب الله عليه أن يرسب، لعله كتب: ثم يدعو فينجح، والقضية تحتاج إلى بسط أكثر من هذا.

    الابتلاء بالنعم

    السؤال: هذه المصائب التي ذكرتم في نقص النعم، فما أمثالها في زيادة النعم؟

    الجواب: أحسنت، هذا جانب الضراء وهو الابتلاء بالنقص والأخذ، والمرض والألم، لكن هناك مصائب يبتليها الله عز وجل، وهي من السراء كالزيادة في العطاء والنعم.

    قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت     ويبتلي الله بعض الناس بالنعم

    فبعض النعم ابتلاء وامتحان ومزلة، ابتلى الله عز وجل كثيراً من الناس بالنعم والزيادة، فرسبوا وأخفقوا وما نجحوا، وابتلى الله بعضهم فأنعم عليهم فشكروا، وابتلي البعض بالنعم فما صبر وما شكر وما أعطى، وما أروا الله من أنفسهم خيراً كأهل سبأ لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا -ما شكروا- وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:15-17] فهؤلاء ما شكروا.

    قارون أنعم الله عليه فما قدر النعمة وما شكر، وهذا ابتلاء بالنعمة فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:79-80] فابتلي بالمال، فما شكر، فكان كفراناً وجحوداً وذنباً وغضباً.

    فرعون ابتلي بالمنصب أعطاه الله الملك، والواجب أن يستخدم هذا الملك في خدمة لا إله إلا الله، وفي خدمة دين الله، وفي تأييد رسله، لكن ماذا قال؟ جلس على المنبر، وقال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51] وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] فلما قال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51] أجراها الله من فوق رأسه لما أغرقه.

    ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن الوليد بن المغيرة: وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ [المدثر:13-15] كلا، فابتلاه الله عز وجل ورداه إلى غير ذلك.

    فالمقصود أن الزيادة ابتلاء، وأن النقص ابتلاء، فمنهم من يشكر ومنهم من يكفر، لكن ذكر الله عز وجل أن بعض الناس أدى وشكر، وفي السيرة أن عثمان دفع أمواله، فاستنقذ نفسه من غضب الله، وابن عوف كذلك أنفق القافلة في سبيل الله عز وجل، فأنقذه الله من النار، وكثير من الصالحين بذلوا، وأعطوا وأنفقوا الكثير، وشكر الله للسائل هذه اللفتة الطيبة.

    بقاء الصغير مع أهله العصاة

    السؤال: كيف يصبر الإنسان في بيته، وبيته غارق بالمعاصي، وهو لا يستطيع الخروج من البيت؛ لأنه صغير السن؟

    الجواب: هذا سؤال يتكرر كثيراً من الشباب الذين أقبلوا على الله عز وجل، وبيوتهم لا زالت تعيش الجاهلية الجهلاء، فهو بين أن يصبر في هذا المجتمع الآسن، وهذا البيت المكدر مع المعاصي والشهوات والمخالفات، وبين أن يترك البيت ويذهب، لكن من يكفله، والكافل هو الله عز وجل، لكن إلى أين؟ ما هو المكان الذي يذهب ليؤمن نفسه فيه؟ وأقول لأخي:

    عليك أولاً: بالصبر على هذا المصاب، فإنها مصيبة تؤجر عليها.

    والأمر الثاني: عليك بكثرة الدعاء، أن يجعل الله لك مخرجاً من هذه المصيبة، ومن هذا الكرب.

    والأمر الثالث: عليك بالدعوة إلى الله بالحكمة واللين مع أهلك، وأن تحاول أن تصلح قليلاً قليلاً، وأن تصبر، وأن يكون نَفَسُك مديداً، فإذا انتهت أعمالك وأشواقك فعليك أن تتوجه إلى الله، وأن تعالج الأمر بشيء من الحكمة.

    فإما أن ترى أن الهجر أنفع فتهجر بيتك ردحاً من الزمن علهم أن يتأدبوا؛ لأن هجر العصاة وارد وهو من السنة، وإذا رأيت ذلك لم ينجح ورأيت أهلك معرضين عن فرائض الله عز وجل فعليك أن تقاطعهم إذا رأيت ذلك بعد أن تصبر وتلين، وتدعو إلى الله عز جل، وسوف يجعل الله لك فرجاً ومخرجاً إذا رأى صدقك واحتسابك، ورأى منك صدق الدعاء.

    العلاج والتوكل

    السؤال: هل الأخذ بالأسباب، ومعالجة المرض، ينافي الصبر على البلاء؟ وضحوا ذلك جزاكم الله خيراً؟

    الجواب: المعالجة وطلب الدواء وعرض النفس على الطبيب إذا ابتلي العبد بمرض لا ينافي التوكل إن شاء الله، والرسول عليه الصلة والسلام يقول: {تداووا عباد الله! ولا تداووا بمحرم} وفي السنن من حديث أبي خزيمة أنه قال عليه الصلاة والسلام: {ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله} فطلب الدواء لا ينافي التوكل إن شاء الله.

    وإنما اختلف أهل العلم في الرقية والاسترقاء على حديث ابن عباس: {لا يكتوون، ولا يتطيرون، ولا يرقون، ولا يسترقون} ولكن طلب العلاج لا ينافي إن شاء الله التوكل.

    ومطلوب أن يعالج المسلم نفسه، ولكن العلاج على الصحيح رخصة، وليس بعزيمة، فلا يجب على العبد إذا مرض أن يتعالج إن شاء الله، كما قال بعض أهل العلم: وله أن يصبر حتى يموت، والأحسن أن يعرض نفسه على الطبيب، وأن يجلب الدواء.

    فطلب الدواء لا ينافي التوكل، وهو من الأسباب المطلوبة إن شاء الله، والرسول صلى الله عليه وسلم احتجم، ورقاه جبريل عليه السلام لما سحر صلى الله عليه وسلم، وكثير من الصحابة رضوان الله عليهم تداووا، وهم أكثر منا توكلاً، وأشد اعتماداً على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فأخذ الأسباب لا بأس به.

    وفي صحيح البخاري {أن الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة أحد، لما شج في رأسه عليه الصلاة والسلام، أتي بسعف فأحرق، وأدخل في الشج} فهذا من الأسباب التي قدمت للرسول صلى الله عليه وسلم، وعرضت عليه، فلا ينافي ذلك التوكل بإذن الله.

    هل البكاء ينافي الصبر؟

    السؤال: إذا حصل للمؤمن مصيبة كموت عزيز ونحوه، ثم بكى فهل هذا البكاء وخصوصاً عند النساء ينافي الصبر، أرجو توضيح ذلك؟

    الجواب: البكاء قسمان: بكاء بلا عويل، ولا نياحة، ولا تَسَخُّط ولا أيِّ من أمور الجاهلية، فهذا لا بأس به، فقد فعله صلى الله عليه وسلم، وبكاء تصاحبه نياحة وتسخط، وتذمر، وكلام، فهذا هو المنهي عنه، وهو الذي توعد صلى الله عليه وسلم صاحبه فقال: {النائحة إذا لم تتب أوقفت يوم القيامة وعليها درع من جرب، وصب عليها القطران، أو إزار من قطران} وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الحالقة والصالقة والشاقة} إذا علم ذلك فهذا الأمر مذموم.

    أما البكاء المجرد عن ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم بكى، وهو وأرض الناس بحكم الله، وقال: { تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون} وعليه فالبكاء ودمع العين من الرقة، والرسول عليه الصلاة والسلام بكى في مواضع كثيرة، أكثر من عشرة مواضع، بكى يوم أغمي على سعد بن عبادة، وهذا في الصحيح، قال: {مات أخي؟ قالوا: لا، فبكى صلى الله عليه وسلم} وبكى لما حضر جنازة ابنته زينب، وقال: {لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً}.

    وبكى صلى الله عليه وسلم لما مات سعد بن معاذ، وبكى عليه الصلاة والسلام ودمعت عيناه لما مات إبراهيم في مواطن يطول تعدادها.

    وقد ذكر ابن تيمية في فتاويه، ونقل عن الفضيل بن عياض أنه مات ابنه علي فضحك، يعني من كثرة الصبر والرضا فـابن تيمية ذاك الذكي الأريب، يعالج المسألة، ويقول: حال رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل، لأنه لما توفي ابنه بكى، والفضيل ضحك، فاجتمع للرسول صلى الله عليه وسلم واردان، وارد الرضا، ووارد الرحمة، فاستطاع صلى الله عليه وسلم أن يرضى بحكم الله، فقال: {تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا} هذا الرضا، وجانب الرحمة تدمع العين، فجمع بين الرحمة وبين الرضا، وأما الفضيل بن عياض فما استطاع أن يجمع بينهما، مع الرضا الرحمة فضحك، فحال رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل، وحال من بكى في ا لمصائب بلا تسخط، ولا هلع، ولا جزع، ولا تذمر، أكبر من حال من جفت عيناه، وقسي قلبه، لأن الناس ثلاثة في هذا الباب:

    رجل لا يبكي ولا يتأثر عند المصائب أبداً، وهذا مذموم، ورجل يهلع ويتذمر وينوح ويشتم ويسب، إما رجل وإما امرأة، وهذا مذموم، والمتوسط وهو الخير، الذي تدمع عيناه، ويحزن قلبه، ويرضى بحكم الله ويسلم.

    وسائل تعين على الصبر

    السؤال: ما هي السبل التي تعين الإنسان على الصبر؟

    الجواب: أسلفت هذا في أول الحديث، ولا بأس من إعادة رءوس الأقلام في هذا الباب، فقد ذكرها ابن القيم في كتابه زاد المعاد، لما ذكر هديه صلى الله عليه وسلم في علاج المصائب.

    الأمر الأول علاج المصيبة بالإيمان بالقضاء والقدر، وهو ركن من أركان الإيمان كما تعرفون، وهو شق من التوحيد.

    والأمر الثاني: احتساب الأجر والمثوبة عند الله.

    والأمر الثالث: أن تتسلى بأهل المصائب من عباد الله عز وجل.

    والأمر الرابع: أن تعرف أن هذه المصيبة أهون من غيرها، إلى غير ذلك من الأمور التي ذكر، وهذه الأمور الأربعة كأنها الأمور الأساسية والجوهرية في هذا الباب.

    تمني البلاء

    السؤال: هل يجوز للإنسان أن يتمنى البلاء، لكي يحصل على الثواب؟

    الجواب: هذا ليس بجائز، بل كما أسلفت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للعباس قل: { اللهم إني أسألك العفو والعافية} والرسول عليه الصلاة والسلام كما في مسند الإمام أحمد من حديث أبي بكر قال الراوي: {قام فينا أبو بكر، فبكى على المنبر، ووضع رأسه، ثم رفع رأسه، وقال: يا أيها الناس! قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أول، ثم وضع رأسه، ثم بكى، ثم رفع رأسه، وقال: يا أيها الناس! اسألوا الله العفو والعافية فما أوتي العبد بعد اليقين خيراً من العافية}.

    فأمرنا أن نسأل الله العافية ولا نسأله البلاء، فإن من سأل الله البلاء لا يدري لعله يقع فيه ثم لا يجد مخرجاً ولا يصبر، فيقع في المحذور، ومن هذا الباب أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال، كما في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن سمرة: {يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة -لأن الإمارة ابتلاء- فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها -انظر كيف يعان عليها لأنه ما سألها، وما سأل الابتلاء- وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إلى نفسك} فمن طلبها بالمسألة وكل إلى نفسه، فالابتلاء لا يطلب لأنه إذا طلب وكل الإنسان إلى نفسه، وإذا أتى من دون سؤال أعين العبد عليه.

    كتب لا يستغني عنها طالب العلم

    السؤال: أرجو منك تبيين ما هي الكتب التي لا يستغني عنها طالب العلم والتي تعينه على البحث والاطلاع، وعلى السير على الصراط المستقيم؟

    الجواب: من الكتب التي أرشدكم إليها، بعد أن نتفق أنا وإياكم وكل مسلم على أن كتاب الله عز وجل عليه مدار التدبر والفهم والحفظ، وأنه المقدم دائماً وأبداً، وأنه الذي أوصى به صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، وعليه وصية السالفين واللاحقين والصالحين والصديقين.

    من هذه الكتب زاد المعاد وجامع الأصول لـابن الأثير فإنه من أحسن الكتب التي ألفت في فن الحديث، مع رياض الصالحين للخطيب والداعية والمتكلم يحفظ نصوصه فهي من أفضل ما كتب وجمع؛ لأن صاحب الكتاب رزق الإخلاص والقبول، مع كتاب بلوغ المرام في الأحكام، فهو من أحسن ما حرر، قال ابن حجر في أوله: حررته تحريراً بالغاً، ليكون من يحفظه بين أقرانه نابغاً، مع عمدة الأحكام في الحديث.

    وأما في الفقه فهناك كتب وإني أشكر لعالمكم الفاضل، وهو الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي صاحب كتاب السلسبيل، فما يحتاج إلى فضيلة أخرى مع كتاب السلسبيل، فقد أجاد كل الإجادة في تدليله على مسائل الفقه، فإنه يأتي بالحديث ويخرجه بعض الأحيان من عشرة مراجع، وبعض المرات ينقل تصحيحه من أربعة أو خمسة مصححين.

    والأمر الثاني: أنه يأتي بترجيحات أو أقوال المذاهب، فيورد قول مالك كذا، وقول الشافعي كذا، وقول أحمد كذا، وتارة يأتي باختيارات ابن تيمية وابن القيم، فهو كتاب مفيد في الأحكام، مع البحر وحدث عن البحر ولا حرج، أعني نيل الأوطار للشوكاني، وبالجملة يقول الذهبي في ترجمة ابن حزم في سير أعلام النبلاء: أربعة كتب من جمعها وأمعن النظر فيها فهو العالم حقاً، المغني للحنابلة، والتمهيد لـابن عبد البر، وسنن البيهقي، والمحلى لـابن حزم، ومن زاد معها المجموع للنووي فقد أحسن، هذا في الأحكام وما الأحكام.

    والرقائق سلف أن قلت منها جامع العلوم والحكم لـابن رجب، ورياض الصالحين والترغيب والترهيب، وكتاب الزهد للإمام أحمد ، وكتاب الزهد لـابن المبارك، ومن فتح الله عليه سهل له الأمور، لكن أرشدكم إلى ذلك، وفي التفسير: تفسير ابن كثير، وفي التاريخ البداية والنهاية لـابن كثير أيضاً، وأوصيكم في الجملة بكتب ابن تيمية، وكتب ابن القيم، والحديث يطول في هذا ولكن إن شاء الله يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

    ضرورة حفظ الأوقات

    السؤال: ما هي نصيحتكم للشباب لقضاء وقت نافع في حياته؟

    الجواب: أوصي نفسي والشباب بحفظ الوقت، ومن أعظم المصائب التي أصيب بها شباب الإسلام إلا من رحم الله رخص الوقت عندهم، حتى أصبح الوقت عند الكافر أغلى منه عند بعض المؤمنين، ومن يقرأ كتاب دع القلق وابدأ الحياة لهذا الأمريكي، يلاحظ كيف يحرصون على أوقاتهم، وهم لا يرجون من الله ثواباً ولا أجراً ولا جنة ولا يخافون ناراً.

    أكافر يحفظ الوقت، ومؤمن يضيع الوقت؟! أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116]

    نروح ونغدو لحاجاتنا     وحاجات من عاش لا تنقضي

    تموت مع المرء حاجاته     وتبقى له حاجة ما بقي

    أشاب الصغير وأفنى الكبير     كرُّ الغداة ومر العشي

    إذا ليلة أهرمت يومها     أتى بعد ذلك يوم فتي

    فأعظم ما أصبنا به أننا أرخصنا الوقت، الساعة الواحدة تمر بنا ونحن على إبريق الشاي نتحدث في كلام لا ينفع، من الأسعار والأمطار والأخبار والأنهار والأشجار، فأين حفظ الوقت؟! في ساعة واحدة يؤلف ابن تيمية كتاب التدمرية، وقرر علينا سنة في الكلية فقرأناه وما فهمناه، لأن التدمرية تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، في ساعة واحدة يؤلف كتاباً يقرر في الكلية في سنة ولا يفهمه الطلاب.

    ابن تيمية يثني رجله في دقائق فيؤلف قصيدة قوامها مائتي بيت، ثم يرسلها للناس، ويبقى العلماء يشرحونها في مجلدات، وكذلك ابن عقيل الحنبلي، ذكروا عنه -كما ذكر عنه ابن الجوزي في سيرته- أنه ألف كتابه الفنون سبعمائة مجلد، قال: كتاب الفنون ما جعله إلا لفضول الأوقات، يعني فضول الوقت، جعل رزمة من الأوراق عند رأسه فإذا أراد أن ينام كتب قبل أن ينام عشر صفحات، وإذا استيقظ وقال: أصبحنا وأصبح الملك لله كتب عشر صفحات، وإذا مرت به خاطرة سجلها، وإذا أتته فائدة قيدها، كل هذا خارج أوقات الدروس والمحاضرات واللقاءات، فترك للأمة سبعمائة مجلد، حتى يقول: أنا آكل الكعك ولا آكل الخبز؟ قالوا: لماذا؟ قال: وجدت أن بين الوقتين مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية.

    ونحن الآن الأيام الطوال والفسح الطويلة والعريضة تذهب سدى ولا تستثمر.

    إن مصيبة الوقت عندنا مصيبة لا يعلمها إلا الله، فإني أدعو نفسي وإياكم إلى استثمار الوقت، وأحسن ما يستثمر بعد الفرائض في المطالعة الجادة، وفي الجلوس في حلق العلماء، وطلب العلم وحضور المحاضرات، والكلمات النافعة، ومجالس الخير، وزيارات الأحباب، وتكون الزيارات مرتبة مخطط لها، لاأن تزوره فما يكون في ذهنك أسئلة، فتبدأ تسأله عن نسبه وعن ميلاده وعن سيارته وأخباره ودياره، فهذه ليست بزيارة نافعة، لكن يكون بينك وبينه اتفاق على دروس وعلى شرح آية أو حديث لتكون متهيئاً.

    إنها أمور تربوية تركها صلى الله عليه وسلم للناس، يوم كانت أنفاسه حفظاً للوقت، وكلماته حفظاً للوقت، وتحركاته حفظاً للوقت، فكان كله حفظاً للحياة عليه الصلاة والسلام.

    محبة الخير للمسلمين

    السؤال: كيف يعود الإنسان نفسه أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟

    الجواب: هذه المنزلة -منزلة أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك- منزلة عالية وعظيمة، نسأل الله أن يبلغنا وإياكم إياها، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث أنس: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} أتى بها البخاري في كتاب الإيمان.

    ويعود المرء نفسه بأمور:

    منها: أن ترى فناء الدنيا، وأنها تزول، وأنه لا يبقى إلا وجه الله عز وجل، وأنه مهما غلب عليك بعض الأشخاص، أو تقدم عليك في بعض الدنيا، أو معطياتها فما عليك، فإن العطاء الجزيل هو أن يرزقك الله الاستقامة.

    ومنها: أن تعلم أن هذا الأمر يرضي الله عز وجل، يوم تحب لأخيك ما تحب لنفسك، هذا يرضي الله، فلماذا لا تسعى في مرضات الله؟!

    ومنها: أن تعلم أن هذا المسلم أخ لك، وأنه قريب منك، وأنه حبيبك في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فتود له ما تود لنفسك، لتلقى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وأنت مرضي عنك إن شاء الله.

    هل الشعر مذموم أم لا؟

    السؤال: عن قول الله عز وجل وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224] فهل كل الشعر مذموم؟ وما تفسير الآية؟

    الجواب: الشعراء الذين هم من أتباع السنة كلهم في الجنة إن شاء الله، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ذم الشعراء عامة، ثم استثنى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى منهم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227] والشعر كما يقول ابن عباس: كالكلام حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام، وفي صحيح مسلم عن عمرو بن الشريد، قال: ركبت وراء الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: أتحفظ من شعر أمية شيئاً؟ -يعني ابن أبي الصلت الجاهلي- قال: قلت نعم، قال: هيه؟ فأنشدته بيتاً، فقال هيه، فأنشدته ثانياً، فقال: هيه، فما زال يستنشدني حتى أنشدته مائة قافية.

    وفي صحيح البخاري في كتاب الأدب: باب من صده الشعر عن القرآن وعن الذكر وعن العلم، ثم ساق الحديث عن أبي هريرة، وقد اتفق معه مسلم على ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: {لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه، خير له من أن يمتلئ شعراً} قال بعض العلماء مما هجي به الرسول صلى الله عليه وسلم.

    فأنا أقول الشعر مطلوب، لكن بثلاثة أمور:

    أولها؛ ألا يكثر، حتى يطغى على حياة العبد وعلى نشاطه وعلمه، وجده.

    والأمر الثاني: ألا يكون شعر سخف ومجون.

    والأمر الثالث: ألا يكون مما أهين به بعض المسلمين، أو مما يُهْجَى به بعض المسلمين، فإذا سلم فهو الشعر المطلوب الذي ينصر به الإسلام إن شاء الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767959625