أما بعد:
فما زلنا نتفيأ الآيات المباركات من سورة الأحزاب، وكنا قد انتهينا في الحديث عن حال المنافقين في تلك المعركة التي جعلها الله تبارك وتعالى ابتلاءً لعباده المتقين، وانتهينا إلى قول ربنا جل وعلا: يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:20].
قوله: (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) أي: ما زال أولئك المنافقون على ما في قلوبهم من هلع، وعلى ما في أنفسهم من جزع يظنون أن الأحزاب لم يذهبوا لما رأوه وعاينوه من عظم البلاء وشدة الخطب، ثم قال الله: (وإن يأت الأحزاب) إن هنا: شرطية، (ويأتي) فعل الشرط، وفعل الشرط -أيها المبارك- إذا جاء بعد أداة شرط جازمة يجزم، ثم إن جزمه أو علامة جزمه تكون بحسب حاله، فإذا كان معتل الآخر كما هو الحال هنا، فإن حرف العلة يحذف.
قال الله: (وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب) من يسكن الأعراب أصالةً أو البادية أصالةً يسمى: أعرابياً، ومن يتردد عليها ولا يسكنها بالأصالة يسمى: بادياً.
فهؤلاء لفرط جزعهم يتمنون ويودون وفق تعبير القرآن، لو أنهم بادون في الأعراب، (يسألون عن أنبائكم) أنباء المؤمنين؛ لأنهم يبغضون الدين وأهله فيتساءلون قائلين: أهلك محمد وأصحابه؟ أي: انتصر أبو سفيان وأحزابه، هذا تساؤلهم، ثم قال الله: (ولو كانوا فيكم) لو قدر وفرضنا أنهم كانوا فيكم (ما قاتلوا إلا قليلاً) فعبر الله جل وعلا بنفي القتل وأثبته بعد الاستثناء بقوله: (قليلاً).
حذاق المفسرين وهذا من الفهم -وهو ما قاله القرطبي في الجامع- فهموا أن كلمة قليلاً: على أن قتالهم شيء يسير كالرمي بالحجارة والنبل وهذا واضح، لكن تدل على شيء آخر خفي؛ ولذلك قلت: إنه من حذاق المفسرين، وهو أن صنيعهم هذا يكون رياءً وسمعة، قالوا: لو لم يكن رياءً أو سمعة لما سماه الله قليلاً؛ لأن القليل إذا كان مقروناً بالإخلاص وابتغاء وجه الله فلا يقال له: قليل؛ فإن العمل يعظم بالنية.
ولا ريب أن القرطبي رحمة الله تعالى عليه على بعض أخطاء وقع فيها في تفسيره، ولا يسلم من ذلك أحد:
فإنا لم نوق النقص حتى نطالب بالكمال الآخرين
لكنه من حذاق المفسرين حقاً، وله باب عظيم أو قدرة كبيرة في الصناعة الفقهية على وجه الأخص، وهو مالكي المذهب، فوبخ الله صنيع أهل النفاق بأن مدح نبيه عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أول المرابطين وأول من وقف يحفر الخندق مع أصحابه، فقال الله جل وعلا لأولئك المنافقين -على فرض أن الآية مخاطب بها أهل النفاق- وآخرون يقولون: إن قول الله جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] مخاطب بها المؤمنون، وأياً كان الأمر فإن الآية تحتمل الاثنين، فيكون الخطاب بالآية للمنافقين من باب التوبيخ، وللمؤمنين من باب الحث والثبات على ما هم فيه، أو على ما هم عليه.
قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، هنا نأتي إلى مسألة علمية يجب أن تحرر، هل كونه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة على باب الإيجاب أم الاستحباب؟
للعلماء فيها ثلاثة أقوال:
فقال بعضهم: إنها على سبيل الإيجاب ما لم يدل دليل على الاستحباب، فهؤلاء جعلوا الإيجاب أصلاً.
وقال بعضهم -وهو بدهي-: بل الأصل الاستحباب ما لم يدل دليل على الإيجاب.
والقول الثالث -وهو الذي نختاره والعلم عند الله-: أنها للإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا.
هذا من حيث الأصل ثم ينظر في كل مسألة بحسب قرينتها، قال الله جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21] ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم أسوة وأي أسوة، وقدوة وأي قدوة، بل لا أسوة بحق غيره صلى الله عليه وسلم؛ لأن العصمة لم تكن إلا له ولإخوانه الأنبياء من قبل، وهو الذي بعث إلينا.
ونلاحظ أن الله جل وعلا عندما ذكر الأنبياء قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90] ولم يقل: فبهم اقتده، وهذه مسألة تبحث في علم الرسول، لكني لا أريد أن أوسع شيئاً ليس هذا مقامه.
قال جل وعلا: (لقد كان لكم في رسول الله) أي: كله عليه الصلاة والسلام في أمور الدين والدنيا، (لقد كان لكم في رسول الله) صلى الله عليه وسلم (أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) ولا يمكن أن يقبل عمل ويرفع إلا إذا كان العبد يرجو به الله واليوم الآخر، (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً).
من حيث الصناعة النحوية -وسندخل كما اتفقنا معكم قبل اللقاء بعض الإعرابات في الدرس حتى يتدرب طالب العلم على ألا يلحن نحوياً- قال الله: كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] (كان) فعل ماض ناقص، فأما قولنا: إنها فعل فلأنها ليست اسماً ولا حرفاً، وأما عن قولنا: (ماض) فلأنها في الزمن الماضي، وأما قولنا: ناقص فلأنها لا تكتفي بمرفوعها، بل تحتاج إلى اسم وخبر، ولا تحتاج إلى فاعل، فإذا جاءت في حالة تحتاج فيها إلى فاعل سميت تامة.
ونظيره في القرآن قول الله جل وعلا: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] هنا تامة، وهذا معنى: فعل ماض ناقص، (لكم) اللام: حرف جر، والكاف: ضمير متصل مبني على الضم في محل جر بحرف الجر، والجار والمجرور -اللام وما بعدها- خبر لكان مقدم، فكان تحتاج إلى اسم وخبر، قال الله جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ [الأحزاب:21] إلى الآن لم يظهر اسم كان؛ ففي: حرف جر، ورسول: اسم مجرور وهو مضاف، ولفظ الجلالة: مضاف إليه متعلق بما بعده.
كلمة (أسوة) هي: اسم كان، وأصل الكلام: لقد كان أسوة حسنة لكم، لقد كان أسوة حسنة في رسول الله لكم، فأسوة: اسم كان مرفوع وعلامة رفعه الضمة، أما (حسنة) فجاءت مرفوعة مثل (أسوة) فدل على أنها من التوابع، فهي صفة.
والتابع يأخذ حكم المتبوع في الإعراب، فالصفة تأخذ حكم الموصوف، والبدل يأخذ حكم المبدل منه، والمعطوف يأخذ حكم المعطوف عليه.
هذه صناعة نحوية أطنبت فيها قليلاً وقلت: هذا من باب التغيير في الدرس.
من حيث الصناعة العقدية: هذه من أعظم الأدلة لمذهب أهل السنة -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- على أن الإيمان يزيد وينقص، فهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ لأن الله قال: (وما زادهم إلا إيماناً) وليس بعد كلام الله كلام، فأثبت الله جل وعلا بمقتضى هذه الآية لنا: أن الإيمان يزيد وينقص، وهناك آيات أخر بنفس السياق، لكن نحن الآن في الآية التي بين أيدينا.
وهنا سؤال: الله يقول: ولما رأى المؤمنون الأحزاب، أما معنى: رأى المؤمنون الأحزاب هذه ظاهرة، فقد رأى المؤمنون الأحزاب بأعينهم، لكن قوله: (هذا ما وعدنا الله ورسوله) ما الذي وعدهم الله ورسوله؟ للعلماء -أيها المبارك- فيها قولان:
قول يقول: إن المقصود بالآية: أن هذه الأحزاب ابتلاء من الله، فهذا وعد الله وهذا يردهم إلى القرآن، قال الله جل وعلا: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]؛ لأن نهاية البقرة من أوائل ما أنزل، فيصبح المعنى: أن هؤلاء المؤمنين لما رأوا الأحزاب تذكروا الابتلاءات التي أخبر الله بها، فقالوا: هذا الذي نراه الآن مما وعدنا الله به ورسوله، هذا قول.
وآخرون قالوا: إن المقصود بقول الله جل وعلا: (لما رأى المؤمنون الأحزاب هذا ما وعدنا الله ورسوله) على ما قلنا في اللقاء الماضي: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعدهم في معركة الخندق وهو يحفر: أنه ستفتح لهم فارس والروم وأبواب صنعاء.
والآية تحتمل المعنيين ولا يوجد تعارض بينهما، قالوا: وهذا ما وعدنا الله ورسوله، (وصدق الله ورسوله)، وقد بينا فضيلة الصدق في اللقاء الماضي، (وما زادهم) أي: هؤلاء المؤمنين (إلا إيماناً وتسليماً).
ثم قال الله جل وعلا: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23]، من أوائل من يدخل في هذا المدح الرباني والتبشير الإلهي: أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه وأرضاه عم أنس بن مالك ، وكان الناس -كما هو الحال في زماننا- أحياناً يسمون أبناءهم بأسماء قراباتهم، فسمي أنس بن مالك باسم عمه، أي: أن مالكاً هذا أراد أن يبر أخاه أنساً فسمى ابنه باسم أخيه.
وأنس بن النضر رضي الله عنه وأرضاه لم يكتب له أن يشهد بدراً، فأخذ يعاتب نفسه ويقول: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيب عنه لئن شهد النبي صلى الله عليه وسلم مشهداً آخر ليرين الله ما أفعل، ثم خاف أن يزيد عليها، حتى لا يقع منه ألا يبر ما نطق به، فلما كان يوم أحد قابله سعد بن مالك رضي الله عنه في ساحة المعركة، فقال: واهاً يا أبا عمرو ! إلى أين؟ قال: إني أجد ريح الجنة دون أحد، وأحد الجبل الذي كانت في أسفله أو دونه أو بجواره المعركة، فـأنس رضي الله عنه علم الله منه صدقه، قال: إني أجد ريح الجنة دون أحد، وقد يقولها منافق، ولكن هذا الصحابي الجليل المبارك رضي الله عنه وأرضاه استشهد يوم أحد، ووجد وفيه أكثر من بضع وثمانين جرحاً ما بين ضربة أو طعنة أو رمية، وهذا يدل على أنه أبلى بلاءً شديداً رضي الله عنه وأرضاه.
فمن أوائل من يدخل في هذه الآية المباركة: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23]: أنس بن النضر ومصعب بن عمير وأجلاء الصحابة ممن استشهد يوم أحد أو بعده أو قبله.
ثم قال الله جل وعلا: (فمنهم) أي: من هؤلاء (الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من قضى نحبه)، والنحب -أيها المبارك- ما التزم الإنسان الوفاء به، فلما كان النحب ما التزم الإنسان الوفاء به وكان الموت مما لابد منه، سمي من لاقى الموت: قاضياً نحبه.
وعلى ذكر الموت فقد أدركنا أجلاء في المدينة كبار السنة يربون أبناءهم على حقائق ويقينيات منذ الصغر، حتى ينشأ صلباً في وجه ما يعتريه أكثر من غيره، وكانوا يربون أطفالهم على حقيقتين: لا نجاة من الموت، ولا سلامة من الناس.
يقول حسان :
وإن امرأً يمسي ويصبح سالماً من الناس إلا ما جنى لسعيد
يعني: إذا كان الناس لا يقولون فيك إلا ما هو فيك فأنت تعتبر سعيداً، لكن محال ألا يقول الناس فيك إلا ما هو فيك، بل تجد منهم من يبالغ في مدحك ومن يبالغ في ذمك، وقلما سمعت قولاً صادقاً يحكم فيك بما هو فيك.
قال: (فمنهم من قضى نحبه ومنهم) رضي الله عنهم وأرضاهم (من ينتظر) أي: ما زال على هذا الطريق العظيم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين قيل فيهم (ومنهم من ينتظر) يدخل فيهم طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه يوم أحد: أوجب طلحة ، وقيل: إنه ممن قضى نحبه ولكنه كان يمشي على الأرض رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقد أبلى طلحة بلاءً عظيماً يوم أحد في الثبات والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الله يمدح أولئك الأخيار الذين كانوا شامة في جبين الأيام، وتاجاً في مفرق الأعوام، قال عنهم: (وما بدلوا تبديلاً) وفي هذا تعريض بحال المنافقين، والذين قال الله فيهم كبعض بني حارثة: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا [الأحزاب:15].
من حيث الصناعة النحوية: (ما): نافية، (وبدلوا) فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة، وواو الجماعة هذه ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، و(تبديلاً): مفعول مطلق، وهناك من الفضلاء من ليس بصاحب صنعة نحوية، وهذه الأشياء قد يراها مفاجئة، لكن ثق تماماً أنه مع الدربة ومع الأيام ستصبح جزءاً من شخصيتك، أنت ما هو كيانك الجسدي؟ كيانك الجسدي بناؤه من الغذاء الذي تأكله مع الأيام، ما هو بناءك الثقافي؟ هو العلم الذي تسمعه مع الأيام، فلا يمكن أن تقول: إن الغذاء هذا أو ذاك هو الذي شكل تلك الجزئية من جسدك، لكن مع بعضها البعض، شكلت هذا الجسم المكون بقدر الله.
وكذلك العلم، فما تسمعه يصبح جزءاً من شخصيتك، والذي يتكلم وينطق ويحاضر ويخطب إنما يقول ما استقر في ذهنه من علوم ومعارف سمعها أو وعاها عبر سنين وأيام وشهور، فكلما طال بياته وجمعه للعلم ثبت ورسخ إذا تكلم، أما إذا رأيته طار قبل أن يريش وحاول أن يستوي على سوقه قبل أن يتم تمامه فإنه لن يلبث حتى يسقط عافاني الله وإياكم من السقوط.
هنا إشكال، وقد قلت في اللقاء الماضي وفي لقاءات سبقت: إن وجود الإشكال دافع للتعلم والبحث.
يقول ربنا وكلنا يعلم ذلك: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، والمنافق كافر، والكافر لا يدخل تحت المشيئة؛ لأن الله يقول: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50]، إنما المؤمن هو الذي إذا عصى الله دخل تحت مشيئته، لكن المنافق كافر لا يدخل تحت المشيئة.
هذا الأصل يحدث عندك إشكالاً لأن الله قال: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:24]، دائماً في المناقشات العلمية حاول أن تستريح، وخذ الأصل المخيف وأبعده من رأسك، فأنت معك أصل قاطع أن المنافق مخلد في النار، إذاً: هذه الآية لا تتحدث عن الآخرة؛ لأن المنافق في الآخرة مخلد في النار، يعني: من لقي الله يوم القيامة وهو منافق فهو في النار، ولا يوجد شيء اسمه مشيئة هنا؛ لأن الله يقول: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48].
إذاً: أول طريقة تأخذها في السياق العلمي هنا أن تقول لمن سألك: كيف يقول الله: (ويعذب المنافقين إن شاء)؟ فتقول: هذه الآية لا تتكلم عن الآخرة، بل تتكلم عن الدنيا، وهذا الجواب يريحك كثيراً قبل أن تبحث في المسألة، فهناك درجتان تقابلهما ثمرتان:
الدرجة الأولى: النفاق، ويقابلها العذاب.
الدرجة الثانية: التوبة تقابلها الرحمة.
فالذي حصل هنا: أنه اختار إحدى الدرجتين وإحدى الثمرتين، وأخفى إحدى الدرجتين وإحدى الثمرتين، قال الله تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:24]، فالعذاب ثمرة ودرجته: الاستدامة في النفاق، فيصبح معنى قول الله تعالى: (ويعذب المنافقين إن شاء) أي: يبقيهم على نفاقهم؛ لأن العذاب ثمرة لدرجة هي الاستدامة على النفاق.
فالله هنا ذكر الثمرة ولم يذكر الدرجة، لكننا فهمنا الدرجة من الثمرة، فهمنا، ثم قال جل جلاله: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:24] وهنا لم يذكر الله الثمرة، وذكر الدرجة وهي التوبة من النفاق، والرحمة ثمرتها.
فيصبح معنى الآية إجمالاً: أن الصادقين سيجزيهم الله بصدقهم في الدنيا والآخرة، أما المنافقين فربنا يقول: أنا قادر على أن أبقيهم على نفاقهم فيكونوا أهلاً للعذاب، وقادر على أن أتوب عليهم فيتركوا النفاق فيكونون أهلاً للرحمة.
هذا معنى قول الله جل وعلا: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:24]، ولما كان ربنا غلبت رحمته غضبه لين الآية جل شأنه بقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:24] وفي هذا إقامة حجة عليهم، ودعوتهم إلى التوبة.
هذه الآية لها ارتباط بالسياقات القادمة، لكني أحاول أن أتكلم عنها سريعاً لأجل الوقت، (ورد الله الذين كفروا بغيظهم) (الغيظ): الحنق والغضب، (ورد الله الذين كفروا) يدخل فيها عموم أهل الأحزاب، (بغيظهم لم ينالوا خيراً) أي: لم يحصلوا على ما يبتغونه، (وكفى الله المؤمنين القتال) (كفى) هنا بمعنى: أغنى وأراح، (وكفى الله المؤمنين القتال) لم يكن في يوم الخندق قتال إلا يسير كقتال علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه لـعمرو بن ود ، قال: (وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً) وهذا التذييل مناسب لما قبله، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25].
أما ما بعدها من آيات فهي متصلة المعنى، نتأملها ونفسرها إن شاء الله تعالى في اللقاء القادم، هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر