أيها المسلمون: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، في هذا الأسبوع الأخير من شهر محرم مساء يوم السبت لعام 1413هـ أحييكم بتحية الإسلام الخالدة، وعنوان هذا الدرس: "الأسد في براثنه".
إنه الرجل الذي أثبت للتاريخ أن قوة الإيمان أعظم من صولة الطغيان، وأن تكبيرات المؤمنين أدهى من مدافع الملحدين.
إنه الرجل الذي افتتح خطبته في القادسية أمام الجيش بقوله: [[بسم الله الرحمن الرحيم وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]]] إنه الرجل الذي قال لجيشه: [[اعبروا النهر بإذن الله]] فلما أرادوا أن يعبروا النهر تلكئوا، ووقفوا قال: [[يا خيل الله اركبي]] فركب النهر فجمد النهر حتى أصبح يابساً كالتراب.
إنه الذي دخل إيوان كسرى يهتف منتصراً: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ [الدخان:25-28].
إنه الرجل الذي أطفأ نار المجوس التي كانت تعبد من دون الله، وحول العراق إلى أمة تعبد الله وحده، وتقول: لا إله إلا الله وتتجه إلى الله..
فالنار خامدة الأنفاس من أسف والنور يهتف في الأسواق من طرب |
يا هازم الفرس هذا يومك انبلجت أنواره بصليل الهول والقضب |
من هو؟
إنه الرجل الذي رآه عليه الصلاة السلام بين الناس، فقال: {هذا خالي فليرني كلٌّ خاله} والمعنى: من كان عنده خال كهذا الخال فليخرجه لنا، وهو تحدٍ معناه: من كان عنده من الخئولة كهذا الرجل فليرنا خاله، هذا الرجل هو أول من رمى بسهم في سبيل الله على أعداء الله، فمن هو هذا الرجل؟
هذا الرجل هو الذي كان الرسول عليه الصلاة السلام يحمل له الأسهم في أحد ويقول حين يسلم له السهم ليرمي: {ارم
السلام على سعد بن أبي وقاص، سلام الله عليه يوم أسلم، وسلام الله عليه يوم يموت، وسلام الله عليه يوم يبعث حياً، اللهم اجمعنا بـسعد بن أبي وقاص في جنات النعيم، واجعلنا ممن يتبع نهجه.
الشق الأول: ما ورد فيه من آثار وقصص، وسوف أسردها سرداً مع بعض التعليق، وأعتني بتخريج أحاديثها إن شاء الله، وبعزوها إلى مصادرها في كتب الأحاديث والسير والتراجم.
الشق الثاني: ماذا نستفيد من القصص العجيبة لهذا الرجل، الذي هو من رجال الأمة الخالدة المجيدة، وتلميذ من تلاميذ محمد صلى الله عليه وسلم، وبطل من الأبطال، فتح العراق ودكدك فارس، وقاد المؤمنين في معركة من أعظم معارك الإسلام، قادهم في القادسية، إنها قادسية (لا إله إلا الله) وليست قادسية الرافضة والبعث؛ حاشا وكلا!!
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم |
ذهب إلى عمر وهو أمير المؤمنين فاشتكاه وقال: يا أمير المؤمنين! سلمت على عثمان فلم يرد السلام، فاستدعاه عمر، وقال: سلم عليك أخوك فما رددت عليه السلام؟ قال: والله ما رأيته ولا سمعته، قال: يا سعد! ما هذا؟ قال: والله لقد سلمت عليه ومررت به فما رد عليَّ السلام. فقال: ما هذا يا عثمان؟ قال: يا أمير المؤمنين! أنا واله، غشي بصري وقلبي أمرٌ الله أعلم به، حتى إني أذهل كثيراً فلا أعلم من يسلم علي ومن يمر بي، قال: وماذا أذهلك؟ قال: كلمة سمعتها من الرسول صلى الله عليه وسلم ما حفظتها، من قالها أدخله الله الجنة وأنجاه من النار. قال عمر: ما هذه الكلمة؟ قال سعد رضي الله عنه: أنا يا أمير المؤمنين! أعرف هذه الكلمة، قال: ما هي؟ قال: (بينما الرسول صلى الله عليه وسلم ذاهب إلى بيته وإذا أعرابي وراءه يسعى يقول: يا رسول الله! أخبرني بكلمة تدخلني الجنة وتباعدني عن النار، قال: هي دعوة أخي ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) فهذا موقف، وهو علم تلقاه عثمان من سعد رضي الله عنهم وعاد الصفاء.
وعند المسعودي في التاريخ قال: أول من رمى بسهم في سبيل الله سعد بن أبي وقاص، ولله دره كان رامياً حاذقاً، ترتيبه الأول في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في الرمي، كان صلى الله عليه وسلم يقول لـسعد: {اللهم أجب دعوته وسدد رميته} فكان إذا دعا أتت الإجابة من السماء كفلق الصبح، وكان إذا رمى لا تخطئ رميته، حتى يقول بعض الناس: إني لأظن سعداً لو رمى في المشرق يريد المغرب لأوقعها الله في المغرب، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ولكم أن تعودوا إليه: من العجائب أن سعداً رمى بسهم ثلاث مرات يقتل بكل سهم ويعود السهم إليه ويرمي به. أي: كان يأخذ سهماً فيرمي به في المشركين فيقتل رجلاً، فيأخذ المشركون السهم فيعيدونه لـسعد فيرمي به فيقتل به مرة ثانية، فيعيدون له السهم فيقتل ثالثة.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم في معمعة المعركة والسيوف تندر بالرءوس، والرماح تعبث في الأكتاف، والرسول صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه، لماذا يضحك؟ كان رجل من المشركين يرمي المسلمين ويترس على وجهه لئلا يأتيه رمي، فأخذ سعد سهماً فكشف الرجل عن جبهته فرماه سعد فوقعت الرمية في جبهته فقتله، قال صلى الله عليه وسلم: {فداك أبي وأمي}.
هو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وسوف تأتي أبياته وهو يتمدح بهذا التوفيق من الله عز وجل على أن سدد سهامه في سبيله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، بل قال أهل التاريخ: ما أخطأ سعد بسهم. أي سهم يطلقه لا يقع إلا بلحم لكافر بإذن الله.
كان عليه الصلاة والسلام يؤكد على هذا الجانب، فيقول: {يابني هاشم! لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم يوم القيامة، من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه} أين الأسر والأنساب؟ أين القبيلة التي يدعيها بعض الناس؟ لا. هي تصلح في الدنيا فلقرابة الرسول صلى الله عليه وسلم شرف ورفعة: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23].
وذكر مسلم في الصحيح والطبراني في المعجم قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ارم
يقول سعد كما عند ابن هشام في السيرة والحاكم في الإصابة وعند ابن سعد في الطبقات:
ألا هل أتى رسول الله أني حميت صحابتي بصدور نبلي |
فما يعتد رامِ من معدٍ برميٍ يا رسول الله قبلي |
أي: معد، وهي من قبائل العرب ليس فيها أرمى مني يا رسول الله! إذا وجدت في العرب من هو أرمى مني فأخبرني به، قال هذه القصيدة حين أرسله صلى الله عليه وسلم إلى رابغ وأرسل معه جيشاً، فلما وصلوا إلى هناك تبددت بهم الشمس والجوع والظمأ، فعاد الجيش إلى المدينة، قال صلى الله عليه وسلم: من أذن لكم ومن أميركم؟ قالوا: سعد بن أبي وقاص، قال: أذن لكم بالرجوع؟ قالوا: لا. قال: عودوا إليه، فعادوا إليه، فهجم عليهم جيش من جهينة فخرج سعد رضي الله عنه في الصحراء ومعه جعبة مليئة بالأسهم فأخذ يقتل جيش أولئك ثم قال:
ألا هل قد أتى رسول الله أني حميت صحابتي بصدور نبلي |
فما يعتد رامٍ من معدٍ برميٍ يا رسول الله قبلي |
وعاد رضي الله عنه.
وعند البخاري ومسلم والترمذي والحاكم، كان الرسول صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان قريباً من خيبر، وقال بعض أهل العلم: كان بـالمدينة قبل أن تنزل يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] وكان عليه الصلاة والسلام يريد حراسة؛ لأن الحاقدين عليه كثير، والذين يطمعون في دمه صلى الله عليه وسلم أكثر، قال: {ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني هذه الليلة، قالت
نصرت بالرعب شهراً قبل موقعةٍ كأن خصمك قبل القتل في حلمِ |
إذا رأوا طَفَلاً في الجو أذهلهم ظنوك بين بنود الجيش والحشم |
وإن أتوك ضيوفاً يطلبون قرى رأوك بحراً يعم البيد بالديم |
أنسيتهم حاتم الطائي ومحتده وحدثوا كلهم بالبخل عن هرم |
بلِّغ الرسالة ولا تخش أحداً، تعرض عليه الصلاة والسلام لإحدى عشرة محاولة اغتيال باءت بالفشل، والسبب: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] يصل إليه الحاقد بالسيف فيلمع بارق من السماء فيقع سيف الحاقد في الأرض، يأتي أبو جهل بصخرة، فإذا هو يخيل إليه أن بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم جملاً يريد أن يهيج عليه، فيلقي الصخرة ويفر.
يقول صلى الله عليه وسلم: {اللهم اكفني فلاناً بما شئت} فتنزل عليه صاعقة تحرقه وتحرق جمله، يأتي ابن أبي لهب فيقول: {اللهم سلط عليه كلباً من كلابك} فيأكله الأسد، قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67].
قام رجل في المسجد في الكوفة يسب علي بن أبي طالب وعلي قد مات، رجل من المهرجين الدجاجلة الذين يلغون في أعراض الصالحين
فقل للعيون الرمد للشمس أعين تراها بحق في مغيب ومطلعِ |
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأبصارها لا تستفيق ولا تعي |
قام رجل يسب علي بن أبي طالب -علي (والذي لا إله إلا هو) أننا نفتخر أن نذكره في المجالس، علي بن أبي طالب الذي هو تاج على رءوس الأمة- فقال سعد وهو في المسجد: لا تسب أخي. قال: والله لأسبنه. فقام سعد في طرف المسجد وصلى ركعتين وقال: اللهم اكفنيه بما شئت. فأرسل الله جملاً من الكوفة -أمام الناس- فأتى الجمل فاعترض الرجل عند بلاط المسجد، فضرب الرجل برجله فأسقطه على الأرض، وإذا نخاعه على البلاط ميتاً]] أليست هذه إجابة للدعوة؟ رواه أحمد وابن ماجة وأبو داود وأبو نعيم في الحلية وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء.
صعد صلى الله عليه وسلم على جبل أحد، فاهتز الجبل بإذن الواحد الأحد، وروى هذا أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم والطبراني في المعجم الكبير، فاهتز الجبل من أوله إلى آخره، قال صلى الله عليه وسلم: {اثبت أحد، فإنما عليك نبي أو صديق أو شهيد} وكان سعد بن أبي وقاص معه مع بعض الصحابة، يقول: لماذا تهتز فإن فوقك نبي أو صديق أو شهيد؟ فكان النبي هو محمد صلى الله عليه وسلم، والصديق أبو بكر والشهيد عمر وعثمان وعلي وسعد، ولذلك غالب الصحابة مات شهيداً مذبوحاً في سبيل الله، وما مات منهم حتف أنفه إلا القليل؛ لأنهم يأنفون أن يموت الواحد منهم هكذا، حرمت عليهم الميتة.
يقول سعد عند أحمد والبخاري ومسلم: {رأيت رجلين عن يمين الرسول صلى الله عليه وسلم وعن يساره يوم أحد عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد قتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد} رجلان عليهما ثياب بيض وعمائم بيض من الملائكة نزلا يقاتلان عن يمين الرسول صلى الله عليه وسلم وعن يساره، قال أهل العلم: في هذا كرامة لـسعد رضي الله عنه، فإن الذي يرى الملائكة أو تصافحه، أو تسلم عليه، أو يسمع كلام الملائكة يكون هذا دليل على صدق إيمانه، وقل لي بربك إذا لم يكن سعد بن أبي وقاص صادق الإيمان فمن من الناس يكون صادق الإيمان؟ من من البشر يرقى إلى هذه المنزلة العظيمة؟
وفي هذا درس: أن الفقراء وأهل المسكنة والحفاة العراة من البشر هم أهل النصر والتوفيق، والواجب على المسلم أن يزورهم، وأن يحبهم، وأن يأنس بهم، وأن يطلب الدعاء منهم، قال عليه الصلاة والسلام كما في السنن بسند صحيح: {ابغوني ضعفاءكم فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم} فعلى المسلم ألا يزدري كبار السن ولا الفقراء ولا المساكين ولا الذين ينامون في الصحاري، ولا الذين يلتحفون السماء، ولا الذين يجوعون ويبكون ويعرون ويضمئون، عليه أن يعتني بهم كثيراً فإن دعاءهم أرجى عند الله من دعاء الأغنياء والمترفين والمصدرين والوجهاء، فإنهم أهل الله وخاصته، وأقرب الناس إليه.
هذا درس عظيم من دروس أهل السنة قال الله عز وجل: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28] لا تطع هؤلاء الذين لا يحضرون الدروس ولا يعتنون بالكتاب والسنة، ولا يحبون رسالتك وأولياءك، ولا يستمعون لدعاتك وعلمائك، ولا تلتفت إليهم، ولا تعرهم سمعاً ولا تنصت لهم، هؤلاء أمرهم في تبار، وسعيهم في نكال، وأمرهم إلى بوار، وهؤلاء أمرهم مدبر، هؤلاء مهما فعلوا ومهما صنعوا ومهما دبجوا فهم منتهون تماماً، هذا درس من الدروس نعيشه مع الأسد في براثنه.
[[قال أبو إسحاق سعد رضي الله عنه -وهو الأسد في براثنه- نزلت فيَّ هذه الآية: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [لقمان:15]]] رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، ما هو السبب في الآية؟ كانت أم سعد مشركة، وأسلم ابنها كما يهتدي الابن وتضل أمه أو أبوه، فقالت: ما هذا الدين الذي اعتنقته؟ قال: دين الحق يأمرني بالصلاة والصدق والشكر والعفاف والطهر. فأقسمت وحلفت لا تأكل الطعام حتى يعود عن دينه، فأضربت عن الطعام -والإضراب عن الطعام قديم بقدم أم سعد - فتركها فأمست ليلة لم تتعش ولا أفطرت ولا تغدت ومرت بها ليلة أخرى حتى أصبحت ترى الواحد اثنين والثلاثة أربعة، وظنت أنها بهذا الإضراب تضغط على إنسان أصبح يحمل هموم الدنيا، وأصبح منتظَراً منه أن يفتح دولة في شمال الجزيرة العربية، ويدهده رءوس المشركين في القادسية، أي: تهدده بالإضراب عن الطعام، أو بمنع النفقة كما قالوا: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون:7] الضغط بالتشويه المتعمد الحقير، الضغط بمحاصرة الفكر والرأي، وقفت منه هذا الموقف، وجلس أمامها وهو شاب في التاسعة عشرة من عمره، وقال: [[يا أماه! والذي لا إله إلا هو لو أن لك مائة نفس -هكذا في صحيح مسلم - فخرجت واحدة بعد واحدة ما عدت عن ديني أو تموتين]] فالمسألة ليست جبر خواطر ومجاملة، أدخل في الإسلام وأعود في الشرك بعد أن طهرني الله ورفع رأسي وأكرمني، والله لو كان عندك مائة نفس، تتقافز الأنفس أمامي كالشرر أو كحباب الماء ما عدت؛ فكلي أو اتركي، فأكلت؛ لأن المسألة جد فأنزل الله وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [لقمان:15] ولكن وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15] جزى الله سعداً خير الجزاء، وهذا درس إلى الذين يعيشون العناء مع والديهم أو إخوانهم الكبار أو أسرهم أو قبائلهم، فيعيشون معاناة لأنهم اهتدوا، ويوصمون بالتزمت والتطرف والأصولية وعدم الوعي والمشاغبة، هذا درس لهم.
ليعش ديني ومعبودي لي فكلي إن شئت أو لا تأكلي |
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا |
وما ذاك إلا أن هند عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا |
الحديث رواه البخاري وأحمد ومسلم والنسائي، قال له صلى الله عليه وسلم: {اللهم اشف
وفي الزيارة تلك أو غيرها أسف سعد وقال: يا رسول الله! إني صاحب مال ولا يرثني إلا ابنة، فماذا أفعل بمالي؟ وكان في مكة بعد أن هاجر إلى المدينة، فعاد إلى مكة حاجاً أو فاتحاً فمرض، قال: { يا رسول الله! أتصدق بكل مالي؟ قال: لا. قال: فالشطر؟ قال:لا. قال: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير} قال ابن عباس: [[وددت أن الناس في الوصية خفضوا من الثلث إلى الربع؛ لأن الرسول عليه الصلاة السلام قال: الثلث كثير]] ثم قال عليه الصلاة والسلام: {إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس} لا تذهب المال، لا تنثره نثراً، لا تفرقه في الناس ويبقى أبناؤك وبناتك بعدك فقراء يقفون على بيوت الأغنياء، كن عزيزاً واجعلهم أغنياء، اجمع المال من الحلال، أما التصوف الهندوسي الذي أدخلوه علينا فلا نعترف به، هذا ليس من كيس محمد صلى الله عليه وسلم، بل جاء من مزدك، وجاء من طاغور وليس من محمد صلى الله عليه وسلم، عندنا في الإسلام اجمع المال حلالاً واترك ورثتك أغنياء شرفاء رفعاء لا يمدون أيديهم للأغنياء، هذه مسألة.
وفي الحديث: { قال
روى ابن سعد في الطبقات والحاكم في المستدرك وصححه قال سعد رضي الله عنه: حضرت أنا وعبد الله بن جحش في أحد -وهو أول من أطلق عليه اسم أمير، حيث أرسله صلى الله عليه وسلم مع الصحابة ليقاتل تجاه ساحل البحر الأحمر وقال: {والذي نفسي بيده لأرسلن معكم رجلاً صبوراً على الجوع والعطش} فأرسل عبد الله بن جحش وسماه أميراً- قال: [[حضرت أنا و
شكوه فأراد عمر أن يتبين وأرسل محمد بن مسلمة يمر في المساجد والجوامع يصلي بالمسجد وسعد بجانبه ويقول: يا أهل المسجد! إنكم شكوتم سعد بن أبي وقاص فماذا تنقمون عليه؟ فكلهم يثني عليه، فقام شيخ في المسجد من بني عبس فقال: أما إنك إن سألتنا فإن سعداً لا يمشي في السرية -يقول: يتخلف عن الجيش، ويرسل أبناءنا وهو في بيته- ولا يحكم بالسوية -أي: لا يعدل- ولا يعدل في القضية فقام سعد يدعو -تخصصه الدعاء- فقال: [[اللهم إن كان كذب وقام رياء وسمعة فأطل عمره وفقره وعرّضه للفتن]] فأطال الله عمره حتى زاد على المائة، وأطال الله فقره حتى ما وجد حفنة من شعير يأكلها، وسقط حاجباه على عينيه فكان يتعرض للبنات في سكك الكوفة ويغمزهن ويقول: شيخ مفتون أصابتني دعوة سعد. والحديث في البخاري وهذه علامة الصدق، فالكاذب كاذب يلبسه الله رداء الكذب، ويجعله مدحوراً بكذبه حتى يلقى الله، ولعذاب الآخرة أبقى وهم لا ينصرون.
عمر أصبح في حالة ذهول حتى صار مشدود الأعصاب؛ لأنه هو المسئول الأول عن هذه الأمة، فهو يخشى أن يدخل جيش فارس كم جيش فارس؟ مائة وثمانون ألفاً يريدون دخول الجزيرة العربية، ويواجههم ثلاثون ألفاً، فأتى يقول: أيها الناس! إن الفرس قد تهيئوا لدخول الجزيرة وإني أرى أن أكون قائد الجيش، يقول: أنا أخرج لهم هناك، فصوتوا بالأغلبية يريدون هذا الأمر، فخرج رضي الله عنه، ولبس لأمته وأخذ سيفه ورمحه، وخلف وراءه علي بن أبي طالب وهو الخليفة، يقول: أنا أقود الجيش بنفسي، فلحقه علي رضي الله عنه قد خرج بالضاحية، قال: يا أمير المؤمنين! لا تفعل، أنت درع المؤمنين، أنت فئة المؤمنين، أرى أن تبقى في المدينة، فإن نصر الله المسلمين كنت في مدينتك، وإن كانت الأخرى بقيت لنا، قال: صدقت، ثم قبل رأسه وقال: لا معضلة إلا أبو الحسن لها، يقول: أنت رجل المعضلات، أشيروا علي أيها الناس من هو القائد؟ فدخلوا في خيامهم يفكرون ويتأملون ويتدبرون، فأتى عبد الرحمن بن عوف يولول من خيمته -وهو زهري من قبيلة سعد - وقال: يا أمير المؤمنين! وجدته (الأسد في براثنه) قال: من؟ قال: سعد بن أبي وقاص، قال: صدقت، فأتى عمر فخلع درعه، وأعطى سعداً رمحه وسيفه ومال به عن الطريق ووقفا يتباكيان، هذا يبكي وذاك يبكي، كذا يقول أهل التاريخ، قال: [[لا يغرنك قول الناس: إنك خال الرسول صلى الله عليه وسلم]] ثم أوصاه بوصايا طويلة مجيدة تجدونها في البداية والنهاية وفي التاريخ.
ولما وصل سعد إلى القادسية أصابه مرض، بعد أن قاد المعركة أياماً؛ لكن في الأيام الأخيرة أصابته قروح وجروح في بطنه رضي الله عنه، فكانت توضع له الوسائد، وكان يشرف من على حصن ويدير المعركة، فقال أحد الشعراء:
ألم تر أن الله أنزل نصره وسعد بباب القادسية معصم |
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ونسوة سعد ليس فيهن أيم |
يقول: ألم تر أن الله أنزل علينا النصر ونحن نقاتل، وسعد في رأس الحصن ما قاتل معنا، وأن الله أيتم أطفالنا، أما أطفال سعد ما يتموا، فقام سعد وقال: [[اللهم كف عني لسانه ويده، فأرسل الله على هذا الشاعر سهماً فوقع في لسانه فقطعه، ثم ضرب برمح فقطعت يمينه]] رواه الطبراني وأهل التواريخ وهو في مجمع الزوائد في الجزء التاسع صفحة (154) لأن سعداً صادق مع الله، لكنه مريض معذور.
[[قام علي في الكوفة حين اختلف الحكمان فقال: كنت نهيتكم عن هذه الفتنة، فقام رجل آدم (أي أسمر) فقال: والله ما نهيتنا، ولكنك لما أدخلتنا في الفتنة برأت نفسك وألحقتنا ذنبك وأنت الذي أوصلنا إليها، قال: مه! ويحك قاتلك الله، مالك ولهذا الكلام؟! والله لقد كانت الجماعة فكنتَ خاملاً، وكانت الفتنة فنجمت فيها نجوم قرن الماعز ثم قال: إلى الله أشكو عجري وبجري -العجر والبجر هي سرائر النفس ودخائلها وأسرارها- إلى الله أشكو عجري وبجري، لله منزل نزله عبد الله بن عمر وسعد بن مالك يعني: سعد بن أبي وقاص إن كان إثم فإنه لقليل، وإن كان أجر فإنه لكبير]] روى هذا الطبراني كما في مجمع الزوائد. والسبب أن سعداً اعتزل الفتنة رضي الله عنه؛ فلم يكن مع علي ولا مع معاوية، وذهب إلى الصحراء ولو أن الحق عند أهل السنة مع علي [[وكان ابن عمر يندم ويقول: يا ليتني قاتلت مع علي فهو أولى بالإمامة والحق كان معه]] رضي الله عنهما جميعاً.
[[دخل سعد على معاوية يسلم عليه وقد تولى معاوية الخلافة، فلم يسلم عليه بالإمرة، فقال معاوية: والله لو شئت لقلت غيرها، قال: كأنك معجب بما حصلت عليه من إمرة، والله ما أريد أنني فيما أنت فيه، وأنني قدمت محجماً من دم]] يقول: هناك دماء وتبعات، روى هذا الذهبي في السير.
قال مصعب بن سعد: لما توفي أبي كان رأسه في حجري وهو يقضي، فبكيت فقال: [[يا بني! لا تبك علي، فوالذي نفسي بيده إني من أهل الجنة]] رواه ابن سعد في الطبقات، قال الذهبي: صدق والله! فهنيئاً له. وفي رواية أخرى: [[لا تبك علي فوالله لا يعذبني الله أبداً]] وهو حديث صحيح إلى سعد رضي الله عنه، وفيه حسن الثقة بالله والرجاء وتصديق موعود الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام بشر أن سعداً في الجنة وهذا مما تلقته الأمة بالقبول.
قال الزهري رحمه الله: [[لما احتضر سعد دعا بجبة عنده فقال: كفنوني بها، فإني لقيت المشركين فيها في يوم بدر]] رواه الحاكم والطبراني في المعجم الكبير، وفيه أن العبد يدفن في ثياب الطاعة كالثياب التي يصلي فيها والتي جاهد فيها، أو الثياب التي طلب فيها العلم، أو حج واعتمر فيها، وسوف يأتي تفصيل ذلك وكلام أهل العلم بإذن الله.
أما الخفي فهو الذي لا يحب الشهرة ولا الظهور ولا يطلبها مقصداً، وقد تكون عارضة أو تكون لازمة، لأن أشهر الناس محمد صلى الله عليه وسلم لكنه ما أراده وما طلبه، وكذلك أبو بكر عمر وعثمان وعلي، ولكنهم ما طلبوها ولا أرادوها فحصلت لهم، فلا يكون من مقصد العبد الشهرة والظهور، بل يكون خفياً، فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يحب الأخفياء من عباده الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعلم بهم، فيكونون في خفاء وفي سكينة وفي وقار، ومعاملتهم مع الله عز وجل.
أما التقي: فهو الذي يؤدي الواجبات ويجتنب المحرمات، والتقي هو الذي يجعل بينه وبين عذاب الله وقاية.
نصب المنصب أوهى جلدي وعنائي من مداراة السفل |
أنا لا أرغب تقبيل يـدٍ قطعها أحسن من تلك القبل |
إن جزتني عن صنيعي كنت في رقها أو لا فيكفيني الخجل |
أو كما يقول شيخ الإسلام: إلا إذا تعين عليه ذلك وأنه لا يكون أصلح منه. بل نص شيخ الإسلام على: أن القاضي يجب عليه أن يطلب القضاء، إذا علم من نفسه القوة والثقة ولم يوجد في المسلمين من يقوم بالقضاء إلا هو، كما قال يوسف عليه السلام: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55] والإنسان إذا تعين عليه منصب ورأى من نفسه القدرة فإن عليه وجوباً أن يطلب ذلك ويقصد بذلك ما عند الله، أما أن يطلبه للدنيا وللشهرة وللمنصب وليتأكل به فهذا محرم، يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: {يا
لكن إذا كان العبد له تأثير ووثق من نفسه، وكان عنده علم ونفع، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في السنن: {الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم}.
هذا هو صحابي من صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام عشنا معه في هذه الليلة، وإنما المقصد من مثل هذه المواعظ والدروس وهذا الطرح: أن نكون على قرب من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لنرى أي جيل كان ذاك الجيل، ولنرى كيف كانوا وكم رفعهم الله عز وجل، وكم أعطاهم الله عز وجل من الإيمان والعمل الصالح؛ علنا أن نقتدي بهم، وأن نحبهم فإن المرء يحشر مع من أحب.
أسأل الله عز وجل أن يجمعنا بهذا الرجل المبارك المرضي عنه في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
الجواب: أطلب منهم ومن نفسي الدعوة إلى الله بما تيسر، في المساجد بعد صلاة الجماعات، وفي المنتزهات، وفي مجامع الناس، الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، كل يبلغ ولو آية، وألا يأتي أحد الإخوة من بعيد فيعد نفسه ضيفاً، وأنه لا يستطيع أن يتكلم، أو أنه غريب عن المنطقة، لا. الرب واحد والمنهج واحد، وكل ينتظر كلمة الحق من أي أحد.
الجواب: نعم. أنا نسيت أن أنبه تنبيهاً وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتى سعداً بـمكة لم يكن لـسعد إلا ابنة واحدة، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: {لعله أن يطول بك عمر} فرزقه الله أبناء كثيرين وبنات كثيرات منهم: مصعب وعامر وعمر بن سعد بن أبي وقاص وإسحاق وعائشة بنت سعد وغيرهم؛ فليتنبه لهذا.
الجواب: نعم. له عمير حضر بدراً وكان شاباًًً قصيراً صغيراً ألبسه سعد بن أبي وقاص سيفاً فكان السيف يخط في الأرض، وقيل: إنه استشهد في المعركة.
الجواب: ما سألت عنها إلا لأنك تعلم أنها محرمة، ولا ينقص الأمة مسألة الفتيا، فهي تعرف فتيا الأحكام، بل ينقص الناس الإيمان، فإنهم إذا آمنوا بالله سمعوا الفتيا. والفتيا عند هؤلاء تلقٍ نظري، وكثير منهم يعلم أن الدخان حرام ويشربه، وأن الشيشة محرمة ويتناولها، وغيرها من المسائل، فنصيحتي لك: أن تتقي الله وأن تجتنب هذه؛ فإنها من الخبائث، والله سبحانه وتعالى أحل الطيبات وحرم الخبائث.
الجواب: بعض أهل العلم جمع بينهما فقال: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] حتى تبلغ رسالته، ففي الكلام تقديم وتأخير ومحذوف، والله يعصمك من الناس حتى تبلغ رسالته، فلما بلغ رسالته ووقف في عرفة وأنزل الله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً [المائدة:3] مات. فبلغت الرسالة والحمد لله، هذا من الجمع.
وبعضهم يقول: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] أي: من القتل، فلا تقتل ولا تغتال؛ أما السم فأمر آخر.
أسأل الله سبحانه لي ولكم التوفيق والهداية، والرشد والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر