أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا الموضوع، موضوع "العلم الأصيل والعلم الدخيل" موضوع كبير وخطير، وتأتي أهميته من ثلاثة أسباب:
السبب الأول: أن الله عز وجل ميز في كتابه بين العلم الأصيل والعلم الدخيل، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم فرق بين العلمين في حديثه الشريف، وكذلك أصحابه والسلف الصالح، رضوان الله عليهم جميعاً.
السبب الثاني: أن هناك عند المقصرين من أمثالي من طلبة العلم وغيرهم -من باب أولى- غبشاً وخلطاً بين العلم الأصيل والعلم الدخيل، فهم يخلطون بين هذا وهذا, ولا يميزون العلم النافع من العلم الضار، ولا المفيد من غيره، ولا الذي من ورائه ثمرة من الذي لا ثمرة من الكد والكدح فيه.
والسبب الثالث: أن هناك خطورة كبيرة من عدم التمييز بين العلم الأصيل والعلم الدخيل، وكثير من الناس لعدم معرفته بفائدة العلم لا يحرص عليه، ولا يحصله، ولا يجلس في مجالسه, ولا يتعلم عند أربابه وأهله، ولا يتعب نفسه في حفظ العلم والتفقه فيه أبداً.
خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري |
فلما فر قال:
أتيت مهاجرين فعلموني ثلاثة أسطر متتابعات |
كتاب الله في رقٍّ صحيح وآيات القران مفصلات |
فخطوا لي أبا جاد وقالوا تعلم سعفصاً وقريشات |
وما أنا والكتابة والتهجي وما حظ البنين من البنات |
فلقلة علم هذا الرجل بالعلم الأصيل، ما حرص على أن يتعلم، وهذا يصح شاهداً لمن لم يفهم ثمرة العلم, ولم يحرص عليه قال ابن الجوزي: يا ضعيف العزم! لو علمت فائدة العلم؛ لسهرت الليل, وأظمأت النهار، وجعلت نوافلك في العلم.
في كتاب الزهد للإمام أحمد بسند جيد عن معاذ أنه قال رضي الله عنه وأرضاه: [[تعلموا العلم، فإن مدارسته تسبيح، وتعليمه يعدل الصيام والقيام، وإن دعوة الناس إليه أفضل من الجهاد]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.
دخل أبو دلامة على هارون الرشيد وهو رجل دعوب مزاح طريف يدخل على الخلفاء العباسيين، قال هارون الرشيد: يا أبا دلامة سمعنا أنك انقطعت عنا لتتعلم الحديث النبوي في هذه الفترة؛ فماذا تعلمت؟ قال: تعلمت علماً نافعاً يا أمير المؤمنين! قال: أخبرني ماذا حفظت، قال: حدثنا فلان عن فلان، عن عكرمة رحمه الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من حفظ خصلتين دخل الجنة} نسي عكرمة خصلة, ونسيت الثانية، ما الفائدة؟!! ربما كانت منه طرافة، وإلا ربما يكون قد حفظ واحدة على الأقل، وإما أن يكون بليداً بلغ في البلادة المنتهى، فهذا لا التفت للعلم ولا لتمييز الأصيل من الدخيل.
قال جهابذة التفسير: ذكر الله العلم هنا بعد قيام الليل، فكأنه يقول: العلم النافع هو الذي يقيمك تصلي في الليل, أو يجعلك قانتاً خائفاً مخبتاً, منيباً خاشعاً, ناسكاً زاهداً؛ فهذا هو العلم النافع: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه [الزمر:9] ثم لم يعقب الله تعالى بأنه أعد لهم جنات النعيم، ولا قال: وقوا عذاب النار -وهم يوقون النار إن شاء الله- ولكن قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] فكأنه لما ذكر النسك عقب بالعلم النافع، ونأخذ من الآية أن العلم الأصيل هو الذي يحمل العبد على خشية الله وعلى الإنابة إلى الله والزهد في الدنيا, وعلى التقرب بالنوافل إلى الله، وإلا لو لم يكن علماً أصيلاً ما ذكره الله عز وجل بعد قيام الليل, فكأن معنى الآية: لا يستوي الذي يعلم فيقوم الليل ويتهجد لله، مع الذي لا يعلم فلا يقوم الليل ولا يتهجد لله.
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] أثر أن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا قرأ هذه الآية بكى طويلاً وقال: [[ذلكم
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً |
وفي كتاب المروزي بسند صحيح أن عثمان رضي الله عنه وأرضاه قام ليلة كاملة من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر بركعة واحدة, قرأ فيها القرآن كاملاً: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه [الزمر:9] ثم قال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] إذاً الفائدة من هذه الآية: أن العلم النافع يقودك إلى الخير, والعلم الضار لا ينفعك ولا يقربك, ولا يجعلك تحذر الآخرة، ولا ترجو رحمة الله، ولو حفظ الإنسان من المتون ما حفظ، وحفظ الصحاح والمسانيد والسنن ثم لا يتقرب إلى الله ولا يخشى الله ولا يراقب حدود الله فما هو بعالم، بل هو جاهل بلا شك.
الأول: الأدب علم يعبد به الله عز وجل، ولذلك عقد ابن القيم في كتاب مدارج السالكين باب الأدب، وتبع في ذلك شيخ الإسلام أبا إسماعيل الأنصاري، لأنه قال: (ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الأدب) والأدب: حفظ الجوارح مع الله، وقيل أنه إذا خلوت بالله كنت أشد حياء منه، من إذا جلوت بالناس.
وقيل: هي أن تحبس مرادك على مراد الله، قال معاذ رضي الله عنه وأرضاه في الأدب: [[ما بصقت عن يميني منذ أسلمت]] وقال أحدهم: ما مددت رجلي تجاه القبلة منذ عرفت يميني من شمالي، وإن كان ذلك جائزاً وقال ابن المبارك: نحن بحاجة إلى كثير من الأدب مع قليل من العلم، وقال: أن نجعل علمنا طعاماً, وأدبنا ملحاً، والواجب أن نجعل أدبنا طعاماً, وأن نجعل علمنا ملحاً.
ومن الأدب ما تأدب به الصالحون، وربما نذكر بعض النماذج فيما بعد.
والدليل الثاني من الآية: أن من لم يتأدب فقد نقصه علم أصيل, ودخل عليه علم دخيل.
وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] لو أن الآية قرئت مبتورة لظن بعض الناس أنه يدخل في ذلك علم الفلك -على ما سوف يأتي- وعلم النجوم، وعلم الأنساب, وزيادة معرفة القبائل وبطونها، وأفخاذها وأسرها وعشائرها، لكن قال عز من قائل: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] فدل على أن العلم النافع علم القرآن.
وقال عز من قائل في سورة آل عمران: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] السؤال: لماذا سماهم الله أولي العلم؟
السبب: أنهم شهدوا لله بالوحدانية واستنبط بعض أهل العلم من هذه الآية أن علم التوحيد علم أصيل، وأن من لم يوحد الله ولم يخلص العبودية لله؛ فعلمه دخيل ولو علم علوم الدنيا، لأن بعض الناس ضلوا وهم علماء، لأنهم خرافيون، قادة ضلالة، وعملاء جهالة، كما مر في تاريخ الإسلام من أمثال ابن الراوندي والحلاج، وابن عربي محيي الدين الطائي صاحب كتاب الفتوحات المكية، وفصوص الحكم وهي فصوص الظلم، وهي ظلمات بعضها فوق بعض، يقول الذهبي: إذا لم يكن كفر في الفتوحات المكية فليس في الدنيا كفر، فهؤلاء لا يسمون أهل علم؛ لأن أهل العلم هنا هم أهل الوحدانية لله.
وقال عز من قائل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] وهذا هو علم التوحيد، وعلم العقيدة، فغيره دخيل وهو أصيل، وقال عز من قائل: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] ثم قال بعدها: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [العنكبوت:44] فدل على أن التفكر والتدبر في آيات الله علم أصيل، وأن من لم يتدبر ولم يتفكر في آيات الله فعلمه دخيل، فالتفكر والتدبر في آيات الله علم أصيل.
وقال عز من قائل: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] لهذه الآية معنيان، بأيهما أخذت أصبت
خذا جنب هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق |
فالمعنى الأول: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] أي: بل هذا القرآن آيات واضحات، محفوظة في صدور الذين أوتوا العلم؛ فهذا فيه دليل على فضل الحفظ.
والمعنى الثاني: أن هذه الآيات بينات معانيها في صدور الذين أوتوا العلم، أي: أنها مشروحة في صدورهم يعرفون معانيها، أو بيّن معناها في صدورهم لا أنهم يحفظونها، وإن حفظوها فهم يحفظون معانيها في صدورهم.
وقال عز من قائل عن موسى والخضر: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66] إنه العلم النافع دل عليه السياق، ونكتفي بهذا من كتاب الله عز وجل دليلاً على العلم النافع الأصيل.
قال عليه الصلاة والسلام: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث} وعبر بالغيث ولم يقل: (المطر) لنكتة؛ قال: أهل العلم مثل المطر؟ قال أهل العلم: اختار صلى الله عليه وسلم كلمة الغيث، واختُصر له الكلام اختصاراً، وهو الذي يجيد صنع الكلمة المؤثرة.
ما بنى جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمة من عفاء |
فما قال المطر؛ لأن المطر ما استخدم في القرآن إلا في العذاب، يقول عز من قائل: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:84] فعدل صلى الله عليه وسلم عن هذا اللفظ، وأتى بلفظ أرق وأحسن وأبدع وأروع فقال {كمثل الغيث} والغيث فيه ثلاث صفات:
الأولى: صفاؤه ونقاؤه.
الثانية: أن فيه معنى الغوث، يغيث القلوب والأرواح.
الثالثة: أنه حديث عهد بربه.
كان صلى الله عليه وسلم كما في البخاري {= 7004596>إذا أمطرت السماء يخرج فيتمطر} قال البخاري باب من تمطر في المطر -يعني: إذا نزل الغيث- ثم أتى بحديث كان إذا نزل الغيث خرج صلى الله عليه وسلم بثيابه يتمطر وقال: {إنه حديث عهد بربه}.
مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل الغيث أصاب أرضاً -وهذه الأرض هي الأمة الإسلامية وغير الإسلامية- فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وهؤلاء أهل الفهم والحفظ، وأهل الدعوة؛ حفظوا النصوص، وأخرجوا كنوزها، وشقوا أنهارها، وغرسوا أشجارها، وأخرجوا ثمارها، وبلغوها للأمة، وهذه أمثال أهل العلم الكبار من السلف الصالح.
وطائفة أخرى وهي الأجادب، أي: غدران، حبست الماء فنفع الله بها الناس, فسقوا, وزرعوا, وشربوا، وهذه طائفة حفظت, ولكنها ما تفقهت ولكنها أمسكت النصوص للأمة، كما يقول ابن حجر والقرطبي.
وكان منها أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، هؤلاء لا حفظوا ولا تفقهوا، ولا تعلموا ولا علموا ولا تبصروا -نسأل الله العافية والسلامة- فقال عليه الصلاة والسلام حاكماً على الطوائف الثلاث: {فذلك مثل من نفعه الله بما أرسلني به فَعِلم وعَلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً, ولم ينفعه ما بعثني الله به} صدق صلى الله عليه وسلم.
فدل الحديث على أن الفقه في الدين وتعلم أحكامه وأسراره هو العلم الأصيل، ولذلك يقول بعض أهل العلم: أثر عن بعض الصوفية أنه كان في بيت المقدس له زاوية, فكان هذا الصوفي جالساً مع الناس في بيت المقدس، فلما صلى العشاء قام إلى زاوية من زوايا المسجد، وقام عالم من العلماء يدرس الناس كتاب الحيض بعد صلاة العشاء، وأما ذاك الصوفي فإنه يقول: حي.. حي، حي.. حي، ولما قرب الفجر قام الصوفي على هذا العالم وقال له: وصل الواصلون إلى الله, وأنت في كتاب الحيض، قال: بماذا؟ قال: لقد قلت حي.. حي.. كذا كذا ألف، وأنت تدرس الناس كتاب الحيض، قال: نسأل عالم المسلمين أبا علي الروذباري، فذهبا يسألانه، قال: ما عندكما؟ قال الصوفي: أما أنا فجلست أتصل بالله, وأذكر الله, وأقول حي.. حي، وأما هذا فجلس بعد صلاة العشاء يعلم الناس الحيض، فقلت: وصل الواصلون والعارفون، وأنت ما زلت في كتاب الحيض، فقال أبو علي: نعم. وصل الواصلون من أمثالك, ولكن وصلوا إلى سقر، وذلك لأنه عطل نفسه من العلم النافع، والأمر الثاني: أنه ابتدع ذكراً ما أتى به صلى الله عليه وسلم، هل علم صلى الله عليه وسلم الناس أن يقولوا: حي.. حي، وهل هذا ذكر؟
وابن عربي الطائي صاحب الفتوحات، يقول: هو.. هو، فهو ينبح مثل الكلب، ويسمى "ذكر الضمير" حتى يقول: إذا بلغ هذه الكلمة فيكررها وهو الذكر الخالص، ويقول في قوله عز وجل: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] قال: إذا نسيت الله فقد ذكرت الله، وقالوا في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152] يعني: الصحابة في أحد , قال الله عز وجل فيهم، معنى الآية: أن الله مدح بعض الصحابة يعني: أن منكم من يريد الغنائم ومنكم من يريد الجنة، فصفقت الصوفية وقالوا: الله المستعان! وأين الذين يريدون الله؟ فأبطلوا الطائفتين، وخطئوا الفريقين.
يقول صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} طلب الأحكام أجل عبادة، ولذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "لأن أتعلم حديثاً خير من أن أصلي"، وسأله سائل: أجلس أتعلم الحديث أو أتنفل؟ قال: "تعلم الحديث" وهذا الكلام فيه تحفظات، ومحترزات, سوف ترد مناسبته إن شاء الله.
كتاب عظيم أنزله الله للناس وهو القرآن، وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلم الفرائض، وسوف تأتي علوم لا نجعلها دخيلة، بل هي إن شاء الله أصيلة، وأثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ بالله من علم لا ينفع، والذي يستعيذ منه صلى الله عليه وسلم هو العلم الدخيل المشوب بالدخن، قال زيد بن أرقم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها} رواه مسلم وزاد الأربعة: {ومن دعاء لا يسمع} وزاد الترمذي: {أعوذ بك من هذه الأربع} فتعوذ صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع.
وقال عليه الصلاة والسلام كما عند ابن ماجة: {سلوا الله علماً نافعاً فإنه ربما يكون العلم غير نافع} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ذكره في المقدمة، وكان عليه الصلاة والسلام كما روى الترمذي عن أبي هريرة يقول: {اللهم انفعني بما علمتني, وعلمني ما ينفعني، وزدني علماً} فالعلم النافع الذي يريده صلى الله عليه وسلم هو الكتاب والسنة، والفرائض، وسوف تأتي علوم تندرج تحت العلم الأصيل.
قال البخاري في كتاب العلم، وإنما العلم بالتعلم، وتعلم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الكِـبَر، وقال ذلك لأن بعض غلاة المتصوفة، أو أهل الطرق، أو الذين أخذوا أعمال القلوب وجعلوها القضية الكبرى, يقولون: نحن لا نتعلم، إنما يأتينا علمنا من السماء، ينزل عليهم جبريل عليه السلام بالعلم، وقالوا: علمنا علم الخرق لا علم الورق، والخرق هي الثياب الممزقة التي يلبسها المتصوفة، وكانوا يغضبون على أهل الحديث إذا رأوهم يحملون صحفاً بيضاء في أيديهم، ولذلك ذكر ابن القيم في مدارج السالكين أن أحد هؤلاء المشعوذة والمتفلسفة والمتصوفة يقول: علمكم من عبد الرزاق، وعلمنا من الخلاق، عبد الرزاق بن همام الصنعاني صاحب المصنف أحد رواة الصحيحين من أكبر وأشهر المحدثين على الإطلاق، قال ابن القيم راداً على ذلك: والله يا ضعيف العقل! لولا عبد الرزاق وأمثال عبد الرزاق ما عرفت الخلاق، ولذلك قال البخاري: العلم بالتعلم وهو أن تحفظ وتكتب, وتقرأ وتدرس, وأن تطالع، ليس العلم أن يجلس الإنسان في زاوية ويقول: يفتح عليَّ فتوح, وينزل عليَّ, فهو العلم اللدني الذي يسمونه ويطنطنون به، ولذلك قال أبو سليمان الداراني كما ذكر عنه ابن كثير والذهبي: عملنا -يقصد أهل الطريق، زهدهم وعبادتهم- يقول: عملنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن, ولم يكتب الحديث، فلا تثقوا به.
وأثر عن الجنيد أنه قال: إن النكتة تقع في قلبي من نكت القوم -أي كلمة يسمعها- فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين، وهما الكتاب والسنة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {اللهم إني أسألك إيماناً دائماً؛ فرب إيمان غير دائم, وأسألك علماً نافعاً؛ فرب علم غير نافع} ذكره أبو نعيم صاحب الحلية، وشطره الأول ذكره الطبراني في المعجم الكبير بسند جيد، ووقفه الإمام أحمد علىابن مسعود، وذكره الحاكم وابن حبان من حديث أنس وصححوه؛ فكأنه لا يصح مرفوعاً.
ذكر البخاري رحمه الله في كتاب الأدب من صحيحه أن عبد الله بن عون قال: ثلاث نحبهن لإخواننا، قالوا: ما هي؟ قال: هذا القرآن أن يتعلموه, وأن يعملوا بما فيه، والسنة أن يتفقهوا فيها، وأن يدعوا الناس إلا من خير.
والعلم النافع عند الصحابة والسلف الصالح -كما يقول ابن رجب - يدور على ثلاث نواح أو على ثلاث واجهات كما سيأتي..
فبعض الناس لسوء فهمه وتدبيره إذا أتى يطلب العلم، قدم كتب البشر على كتاب الله، فلا يتحفظ من القرآن شيئاً ويحفظ الأحاديث, وربما حفظ الصحيحين، أو شيئاً من السنن والمسانيد، وربما حفظ الفرائض وعرف القسمة، والضرب والتوزيع، والعول والأنصباء والرد، ولكنه لا يحفظ القرآن، فكيف يقدم قبل القرآن شيئاً آخر!
إن أصالة العلم تبدأ بالقرآن، كان السلف إذا أتى طالب العلم، يقولون: أحفظت من القرآن شيئاً؟ فإن قال: نعم. حفظَّوه وعلموه وفهَّموه ودرَّسوه، وإن قال: لا. قالوا: عد فتعلم القرآن ثم تعال.
فالعلم الأصيل هو علم القرآن، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام لـأبي بن كعب كما في الصحيح: {أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ... [البقرة:255] فأخذ صلى الله عليه وسلم يده ثم ضربها في صدره وقال: ليهنك العلم أبا المنذر} فالعلم هنا هو القرآن، فدل كلامه صلى الله عليه وسلم على أن العلم الأصيل هو القرآن، ولذلك يقول عز وجل: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] فسماه علماً نافعاً.
طائفة: عندهم فكر خارجي، وقلة علم، وتشدد وغلو في الدين، يتمسكون بظاهر القرآن،
وطائفة أخرى: جاهلة، يقول أحدهم: يكفينا القرآن، وإذا رأى الناس يتعلمون صحيح البخاري ومسلم يقول: تشاغلوا بالقرآن واتركوا هذه الأحاديث، وهذا خطأ بل لا بد من الوحيين (القرآن والسنة) لتبين للناس ما نزل إليهم، ولا يبين إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.
هل في القرآن أن صلاة الظهر أربع، وصلاة العصر أربع، وصلاة المغرب ثلاث، وصلاة الفجر ركعتان؟
هل في القرآن أن أنصبة الزكاة في كل أربعين شاة شاة، وفي خمس من الإبل شاة، وفي أربعين من البقر مسن أو مسنة؟ هل في القرآن الطواف وبيان من أين يبدأ وأين ينتهي، والسعي والوقوف والرمي؟
1- يسر علم السلف:
الميزة الأولى: أن علمهم يسير، وبعض الناس بحسن قصد أو بسوء قصد صعبوا العلم على الناس، حتى تجده يقول: لن تحصل على العلم، حتى تترك المنام، وتهجر الفراش، وتقلل من الأكل، وتقرأ في اليوم كم ساعة، وفي الليلة كم ساعة، وتحفظ هذه المنظومات، وهذه المتون، فيأتي طالب العلم فيصطدم بهذه الألغاز التي نصبوها شباكاً للناس, ويعود خائباً خاسراً حسيراً على وجهه فلا يطلب العلم، يقول: ما دام أن العلم بهذه الصعوبة فلن أطلبه، حتى يقول محمد بن إبراهيم الوزير -العالم الكبير النحرير؛ اليمني، الذي يعتبر من فطاحل العلماء في القرن الثامن- يقول: لقد اشترط المتأخرون في العالم شروطاً لا تنطبق على أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما، نعم. اقرءوا في كتب أصول الفقه، يقولون: أن يحفظ القرآن، ويحفظ كذا ألف من الحديث، ويعرف أصول الفقه، ويلم باللغة، ويحفظ كذا من القواعد، وكذا من الضوابط، تعال طبق هذه الأمور على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
فميزة علم الصحابة اليسر، نقولها بكل شجاعة وجرأة، كان عليه الصلاة والسلام يقرأ الآيات، فيعرفون معناها، ويعطيهم الحديث فيستخرجون منه الحكم، أما يقول الله عز من قائل: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17] قال مجاهد: ولقد يسرنا طلب العلم, فهل من طالب علم؟ تأتي بما أتاك الله من فهم بعد أن تستغفر كثيراً, وتتوب إلى الله، وتصحح النية وتطلب العلم لوجه الله، فسوف يفتح الله عليك، أما هذه التشديدات وهذا التزمت والتشنج الذي عرض من القرن الخامس فما بعد, وحرموا الناس من طلب العلم لأجله وردوهم إلى صعوبات، وأوثقوهم حبالاً وأنزلوهم جبالاً، فهذا ليس بوارد، فعلم الصحابة يسر، إن أبا بكر لم يرو من الحديث إلا ما يقارب مائة وخمسين حديثاً في كتب السنة، وهو أفضل وأعلم وأتقى وأورع من أبي هريرة الذي روى خمسة آلاف وسبعمائة وستة وعشرين حديثاً، وبعض الناس يعيش في هذا العصر, فيحفظ عشرة آلاف حديث، فهل هو أعلم من أبي بكر؟ لا والله، لكن في الموطأ موقوفاً: {ما سبقكم
2- عمق علم السلف:
فعلمهم عميق ليس بسطحي، روى سعيد بن منصور في السنن أن ابن مسعود رضي الله عنة وأرضاه، قال: [[يا أيها الناس! عليكم بأصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، فإنهم أبر الأمة قلوباً, وأصدقها لهجة, وأعمقها علماً, وأقلها تكلفاً]].
العمق في العلم الدقة, ومعرفة المقاصد، وأخذ العلم النافع.
3- علم السلف يطلب للعمل:
والميزة الثالثة لعلم الصحابة: أنه علم يطلب للعمل، أما نحن -نسأل الله العافية والسلامة- واسألوا أنفسكم جميعاً، لو فكر أحدنا في اليوم والليلة أن كثيراً من المسائل يتشاغل بها وقد لا تعرض عليه في حياته الدنيا، وقد لا يستخدمها, ولا يحتاج إليها, وقد ينشغل بها عن الفائدة, أو عن العلم النافع الذي يحتاج إليه في كل ساعة ولحظة، فعلم الصحابة علم يراد للعمل, روى الدارمي في كتابه السنن بسند حسن إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه، أن صبيغ بن عسل -أحد أهل العراق- أتى فجلس في الجيش عند أبي موسى الأشعري في العراق، فجلس بين الصحابة يطرح الشبهات ويضارب بين الآيات، يقول: قال عز وجل: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً [النازعات:1] ويقول هناك: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً [المرسلات:1] ويقول هناك: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً [الذاريات:1].
فيقول بعض الجيش: لا ندري والله ما المراد، فيقوم من الحلقة ويجلس في الحلقة الأخرى ويقول: لماذا يقول الله عز وجل: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101] ويقول هناك: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ [الصافات:24] هنا ينفي السؤال وهنا يثبت السؤال: فقالوا: لا ندري، فرفع أمره إلى أبي موسى , فرفع أبو موسى أمره إلى p=1000202>عمرو بن العاص
، فأتى p=1000202>عمرو بن العاص فأخبر عمر، قال عمر: أين الرجل؟ قال: في رحالنا، يعني: تركته مع الإبل في طرف المدينة، قال: احذر, لا يفوت الرجل فتمسك مني عقوبة، ثم قال: عليّ به، فذهب عمرو رضي الله عنه يأتي بالرجل، أما عمر فقال: عليّ بعراجين النخل، يريد أن يعالجه ويجيب على أسئلته بما لا ينساه أبد الدهر، تمر به ثلاث وعشرون سنة وستة أشهر فلا ينسى، فلما أتوا بعراجين النخل خضراً, وضعها بجانبه وقال: تعال، أأنت الذي يسأل في الجيش؟ قال: نعم. قال: امسك الرجل، فأمسك رجل بيمينه وآخر بيساره، ثم أتى عمر وضربه ضرباً حتى أدماه، فلما غشي عليه، قال: رشوه بالماء، واذهبوا به إلى رحالكم وغداً تأتونني به، فذهبوا به، وفي الغد أتوا به، فضربه عمر حتى أدماه، فقال عمر: رشوه بالماء، واذهبوا به وغداً تأتونني به، فأتوا به في اليوم التالي، فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد دوائي فقد داويتني، وإن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، فقال عمر: يا عدو نفسه! يا عدو الله! قاتلك الله، ومن كلفك أن تتعمق هذا التعمق وتسأل هذا السؤال، والذي نفسي بيده، إن عدت إلى ما كنت تفعل لأجعلنك عبرة للمعتبرين, وعظة للمتعظين وصدق رضي الله عنه ثم قال للجيش: لا يكلمه منكم أحد؛ اهجروه فكان يجلس وحده لا يكلمه أحد، ولا يسلم عليه أحد، حتى طالت به المدة، فتاب وأناب وأتى إلى أبي موسى يبكي، وقال: ردني إلى الناس، فكتب لـعمر وأخبره، وقال: دعه يكلمه الناس ويجلسوا معه.علم عمر أن العلم الدخيل سوف يدخل على الأمة بالتشكيك في الكلام, والجدل الذي يقضي على الأعمار, ويضيع الليالي والأيام, جلسة طويلة من بعد صلاة العشاء إلى ما يقارب الساعة الثانية عشرة في جدال عن دوران الأرض، ويقوم بعض الناس فيتضارب ويتصارع مع بعض الناس في المجلس، كيف تدور الأرض؟ وبعضهم يقول: لا تدور، والله لا يسألنا يوم القيامة، هل تدور الأرض أو لا تدور؟، وبعضهم يسأل، ويقول: أطفال المشركين هل يعذبون أو لا؟
وجدل عقيم لا طائل فيه، ولو أدرك عمر بعضنا لضربهم ثلاثة أيام؛ لأنه يريد أن يشتغل الناس بالعلم الأصيل لا بالعلم الدخيل.
تقدم أن علم الصحابة يتميز باليسر والعمق وأنه يطلب للعمل؛ أتى رجل إلى زيد بن ثابت فسأله مسألة، قال: [[أوقعت هذه المسألة؟ قال: لا، قال: إذا وقعت، فتعال لنتجشم لك الجواب]] وأكثر المسائل الآن يجاب عنها وما وقعت.
يأتي أحد الناس يقول -مثلاً-: لو صليت خلف الصفوف، ثم ما شعرت أنهم يصلون الظهر, وهم يصلون العصر، فماذا الحكم؟ وهو ما فعل وما صلى وما حدثت له القصة.
ومن ضمن الأمثلة كذلك: أهل التفسير وهم مشكورون ومأجورون على عملهم, يأتون بمسائل لا يستفاد منها صراحة، كلون الكلب الذي كان مع أهل الكهف، قال بعضهم: كان مبرقشاً، قال ذاك: أخطأت ليس مبرقشاً، بل هو مبرقع، فيرد عليه آخر قال: لا. بل هو أحمر يميل إلى الصفرة، فيقول ذاك: بل هو بنفسجي يميل إلى الحمرة، والواجب أن تتأكد من النقل، ثم يقول: والأحسن الذي نخرج به من الجدل أن يكون على عينيه نقطتان بيضاوان، وهذا ما كلفنا بطلبه ولا بعلمه، والله يقول بعدها: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً [الكهف:22] يقول: لا ينفعك أنهم ثلاثة ورابعهم كذا، أو خمسة وسادسهم، أو سابعهم وثامنهم، قال تعالى: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ [الكهف:22]. وبعضهم يقول: اسم المرأة التي هم بها يوسف وهمت به زليخا، قال الثاني: لا. اسمها برجا، قال الثالث: لا. اسمها يازي، وهم ليس لهم سند ولا رواية، يسودون الصحف بهذا الكلام، فهذا من العلم الدخيل على المسلمين، وقد حصل في الأمة.
أولها: على معرفة الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، فهذا أول ما يدل عليه العلم النافع.
إذا ما لم يفدك العلم شيئاً فليتك ثم ليتك ما علمتا |
فتقوى الله رأس الأمر حقاً وليس بأن يقال لقد رأستا |
فالعلم النافع: هو الذي يدلك على معرفة الحي القيوم، ليس كمعرفة اليهود والنصارى، الذي يعرف الله ويسكر في الليل، فهذا عرف الله كما يعرف الكلب أن له رباً، وهذه معرفة لا تنفع، إنما العلم الخشية، وإنما يخشى الله من عباده العلماء.
الأمر الثاني: المعرفة بما يحبه الله ويرضاه وهي ثلاثة أقسام:
ففي العقائد: عقيدة أهل السنة والجماعة، وفي الظاهر: الحلال والحرام، وفي الباطن: اعتقاد القلب بالصفات الجميلة، والردع والتخلي عن الصفات الذميمة، هذا هو العلم النافع الذي يدل على ما يحبه الله ويرضاه، ويحصل هذا بالتفقه في الدين.
والأمر الثالث: الذي يدل عليه العلم النافع، دعوة الناس إلى هذا العلم.
علامة العلم النافع أن تحرص على نشره بين الناس, وتحرص على تبليغه، فلا تكتمه ولا تحجر عليه، لا تتعلم وتثقل على نفسك، فإن معنى ذلك أنك تميت العلم في نفسك.
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160].
الأمر الرابع: الزهد في ما لا يقرب من الله الحي القيوم. علامة العلم النافع: الزهد في الدنيا، فازهد في غير كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذه حكاية عن بني إسرائيل, وعن كل من شابه بني إسرائيل، ومنهم أميون: أي: لا يكتبون ولا يقرءون, لا يعلمون الكتاب إلا أماني، الأماني التلاوة, أي: لا يعرفون من كتبهم إلا التلاوة، فلا فهم ولا استنباط ولا فقه، ولا خشية ولا عمل، فهم يمرون عليه مر السحاب، قال الشاعر في عثمان بن عفان:
تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر |
كما يقول ابن جرير مستشهداً بهذا البيت، ومعناه تلا كتاب الله أول الليل، واستشهد في آخره، قال ابن عباس: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون، قال: أماني: يكذبون كذباً، وقال مجاهد والضحاك: زوراً وبهتاناً، وقال ابن جرير: الأشبه بالآية أن معناها أن منهم من لا يعرف من القرآن إلا ما يكذب به على الناس، أو يقول به زوراً وبهتاناً، والأشبه كذلك بالآية أن منهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أماني, أي: ليس عندهم إلا تلاوة بلا تدبر ولا فقه ولا فهم، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] أي: يتخيلون ويوسوسون.
قال عز وجل: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ [البقرة:102].
وهذا علم السحر ونعوذ بالله من علم السحر، فمن العلوم الدخيلة علم السحر، من علم أو تعلم، أو حرص على علم شيء منه؛ فقد أحبط الله عمله، وهو من الكبائر عند جمهور أهل العلم، وحد الساحر ضربة بالسيف كما ورد، فذكر الله العلم الدخيل, بعدما ذكر السحر، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم.
"إياك أعني واسمعي يا جاره" و"مصائب قوم عند قوم فوائد".
هذا الرجل عالم من علماء بني إسرائيل علمه دخيل واسمه بلعام بن باعوراء كما يقول ابن كثير وغيره من المفسرين.
بلعام بن باعوراء تعلم علماً من علم التوراة، ثم أتى وعَلِمَ الله الخبث من قلبه, وعلم الخسيسة والدسيسة في نفسه، فبعد أن تعلم كفر بما أنزل الله على رسله، واستبدل بالعلم وتبليغه الدنيا، وأغري بالقصور من الكفار, وانقلب على عقبيه, وكتب لموسى بالردة عن دين الله عز وجل، فقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: اتل على طلبة العلم، اتل على جيلك وعلى أصحابك، اتل على أمتك أن رجلاً تعلم علماً آتيناه آيات بينات في صدره.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175] يا لروعة التصوير: فَانْسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175] قال ابن كثير: جمال ما بعده جمال؛ انسلخ كالحية عندما تنسلخ من قشرها، وكالثعبان عندما ينسلخ من جلده، لم يقل انخلع أو انحط، نعوذ بالله من الانسلاخ: فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:175] وما قال (تبع الشيطان) وهذا فيه وجه بلاغي، أي أنه بلغ من شيطنة هذا الرجل أن الشيطان يتبعه، يقول بعض شياطين الإنس من الفجرة:
وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي |
أصبح إبليس من جنده، ففي مرحلة من المراحل كان مقوداً للشيطان, يقول: ثم تطورت به الأمور حتى صار الشيطان من سريته.
سر الجمال في الآية: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:175] أن الشيطان أتبعه، لقوة شيطنته.
فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175] ولم يقل: من المغوين؛ لأن الغاوين يغوون غيرهم، لأن العالِم إذا زل، زل بزلته عالمَ.
حتى إذا رأيتم بعض الناس ممن أوتوا العلم يصلي في بيته، صلى كثير من العوام في بيوتهم، وقالوا: فلان يحفظ الترمذي بأسانيده وسنن ابن ماجة ويصلي في البيت وهو عالم، لا بد أنه قرأها في القرآن, فإذا أطال ثوبه أسبلوا أثوابهم، وقالوا: وجدها العالم فيه، وأكثر العصاة في مجتمعنا الآن يستدلون ببعض من يذنب، والعلماء غير معصومين فيخطئون كما يخطئ البشر، لكن يجعلون الهفوة الواحدة صورة مكبرة فإنه يقال: انظروا إليه كيف أخطأ، وإذا سمع الغناء يقول: الغناء ليس فيه بأس فنسمعه، فقال الله عز وجل: فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:175-176] يقول: لو علمنا من الرجل خيراً كنا رفعنا رأسه ومجدناه, وشرفناه وكرمناه، ولكنه أخلد إلى الأرض، أي: أحب التراب، وعشق الدنيا, وأحب المنصب والذات والمدح، نعوذ بالله من ذلك: أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176] وانظر إلى المثل: مثل الله بصنفين قبيحين، مثل بالحمير وبالكلاب لعلمائهم، فالكلب أخس مثل لمن تعلم، فخبثه معه سواء تعلم أو لم يتعلم، والحمير لمن عنده علم في صدره ولم ينفعه علمه: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] المجلدات والمصنفات على ظهر الحمار، لكن يذهب بها لا يدري ما هو صحيح البخاري من صحيح مسلم من مستدرك الحاكم، هذا مثل العالم الذي ما استفاد من علمه: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] أي: إن أدخلته في الشمس أو أخرجته منها مد لسانه ولهث, وجربوا بالاستقراء تجدوا هذا.
ويقول تبارك وتعالى متحدثاً عن العلم الضار المذموم الدخيل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [الجاثية:23].
قال بعض أهل التأويل: وأضله الله على علم, أي: عنده علم فأضله الله, لأنه ما طلب الهداية، هذا وجه من وجوه التفسير والمهمة أو الصائبة في المسألة.
وقال عز وجل في العلم الدخيل: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [غافر:83] علم دخيل ظنوا أنه علم، وهذا يشمل اليهود والنصارى الذين لم يدخلوا في هذا الدين، ويشمل كفار قريش أو كل كافر، فإن كل معاند يظن أن عنده فهماً وعلماً، فعلمه العلم دخيل؛ لأنه ما قاده وما عرفه على الحق، إذاً فالفائدة من هذه الآية: أن كل علم لا يدلك على الحق فهو علم دخيل، وكل علم لا يسددك ولا يردك إلى الصواب فهو علم دخيل.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: {تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم} فرواه الترمذي والحاكم بسند صحيح، وذكره الذهبي وأقر الحاكم على تصحيحه.
إذاً فالفائدة من علم النسب:
معرفة ما نصل به أرحامنا، وما زاد عن ذلك فهو علم دخيل، فإن بعض الناس يفنون أعمارهم لا يتفقه في الدين ولا يتدبر القرآن، ولا يعرف الحلال والحرام، بل ولا ضروريات الدين في الحياة، وهو مشغول ليل نهار بأنساب القبائل، قبيلة عتيبة تعود إلى هوازن، وقبيلة مطير أصلها من غطفان، وقبيلة خثعم أصلها من قبائل شنوءة، وذاك أصله من بني عبد مدان، وذاك من عبد شمس، وذاك من بني عبد الدار، وعمة فلان خالة فلان، وجد فلان ابن عم لفلان، فهذا علمه لا ينفع وجهله لا يضر، لو ينسب لنا القبائل أو يرد لنا العمات مع الخالات، والجدات مع الأمهات، فما نفعنا وما قدم لنا شيئاً، سواء رضي أم غضب، إنما يستفاد من علم الأنساب ما يصل به الأرحام، تعرف أن هذه قريبة، وأن هذا خال، وأن هذا عم، فهذا المفهوم في الإسلام.
يقول عليه الصلاة والسلام: {من اقتبس شعبة من علم النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر} وفي لفظ: {زاد ما زاد} أي: إن زاد شعبة زاد الله له من السحر شعبة، روى هذا الحديث أبو داود وابن ماجة والطبراني بسند صحيح.
ورخص أهل العلم في التعرف على بعض المنازل لمعرفة القبلة، قال قتادة بن دعامة السدوسي: للنجوم ثلاث فوائد، من زاد أو من حرف، أو من ظن أن لها منافع غيرها فقد ضل سواء السبيل:
الأولى: أنها هداية للمسافر، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:97].
الثانية: أنها زينة للسماء، قال تعالى: وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ [الحجر:16].
الثالثة: أنها رجوم للشياطين، قال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ [الملك:5].
ومن يتعمق في علم النجوم فقد ضل سعيه وخسر حظه, وكذا إن علق بها أموراً، قال أهل العلم: من تعلق وتعلم علم النجوم أصيب بأمور:
أولاً: قلّت عقيدته بالله عز وجل المدبر المصرف الرازق الخالق.
الثاني: أساء ظناً بالمسلمين وقال: صلاة المسلمين إلى غير القبلة، لأن سهيل اليماني على يده اليسرى، وهذا المسجد منحرف، ومسجد آل فلان يصلون إلى غير القبلة، والأصل أن يكفيك حديث: {ما بين المشرق والمغرب قبلة} يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وسع في القبلة، ولو انحرف الناس قليلاً واجتهدوا لكانت صلاتهم صحيحه، فمن أخذ النجوم للقبلة فقد ضل، يقول الإمام أحمد: يكفي هذا الحديث عن علم النجوم فعلم النجوم، نسبة الأنواع، أو نسبة الأمور، أو المواليد أو الوقائع والأحداث، أو الزلازل والبراكين إلى النجوم وهو ضلال مبين، يقول الذهبي: خزعبلات وسفاسف لا يتشاغل بها إلا من أضل الله سعيه في الحياة الدنيا والآخرة.
التعمق هو تشقيق الكلام والتعمق فيه، والإتيان ببعض المناسبات, وبعض المقاصد التي لا تمت إلى الشريعة ولا إلى القرآن بصلة، يقول أهل العلم في تفسير الرازي: فيه كل شيء إلا التفسير، وهذه الكلمة فيها شيء.
وبعض العصريين ألف تفسيراً اسمه الجواهر، أتى فيه بأمور عجيبة، فمثلاً: في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] يقول: وفيه يستفاد أن الخط المستقيم هو أقرب الخطوط بين نقطتين، ومن أين أتى إلى الآية هذا الكلام، قال: وفي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات:30] فيه دليل على أن المثلث ذو ثلاث زوايا منفرجة؛ هندسة, وطب, وجغرافيا, وكيمياء في القرآن، ولذلك قال صاحب الظلال: هذا المنهج لا أرتضيه، وهو إخراج وتكلف وتشقق وتعمق من غير حاجة.
قال حماد بن زيد لـأيوب بن أبي تميمة السختياني أحد علماء البصرة، من التابعين: يـ ابن أبي تميمة! الحمد لله كثر العلم -يعني: في القرن الثاني - قال: لا والله ما كثر العلم ولكن كثر الكلام وقل العلم, بعض الناس إذا رأى المذكرات والمجلدات مصفوفة, قال: ما شاء الله! كيف فتح الله على الناس في العلم، لكن أوقف طالب علم واسأله في مسألة، ما دليلها؟ وماذا تستنبط منها؟ يقول: ما راجعت هذه المسألة, وإن شاء الله أراجعها واسأل عن الحديث، نحن فقط نضع خطاً تحت الكلمة, وإذا أتى الامتحان, ما دام أنها تبدأ في الفترة الثانية نبدأ نذاكر من بعد صلاة الفجر, معنا خمس ساعات والحمد لله، نذاكر فيها ونحفظ المذكرة حفظاً، يقول ابن رجب: السلف أقل الناس كلاماً, لكنهم أفقه وأكثر إخلاصاً.
تعال إلى تفسير أبي بكر وعمر للآيات تجدها كلمة، لكن فيها النور والهداية، وأحدنا إذا فسر آية فسرها في دفتر كبير, تجدها مائة وعشرين صفحة، ثم يأتي بكلام يجمعه فترى (وقال أهل العلم, وقال أهل الطب، وقال أهل الفلسفة) فكثرة الكلام من العلم الدخيل، أثبت ذلك الذهبي وابن رجب وابن تيمية كما في المجلد العاشر من الفتاوى.
قيل لـابن الصلاح كما في بعض فتاويه، ما رأيك في علم الكلام؟ قال: علم الكلام يظلم قلب العبد إذا تعلمه، ويصده عن معرفة الشريعة، ويطمس نوره، ويقسي فؤاده، ويبلد ذهنه، ويصده عن معرفة كنوز السنة، وعلم الكلام: علم محرم أرى أن يؤدب من تعلمه.
وقيل للشافعي: ما رأيك في علم الكلام؟ قال: العلم بعلم الكلام جهل، والجهل به علم، حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة, وذهب إلى علم الكلام.
علم الكلام علم قديم عند المسلمين، أسسه أرسطا طاليس اليوناني، وترجم في عهد المأمون، فقال المأمون: كل من يقرأ صفحة له ثلاثة دراهم في اليوم، والذي يقرأ حديث محمد صلى الله عليه وسلم أعطاه نصف درهم، انظروا الخائن الخائب الفاسق، فاشتغل الناس بعلم الكلام الذي يتحدث عن الربوبية والألوهية، وعن الأسماء والصفات بفلسفة ومنطق، قال ابن تيمية: إن الله لا يغفل عن المأمون، سوف يسأله لماذا أدخل علم المنطق وعلم الكلام على المسلمين، ولذلك أتى الشر والبلية من هذا العلم، وقال الإمام أحمد: جهل كله، ولذا دخلت البدعة على المسلمين من علم الكلام، فعلم الكلام ليس للمسلم إليه حاجة.
قال ابن تيمية، كما في الفتاوى: لا يحتاج إليه الذكي, ولا ينتفع به البليد.
وهذا مذهب المعتزلة، ومن لف لفهم من المعطلة والأشاعرة، فإنهم قدموا العقل على النقل وأثبت هذا الكلام في الفصل الثاني والثلاثين من كتاب أساس التقديس للرازي، ورد عليه ابن تيمية في كتاب درء تعارض العقل والنقل، بل هذا الكتاب كله رد على أساس التقديس للرازي.
يقول الرازي: إذا تعارض العقل والنقل، فإما أن يقدم النقل على العقل وهذا تسفيه للعقل، وإما أن يعملا معاً, وفيه إسقاط واستحالة لأنه تناقض، والصحيح أنه يقدم العقل.
وهذا ضلال ومن قدم العقل على النقل فقد ضل سواء السبيل، حملهم هذا العلم على نفي بعض الصفات، ومنهج أهل السنة إمرارها كما جاءت.
ومما يؤخذ عليه في بعض الجوانب، كتاب مدارج السالكين، ومن أنا حتى ألوم ذاك الشيخ الذي نتقرب إلى الله بحبه، ونسأل الله أن يحشرنا في زمرته، وأن نتولاه، لكن هناك مسائل نبه عليها بعض المحدثين: أنها من التعمق الذي ما عرف في الصدر الأول، كمنزلة البرق واللمع والفناء.. إلى غير ذلك.
روى ابن ماجة في المقدمة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج على قوم من أصحابه, يقولون في القضاء والقدر، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، تغير صلى الله عليه وسلم وغضب، وقال: {أبهذا أمرتم, أم بهذا بعثتم؟} ثم نهاهم صلى الله عليه وسلم.
ومن العلوم الدخيلة: الجدال والمراء:
قال ابن قتيبة: ما دخل المراء قلباً إلا أخرج طاعة الله منه، وقال عمر بن عبد العزيز: المراء نفاق، وقال عليه الصلاة والسلام: {الجدال في القرآن كفر} رواه الحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه وأحمد في مسنده وسنده صحيح عند أهل العلم.
إذا جلس طالبان في مجلس، فقال أحدهم: هذه الآية ترد على هذه الآية، قال: بل ترد عليها هذه الآية، فصنيعهم هذا كفر بالله العظيم، نعم. هذا حكمه الكفر عند أهل العلم.
ومن العلوم الدخيلة: التعصب المذهبي بدون دليل, وبدون تقيد بالدليل:
فمن رجح مذهباً على مذهب لا لدليل شرعي، فعلمه وبال عليه وهو علم دخيل، حتى وصلت المبالغة بالعلم الدخيل عند بعض المسلمين، أنهم يقولون: أنه لا يجوز للشافعي أن يتزوج امرأة حنفية، ولا يجوز للحنفي أن يتزوج امرأة شافعية، ونصوا في بعض كتبهم، هل يجوز للحنفي أن يصلي وراء الشافعي؟ ومن شك في هذه فليعد إلى بعض كتبهم وحواشيهم ويقرأها، بل في حاشية ابن عابدين أتى في أوله بحديث موضوع, يقول: قال صلى الله عليه وسلم: أبو حنيفة سراج أمتي، قال: وابن الجوزي يقول: هذا الحديث موضوع؛ لأن ابن الجوزي حنبلي متحامل على الأحناف، فأقول: رحم الله الجميع، لكن هذا من العلم الدخيل الذي ذكروه.
وأنا مستعد لمن أراد أن يطلبني بالسند أن أخرج له السند عن الإمام أحمد أنه قال لـأبي عبيدة معمر بن المثنى اللغوي: يا أبا عبيدة! لا تتشاغل بهذا النحو, فإنه مشغلة عن المهم، قال ابن رجب: النحو المحمود منه ما علمك الكتاب والسنة، وما زاد فلا حاجة له، كرد البصريين على الكوفيين، وقال سيبويه، ورد عليه الكسائي في مسائل لا تستخدمها في الكتاب ولا في السنة، وكذلك الأدب والشعر، قال الشافعي كما في سير أعلام النبلاء المجلد العاشر، في ترجمة الشافعي: الشعر أقلل منه أو أكثر، فهو غث، وقال ابن عباس كما في عيون الأخبار لـابن قتيبة: احفظ من الشعر الشاهد والمثل.
الشعر شريف في ثلاثة مواطن: أن تقدمه بين يدي حاجتك، أو أن تجعله وسيلة لتبليغ دعوة الله, أو تستشهد به في آية أو في معنى حديث، وما زاد على ذلك فلو حفظت دواوين الدنيا ما نفعك وإنما شغلك، وهذه من العلوم الدخيلة.
وإن الموضوع طويل.. طويل، ولكن أكتفي بهذا، سائلاً المولى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً, وأن يفقهنا في دينه، وأن يجعل علمنا نافعاً مفيداً خالصاً لوجهه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ونعوذ به من العلم المذموم، العلم الضار الدخيل، الذي يضيع علينا أعمارنا وشبابنا: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [آل عمران:193] وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الجواب: هذا السؤال وارد, وقد كتب فيها أهل العلم رسائل وكتباً ومجلدات, منهم: ابن الوزير في العواصم والقواصم، ومنهم: الشوكاني في رسالة في التقليد ومنهم: ابن القيم في جزء من إعلام الموقعين، ومنهم: الشاطبي في الموافقات وابن تيمية في المجلد العاشر، وتعرض لهذه المسألة وغيرهم من أهل العلم، قال ابن تيمية في أول كتاب الاستقامة: الناس في هذه المسألة ثلاثة أقسام: طرفان ووسط:
طرف قال: نأخذ علمنا من هذه المذاهب أي: الرأي، ولا ننظر إلى الكتاب ولا إلى الدليل, وهؤلاء العلماء ما أتوا بهذا العلم إلا لأن الله عصمهم وفتح عليهم، فنأخذ علومنا منهم، وقد كفونا الاستنباط، وأراحونا من تعب التحصيل وطلب الدليل، فهم مقبولون فأخذ الدليل منهم، قال: هذه الطائفة مخطئة، ثم ضرب مثلاً لا أذكره في هذا الجانب، أنتم تعودون إليه لكيلا نمس بعض الأشخاص.
وقال: وقابلتهم طائفة في الطرف الآخر وقالت: لا نلتفت لهؤلاء الأئمة الأربعة, ولا لغيرهم من العلماء -كما ورد السؤال- ونأخذ من الآيات والأحاديث، ونحن أصبحنا في درجة تخولنا إلى الاستفادة، قال: وهؤلاء مخطئون أيضاً.
وتوسطت طائفة: وهم فقهاء أهل الحديث، هكذا ينص ابن تيمية في المجلد الرابع: أهل الحديث بمنزلة الصحابة، وأهل الكلام بمنزلة المنافقين في عصره صلى الله عليه وسلم، فيقول: وتوسط فقهاء أهل الحديث وقالوا: نستفيد من آراء أهل العلم هؤلاء، أبو حنيفة رحمه الله، والشافعي وأحمد رحمهم الله والليث والأوزاعي وسفيان وغيرهم, ولكن لا نجعلهم معصومين، وإنما نطلب دليل كل واحد منهم، فعلى طالب العلم أن يطلب الدليل كما نص العلماء، فنستفيد من العلماء, لكن بشرط أن يصح الدليل، فلا يكفيك أن يقول الإمام أحمد بهذه المسألة وقال الحنابلة بهذه المسألة، ثم لا تفهم الدليل، ولا إذا أتاك من الإمام أحمد مسألة ترميها عرض الحائط وتقول: أنا رجل وهو رجل، نعم، لكن هو إمام أهل السنة وفتح الله عليه، وحفظ مائة ألف حديث في الأحكام، ومائة في غيرها, ومائة في المقطعات, ومائة من الآثار.
فالمقصود: أن نحترم هؤلاء العلماء، ونقبل علمهم بشرط أن نعرف الدليل أيها الإخوة، فإنك إن أخذت -مثلاً- مسألة القراءة وراء الإمام، فالأحناف يقولون: لا نقرأ لأن أبا حنيفة يقول: لا يُقرأ وهو إمام، فنقول: ما هو دليلكم؟ فيقولون: دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: {من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة} فنبحث عن هذا الحديث فإذا هو في الدارقطني بسند ضعيف، وإذا في مسلم: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب أو بأم القرآن} أفنترك هذا لأن أبا حنيفة قال هذا؟
إذاً فجواب ما تفضل بسؤاله السائل؛ أن الحكمة كل الحكمة أن نحترم هؤلاء الأربعة، ونضعهم على رءوسنا وفي عيوننا، ولا نجعل كلامهم شريعة، فإنهم كما قال أحد العلماء الفضلاء من الأحياء الآن: (يحتاج إلى كلامهم ولا يحتج بكلامهم) فننقل كلامهم ولا نمقتهم -نعوذ بالله من ذلك- لكن لا نجعلهم مشرعين وقد تعرض ابن القيم لها وقال: إنهم ليسوا مشرعين، وإنما هم علماء مجتهدون, نقبل أقوالهم إذا وافقت الدليل, فهذا ما عندي في هذه المسألة.
فملخص ما قلته: إن لطالب العلم أن يقرأ في مذهب, لكن عليه أن يتقيد بالأدلة، لا يكفيك متناً فقهياً مجرداً عن الأدلة, تأخذ حقه وباطلة وصحيحه وسقيمه، ناسخه ومنسوخه، ركيكه وجزله، ثم تقول: أنا على هذا الكتاب، لكنك تأخذ هذا المتن وتقرنه بالأدلة، وتعود إلى كلام أهل العلم، فتأخذ الصالح وترد الطالح، هذا هو المنهج السديد, وأحسن ما يعاد إليه ابن تيمية في أول كتاب الاستقامة، ورسالة الشوكاني في الاجتهاد والتقليد، وكتاب ابن رجب في كتاب فضل علم السلف على علم الخلف والذهبي في كتاب زغل العلم إلى غيرها من الرسائل، وأريد أن أختصر.
الجواب:لو علمت أنك ستسأل عن هذا السؤال لقلت: إن هناك علماً أصيلاً وعلماً دخيلاً وعلماً بينهما، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فالعلم الأصيل وجبة غذاء, وأما مثل الأناشيد فهي مشهيات أو ملهيات، فما أستطيع أن أضمها إلى الأصيل ولا إلى الدخيل، لأني إذا ضممتها إلى الأصيل لا بد أن يكون فيها نفع ومقصد وثمرة، وإن ضممتها إلى الدخيل فإنه يكون فيها ضرر وبهت وإسراف وضياع، فالأناشيد بحسب النية، لكن لا بد من التحرز منها، أما الأناشيد الإسلامية التي تدعو إلى مكارم الأخلاق, ولا تصحب بعزف, ولا ناي, ولا طبل، ولا تأنث، فهذه جيدة.
وأما الأناشيد التي تدعوا إلى الغزل, وإلى السخف, وإلى الفحش أو صاحبها آلة لهو فهذه نضمها إلى العلم الدخيل، وأما الأناشيد في جانب الشعر, فيحفظ منها الشاهد والمثل، فهناك علوم قد لا تدخل يسميها صاحب الموافقات الشاطبي من ملح العلم، لأنه قسم العلم إلى ضروري, وإلى ملح, وإلى ضار؛ فهذا من المُلح.
نخرج من المسألة خروجاً من الخلاف لأنه من الملح.
الجواب: أنا معك في هذا الكلام، والحقيقة أقول لكم: إن العلم الأصيل يحتاج إلى بعض النقاط، أو ما يندرج في العلم الأصيل؛ لكن:
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد |
الوقت ضيق والنقاط كثيرة، والمحاضرة ذات شقين: شق أصيل, وشق دخيل، فالعلم الأصيل يدخل فيه كل ما نفع المسلمين، يقول ابن تيمية: كل علم نافع فهو علم أصيل، والذي ليس بنافع فليس بأصيل وصحيح أن أهل الطب والهندسة، والتربية، ومن لف لفهم، وأهل التاريخ، والجغرافيا من كان في الساقة كان في الساقة، ومن كان في الحراسة كان في الحراسة، وربما إنسان يدرس التاريخ أو الجغرافيا أتقى وأورع وأخشى لله ممن يدرس التفسير والحديث والفقه، هذا موجود وأنفع للمسلمين، فأنا أقول: لا يشترط في العلم أن يكون تفسيراً وفقهاً وحديثاً، لكنني جعلت العلم الأصيل نافعاً مثمراً، تدخل فيه ما استطعت، وجعلت العلم الدخيل ضاراً مضيعاً للوقت مفرط صاحبه فأدخل فيه ما شئت, والأحسن أن توضع فيه قاعدتان: أصيل نافع ودخيل ضار، فأدخل كل نافع في الأصيل, وأدخل كل ضار في الدخيل.
الجواب: علم الفرائض، من صدقه صلى الله عليه وسلم الذي وقع حدسه في الأمة، أن علم الفرائض بدأ يهمل وينسى، وهو أول علم ينسى, ولذلك حث صلى الله عليه وسلم على تعلمه، وقال في بعض الآثار: هو نصف العلم؛ لأن علم الحياة المواريث، وعلم الآخرة علم القلوب, أو ما يقرب من الله عز وجل, وهذا العلم في الحقيقة قصرنا فيه كثيراً, لأسباب منها:
أن هذا العلم يحتاج إلى مصاحبة دائمة ومسائلة، فإذا تركته فترة من الوقت نسيته، فلا بد لمن أراد هذا العلم أن يكون له كل يوم ولو مسألة يتشاغل بحلها وتقسيمها, حتى يبقى متذكراً لهذا العلم، ولذلك تجد أكثر الناس تذكراً له المفتون والقضاة.
والسبب الثاني: أنه ليس هناك من يشجع، وأدخل على المسلمين بعض العلوم، أدخلت مجلدات كبار ككبر الأسمنت مكتوب عليها الثقافة الإسلامية، ليس فيها ما يسمن ولا يغني من جوع، كلام كله مصفوف: الإسلام دين عدالة، ودين قوة، عناصر مركزية تنطلق من أطر وتنبثق في بوتقة، وهكذا.. فنشغل به (576) صفحة ونقرأه ليلة الامتحان، ونلخصه في عناصر ومن أطر وتنبثق في بوتقة، وهكذا.. فنشغل به (576) صفحة ونقرأه ليلة الامتحان، ونلخصه في عناصر ولا نأتي بجيد، فلو كانت ثقافتنا من الكتاب والسنة أو من الكتاب الذين كتبوا في الثقافة بعمق، لكان أحسن.
ولكن نجعل لعلم الفرائض حظاً، ولعلم أصول الفقه، وكل علم نأخذ منه بنصيب، ولذلك نحن بحاجة لأن نتعلم بعض العلوم، وأنا أذكر أن من أهم العلوم التي قررت علم التربية، أما رأيتم منهج التربية عند المسلمين للنحلاوي، ما أحسن إشراقه واستشهاده وعرضه، وأسلوبه وصدقه وإخلاصه في الكتاب! وكيف أثر في الكثير من الشباب! لأننا بحاجة لهذا العلم, وبماذا نقابل الناس، إذا كان عندهم تربية وعرضوا لنا في الأسواق تربية؛ أنقول لهم: حدثنا قتادة؟ وإذا قالوا: هل عندكم علم نفس؟ نقول: قال: شعبة عن الأعمش أو الأعمش عن شعبة، لا بد أن نقابل السلاح بالسلاح، وعلم الفرائض نعود إليه ونقول: هو من المهمات، وأولى ما يتعلم في المساجد، وأحسن طريقة أن يجتمع ثلاثة أو أربعة من الشباب فيخصصون له يوماً في الأسبوع، فيتدارسون هذه المادة، ويحلون فيها ويقسمون، ليبقى هذا العلم محفوظاً فإنه من أشرف العلوم.
الجواب: كتمان العلم: هو عدم إظهاره للناس، هذا أمر, وعدم إفتاء المفتي عند الحاجة إلى الفتوى مع تخلف المانع، بألا يخشى على نفسه ضرراً أعظم من فائدة أو مصلحة الفتوى، لأنه ما كل مسألة يلزمك أن تجيب فيها، بعض الإجابات قد تذهب برأسك، فقال أهل العلم في هذا: أجدر لك أن تعتذر، نص على ذلك الإمام أحمد في كتاب الورع، لك أن تعتذر عن مسألة, لأنك إذا أجبت فيها ذهبت برأسك، فما كل إنسان ينبغي له أن يجيب، ثم إلى الحاجة، أن ترى حاجة السائل لهذا العلم، بألا ترى أنه يريد أن يستدل ببعض الأمور, أو يتعمق معك بعض التعمق، فيريد منك أن تجيبه على حسب هواه، فهذا متنطع لا ينبغي أن تجيبه، كأن يسألك فإذا رأى عندك تشديداً ذهب إلى فلان, وقال: ما حكم هذه وهذه؟ فشدد عليه فذهب إلى فلان فإذا رخص له، أخذ فتواه وذهب إلى أهله وقال: فتح الله على الشيخ فلان، أما هو فقد آتاه الله علم الأولين والآخرين، أما أولئك فما عندهم من العلم شيء، وذلك لأنه وافق مراده فهنالك أن تمنع، وكتمان العلم -بارك الله فيكم- قسمان:
القسم الأول: ألا تظهره للناس وألا تنشره، ولا تعلمه، فهذا من الكتمان، وذلك فعل بني إسرائيل، ينطوي الإنسان بعد أن يتعلم بدون خوف أو ضرر, ويقول: لا أنشر علماً ولا أتدخل بالناس، نفسي نفسي أنشغل بها ولا أنشغل بالناس.
والقسم الآخر: كتمان السائل أو المستفيد حينما يعرض لك:
وواجب طالب العلم: ألا يتكلم بجهل, وألا يكتم علماً، فإذا سئلت عن مسألة فلا تقل: لا أدري، فإن بعض الورع سفه وقلة حياء، كأن يسألك إنسان بدوي لا يعرف شيئاً يقول: أريد أن تتوضأ لي، فيحملك الورع, وتقول: الله ورسوله أعلم، أحمي سمعي وبصري، اذهب إلى العلماء فاسألهم، فإن الإمام مالك سئل في خمسين مسألة ما أجاب إلا في ثمان مسائل، فأنا أقول: لا أدري.
هذا من السخف والسفه، فيجب عليك أن تجيبه لأنك عرفت المسألة.
والأمر الثاني: أن يأتي إليك سائل طلق زوجته في مجلس وأنت لا تعرف كلام أهل العلم، واختلافات الحديث، وبعض المسائل قد تصعب عليك، فتخشى من أهل الحارة أو من القبيلة أن يقولوا: تخرج من كلية الشريعة وهو لا يعرف شيئاً فتقول: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، هذه المسألة الصحيح فيها كذا وكذا، لما رواه ابن ماجة من حديث فلان، وما روى ابن ماجة حديثاً ولا أنت تعرف الجواب، فتتعمد الجهل، فهذا يلجم بلجام من نار, وذاك يلجم بلجام من نار، إذاً فالواجب أن نفتي فيما تعلمنا ولا يحملنا الورع أن نهز رءوسنا ونقول: لا ندري، فبعض المسائل يعرفها حتى العوام, وأما بعض المسائل فنقول: لا ندري، ونحن صادقون، ومن وفقه الله سدده وثبته.
الجواب: حفظ القرآن من أكبر القضايا في حياة المسلم، ولذلك إذا سمعت بعض الناس يقول: ليست القضية قضية حفظ قرآن؛ فاعرف أنه إبليس, أما بعضهم فقد يجلس معك المجالس الطويلة في غير مثمر فكر، مورد، إنشاء، تعبير، فإذا قلت: دعنا نحفظ آيتين، أو نتدبر آيات، قال: لا. القضية ليست قضية حفظ قرآن.
إذاً قضية جهل، وقضية تضييع وقت، أما حفظ القرآن فهو من أكبر القضايا, ولحفظه وسائل نسأل الله أن يعيننا وإياكم على تنفيذها لنحفظ كتابه:
أولها: تقوى الله عز وجل: فإن من اتقى الله علمه وفهمه وحفظه.
ثانيها: كثرة الاستغفار: يقول ابن تيمية: إنها لتعجم عليَّ المسألة فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر فيفتحها الله عليَّ.
الثالثة: التقليل من المحفوظ: قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: يا طالب العلم! قلل وداوم, فإن التقليل والمداومة أصل عظيم، وبعض الطلبة أو الإخوة، أخبروني أن أستاذاً قال لهم قبل أربع سنوات أو خمس سنوات: احفظوا كل يوم آية فتضاحكوا في الفصل، وقالوا: نحفظ آية فقط! الآية قليل، قالوا: والله لقد مرت بنا فترة حسبنا الأيام التي مرت وما حفظنا كل يوم آية، لو حفظنا كل يوم آية لختمنا القرآن جميعاً.
يقول: أحفظ سورة الكهف في يوم، فيحفظ ويجهد نفسه في اليوم الأول ثم يأتي اليوم الثاني وقد انقطعت حباله، وتقطعت أوصاله, ونسي فريقه, وتكسرت أضلاعه، فما يستطيع أن يعود إلى المصحف مرة ثانية، لأنه مل وكل وفتر، وفر وهر، فالواجب التقليل والمداومة، هذا أصل عظيم يكتب بماء الذهب، قال: الجاحظ في كتاب الحيوان: قلل من المحفوظ وداوم، آية واحدة، آيتين, ثلاث آيات.
الأمر الثالث: إذا قرأت الآية أو الآيتين أن تكررها حتى تكون على لسانك كاسمك الذي سماك به أبوك، قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] تكرر هذه الآية إذا أردت أن تحفظها خمسين مرة، ما تكرر أربع مرات، بعض الإخوة أخبرني أنه حفظ وكان يكرر أربع مرات، يقول ابن الجوزي: ما حفظت مقطعاً إلا كررته سبعين مرة، وقال أبو إسحاق الشيرازي صاحب المهذب: كنت إذا أردت أن أحفظ أسطراً من الدرس أكرره مائة مرة, وإذا حفظت قياساً كررته ألف مرة، وعودوا إلى كتاب المجموع ترجمة أبي إسحاق أو إلى سير أعلام النبلاء.
فالتكرار أن تكرر المقطع ولو كنت حافظاً، كرره حتى تمل، ولذلك سمعت جارية سيدها يكرر مقطعاً يقول: قال أهل العلم وهي قواعد أربع، من قواعد القفال المروزي , فأخذت الجارية تقول: يا هذا! ما حفظت، أنا حفظت من أول كلمة، قال لها: بيني وبينك الأيام، وبعد شهر قال: ماذا يقول القفال، قالت: ما أدري، قال: يقول أهل العلم وهي قواعد أربع..إلخ؛ لأنه كرر كثيراً وهي اكتفت بأول مرة.
والسادس: أن تقرأه في الفرائض والنوافل:
فتقرأه إذا صليت بالناس، فإذا قرأت به في الصلاة فاعلم أنك قد حفظت وفهمت.
والأمر السادس: أن تفهم معنى الآية:
قال ابن تيمية: وفهم معنى الآية مُعينٌ على حفظها وعلى تيقنها في القلب، وهذا موجود، بعض العوام يردد الآيات: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً [الأحزاب:25] أو مثلاً قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً [الأحزاب:9] ما يدري ما هي الريح، وما هي الجنود, وما هم الأحزاب, يظن أن الأحزاب واد في الجنة، أو نهر فيها، فإذا ضيع معنى الأحزاب ما درى، لكن الذي يفهم المعنى، يعرف الأحزاب وملابسات القصة وأولها وآخرها، ولذلك سمع أعرابي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] قرأها أحد البله (إن الله عزيز حكيم) قال الأعرابي: امرأته طالق ثلاث، ما يقولها الله، قال: لماذا؟ قال الأعرابي: ما يقول الله عزيز حكيم بعد غفران الذنب؟ قال: دعني أنظر في المصحف فوجد: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] فعرف أنه صحيح، ولذلك إذا فهم طالب العلم المعنى حفظ اللفظ، ومن ذلك أنه إذا ذكر الله آيات النهار يقول: (لعلهم يبصرون) لأن البصر في النهار أقوى، وإذا ذكر الله الليل يقول: (لعلهم يسمعون) فآلة السمع في الليل أقوى، وإذا ذكر الله الحدود وتنفيذ العقوبات والجلد والفرش والضرب، ذكر (عزيز حكيم) وإذا ذكر الرحمة واللطف، ذكر (غفور رحيم).
فالمعنى يعين على ذلك (الربط والشبك) ويسمى عند الشناقطة التخييل، أن تشبك المقطع في الآخر، لا تحفظ ثلاث آيات اليوم، ثم تأتي في اليوم الثاني تفصل، لكن اشبك هذه الآية لتبقى محفوظة في ذهنك.
وقال البخاري: مما يساعد على الحفظ إدامة النظر في المصحف.
أيضاً: أن يكون لك مصحف واحد، لا تقرأ في العشاء في مصحف وفي المغرب في طبعة أخرى، فتأتي تجمع من هنا ومن هنا، تتصور الآية في اليمين, ومرة في الخلف, ومرة أمامك.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر