على أن هذه المواقف التي تجلت فيها عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تنقص من قدر أصحابه الذين وقع النقد عليهم كأسامة وأبي ذر وأبي محذورة بل جلت هذه المواقف فيهم شخصية الفرد المسلم المطيع البناء.
أمَّا بَعْد: -
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته..
كان عنوان الدرس الماضي: (أخطاء شائعة يقع فيها كثير من الناس) وعنوان هذا الدرس: (من أخبار السلف) وأخبار السلف الصالح شائقة رائقة، هي منجم بكر، وبستان يدخله العابدون، وحديقة يرتادها الموحدون، وسوف أعرض من أخبارهم لمسائل مع حبيبنا وقدوتنا ورائدنا وقائدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
وعناصر هذا الموضوع كما يلي:-
- الرسول صلى الله عليه وسلم، يرسل عمر لجمع الصدقات.
- الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـأسامة: (كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة) وقصة ذلك.
- الصحابة يبحثون عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد فقدوه من المسجد.
- استقبال حافل لوفد عبد القيس، وحوار مع الرسول عليه الصلاة والسلام.
- أبو هريرة يكلم الشيطان مباشرة.
- حوار بين أبي بكر وعمر في قتال المتمردين.
- الرسول صلى الله عليه وسلم يعاتب أبا ذر، وقضايا في ذلك.
- أبي بن كعب في موقفين عظيمين يشهدان له عند الله تبارك وتعالى.
- أبو محذورة المؤذن في يوم ميلاده.
أيها المسلمون: ننتقل بكم إلى محمد عليه الصلاة والسلام، إلى طيبة الطيبة، إلى المدينة، سلفنا الصالح، والقدوة المثلى، والجيل الذي لا يتكرر في التاريخ أبداً، إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.. لماذا؟
الأمر الأول: لنعيش القدوة التي طمس عليها لما كثرت الفتن والمغريات والشهوات، والحرب الشعواء التي سلطها الغرب على أجيالنا، وفصلوا بين كثير من أجيالنا وبين السلف الصالح.
ولذلك لا يذكر في المجالس أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا أُبي ولا حسان ولا خالد إلا قليلاً، لماذا؟
لأن الوقت -إلا عند من رحم ربك- صرف إلى المسلسلات والأغنيات، والمجلات والندوات، والشهوات، فكان لزاماً على من تكلم أن يعيد الجيل إلى أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثاني: أننا بذكرهم في هذا المجلس نعيش معهم، وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.. أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع |
ملكنا بأقطاب السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع |
الأمر الثالث: نفهم من سيرتهم كيف عاش هذا الإسلام الخالد؟ وكيف تعاملوا معه؟ وكيف كانت مجالسهم؟ ولذلك أسأل الله أن تتصل هذه السلسلة وأن تتعمق، وأن تترسخ، وأن تتكرر كثيراً مع دروس مقبلة بحول الباري.
أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم -والحديث عند البخاري - عمر يجمع الصدقات، وهو في تلك الفترة وبعد تلك الفترة تلميذ لمحمد عليه الصلاة والسلام.
قال عباس محمود العقاد في كلمة استحسنها، ولو أنا نلومه كثيراً على بعض التقريرات، لما قيل له ما الفرق بين أبي بكر وبين عمر؟ قال: الفرق بين أبي بكر وعمر أن أبا بكر عرف محمداً النبي، أما عمر فعرف النبي محمداً، وهذا صحيح، ومعنى ذلك: أن أبا بكر عرف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو محمد بلا نبوة قبل الإسلام، وقبل الرسالة في الجاهلية، صاحبه كالعينين، وأما عمر فعرف النبي محمداً بعد النبوة.. هذا الفرق.
أرسل عليه الصلاة والسلام عمر وقال له: اذهب اجمع الصدقات -والصدقات هي الزكاة، يجمعها من المسلمين- فأخذ عمر رضي الله عنه وأرضاه جهازه، وامتثل الأمر، وطاف على المسلمين ليجمع الصدقات من أصحاب القصور والدور ليوزعها للفقراء وللمساكين وللمحتاجين.
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الدِّيم |
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم |
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم |
فإذا سمعوا محمداً صلى الله عليه وسلم دفعوا الصدقة؛ لأن عمر مهما أوتي من قوة، لا يملك القلوب كما يملكها صلى الله عليه وسلم، حتى يقول فيه أحد الشعراء:
محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال |
حتى العذارى في الخدر أحببنه صلى الله عليه وسلم، أرسل جليبيب إلى بيت من بيوت الأنصار، وجليبيب فقير مسكين هزيل ضعيف محتاج لا نسب له، ولا جاه ولا مال، نسبه التقوى، وجاهه اليقين، وماله التوكل على الله، قال: اذهب إلى آل فلان يزوجونك ابنتهم، فطرق عليهم الباب، قال الأنصاري: من؟ قال: جليبيب، قال: ما تريد؟ قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجونني بنتكم. قال الرجل: جليبيب لا نسب ولا أهل ولا مال ولا جاه، فأخبر زوجته -التي تملك حق الفيتو- فقالت: لا أهل ولا نسب، ولا مال، ولا جاه فسمعت الحوار العذراء المؤمنة المصلية، فقالت: أرسل محمد صلى الله عليه وسلم وتردون خبره، بل أتزوجه طاعة لله ولرسوله، وفي ليلة الزفاف نادى منادي الجهاد: يا خيل الله اركبي! فتركها وخرج استجابة لأمر الله ورسوله، فقتل في تلك المعركة، فكانت الأموال تأتيها من حيث لا تدري.
رجع عمر بالأموال، وقال: {يارسول! دفع الناس جميعاً إلا ثلاثة، قال: من هم؟ قال: عمك
وفي الموقف هذا لطافة من العباس فإنه لم يقل: دفعت صدقتي لكم أو أقرضتكم، فإن المنة لله ولرسوله، وفيه موقف حازم لـعمر؛ فإنه لم يقل: مادام أنه عم الإمام الأعظم صلى الله عليه وسلم فلا نذكره في القائمة، لا، بل قال: عمك ما دفع الصدقة، انظر إلى الصرامة، حتى في تلك المواقف، لأن بعض الناس إذا رأى قريباً لصاحب الجاه، قال: لا نسقطه، قرابة ومحاباة ومجاملة، لكنّهُ موقف حازم.
وفيه موقف ثالث: اعتذار الرسول عليه الصلاة والسلام حيث قال: أتشكو عليّ عمي؟ ثم بيان الحق: هي عليّ ومثلها.
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذله |
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتقِ الله سائله |
خالد إذا حضر المعركة، دعا مائة فارس وأعطاهم مائة سيف، ومائة رمح، ومائة فرس، فهي لله، ولذلك لا يرثها أبناء خالد.
خالد مات ولم يملك إلا ثوبه، خاض مائة معركة، ومات وما في جسمه موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، فماذا فعلنا أنا وأنت للإسلام مع خالد؟ خالد قدم دموعه ودمه ووقته.
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها |
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها |
وما أتى بلدة إلا سمعت بها الله أكبر تدوي في نواحيها |
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها |
خالد يوم اعتزل الجيش وهو كبير السن، أخذ مصحفاً يقرأ من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، ويبكي، ويقول: [[شغلني الجهاد عن القرآن]] ونحن نقول: يا أبا سليمان! إن كنت أنت شغلك الجهاد فنحن عندنا شباب شغلهم البلوت عن القرآن، والمجلة الخليعة والأغنية الماجنة عن القرآن، يا أبا سليمان! لقد شغلك الجهاد عن القرآن، إن جهادك أعظم من قراءة القرآن؛ لأنك رفعت لا إله إلا الله بجهادك. أتته سكرات الموت فقال: [[لقد خضت مائة معركة وهأنا أموت على الفراش كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء]] يقول: اليوم يفرح الجبناء أني مت.
يقول ابن كثير: قاتل خالد يوم مؤتة فكسَّر تسعة أسياف في يده وما ثبتت إلا صفيحة يمانية، تكسرت السيوف، يأخذ السيف فيضرب به، فيتكسر، وتشع شظاياه على رءوس الناس، وكان جسيماً بديناً كالحصن.
ولما تولى أبو بكر الخلافة أراد عمر أن يصدر أول مرسوماً بعزل خالد، فقام أبو بكر غاضباً على المنبر، وقال: والله لا أغمد سيفاً سله الله على المشركين، لقد سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {
عذره الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: {إنكم تظلمون
يا عقاد! يا أستاذ محمود! أتجعله في صف نابليون؟! نابليون مجرم فرنسي سحق العالم، نابليون قتل الأطفال، نابليون قتل النساء، وخالد أتى لرفع لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ونقول لـعباس محمود العقاد وأمثاله: ظلمتم خالداً؛ لأن الرسول قال: {إنكم تظلمون
قال الله في ابن جميل وأمثاله: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ [التوبة:75-77].
لا عذر لـابن جميل، أما العباس وخالد فهما معذوران.. هذه وقفات.
أرسل صلى الله عليه وسلم جيشاً وقائده أسامة بن زيد، وعُمره آنذاك قيل: من الثالثة عشرة إلى الخامسة عشرة، أرسله إلى الحرقات من جهينة على البحر الأحمر.
انظر إلى القائد! أتدرون من في قيادة أسامة؟ ومن هم الجيش؟
عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعليّ بن أبي طالب، والزبير بن العوام وأمثالهم، والقائد أسامة، عبد مولى، وكلنا عبيد لله، ثلاث عشرة سنة، وبعضهم اليوم عمره ثلاثة عشرة ولا يعرف شيئاً، سبهلل...
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل |
مثل أحد الحمقى عمره أربع عشرة سنة، أرسله أبوه، وقال: خذ بهذا الريال فولاً، وخذ بهذا الريال خبزاً، فذهب في الطريق فأصابه حيص بيص، فعاد إلى أبيه وقال: يا أبتاه! شككت في أمري وأردت أن أتيقن منك، هذا الريال للفول أم هذا؟ فتح الله عليه! ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4] لأن من يتربَّى على جمع الطوابع والمراسلة، يأتي بعقلية مثل هذه العقلية.
أما أسامة فتربى على كلمة (لا إله إلا الله) وعلى الصلوات الخمس، وقيام الليل، وتدبر القرآن، ذهب أسامة وقاد الجيوش، فوصل إلى هناك، فخرجت جهينة تقاتل الصحابة، وكان فيهم رجل لا يقصد إلى مسلم إلا قتله، يذبح في المسلمين ذبحاً، فانطلق عليه أسامة فهرب الرجل واختفى وراء الشجرة، فلما أدركه ورفع السيف ليقتله، قال الرجل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فكان لسان حال أسامة: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:91-92] فضربه فقتله.
لمن ترفع هذه القضية؟ قضية شائكة، إنسان يقاتلك ثم تذهب إليه وتطارده، فيقول: لا إله إلا الله، فتقتله.. رفعت إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام.. أتى الصحابة فأخبروا الرسول عليه الصلاة والسلام، فتغير وجهه، واحمر، ورعد أمره عليه الصلاة والسلام، فأشرف أسامة، فقال صلى الله عليه وسلم قبل أن يُسَلِّم أسامة: (يا
(لا إله إلا الله) من أجلها أقيمت الأرض، وهي مفتاح الجنة، حنانيك يا أسامة! غفر الله ذنبك يا أسامة! عطف الله عليك القلوب، وقد فعل.
أما الرسول فتوقف وما أفتاه، إنما قال: ماذا تصنع بلا إله إلا الله؟ يعني: احتكم أنت وإياها يوم العرض الأكبر.
وفيه دليل على أن (لا إله إلا الله محمد رسول الله) مفتاح الجنة، وعلى أنها تنقذ العبد من القتل في الدنيا، إذا لم يترك الصلاة، وعلى أنها من أحسن الكلمات، وعلى أنها عظيمة، دُمِّرت الأرض من أجل لا إله إلا الله خمس مرات.
حتى بلغت مكاناً لا يطار له على جناح ولا يسعى على قدم |
لما خطرت به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم |
قال أبو هريرة: (بحثنا عن الرسول عليه الصلاة والسلام فلم نجده) كان الصحابة الكرام يجلسون معه، فبحثوا عنه فلم يجدوه، فانطلقوا يبحثون، قالوا: يا أباهريرة! أنت عليك بمزرعة فلان، وعمر هنا، وأبو بكر هناك، وكلٌ في مكان.
أبو هريرة وفق في البحث، وهو الذي وجد المصطفى عليه الصلاة والسلام في مزرعة رجل من الأنصار، أتى إلى الباب، فسأل! قالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم داخل المزرعة. تخيل أنت في نفسك أنك تذهب إلى مزرعة، وتفاجأ بمحمد عليه الصلاة والسلام، ليس زعيماً بل سيد الزعماء، وليس عالماً بل سيد العلماء، فدخل فقال أبو هريرة وهو رجل دعوب خفيف الدم، دوسي زهراني، من أهل الجبال، وكانت هناك ساقية للماء وتسمى قائداً وتسمى قيداً، وسمه ما شئت أنت، لكن هي مدخل الماء، قال : ( فتحفزت وجمعت ثيابي ثم دخلت]] وفي بعض الروايات: (كما يتحفز الثعلب) فدخل فإذا الرسول صلى الله عليه وسلم أمامه يقول: (من أين أتيت يا
راوية الإسلام يقول له صلى الله عليه وسلم أبا هر! كان له هرة يلعب بها، فسماه أهله أبا هريرة، فدخل فقال: (يا رسول الله! فقدناك فأتينا نلتمسك، قال: يا
(ثم تحفز والحذاء معه فخرج، وفي الطريق لقيه قال أبو هريرة: فأخذ عمر يديه فضربني في صدري فخررت على قفاي، أي: على مؤخرته، وفي لفظ عند مسلم قال: فضربني على صدري فخررت على قفاي أبكي، وقال: عد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، إني أخشى أن يتكل الناس، فتحفَّز أبو هريرة بالحذاء ودخل على الرسول عليه الصلاة والسلام...
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا |
فعاد أبو هريرة يبكي عند الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: (مالك؟ قال: ضربني
ولذلك يأخذ المركز الثالث والخمسين في عظماء العالم على رأي الأمريكان، لكننا نقول: يا خسيسوس، بل هو من الأوئل على مستوى العالم، وفي الموقف أمور:
أولاً: مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوب الصحابة.
ثانياً: حرص أبي هريرة على الحديث.
ثالثاً: موقف عمر القوي.
رابعاً: أن للصادق ما ليس لغيره، وقد تعرض لها ابن تيمية، لكن يسمح للصادق ما لا يسمح لغيره.
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع |
ولذلك يقول ابن تيمية: موسى لما أخذ الألواح فيها كلام الله، والله كتبها بيده، وأتى إلى بني إسرائيل غضب على أخيه، وألقى الألواح كما في سورة الأعراف، وجرجر أخاه وهو نبي مثله، ومع ذلك سامحه الله، بينما المنافق لا يسمح له ولو بنقطة، لأنه مسيء.
ولذلك إذا علمت الطالب مجداً مثابراً متوقد الذكاء وأخطأ مرة، فقل: عفا الله عنك، أما طالب إن حضر الفصل فهو نائم مثل كيس الفحم، وإن غاب فشارد، لا واجب معه، ولا مذاكرة، ولا التزام، هذا إذا أمكنت لك الفرصة فاقصم ظهره، والحساب على الله.
وفد عبد القيس هؤلاء من الأحساء من البحرين، أتوا إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام، وكانت الوفود إذا أتت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تشعر في أذهانها أنها سوف تتكلم مع رسول الله ونبي الله، وصفوة الله من خلقه، فتهيئ ثمانية، والعجيب أنهم اختلفوا في عددهم، قالوا: أربعة عشر، أو ثمانية، أو أربعون، أورد ذلك ابن حجر.
لبسوا وتهيئوا ومشوا من الأحساء حتى وصلوا إلى المدينة، نزلوا حول المدينة، فقال لهم أشج عبد القيس: انتظروا والبسوا وتطيبوا واغتسلوا ثم ادخلوا على الرسول عليه الصلاة والسلام. قالوا: لا، ندخل عليه الآن، فأتى بقية الوفد، ومكث أشج عبد القيس وحده، أما الوفد فدخلوا بغبار وشعثاء السفر، وأما أشج عبد القيس فخرج إلى نخل هناك فاغتسل، ثم لبس ثيابه، وتعمم، وتطيب، ثم أخذ عصاه بيده -ذكي متأنٍ متأمل- ثم أتى ودخل المسجد والرسول عليه الصلاة والسلام جالس مع الناس، والوفد قد سبقوه، فأخذ يلمحه صلى الله عليه وسلم خطوة خطوة، فتقدم الأشج فجلس، فالتفت إليهم صلى الله عليه وسلم وقال: (من الوفد؟) الوفود كثيرة، والمدينة أصبحت في حالة استنفار للوفود، فهو عام الوفود، وفد يستقبل ووفد يودع ووفد يأتي، ووفد يذهب، قال: (من الوفد؟ قالوا: نحن من قبائل ربيعة) وفي ذلك دروس:-
أولاً: أن يسأل الضيف من هو، يأتيك ضيف يمكث عندك ثلاثة أيام لاتعرف اسمه، تقول له فقط: يا أخي! يا فلان! لا. بل تسأله.
ثانياً: محادثة الضيف، فإنه أُنس له، وتطييب لقلبه، ولذلك إذا انقبض الإنسان عند ضيفه مات الضيف، وانكسرت عواطفه.
ثالثا: أن يُخبر الإنسان عن نسبه، فإذا قيل له: من فلان؟ قال: مؤمن من المؤمنين، نحن ندري، لكن من أي قبيلة؟ قالوا: من ربيعة، قال: (مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامَى).
ثم التفت إلى الأشج وقال: ( إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) وتبين فيه صلى الله عليه وسلم أنه أتى بهدوء لابساً متجملاً، ثم جلس، ثم سأل سؤال العاقل.. قال: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة، قال: يارسول الله! هل جبلني الله عليهما أم خُلق تخلقت بهما؟ قال: بل جبلك الله عليهما، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلق يحبه الله ورسوله).
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن تقيموا الصلاة، وتؤدوا خمس ما غنمتم، وأنهاكم عن الدُباء والنقير) وفي لفظ: (النقير والمزفت) ثم قال: (احفظوها وأخبروا بها من وراءكم) قال: أحدهم من كبارهم: ما أدراك ما النُقَيِر؟ وفي لفظ النَقِير الذي يُنقر من جذع الشجرة ويوضع فيه التمر والشعير فيصبح خمراً، والمزفت: الجرار الخضر، تطلى بالقطران، ويوضع فيها الشعير والتمر ثم تصبح خمراً، قالوا: (وما أدراك بها يا رسول الله؟! قال: بل تنقرون جذوع النخل أو جذوع الشجر، وتضعون فيه التمر والماء، ثم يشرب أحدكم، فربما عدا على ابن أخيه بالسيف فضربه، قال: وفينا رجل عدا عليه ابن أخيه بالسيف فضربه في رأسه، فأخذ هذا الرجل يخفي الضربة في رأسه بالعمامة) هذا وفد عبد القيس واستقبالهم في المدينة وكانوا من أحسن الوفود.
وعلى موجز الوفود أذكر بعض الوفود:
وفد بني حنيفة، وهم جماعة مسيلمة، وقد انقسموا إلى قسمين: قسم جلس مع مسيلمة ولم يأت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما إن شركم الذي جلس) يعني مسيلمة، فأتى إليه صلى الله عليه وسلم، فقال: (والذي نفسي بيده لو سألتني بهذا السوط لما أعطيتك، ولئن خرجت ليفضحنك الله، أو لينتقمن الله منك) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ووفد الجنوب، ورد في رواية ضعيفة، لكن نقويه، لأنه جنوبيٌ، هم وفدوا سبعة أو ثمانية بخمسة عشر خصلة، فكانوا من أحسن الوفود، والقصة طويلة.
ووفد غامد، أتوا بعياب، أهل تجارة، فأنزلوا عيبتهم فسرقها رجل، فسألهم صلى الله عليه وسلم لما أتوا: (من تركتم عند عيبتكم؟ قالوا: تركنا فلاناً، قال: أما إنها سرقت عليكم) أخبره الذي يعلم السر وأخفى، فعادوا فوجدوها سرقت، فرجعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فشهدوا أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بحثوا فوجدوها حيث دلهم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، والوفود كثيرة، لكن على كل حال هذا وفد عبد القيس من أحسن الوفود.
أولها: أن المسلم لا يأنف من الفائدة، والحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنَّى وجدها، يأخذها من كافر أو روسي، أو شيوعي، إذا كانت مفيدة، لأن الشيطان علَّم أبا هريرة آية الكرسي، فما قال: لا آخذها لأنها من الشيطان.
ثانيها: أن الشيطان يتمثل بما يمثله الله فيه.
ثالثها: في القصة فضل آية الكرسي، وأنها تقال عند النوم، وأن من قالها لا يقربه شيطان بإذن الله، هذا في قصة أبي هريرة وهو يكلم الشيطان، وقد سبق في درس ماض: (حوار ساخن بين الشيطان وأبي هريرة).
رابعها: كان أبو هريرة رضي الله عنه يتولى كثيراً من المهمات، وكان فيه دعابة، كان يأتي إلى أطفال المدينة، كما ذكر صاحب: (دفاع عن أبي هريرة) وهم يلعبون في الليل، فينطرح بينهم، فإذا اقتربوا منه تحرك فخافوا، تولى الإمرة فأخذ حزمة من حطب فنزل السوق ليتواضع، وقال: [[افتحوا للأمير طريقاً]].
كان يقدم لضيفه مرقة من مرق البر، وليس مرق لحم، ثم يقول: اترك اللحم لي، وليس هناك لحم، ولذلك دعابته حببته إلى القلوب، وما نفرت عنه الأنفس، رضي الله عنه وأرضاه، ومع ذلك فهو من أحفظ الناس على مر التاريخ.
المرتدون بالإجماع يقتلون، أما مانع الزكاة فاختلف الصحابة، وقف أبو بكر على المنبر، فحلف وأقسم ليقاتلن مانع الزكاة، فقام عمر في المسجد، وقال: يا أبا بكر! كيف تقاتل الناس وقد سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم) كيف يكون؟
الآن حوار في صلاة الجمعة، وقيل: بعد الصلاة بين الشيخين العظيمين الجليلين، الصديق والفاروق في مناظرة والناس ساكتون، وفي الناس علماء، وشهداء، وصادقون وبررة، ولكن سكتوا لأن هذه المسألة مدلهمة ومعضلة، أبو بكر يقول: نقاتلهم، وعمر يحتج عليه بالحديث ويقول: لا تقاتلهم، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وقد منعوا الزكاة، والرسول صلى الله عليه وسلم ما ذكر الزكاة، لكن سوف يأتي الخبر، فرفع أبو بكر صوته وقال: [[والله الذي لا إله إلا هو لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والذي نفسي بيده، لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه بالسيف]] فأجمع الصحابة مع أبي بكر، قال عمر: [[فلما رأيت الله شرح صدر أبي بكر لقتالهم سكتُّ]] أبو بكر مسدد، أبو بكر رجل يلهمه الله، أبو بكر أفضل من جميع الجالسين في المسجد، هو في كفة وهم في كفة، قال ابن حجر: لماذا لم يستدل أبو بكر على عمر بحديث في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) أليس هذا صريحاً في إثبات كلامه؟ وهو دليل في الصحيحين، لكن أبو بكر ترك هذا وذهب إلى القياس.
ولماذا عمر لم يتذكر هذا الحديث، لا أبو بكر تذكره ولا عمر تذكره، وإنما أتى هذا الحديث في الصحيحين؟
والجواب: نسي أبو بكر الحديث ونسي عمر، ولا يلزم من المجتهد أن يحفظ كل دليل في المسألة.
والجواب الثاني: قالوا: ما نسيا، لكن ما سمعا بالحديث أصلاً وهو من رواية ابن عمر، فلم يسمع به أبو بكر ولا عمر، وإنما سمع به ابن عمر، فالسؤال الثاني: لماذا لم يتكلم ابن عمر وهو حاضر في المسجد؟ لماذا ما فض هذا النزاع والجدال؟
الجواب: قيل: ربما كان يتذكر لكنه استحى، تلاطم بحران في المسجد وابن عمر شاب، أبو بكر صدِّيق الإسلام، وعمر فاروق الإسلام، وهل يتدخل بينهم ومشايخ الصحابة سكوت؟ هذا جواب.
وقيل: ربما نسي، ثم رواه فيما بعد.. الله أعلم، إنما وقعت هذه المسألة، وكان الحق مع أبي بكر، وهو مصداق لهذا الحديث، فقاتل المتمردين.. وفي الحديث مسائل:
أولها: جلالة أبي بكر الصديق.
الأمر الثاني: المجتهد قد يخفى عليه بعض الأمور ولا يلزم العالم أن يحفظ كل جزئية.
الأمر الثالث: الحكم شورى، ومن كان بين الناس وعنده كلمة فليتحدث بها، يقولعمر على المنبر: [[يا أيها الناس! أرأيتم لو رأيتموني -وهو خليفة- ملت عن الطريق هكذا، فما أنتم صانعون]] فاستحيا الصحابة، ماذا يقولون؟
عمر يقول: أرأيتم لو ملت عن الطريق هكذا، اعوججت، أو أخربت في السياسة، أو في الطريق ماذا تصنعون؟
فقام أعرابي عند السارية، فسل سيفة أمام الناس، وقال: [[يا أمير المؤمنين! والذي لا إله إلا هو لو رأيناك ملت عن الطريق هكذا لقلنا بالسيوف هكذا، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في رعيتي من لو ملت عن الطريق هكذا لقال بالسيف هكذا]].
وصح في السير أن سلمان كان جالساً مع المسلمين وعمر يخطب، فقال: عمر بعد أن حمد الله وأثنى عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى: [[يا أيها الناس: اسمعوا وعوا. قال سلمان، وقد قام: والله لا نسمع ولا نعي]] مع من يتكلم؟ يتكلم مع عمر، كان عمر يقول في أول الخطبة وهو يبكي: اللهم إني بخيل فسخني لأوليائك، اللهم إني قوي فاعطف بي على أوليائك، ولو كان من أهل الدنيا أو من أهل الباطل لقصم عمر ظهره، لكن في حق [[قال سلمان: والله لا نسمع ولا نعي، قال عمر: لِمَ يا سلمان؟]] سلمان الفارسي (
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم |
[[لِمَ يا سلمان؟ لِمَ لاتسمع لي؟ ألست خليفة؟ قال: تكتسي ثوبين وتكسونا من ثوب ثوب.. وقفعمر على المنبر وعليه ثوبان، أتت الثياب من اليمن فأعطى كل مسلم ثوباً، قال عمر: لا يجيبك إلا ابني عبد الله، فقام عبد الله بن عمر وقال: إن أبي رجل طويل -طويل الجسم- وإنه أعطاني ثوباً مع المسلمين وأخذ ثوباً فأعطيته ثوبي إلى ثوبه، قال سلمان: الآن قل نسمع وَأْمُر نطع]] فاندفع عمر يتحدث.. هذا أمر المسائلة والمناقشة التي على رءوس الأشهاد.
1/ وفيه: أن القياس يؤخذ به إذا خفي النص، وقد أخذ به أبو بكر.
2/ وفيه: أن الله شرح صدر أبي بكر لقتال المرتدين.
3/ وفيه: أن من ترك الزكاة أو منعها قوتل.
4/ وفيه: أن من ترك بعض الفرائض وجحدها كفر، فليعلم هذا.
فاستفاقت على أذان جديد ملء آذانها أذان بلال |
بلال الصوت الحبيب إلى القلوب.. بلال الذي سُحب على الرمل، وهو يقول: أحد أحد.
وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أما سمعت أبا ذر ما يقول فيّ؟ يقول فيّ: كيت وكيت! فتغيظ عليه الصلاة والسلام، وأتى أبو ذر فسمع بالخبر، فاندفع مسرعاً إلى المسجد، فقال: يا رسول الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فغضب عليه الصلاة والسلام حتى قيل: ما ندري هل رد أم لا؟ وقال: (يا
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم |
ذهب فطرح رأسه في طريق بلال، وأقبل بلال العبد، ماكانت تقيم الجاهليةُ له قيمةً، التمييز العنصري الذي سحقه الإسلام، بلال سيدنا، يقول عمر: [[
رفع الله منزلتك يا أبا ذر! إلى هذا الحد تأديب الإسلام. وحياة القرآن! وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63].
أتى بلال فأخذ يبكي من هذا الموقف! من الذي يستطيع أن يقف هذا الموقف ولا ينصدع قلبه؟! إن بعضنا يسيئ إلى البعض عشرات المرات، ولا يقول: عفواً يا أخي أو سامحني.
إن بعضنا يجرح بعضاً جرحاً عظيماً في عقيدته ومبادئه وأغلى شيء في حياته، ولا يقول: سامحني.. إن البعض قد يتعدى بيده على زميله وأخيه ولا يقول: عفواً يا أخي.
لكنه قال: والله لا أرفع خدي حتى تطأه بقدمك، فبكى بلال واقترب فقبل خده.. ذاك الخد ما يصلح للقدم يصلح للقُبلة، ذاك الخد أكرم عند الله من أن يوضع عليه القدم، ثم قاما وتعانقا وتباكيا.
إذا اقتتلت يوماً وفاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها |
هذه حياتهم يوم تعاملوا مع الإسلام: (أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية) ليس عندنا معامل ألوان، ولا أبيض ولا أحمر ولا أسود، أو من آل فلان، أو من آل فلان، عندنا تقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
ولذلك إذا رأيت الإنسان يتمدح بآبائه وأجداده وهو صفر، فاعرف أنه لا قيمة له عند الله.
إذا فخرت بآباء لهم شرف نعم صدقت ولكن بئس ما ولدوا |
طرق طارق على عمر، فقال: [[من الطارق؟ قال: أنا الكريم بن الكريم بن الكريم.. أتدرون من هو هذا الرجل؟ إنه عيينة بن حصن بن بدر]] وقد صدق، فإن بني بدر أسرة من أكبر الأسر في العرب، حتى حاتم الطائي على كرمه يمدحهم، ويقول: هم أكرم مني، تخاصم حاتم وامرأته فقال:
إن كنت كارهة معيشتنا هاتي فحلي في بني بدر |
الضاربون بكل معترك والطاعنون وخيلهم تجري |
فأسرة بني بدر من أعظم الأسر، فأتى هذا لكنه ارتد وعاد إلى الإسلام فحسن إسلامه.
قال عمر: [[بل أنت الأخس بن الأخس بن الأخس، الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -ودخل الرجل وليته سكت- فلما جلس قال: هيه يا عمر! ماتحكم فينا بالعدل، ولا تعطينا الجزل، فقفز عمر إلى الدرة، يريد أن يؤدبه، وأن يضربه ضرباً مبرحاً، حتى ما يدري أين القبلة، فقام الحر بن قيس وهو فتى من جماعة عيينة يحفظ القرآن، وقال: يا أمير المؤمنين! إن الله يقول: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] وهذا جاهل فاتركه، وكان عمر وقافاً عند حدود الله، فقال: والله ما تعداها ولا تجاوزها، فأسقط العصا وجلس]] وهكذا كان تعاملهم مع القرآن.
وفيها دروس:-
الاعتذار من الأخ إذا أسأت إليه.. الهدية، والبسمة الحانية، والمعانقة، وألا تحمل ضغينة على أخيك، نحن وإياكم نشجب كل هذا العداء والمريرة بين الأحبة، والتفلت على أوامر الله، والضغينة من أجل أمور نسبية يختلف فيها الناس، وقد تختلف فيها وجهات النظر.. ألا إن من يفعل ذلك أو يحمل على أخيه المسلم فقد أساء وظلم.
قال عليه الصلاة والسلام: (إي والذي نفسي بيده، يا
قال الذهبي في السير: أكسبته الحمى شرارة، لذلك ما كان يوقف عمر إذا تكلم إلا أبي، كل الصحابة يحجمون إلا أبي.
ولذلك يسأل أهل الحديث بطرافة يقولون: من هو شيخ الرسول عليه الصلاة والسلام في القراءة في بعض السور؟!
قالوا: أبي بن كعب. حياك الله يا أبي! ورفع الله منزلتك، وأكرمك الله يا سيد القراء.
الرسول صلى الله عليه وسلم تجاوز آية في الصلاة، فما رد عليه الناس، فلما سلم قال أحد الصحابة: يا رسول الله! إنك تجاوزت آية في الصلاة، أنسيتها أم نسخت؟ فترك صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً، وقال: {يا
علم خالص، ليهنك الذكاء والفطنة في كتاب الله، هو سيد القراء، ونحبه كثيراً، يقول أحد أهل العراق: وفدت المدينة، فإذا عمر جالس في مجمع من الناس من الصحابة وحوله شيخ أبيض اللحية والرأس والثياب والجسم، وكان عمر إذا تكلم نظر إليه وهابه، فقلت يا أمير المؤمنين! من هذا الرجل؟
قال: ثكلتك أمك أما عرفته؟! هذا سيد المسلمين أبي بن كعب. رفع الله منزلته، وجمعنا به في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أما ورب الكعبة المعمورة والنغمات من أبي محذورة |
وما تلا محمد من سورة لأفعلن فعلة مشكورة |
ما أحسن الأبيات! كان أبو محذورة من أحسن الناس صوتاً، خرج من مكة والرسول صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة يريد الغزو، وأبو محذورة عنده غنم وهو شاب مشرك، ومعه صبية من المشركين، وأطفال من كفار قريش، فنزل صلى الله عليه وسلم في واد ونزل أبو محذورة وزملاؤه، في واد ثان، فأتت صلاة الظهر فقام بلال يؤذن لصلاة الظهر، فقام أبو محذورة يستهزئ بأذان بلال وراء الجبل، يؤذن بلال ويقول: الله أكبر، فيقول أبو محذورة: الله أكبر، وهو مشرك يؤذن في الغنم، بلال يؤذن في المسلمين وذاك يؤذن في غنمه، ما اهتدى للإسلام.
والرسول صلى الله عليه وسلم عنده اثنان للطوارئ دائماً، وللأمور المستعجلة، علي والزبير، دائماً على فرسين، السيف يقطر دماً في خدمة لا إله إلا الله.. قال: (يا
ولذلك أكثر من ست قضايا وعلي والزبير ينتدبان لها، فذهبوا فوقفوا أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: (من أذَّن منكم آنفاً؟ فخجلوا، فأذنوا بالدور، فأذن الأول وإذا صوته ليس الصوت الجميل ذاك، وأذن الثاني والثالث فإذا هو
وأصل قصة أبي محذورة عند أحمد وغيره من أهل العلم.
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا |
وما ذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا |
عليك السلام يا رسول الله! ورضي الله عنك يا أبا محذورة! عاد مؤذناً، وهي وظيفة شرعية بقيت في ذريته إلى ما يقارب ثلاثمائة سنة.
ولذلك من أبنائه رجل أظنه حفيده، وقد ذكرها أهل العلم كـالتونسي لما ترجم للإمام مالك؛ أذن في مكة فسمع رجلاً ينشد في البيت حوله -وهو على المأذنة- بيتاً لـمجنون ليلى يوم يقول:
صغيران نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم |
فأراد أن يقول: حي على الفلاح، فقال: حي على البهم.
أبو محذورة في حياته دروس:
أولاً: الهداية من الله.
الأمر الثاني: جمال الصوت.
الأمر الثالث: بركة الرسول عليه الصلاة والسلام وبركة تلك الكف.
الأمر الرابع: يُتبرك بآثاره عليه الصلاة والسلام، وليس ذلك لأحد غيره.
هذه حفظكم الله محاضرة بعنوان: (من أخبار السلف) عشناها مع ذاكم الجيل، ونسأل الله أن يعيننا على المواصلة في مثل هذه الأخبار، لنواصل الاستنباط من تلكم الأخبار.
الجواب: يجوز ذلك، هذا آخر ما يقال، إن شاء الله ما تسمعوا مرة ثانية غيره، جواز الجمعيات التعاونية التي سمعتم نصها في هذا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر