ولكن الناظر إلى المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يجد أن المسجد في عهده كان شعلة وهاجة تنير الأرض من حولها، وفي هذا الدرس بيان لدور المسجد في حياة المجتمع المسلم.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً.
بنى المسجد، وعلَّم الناس في المسجد، وخرَّج الأجيال من المسجد.
صلى الله وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
يا رواد المساجد! ويا جيل المساجد! ويا ضيوف المساجد!!
إن كان لي من شكر في أول هذه المحاضرة، فإني أشكر الله تبارك وتعالى على أن أجلسني في هذا المكان، ثم أشكر أهل الفضل على فضلهم، وعلى رأسهم: رئيس النادي الأدبي بـأبها: الأستاذ الأديب محمد بن عبد الله الحُمَـيِّد، ثم الأديب البارع الشيخ محمد بن إبراهيم النعمي، وأشكر كذلك صاحب الفضل وسعادة مدير أوقاف ومساجد منطقة الجنوب.
ثم إنني سعيدٌ جِدُّ سعيد بأن أتكلم عن هذا الموضوع، موضوع المساجد، وما أدراك ما المساجد؟
المساجد التي كانت من أعظم اهتماماته صلى الله عليه وسلم.
المساجد التي أثنى الله على عامريها، وبُناتِها، وروَّادها.
المساجد المَعْلَم الحضاري الكبير الذي تركه صلى الله عليه وسلم للتاريخ، ولِقُرَّاء التاريخ.
نسمع هذه الليلة حديثاً عن المساجد.
وأنا أشارك إقبال، شاعر الـباكستان، يوم يعاتب الأمة الإسلامية على أنها أهملت رسالة المسجد، وجعلته زاوية للصلاة فقط، فقد عاتب الأمة الإسلامية في مقطوعة شعرية يقول فيها:
أرى التفكير أدركه خمولٌ ولم تَبْقَ العزائم في اشتعالِ |
وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقالِ |
وعند الناس فلسفة وفكر ولكن أين تلقين الغزالي؟ |
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالِ |
وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلالِ |
يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18].
إنما يعمر مساجد الله: إما عمارة بالبناء والرفع والتعمير، أو عمارة بالذكر والصلاة والدعاء والإخبات، هكذا قال أهل العلم.
فالمنافقون والفجرة وأعداء الإسلام لا يعمرون المساجد؛ إنما يعمر المساجد الذي يريد الله ووجهه ولقاءه.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن الرجال وهو يعرِّفهم بسيماهم وصفاتهم، يقول: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [النور:36].
فسلام الله على رواد المساجد، وسلام الله على ضيوف المساجد.
والمساجد سوف أتحدث فيها عن أمور أربعة:
أولها: كيف كان المسجد منتدى، وكيف كان مجلس شورى، وكيف كان محكمة قضائية.
ثانيها: كيف جعل صلى الله عليه وسلم من المسجد ثكنة عسكرية، تنطلق منها الرايات، وتُعْقَدُ منها الألوية، وتصَنَّف منها الجيوش، وتُخَرَّج منها الكتائب.
ثالثها: المسجد روضة من رياض الجنة، عبادة وفكر واتصال بالواحد الأحد.
ورابعها: المسجد استقبال للوفود، وإرسال للاهتمامات في الأمة الإسلامية، وبناء للجيل.
ولكن أعود فأنثر ما بنيت؛ ليكون في مسائل منثورة، تُقَدَّم هكذا، بدون تنصيص أو تحديد؛ ليبقى الموضوع متكامل البنية، ولا يبقى سرداً؛ ليكون أخف على الأرواح وأطيب للنفوس.
قَدِم صلى الله عليه وسلم المدينة، فما هو مشروعه الأول؟
لقد قدم صلى الله عليه وسلم ولم يحمل دنانير ولا دراهم، ولكن حمل عقيدة ومبدأً وأصالة، فكان أول ما بدأ به صلى الله عليه وسلم أن وضع حجر الأساس لبناء المسجد الإسلامي الكبير: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108].
مسجد بناه على (لا إله إلا الله).
مسجد أسسه لتنطلق منه الكتائب مكبرة في سبيل الله.
مسجد عقده ليكون نادِياً أدبياً يُعْلَن وتُطرَح فيه القصائد الرنانة في خدمة الإسلام.
يوم يأتي صلى الله عليه وسلم إلى حسان، شاعر الإسلام، وسيف الأدب الإسلامي، ووزارة الإعلام المتنقلة لخدمة مبادئ الإسلام، فيقدم له المنبر، ويقول له: (اهجُهُم وروح القُدُس معك).
ويستقبل صلى الله عليه وسلم الوفود العربية من بني تميم، والأَزْد، وغَطَفان، وأسد، وفَزارة، فيُهَـنِّيْهِم ويُهَـنُّوْنَه، ويعانقهم ويعانقونه في المسجد.
فبدأ صلى الله عليه وسلم هناك، فأتى إلى المسجد فوضع حجر الأساس، ثم تلاه أستاذ الخلافة، ورجل الساعة، والصدِّيق الأكبر أبو بكر الصديق، فنـزع حجراً آخر ووضعه بـجانب حجره، ثم قام عمر الفاروق.
قد كنتَ أعدى أعاديها فصرتَ لها بفضل ربك حصناً من أعاديها |
فأخذ حجراً ثالثاً ووضعه بجانب حجر الصدِّيق، وكأن الثلاثة يقولون للبشرية: هذه نهاية الوثنية، وهذه بداية معالم الإنسانية، وهنا تُخْنَق الوثنية، ويُذْبَح الشرك بإذن الله.
وسُقِّف المسجد؛ لكنه ما كان راقياً في بنائه، بل كان راقياً في مضمونه وعظَمته، وكان مشرقاً في روحانيته، وكان هادٍ في مسيرته.
طينٌ وسَعَفُ نخل وشيءٌ من خشب؛ لكن:
كفاك عن كل قصر شاهق عمد بيتٌ من الطين أو كهف من العلمِ |
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيمِ |
ودخله صلى الله عليه وسلم وقال: الله أكبر، ومن يوم قال فيه: الله أكبر؛ انتهت الوثنية، ودُمِّر الإلحاد والزندقة، ودُمِّر كل مبدأ ضال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ووقف عليه الصلاة والسلام خطيباً يوم الجمعة، يذرف بالكلمات الصادقة من على المنبر؛ ليقول للناس: مسجدنا هنا
يقول في كلمته: سلوا كل سماء في السماء عنا، وسلوا كل أرض في الأرض عنا، سلوا الجزيرة وفيافيها، سلوا دجلة ورياضها وحقولها، سلوا الفرات وواديه، سلوا الشام وأنهارها، سلوا كل إنسان عنا.
ثم قال: مبادئنا تُعلَن كل يوم جمعة من على المنبر، نحن ليس عندنا أسرار ولا ألغاز، لسنا في حقائب فيها ألغام، أسرارنا وألغازنا ننثرها يوم الجمعة على الناس، ونعلن مبادئنا من على المنارة (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر) وهذه كلمة لا بد أن تُنْشَر للناس.
فمبادئنا وإعلاننا ورسمياتنا وسرائرنا تُعْلَن كل جمعة من على المنبر.
وفَعَلَ صلى الله عليه وسلم، فقد أُخِذ المسجدُ للخطابة؛ فكان يخطب يوم الجمعة، وكان من أبرع من خلق الله في الخطابة.
يقول شوقي:
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاءُ |
إي والله، لا تسمع للمسجد إلا حنيناً ودَوِيَّاً من البكاء؛ لأنه صادق، وتعاليمه صادقة كالفجر، أرأيتَ الفجر؟
أليس الفجرُ واضحاً؟
فتعاليمه صلى الله عليه وسلم كالفجر، فهو يعلنها يوم الجمعة من على المنبر عليه الصلاة والسلام.
يقول جُوْلْد زيهر، هذا المجري الخبيث: أنا لا أعجب من محمد أن يبعثه الله بعد الأربعين نبياً، فقد بعث الله قبله أنبياء وأنبياء؛ لكن أعجب أنه ما تعلم ولا درس ولا كتب ولا قرأ، ثم يقول الله له: سر في الناس واخطب في الناس، فإذا هو أفصح فصيح وأخطب خطيب!
شهد الأنام بصدقه حتى العدا والحق ما شهدت به الأعداءُ |
إيْ والله، الضاد على لسانه أجرى من الماء الزلال، يسبي القلوب بعباراته: إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:4-6].
بـِحَسَّان وجَدَ له صلى الله عليه وسلم في دعوته تخصصاً، فنحن أمة التخصص وأمة الشمول، وأمة الأصالة والعمق، لا نقول للأديب: ليس لك مجال عندنا، نحن مصلون صائمون معتكفون، أما الأدب فلا نحسنه!
لا، من يُحسن الأدب إلا نحن، نحن أمة الإيمان والحب والطموح، كما قال إقبال.
ويقول أبو الحسن الندوي: ونحن أمة الفن والحب والجمال.
لكن فننا وحبنا وجمالنا من المسجد، حيث يطلقه صلى الله عليه وسلم.
في المسجد يقول لـحسان: (اهجُهم وروح القُدُس معك) ويقرب المنبر بيديه الشريفتين صلى الله عليه وسلم، فيضع المنبر لـحسان، ويدلف حسان ويتكلم بقصائده الرنانة التي تقع كالسهام، أو كنضح السهام على وجوه المشركين.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يتأخر، فعنده الإمكانيات، وعنده القدرات، وفي المسجد عليه الصلاة والسلام دعا ابن رواحة، فقال ابن رواحة: أنا شاعر المُهْلَة، أي: لا أستطيع في البداهة أن أنْظِم قصيدة، فدعا حساناً وأتى وفد بني تميم، واجتمع الناس، وارتقى الزِّبرقان بن بدر على المنبر ليقول:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا منا الملوك وفينا تُنْصَبُ البِيَعُ |
إلى قصيدة تقارب الخمسين.
والرسول عليه الصلاة والسلام يستمع إليه والصحابة، ويريدون أن تعتلي قصيدة حسان قصيدة ذاك المشرك الذي يريد الإسلام.
وقام حسان؛ ودعا له الرسول عليه الصلاة والسلام أن يؤيَّد بروح القُدُس الذي هو جبريل، فقام في الحال، وألقى قصيدته الفذة البارعة النادرة في تاريخ الأدب، حيث قال:
إن الذوائب مِن فِهْرٍ وإخوانهم قد بينوا سنناً للناس تُتَّبَعُ |
يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا |
فلما انتهى قال بنو تميم: غلب شاعرُك شاعرَنا.
وقام خطيبهم وألقى خطبة، فقال عليه الصلاة والسلام: {أين
فقام ثابت، فألقى خطبة، فغلب خطيبهم، فأسلموا، وأعلنوا إسلامهم.
بهذا العمل يتبين أن المسجد أكبر مما يتصوره كثير من الناس، فهو يصلح أن يكون منتدىً أدبياً، تُلْقَى فيه الأمسيات، وتعقد فيه الندوات.
يتساءل الإمام الفذ العبقري البخاري: هل يُنشَد الشعر في المسجد؟
قال: [[ مرَّ
فقد أعلن أن من بنى مسجداً لله بنى له الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بيتاً في الجنة، ولو كان هذا المسجد في الدنيا، مثل مفحص قطاة، والقطاة: طائر معروف، ولذلك يقول الأول:
أسرب القطا هل من يعير جناحه لعلي إلى من قد هويت أطيرُ |
فيقول عليه الصلاة والسلام: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قَطاة، بنى له الله بيتاً في الجنة) وفي رواية: (قصراً في الجنة).. إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:18] والمشرك، والرِّعْدِيد، والفاجر، لا يعمرون المسـاجد: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ [التوبة:17] ما لهم وللمساجد، فالمساجد لا يعمرها إلا كل مخلص بالذكر والعبادة والإيمان والحب والطموح.
لماذا؟
لأن المساجد أُقيمت للتوحيد، وللتأصيل، والتوحيد نقي من الخرافة والتخلف والرجعية. والخرافيون يجمعون بين القبر والمسجد، والمسجد والقبر.
وهو في سكرات الموت يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: { لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد}.
فالمسجد ليس بقبر، بل هو حياة وإشراق، والقبر موت ومحاسبة، إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
لذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور, والجلوس عليها.
والرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالاعتناء بالمساجد:
ففي مسند الإمام أحمد -إمام أهل السنة والجماعة -: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أمر صلى الله عليه وسلم أن تُبْنَى المساجد في الدور، وأن تُنَظَّف، وأن تُطَيَّب) هذا الحديث حسن.
والدور: هي الحارات وملتقى الناس ومجامعهم.
فأمر صلى الله عليه وسلم بالمساجد أن تبنى هناك، وأن تنظف وتطيب.
وتنظيفها: إخراج ما يشوب أصالتها وعمقها وجمالها وجلالها.
وتنظيفها: إخراج كل ما يكدِّر على المصلين صلاتهم، من غيبة ونميمة وصوت وضجة، فهذه من المقاصد المعنوية للمساجد.
وتطييبها: إدخال الروائح؛ ليجتمع كل من الجلال، والجمال، والكمال، والعظمة، والحب، والإيمان، والطموح.
يقول أحد الرواة من الصحابة: {دخلتُ المسجد والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب يوم الجمعة، فلما انتهى من الصلاة قام بأبي هو وأمي على المنبر، فأخذ الراية بيده، وهي راية سوداء اسمها: (راية العُقاب) -أو (راية العِقاب) عند
من المسجد تنطلق الكتائب، ومن المسجد تَدْلُف الجيوش الإسلامية، ومن المسجد ينطلق الجندي مؤمناً مفادياً عن عقيدته ومبدئه وأصالته، وفي المسجد جعل صلى الله عليه وسلم إعلان الحروب على من أنشأها، ومن أراد تدمير الأمة.
وقف يوم الجمعة فندد بمشركين من مكة، وأعلن الحرب على أبي سفيان في الخطبة.
فالمسجد إذاً: تُدار فيه شئون المسلمين، وأمورهم الحربية والعسكرية؛ لأنه ثكنة عسكرية.
وقف صلى الله عليه وسلم في خطبة على المنبر يوم أحد، واستشارهم في الخروج أو المكوث في المدينة، فقام كبار الصحابة، وقالوا: نرى أن نبقى في مدينتنا، فنقاتل العدو داخل السـكك، وفي زقـاق المدينة. ووقف نعيم بن مالك بن ثعلبة -شاب في الثلاثين من عمره- فقال: يا رسول الله! لا تحرمني دخـول الجنة، فوالله الذي لا إله إلا هو، لأدخلـن الجـنة، فقال صلى الله عليه وسلم: بم؟
قال: بخصلتين -هذه المؤهَّلات، مؤهَّلات أهل الإيمان والحب والطموح- بأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: صدقت.
وبدأ صلى الله عليه وسلم بانطلاقه، لكن من المسجد، من المنبر، وذهب وعقد الراية، ووقعت المعركة.
يقول إقبال:
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى |
أم مَن رَمَى نار المجوس فأُطْفِئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا |
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا |
إنهم ذلك الجيل، جيل المسجد، الذين رضَعُوا أَلْبان الفهم من المسجد وفي المسجد دون غيره. فهذه قضية.
من المسجد أطْلَق صلى الله عليه وسلم صوت الجهاد:
جلس للناس بعد صلاة العصر، ودار الحديث في المسجد بينه وبين الصحابة في مسائل، وإذا برجل يأتي بناقة ومعه عصا، اسمه: عمرو بن سالم، والظاهر: أنه خزاعي -كما قال ابن هشام - فنـزل من على راحلته، وأخذ يخترق الصفوف وهو يقول:
يا رب إني ناشدٌ محمدا حِلْف أبينا وأبيه الأتلدا |
فانصر هداك الله نصراً أيدا وادعُ عباد الله يأتوا مددا |
فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل البدر يسمو مصعدا |
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا |
فهذا رجل يستنصر بالله، ثم بالرسول عليه الصلاة والسلام، فقد دخل هذا الرجل في حِلْف مع الرسـول عليه الصلاة والسلام، أنه إذا اعتُدِي عليه من قريش، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام بدولته الإسلامية يتكاتف معه، ويسحق الباطل، فاعتُدِي عليه، فأتى يناشده بالميثاق الأول، وبالحلف الذي نُصَّ عليه في مكة.
فقام عليه الصلاة والسلام وقال من على المنبر: { نصرت يا
فقد ثبت ذلك في الأحاديث، وفي الصحيحين: من حديث أنس، قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس بين أظهرنا على التراب -بنفسي محمد عليه الصلاة والسلام- وهو يجلس على التراب؛ لكنه يقود الأرواح إلى الواحد الوهاب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ويجلس على التراب؛ لكنه يسافر بالأرواح ويخرجها من وثنيتها، ومن رجسها وكفرها.
وبينما هو جالس إذْ قَدِم رجل اسمه: ضِمام بن ثعلبة، أخو بني سعد بن بكر، فقال: أين محمد؟.
يسأل عن الرسول عليه الصلاة والسلام، قالوا: هو ذاك الرجل الأبيض الأمهق المرتفق، فقدم واخترق الصفوف إليه، وقال: يا بن عبد المطلب، لماذا لا يقول: يا رسول الله؟
لأنه أعرابي من بني سعد، وبنو سعد قبيلة أعرابية من أهل الطائف، والأعراب أهل الجفاء، في الجملة، والله يقول: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور:63].
فَقَدِمَ وقال: يا بن عبد المطلب، قال: {نعم، قال: إني سائلك، فمُشَدِّدٌ عليك في المسألة، قال: سَل ما بدا لك وكان الرسول صلى الله عليه وسلم متكئاً في المسجد، قال: من رفع السماء؟ قال: الله. قال: من بسط الأرض؟ قال: الله. قال: من نصب الجبال؟ قال: الله. قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال، آللهُ أرسلك إلينا رسولاً؟ وكان متكئاً عليه الصلاة والسلام، فتربع واحمر وجهه من عِظَم السؤال، أعظم أطروحة في تاريخ الإنسان وقعت في الدنيا هذا السؤال. شرحه
والرسول عليه الصلاة والسلام جعل المسجد للفُتيا وللدروس العامة:-
فقد كان يعقد الحلقات في المسجد، صباح مساء، وهو - صلى الله عليه وسلم - يدري أن الدروس في المسجد بركة ونور، بل هي إيمان وحب وطموح.
وعلم المسجد يختلف عن أي مكان آخر، إنه أبرك وأنور وأوضح من الجامعة والكلية والمعهد، لا نقول ذلك من باب التفاضل بين المسجد وغيره، فهو أفضل بلا شك؛ ولا ننكر كذلك مسايرة العصر والتطور الحضاري الذي شهدته الدنيا، لتبقى الكليات كليات، والجامعات جامعات، ولكن لنقول للأمة المجاهدة، أمة الرسالة الخالدة، ليبقى المسجد مسجداً وجامعة وثكنة عسكرية ومجلس شورى ومحكمة قضائية ومنتدى، هذا الذي نريد أن نقوله هذه الليلة.
ففي صحيح البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم نصب خيمة لـسعد بن معاذ، ليعوده من قريب.
وسعد بن معاذ هذا: أنصاري، أَوْسِي، مكث وعاش في الإسلام سبع سنوات، هي خير من سبعة قرون.
فسعد بن معاذ هذا: تاريخه مشرق، رجل فذ، قدم عليه الصلاة والسلام المدينة فأسلم على يديه، وكان سيد قومه، أصِيب بسهم في معركة الخندق، فحُمِل إلى المسجد ليداويه عليه الصلاة والسلام في المسجد.
ولذلك يتساءل الإمام البخاري مرة ثانية: باب: هل يوضع الجريح في المسجد؟
ثم أتى بـهذا الحديث.
وسعد بن معاذ: لا يحتاج إلى تعريف -إيْ والله- بعض الأعلام إذا عُرِّفوا نُكِّروا.
يقول عمرو بن ربيعة المخزومي:
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغرْ |
قلن تعرفنَ الفتى قلنَ نعمْ قد عرفناه، وهل يخفى القمرْ؟ |
مرض رضي الله عنه وأرضاه، فلما أتته سكرات الموت، قال وهو في المسجد: [[اللهم إن كنتَ أبقيت حرباً لرسولك صلى الله عليه وسلم مع اليهود فأبقني لها، وإن كنت أنهيت الحرب مع اليهود، فخذني إليك]].
هذا هو الحب، وهذه أمة الحب، لا حب المجون والعشق والوَلَه. فنحن أمة الحب، لكن حب الله -عز وجل- وحب رسوله. فالحياة الحب، والحب الحياة؛ لكن لمن يستحق الحب، وهو الله تبارك وتعالى.
والحديث لا بد أن يستطرد ليكون أشهى وأقرب للنفوس.
وهذا عبد الله بن عمرو الأنصاري: في معركة أحد، حضر المعركة وقُتِل، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام لأهله: {ابك أو لا تبك، والله ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه} وقال: {وقد كلمه الله كفاحاً بلا ترجمان فقال: تَمَنَّ يا عبدي! قال: أن تعيدني إلى الدنيا فأُقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمنَّ، قال: أتمنى أن ترضى عني، فإني قد رضيتُ عنك، فأحل الله عليه الرضوان، وجعل روحه في حواصل طير تسرح في الجنة، تشرب من أنهارها، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، حتى يرث الله الأرض ومن عليها}.
ومات سعد في المسجد.
قالت عائشة { نظرتُ إلى الرسول عليه الصلاة والسلام من صائر الباب -أي: من شق الباب- هو و
ولذلك يقول أبو بكر لما مات سعد -كما في سير أعلام النبلاء للذهبي -: [[واكسر ظهراه عليك يا سعد! واكسر ظهراه عليك يا سعد! واكسر ظهراه عليك يا سعد]].
وبعض الناس إذا توفي ماتت بموته أمم، وبعض الناس إذا مات نقص من العدد واحد:
لعمرك ما الرزية فقد مالٍ ولا شاة تموت ولا بعيرُ |
ولكن الرزية فقد شهم يموت بموته بشر كثيرُ |
قال عليه الصلاة والسلام وهو يشهد مراسيم موت سعد بالمسجد: {لقد نزل سبعون ألف ملك لحضور جنازته}.
شُيِّعَتْ جنازتُه، وبكى عليها صلى الله عليه وسلم طويلاً طويلاً؛ لأنه من أخلص الصحابة، ومن أقربهم لخدمة المبادئ الأصيلة، ومن أحبهم إلى الله، ومضى عليه الصلاة والسلام في جنازته وقال بسند جيد: {لقد اهتز عرش الرحمن لموت
قد اهتز عرش الرحمن لموت سعد رضي الله عنه وأرضاه.
قال حسان يفتخر باهتزاز عرش الرحمن:
وما اهتز عرش الله من موت هالك سمعنا به إلا لـسعد أبي عمرو |
انظر إلى الإنسان كيف يشرف وينبل بالعقيدة والمبادئ الأصيلة، فيهتز له عرش الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ونحن أمة النظام، وإذا لم نكن نحن أمة النظام فمن تكن أمة النظام، لا غوغائية في الإسلام، ولا فوضى في الإسلام.
إن بعض المساجد حُوِّلت إلى مكاتب عقار للبيع والشراء وللمقاولات وللمؤسسات.
إن بعض المساجد أصبحت كأنها شقق يعرض فيها المشاكل والغيبة والنميمة.
وهذه مخالفة لمنهج الإسلام في المسجد.
فالمسجد وقار وسكينة، والمسجد قرب من الله عز وجل. ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن رفع الصوت في المسجد.
ويظن أعداء الإسلام أن الإسلام لا يعرف النظام.
رستم قائد يزدجرد في معركة القادسية قال: أريد أن أرى المسلمين هذا اليوم، وذلك قبل المعركة بثلاثة أيام، وكان قائد المسلمين سعد بن أبي وقاص أحد العشرة، فأشرف رستم على المسلمين فوجدهم يصلون في مُصَلَّىً، وهم ثلاثون ألفاً، يكبر سعد فيكبرون، ويرفع فيرفعون، ويقرأ فينصتون، فأخذ رستم يعض أصابعه ويقول: علم محمد الكلابَ الأدب، بل علم محمد الأسود الأدب، وأما ذاك فهو الكلب الرِّعْدِيد، الذي أزالته سيوف التوحيد بعد ثلاثة أيام. فنحن أمة النظام.
ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن التشويش في المسجد، ففي (الصحيح): أنه نهى صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء في المسجد، وقال: (من رأيتموه يبيع ويشتري في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا) أهذا سوق؟!
أهذا حراج؟!
أهذا مكتب عقار؟!
بل هذا مسجد، ومصلى، وهذا منبع للأرواح، وانطلاق للكلمة، ورفع للمسئولية.
هذا معناه الفوضى، وإدخال الفوضى في الإسلام، والإسلام بريء من الفوضى والتشويش على المصلين.
فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا، وقطع هذا.
فالجلد، والرجم، وقطع يد السارق، لا تقام في المسجد؛ لأن المسجد له مهمات أخرى غير هذه المهمات.
وصحيحٌ أن الأحكام والحدود تُعْلَن من على المنبر، ففي الصحيحين: من حديث عائشة: أن المخزومية لما سرقت أتوا يشفعون فيها، فغضب عليه الصلاة والسلام فقام في المسجد على المنبر وقال: (يا أيها الناس! إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، واَيْمُ الله! لو أن
قال الزهري: حاشا أن تسرق، ونحن نقول: حاشا أن تسرق بنت الرسول عليه الصلاة والسلام.
فأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنه نفذه خارج المسجد.
والمسجد - كما قلتُ - روضة من رياض الجنة:
يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا).
منهم: مصلٍّ خارج أوقات الصلاة.
ومنهم: قارئٌ.
ومنهم مُتَبَـتِّل.
ومنهم: عاكف.
ومنهم: مناجٍ لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراهُ |
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون لقياهُ |
في الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم مرَّ في الليل الدامس بمسجده، ومسجده كان قريباً من بيتـه - عليه الصلاة والسلام - فسمع قارئاً يقرأ في الليل، لكن صوته كان عجيباً.
فقد أوتي أبو موسى مزماراً من مزامير آل داوُد، فصوته يسرى للقلوب، والصوت الجميل من المسجد ومن بيت الله له أثر، ولذلك ينبغي على الأئمة أن يحسنوا من أصواتهم، ليبعثوا هذا القرآن غضاً طرياً يدخل إلى القلوب فسمع صلى الله عليه وسلم قراءة أبي موسى فأخذ يبكي معه ويلاحقه في الآيات، ويعيش معه عمق وأصالة القرآن وأثر القرآن.
وفي الصباح: قال: (يا
وهذا فيه دلالة على أن المسجد لا ينقطع دائماً، وأن من أراد أن يتنفل ويقرأ فليأت إلى المسجد.
أسمعتم أعلم من ابن عباس في التفسير، ما هي شهادتُه التي نالها؟
لا شيء، فلا ورق، فالأوراق تنتهي ويبقى العلم النافع، وقد نال رضي الله عنه وأرضاه شهادة تبقى أبد الآبدين، وهي دعوته عليه الصلاة والسلام، يقول له: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) وهذا حديثٌ في الصحيحين.
فـابن عباس تخرَّج من المسجد، تعلم علماً جماً، حتى إن ابن تيمية يقول: أما ابن عباس فعلمه علم جم: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
كان يَدْلِفُ بالعلم كالبحر، أرأيتَ البحرَ إذا دَلَفَ؟
أرأيت الأمواج إذا تكسر بعضها على بعض؟
فهذا مثل علم ابن عباس.
يقول مجاهد وأبو وائل، تلميذاه: [[وقف
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا |
أمَّا المعاني اللواتي قد أتيت بها أرى بـها الدر والياقوت متصلا |
فهي جامعة المسجد التي أنشأها صلى الله عليه وسلم، وابن عباس يدخل إلى هذا المسجد ليتعلم علماً نافعاً.
يقول أحد تلاميذه: [[رأيتُ ابن عباس من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، يردد آية واحدة، ويبكي حتى الصباح، وهي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:123]]].
دخل عثمان إلى المسجد ليجدد إيمانه في المسجد. قال المَرْوَزي بسند جيد، وقال ابن حجر في الفتح، في كتاب الوتر: سنده صحيح: ثبت أن عثمان دخل المسجد، فقرأ القرآن في ركعة واحدة من أوله إلى آخره، من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر.
فهؤلاء جيل محمد عليه الصلاة والسلام: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].
فمن المسجد تخرج ابن عباس، وتخرج عثمان.
من هو أقضى القضاة؟
هو علي بن أبي طالب.
ورَدَ في حديث يقبل التحسين عند الذهبي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أقضاكم
يقول الأستاذ محمد أبو زهرة: لم يوجد بعد الرسول عليه الصلاة والسلام أبلغ من علي بن أبي طالب.
علي بن أبي طالب رجل الكلمة، حتى إن ابن كثير يقول: باب في كلماته الحاصلة، التي هي إلى القلوب واصلة.
سئل علي بن أبي طالب: [[كم بين العرش والأرض؟ قال: دعوة مستجابة]].
قالوا: [[كم بين الشرق والغرب؟ قال: مسيرة الشمس يوماً]].
كلامه يصل إلى القلوب، وأنا لستُ في معرض كلامه؛ لكن ربما كانت فوائد هذا الاستطراد أعظم من التأصيل العلمي في المحاضرة.
في صحيح البخاري يقول علي: [[يا أيها الناس! إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل]].
يقول علي وهو يمسك بلحيته ويبكي: [[يا دنيا يا دنية! طلقتك ثلاثاً، عمرك قصير، وزادك حقير، وسفرك طويل، آهٍ من وحشة الزاد وبعد السفر ولقاء الموت]].
تخرج علي بن أبي طالب من المسجد، وما درس في جامعة، ولا استقل بمدرسة، وليس له شيخ إلا محمد عليه الصلاة والسلام؛ ولكن سنده إلى محمد صلى الله عليه وسلم إلى جبريل، إلى رب العالمين.
يقول أبو تمام:
سندٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا |
أيْ والله، هذا هو العلم النافع.
ومن المسجد أتى زيد بن ثابت الفَرَضِي، الذي قال عليه الصلاة والسلام: (أفرضكم
ومن عجب إهداء تمر لـخيبر وتعليم زيد بعض علم الفرائضِ |
فمن المسجد تعلم.
ومن المسجد تخرج حسان، الأديب الشاعر المُفَلق، الذي علمه صلى الله عليه وسلم كيف يهجو المشركين، ودعا له بالتأييد من الله رب العالمين، وقرب له المنبر، وقال له: (اهجهم وروح القُدُس معك).
حسانُ ظَنَّ مَرَّةً أن الإسلام يعارض الشعر لَمَّا أنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى قوله: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:224-226] فأتى هو وكعب بن مالك وابن رواحة وتباكوا عند الرسول عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:227] فاستثنى المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ويذكرون الله كثيراً، وينتصرون من الظالمين.
لا بد للمسلمين من شاعر، تنطلق ثقافته من المسجد، ولا بد لهم من قصصي، وصحفي، ومن ناثر ومن أديب، من خطيب؛ لكن ثقافته من المسجد.
فنحن أمة أهل التخصصات، ولا نعلن عجزنا في الساحة، ونقول: نحن للفتيا فقط، ونحن لمسائل الحلال والحرام، لا، مع ذلك نعلن أن في ديننا التكامل، وأننا نستطيع أن نغطي كل واجهة، ونسد كل ثغرة.
فمن المسجد أخرج صلى الله عليه وسلم الخطباء والأدباء، كـحسان وابن رواحة وكعب بن مالك، وثابت بن قيس بن شماس.
يقول كما في سنن أبي داوُد بسند جيد: (إني لا أحل المسجد لحائض، ولا جُنُب) فمساجدنا عظيمة ومقدسة، ومساجدنا قريبة من الله.
فلا يدخلها الجنب: إلا عابر سبيل، كما قال - سُبحَانَهُ وَتَعَالى - فللجنب أن يعبر من المسجد من الباب الأيمن إلى الأيسر، من أوله إلى آخره عابراً لحاجة، ومنتقلاً لغرض بدون أن يتوقف، فله ذلك: إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43] أما أن يجلس فلا؛ لأنه على جنابة, فهذه بيوت الله.
والحائض لا تدخل المسجد: (إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) وفي الصحيح من حديث عائشة قالت: (كان صلى الله عليه وسلم يخرج لي رأسه من المسجد فأُرجله وأنا حائض) وهو معتكف عليه الصلاة والسلام، فلم تدخل إليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنها حائض، ولم يخرج إليها؛ لأنه معتكف، فأخرج إليها رأسه الشريف صلى الله عليه وسلم.
الدين هو الذي يجمع الإخاء! فنحن أمة لا يجمعنا الدم، كما قال القوميون!!
وأمة لا يجمعنا اللسان، ولو أن اللسان من ضمن الروابط الطيبة؛ لكن أعظم رابطة؛ الدين.
وأمة لا تجتمع على الجنس، فليس عندنا تمييز عنصري، لا أبيض ولا أسود ولا أحمر ولا بنفسجي.
فنحن أمة ندين بالولاء لـ(لا إله إلا الله).
بلالٌ العبد الحبشي أخونا وحبيبنا، وأبو لهب السيد الأَصْيَد القرشي عدونا وبغيضنا.
يقول أبو تمام، الشاعر المُفَلق في الإخاء بين المسلمين:
إن كِيْد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالدِ |
أو يختلف ماء الوصال فمـاؤنا عذب تحدَّر من غمام واحدِ |
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالدِ |
لا فُضَّ فُوك، إي والله:
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالدِِ |
فمن المسجد نتآخى، ومن المسجد نتعارف، وفي المسجد نتعاون.
نعرف أن فلاناً تخلف؛ فنسأل عنه، إن غائباً حفظناه في أهله، وإن مريضاً عدناه، وإن كان عليه مصيبة واسيناه.
من المسجد نعرف أهل الريادة والأصالة الذين يُصَلُّون.
أصالتنا ديننا، وعمقنا أدبنا، وحسبنا تقوانا.
ولذلك يقول الحسن:
إي والله، وإذا لم تكن المساجد هي مزرعة الصالحات، فأي مكان تكون؟
مشيك إلى المسجد حسنة، ودخولك المسجد وذكرك حسنة، وتحية المسجد حسنة، ووقوفك في الصف لتعلن تضامن المسلمين حسنة، وسماعك الإمام حسنة، تسليمك على الملائكة في الميمنة والميسرة حسنة، ومصافحتك لأخيك حسنة، وسؤالك عن أخيك حسنة، وقهر الكفار، وترغيم أنوفهم برؤية اجتماع المسلمين حسنة... إلى سبع وعشرين حسنة. والذي يصلي في بيته بلا عذر، يعلن الانهزامية، والفشل.
ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] أي: في المسجد.
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [النور:36].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة:18].
وفي سنن الترمذي بسند فيه نظر: يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان). لكن هذا الحديث في سنده درَّاج أبو السمح، روايته عن أبي الهيثم ضعيفة، لكن معناه صحيح.
(إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان) فنحن شهداء الله في أرضه.
قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143].
من رأيناه يعتاد المسجد، ويحب الصلاة، ويداوم على الخمس الصلوات في المسجد، قلنا: نشهد لك أمام الله يوم العرض الأكبر أنك من المؤمنين.
ومن رأيناه يتخلف، أو يقصر، أو يتأخر علمنا أن في قلبه شبهة وشك ونفاق.
في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: [[إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن لكم سنن الهدى، وإن الصلوات الخمس من سنن الهدى، والذي نفسي بيده! لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يُهادَى به بين الصفين حتى يقام في الصف]].
أتعرف ما هي الميتة الحسنة؟
الميتة الحسنة: أن يتوفاك الله وأنت ساجد.
قال ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير -كما ذكر ذلك الذهبي عنه بسند حسن-: [[اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، قال له أبناؤه: ما هي الميتة الحسنة؟، قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد]].
فأتته سكرات الموت، وأذان المغرب يرتفع حَيَّاً على الهواء، على هواء التوحيد إلى آذان الموحدين، فقال: [[احملوني إلى المسجد قالوا: وأنت في سكرات الموت، أنت معذور قال: أسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح وأموت في بيتي؟! لا والله]] إنها القلوب، إنه الشوق، إنها حرارة الإيمان.
فحملوه على الأكتفاف، فلما وضعوه، صلى وهو جالس، فلما أصبح في السجدة الأخيرة قبض الله روحه، هذه هي الميتة الحسنة.
أبو ريحانة، التابعي الكبير، مات وهو ساجد لله رب العالمين، إماماً بالناس.
علي بن الفضيل بن عياض، ابن العلامة الكبير والزاهد النحرير الفضيل بن عياض: قرأ أبوه في سورة الصافات: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ [الصافات:24-25] فركع علي وقام ثم سجد وقبض الله روحه وهو في السجود. ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
إنها القلوب التي تأبى أن تتأخر يوم تسمع نداء حي على الصلاة، حي على الفلاح.
يقول محمد إقبال -واسمحوا لي إذا أكثرت من كلام محمد إقبال، فهو شاعر الإيمان والحب والطموح- في وصف المسلمين، يوم يسمعون (الله أكبر) في المعركة، فيتركون السيوف، ويستقبلون الحجاز -أي: الكعبة-:
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهـم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا |
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا |
يوم تأتي المعركة، ويدعو داعٍ: (الله أكبر، الله أكبر) توضع السيوف، وتبدأ الصفوف، وتأتي صلاة الفرض، فلا يعذر إلا من عذره الله عن التخلف.
أتى أعمى ذهب بصره، وقال للرسول عليه الصلاة والسلام: (الوادي بيني وبين المسجد مسيل، والليل مدلهم، والأرض مخيفة ذات سباع، فهل لي من عذر؟ فعذره، ثم عاد فقال: هل تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، قال: نعم. قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة).
وقل لـبلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنتَ حقاً مصليا |
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به تَرْقَ أبواب الجنان الثمانيا |
من المسجد نتعارف، وفي المسجد نتعارف، ومن المسجد يبدأ التعاون والتكاتف والتضامن.
لا نعرف المريض أنه مرض إلا من المسجد فنـزوره.
ولا نعرف من فارقنا، ومن سافر من ديارنا إلا من المسجد.
ولا نعرف من أصابه أمر يحزن إلا من المسجد فنواسيه.
ولا نعرف من أتت له بشارة إلا من المسجد فنعيش البشارة معه؛ لأن المؤمن يفرح لفرح أخيه، ويحزن لحزن أخيه.
ثم قضايا لا تغيب عن البال في المسجد، منها:
الاعتكاف في المسجد:
الحنابلة يقولون: لا حد لأقل الاعتكاف، ومنهم من يقول: ولو ساعة، فالدقائق المعدودة التي تجلسها: اعتكاف، فاليوم: اعتكاف، واليومان: اعتكاف، واليوم والليلة عند المحدثين: هو أقل حد للاعتكاف.
والصحيح: أنه لا حد لأقل الاعتكاف؛ فأنت في جلوسك وأنت تنتظر الصلاة، في المسجد اعتكاف.
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال الملائكة تصلي على أحدكم، مادام في مصلاه الذي صلى فيه، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فهنيئاً لرواد المساجد، وهنيئاً لضيوف الله، يوم يأتون في المساجد فيذكرون الله، ويسبحون الله، ويقرءون القرآن.
قال عمر وهو يرسل أبا موسى الأشعري، إلى الكوفة: [[يا أبا موسى! إياك أن تأتي إلى قوم في المساجد يقرءون القرآن، لهم دوي كدوي النحل بالقرآن، فتشغلهم بمسائلك]].
إذاً: فالمسجد من مهماته الاعتكاف، أن تبقى فيه كلما وجدت ساعة أو فراغاً أن تتوضأ في أي وقت وتذهب إلى المسجد لتعتكف فيه.
يقول ابن الوزير، علامة اليمن في القرن الثامن:
فساعة في مجلس واحد أفضل من ملك ملوك الملوكِ |
إيْ والله، تعفير الوجه لله، والبكاء من خشية الله، وذكر الله، وتلاوة كتاب الله، أفضل -والله- من ذهب الدنيا، وفضة الدنيا، وقصورها وجاهها.
ولذلك ذكر أهل التراجم عن شيخ الإسلام ابن تيمية الجهبذ العَلَم، ذاك الرجل الذي يُعتبر رجل ألف سنة، ليس مائة سنة، بل ألف سنة، يقول ذاك المجري الذي هاجم السنة: وضع ابن تيمية ألغاماً في الأرض، فجَّر بعضها محمد بن عبد الوهاب، وبقي بعضها لم يفَجَّر حتى الآن.
ابن تيمية يقول عنه الذهبي: كان جده قمراً، وأبوه نجماً، وابن تيمية شمساً، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة.
كان يذهب إلى المسجد، فيعفر وجهه في المسجد، ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني.
لأن هذه لا بد أن نعرفها؛ لكن لا يتخذ المسجد مقهىً ولا فندقاً ولا سكناً للنوم.
لكن يجوز للحاجة: كأن إذا أتى غريب، ولم يجد ما يمكنه من النوم خارج المسجد.
فنقول: إن من أعوزه المبيت فله أن ينام في المسجد بشرط ألا يجد مكاناً آخر.
ولذلك يتساءل البخاري في صحيحه: هل يُنام في المسجد؟
قال: نعم. ثم أتى بالحديث: قال ابن عمر: {كنتُ رجلاً أعزب أنام في المسجد}.
ولذلك يقول ابن عمر في صحيح البخاري: {تمنيت أن أرى رؤيا...}.
لأن الصحابة كـانوا يرون رؤيا فيلقونـها على رسـول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يفتيهم في الصباح، قال: {تمنيت أن أرى رؤيا، وأنا كنت أعزب أنام في المسجد، فرأيتُ في المنام كأن رجلان أتياني فأخذا بيدي، أحدهما باليمنى، والآخر باليُسرى، فذهبا بي إلى بئر مطوية، فأشرفت عليها ولها قرنان -أي: رعلتان أو خشبتان- فوجدتُ أناساً فيها يتضاغَون... -كأنـها العـذاب، وهـي النار نعوذ بالله من النار- فقال لي الملكان: لَمْ تُرَعْ، لَمْ تُرَعْ، ثم ذهبا بي، فرأيت جزيرة خضراء فأعطياني قطعة من إستبرق، لا أشير بها إلى مكان، إلا طارت بي إلى ذاك المكان، فلما أصبحتُ في الصباح أخبرتُ أختي
وهذه القضية فيها تفصيل.
أما الحديث الذي يقول: {الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب} فلا يصح عنه صلى الله عليه وسلم، وهو باطل.
والرسول عليه الصلاة والسلام ثبت أنه تكلم في المسجد في الأمور المباحة.
وفي حديث جابر بن سَمُرة، كما في الحديث الحسن، قال: {كنا نتحدث بعد صلاة الفجر في المسجد بأخبار الجاهلية، والرسول صلى الله عليه وسلم معنا، فنضحك ويتبسم}.
فلا بأس بالحديث العام في المسجد؛ لكن بشروط:
1- ألا يكون فيه ذنب كأن يكون فيه غيبة، فيحرم في المسجد، والمجلس، والشارع، وفي كل مكان، فالغيبة تحرم في كل مكان، وبالخصوص في المسجد، أو يكون نميمة أو زوراً أو تجريحاً للناس في أعراضهم، وهذا يدخل في الغيبة.
2- وكذلك يحرم الكلام إذا شوش على المصلي: فإنه يوجد من الظواهر عند بعض الناس أنه يجعل المسجد -كما أسلفتُ- بيعاً وشراءً، وخصومة، ومشاكل، وعرض معيشته، وما جرى لأطفاله وزوجته وأولاده وأخواله، وهذا غير ما بُنِيَت له المساجد، فلا بأس بالحديث المباح في المسجد للحاجة؛ كأن تسأل الرجل عن صحته، وعن ولده، وسفره، وقدومه وممتلكاته، فلا بأس بهذا، وقد فعله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولذلك أورد بعض أهل العلم أبواباً منها: الأكل والشرب في المسجد، وهو جائز كذلك؛ لكن بشرط ألا يدنس المسجد، أو لا يكون عرضاً لإهانة المسجد، أو لإدخال الأذى في المسجد.
السنة في الإسلام أن إذا دخلت المسجد أن تصلي ركعتين، ففي الحديث الذي اتفق عليه البخاري ومسلم عن أبي قتادة قال: قال عليه الصلاة والسلام: {من دخل منكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} وهذا على العموم، ولا يخصصه شيء، بل هذا إن شاء الله هو الحديث الخاص الذي يخصص عموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: {لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس} فمن دخل في أي وقت فله أن يصلي ركعتين، حتى بعد العصر، وحتى بعد الفجر؛ لأن هذه من ذوات الأسباب، وهي فتيا فقهاء المحدثين، حتى كبار علمائنا في هذه البلاد من أهل الحديث قد أفتوا بذلك.
فمن دخل ولو في وقت نهي، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، ولو كان الخطيب واقفاً على المنبر، ففي صحيح مسلم من حديث جابر قال: {قدم
إذاً: فتحية المسجد لا بد منها لمن دخل في المسجد.
وقد صح عن أنس من حديثه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما أُمِِرْتُ بتشييد المساجد}.
وقال أهل العلم: التشييد: الزخرفة التي تفتن المصلين.
فأما بناؤها وإظهار عظمة المساجد وتوسيعها ورفعها، وكمالها في البناء، فهذا مطلوب في الإسلام، وأما إدخال كثير من الشخوص والشطوب والألوان التي تبهر العين وتأخذ النظر، فإنها تشغل المصلي، وهو أمر منهي عنه، فلْيُتَنَبَّه لذلك.
وواجب المساجد علينا كمسلمين:
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {والذي نفسي بيده! لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم بالنار}.
فهذا واجبنا، وهو المحافظة على الصلاة في المسجد، لنظهر قوة وعظمة وأصالة الإسلام.
ولقد أحسنت إدارة الأوقاف يوم شجعت على إقامة الدروس والمحاضرات واللقاءات في المساجد، وهي انطلاقاً من أهدافنا الأصيلة في ديننا الإسلامي الخالد، الذي ينبني على أن يكون المسجد جامعة كبرى، وتعليماً للناس وتفقيهاً لأمور دينها؛ لأنه إذا بقي المسجد لآداء الصلاة دخل الناس عواماً وخرجوا عواماً، فلا يوجد في المسجد مُفَقِّه، ولا معلم، ولا مُوَعٍّ، ولذلك تقع الأمة في الأخطاء؛ يوم لا ينتصب طلبة العلم والدعاة في المساجد لتوعية الناس بالإسلام وإدخال الفهم في قلوب وأذهان عباد الله.
ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم عند البخاري أنه قال: {النخاعة -وفي لفظ: النخامة- في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها} فلا بصاق، ولا أمور أو مخلفات أو فضلات، ولا قصاصات أوراق؛ لأن هذا يعارض رسالة المسجد وواجب المسجد على المسلمين.
وتنظيف المسجد لا يتوقف على فئة، ولو أن المعنيين قائمون بهذا؛ لكن على كل مسلم أن يدفع مهر الحور العين؛ لأنه ورد في كثير من الآثار: أن مهر الحور العين هو إزالة القِمامة من المسجد وتنظيف المساجد.
وفي ختام هذه الكلمة: أسأل الله عز وجل أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأن يوفقنا وإياكم إلى سلوك الطريق المستقيم، وأن يهدينا وإياكم سبل السلام، وأن يوفقنا لبناء المساجد، وتعميرها، وإقامة رسالتها لنكون مخلصين قائمين بالمهمة.
ثم أعود فأشكر أهل الفضل على فضلهم، وأشكر النادي الأدبي مرة ثانية، الذي عرف أن من رسالته الدعوة إلى الله والقيام بحقوق المساجد.
ابن تيمية
: أن المصافحة بدعة، وأظن أن السائل يريد هذا. فأقول: إن المصافحة إذا أتى ليصلي ثم رأى أخاه قادماً من سفر، أو غريباً أو له فترة في غيابه؛ فله أن يصافحه، وفي الحديث: {أي: تأخذ حكم السؤال عن هذه الضالة في المسجد؟
الجواب: البحث عن من ينشد الضالة يأخذ حكم من ينشد الضالة؛ لأن المقصود: هو النهي عن التشويش في المسجد، وقد حصل بإنشاد صاحب الضالة، وقد اتفقت في العلة، هذه وهذه، فيُنهى عنه؛ لكن استثنى بعض أهل العلم إذا كان الناس يتجمعون خارج المسجد فله إذا خرج الناس من المسجد أن ينبههم على هذه الضالة، أو يبحث عن صاحب الضالة إن استطاع، أما داخل المسجد، فلا يجوز البحث عن الضالة ولا صاحب الضالة.
الجواب: يفصل أهل العلم في هذا، فيقولون: إذا خرج الداخل وانفصل انفصالاً عرفياً وطال الفصل، فعليه أن يجدد ركعتي الدخول وتحية المسجد، كأن يدخل ثم يخرج لعمل، أو يذهب إلى أمر طويل المدة، فعليه بركعتين.
أما الخروج الذي ليس فيه فصل، وليس فيه في العرف فصل، فتكفيه تحية المسجد الأولى, كأن يدخل فيصلي ركعتين ثم يخرج، ثم يدخل مباشرة فتكفيه الركعتين الأُول.
الجواب: المصلى الذي في الدائرة الحكومية -مثلاً - أو في المدرسة إذا تُعُورِف عليه أنه مصلىً لهؤلاء الشباب، ولهذه الدائرة، وأصبح هو مصلاهم في الصلاة دائماً وأبداً، فإن له حكم المسجد، لكن قال بعض أهل العلم: في الصلوات الخمس، والذي أعرفه من المصليات هنا أنها ليست للصلوات الخمس، بل للظهر أحياناً وللعصر، فإذا كان والحالة هذه فلا يأخذ حكم المسجد، مثل اجتناب الحائض والجنب، وتحية المسجد، فلا يأخذ حكم المسجد، وإنما يسمى مصلى.
فالمسجد أو المصلى الذي يأخذ حكم المسجد هو ما عرف صلاة فيه خمس مرات في اليوم والليلة، وأصبح علماً على الصلاة فيه.
الجواب: رفع الصوت بقراءة القرآن، قد ورد فيه حديث ضعيف: {لا يُشَوِّش قارئكم على مصليكم، ولا مصليكم على قارئكم} لكن هذا الحديث فيه ضعف، ويغني عنه حديثٌ: {اقرءوا ولا تختلفوا في القرآن} قال بعض أهل العلم: لا تخلتفوا برفع أصواتكم، والمعهود والمقصود من مقاصد الدين هو الخشوع في المسجد، فمن أظهر عليهم التشويش برفع صوته، فإنه يُمْنَع من ذلك، قال الإمام مالك فيما روى عنه ابن القاسم: من رفع صوته وشوش على الناس، أرى أن يُضْرَب بالنعال، ويُخْرَج من المسجد.
فهذه فتوى الإمام مالك، فحق على المسلم ألا يشوش على إخوانه في الصلاة.
لكن استثنى أهل العلم مسألة، قالوا: إذا كان في المسجد رجل يصلي، ورجل يقرأ، وبجانبه أناس لا يقرءون ويريدون الاستماع -كالعوام- فله أن يرفع صوته ليسمعوا ويستفيدوا من كلام الله عز وجل.
الجواب: التغيير على أقسام، فمن حيث أصله: هو جائز، ففي صحيح البخاري من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال في والدأبي بكر لما أتى ورأسه كالثُّغامة البيضاء، والثغامة زهر ربيعي أبيض يأتي في الصحراء، قال: {غيروا هذا، وجنبوه السواد} فكلمة جنبوه السواد: بعض العلماء يقول: إجادة مدرجة، ولكنها صحيحة. وهناك رسالة لـابن الجوزي اسمه الاقتضاب في حكم الخضاب أعلن فيه أن السواد فيه إدراج؛ ولكن صح في رسالة أخرى للشيخ العلامة مقبل الوادعي، ومقالة للعلامة الألباني ولغيرهم، أنهم صححوا هذه المقالة، وهي فُتيا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وكثير من المحدثين، أنه يجتنب السواد لصحة هذا الزيادة: {وجنبوه السواد}.
وإذا عُلِم هذا: فإنهم قالوا: السواد لذي سلطان لا بأس به، وذكروا عن الحسن والحسين بن علي في مسند أحمد أنهما كانا يسبغان بالسواد ليرهبوا الأعداء، أما غير ذي سلطان فلا يصبغ بالسواد، ولكن عليه بالوَرْس والحناء أو الكَتم، أو غيرها من الألوان، أما السواد فالذي أعرفه، وتحققت به الفتيا والمسائل والكتب أنه لا يجوز.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر