ثم ذكر ثمانية مقاصد من قراءة القرآن الكريم.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الفضلاء:
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
عنوان هذا الدرس: (قل أعوذ برب الناس) وهو الدرس الأول في التفسير، والخطة المتبعة في تفسير القرآن الكريم: أن يُبْدأ بقصار السور، وفي هذا الدرس نبدأ بـقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] ثم السور التي تليها صعوداً، في زحف مقدس مع كتاب الله عز وجل.
والمقصود من هذا التفسير: أن يقرب كلام الله عز وجل للناس.
وأسلك في ذلك مستعيناً بالله الأسلوب السهل اليسير المبسط، محتفظاً بكلام أهل السنة والجماعة، حريصاً على معتقد السلف الصالح، رابطاً القرآن بالواقع، والواقع بالقرآن، سائلاً الله أن يعينني وإياكم على أن نهتدي بنور القرآن.
وقبل أن أبدأ في الدرس بـقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] أحب أن أتحفكم، وأتحف من يسمع هذا الدرس بقصيدة بديعة قالها كثير عزة أمام أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه. وأنتم تعرفون عمر بن عبد العزيز، ولا يجهله مسلم، والكل يعرف من هو الخليفة الراشد الزاهد العابد، الذي كان مجدداً في القرن الأول.
والحقيقة: أن الشاعر أبدع، وأنه قال الحق، وأنه أصاب سواء السبيل، لما تلفظ بكلمات يشيد بهذا الإمام - رحمه الله رحمة واسعة -.
يقول كثير عزة يمدح عمر بن عبد العزيز ويثني عليه:
تكلمتَ بالحق المبين وإنما تُبَيَّنُ آياتُ الهدى بالتكلُّمِ |
وأظهرت نور الحق فاشتد نوره على كل لبس فارق الحق مظلمِ |
وعاقبت فيما قد تقدمتَ قبله وأعرضتَ عما كان قبل التقدمِ |
ويخاطب الخليفة ويقول:
وليت فلم تَشْتُم علياً ولم تُخِفْ برياً ولم تقبل إشارة مجرمِ |
لأن النواصب من بني أمية كانوا يشتمون علياً على المنابر ويسبونه، فلما تولى عمر أبطل ذلك، وأعاض مكان ذلك: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل:90].
وصَدَّقتَ بالفعل المقال مع الذي أتيتَ فأمسى راضياً كل مسلمِ |
ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه من الأَوَد الباقي ثِقاف المقوِّمِ |
وقد لَبِسَتْ لبس الهَلوك ثيابها تراءى لك الدنيا بكف ومعصمِ |
وتومض أحياناً بعين مريضة وتَبْسُم عن مثل الجُمَان المُنَظَّمِ |
وتومض، أي: الدنيا.
فأعرضتَ عنها مشمئزاً كأنها سَقَتْكَ مَدُوفاً من سَمَام وعلقمِ |
وقد كنتَ من أجبالها في مُمَنَّعٍ ومن بحرها في مزبد الموج مفعمِ |
وما زلتَ تواقاً إلى كل غايةٍ بلغتَ بها أعلى البناء المقدَّمِ |
فلما أتاك المُلْكُ عفواً ولم يكن لطالب دنيا بعده من تَكَلُّمِ |
تركتَ الذي يفنى وإن كان مُونقاً وآثرتَ ما يبقى برأيٍ مصَمِّمِ |
وأضررت بالفاني وشمرت للذي أمامك في يوم من الشر مظلمِ |
سما لك همٌّ في الفؤاد مؤرِّقٌ بلغت به أعلى المعالي بسُلَّمِ |
فما بين شرق الأرض والغرب كلها منادٍ ينادي من فصيح وأعجمِ |
يقول أمير المؤمنين ظلمتَني بأخذٍ لدينار ولا أخذِ درهمِِ |
ولا بسطِ كفٍ لامرئ غير مجرمٍ ولا السفك منه ظالماً ملء مِحْجَمِ |
ولو يستطيع المسلمون لقسموا لك الشطر من أعمارهم غير نُدَّمِ |
فأَرْبِحْ بها من صفقةِ لمبايِعٍ! وأَعْظِمْ بها أَعْظِمْ بها ثم أَعْظِمِ! |
ولعله إن شاء الله يكون في مقدمة كل درس رائعة من الشعر العربي الفصيح، أو بديعة ينفع الله بها؛ ولكن نأتي إلى أحسن الكلام، وأروع الألفاظ، وجوهر المقول، وهو كلام رب العالمين، الذي يقول فيه: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
والذي يقول: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88].
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:1-6]
هذا درس هذه الليلة، هذا كلام الله عز وجل، هذا الكلام المبين الذي أنزله على رسوله عليه الصلاة والسلام.
فمن يستطيع أن ينظم مثل هذا الكلام، أو أن يقول كهذه العبارات، أو أن يصوغ كهذه الجمل؟!
روى الإمام مسلم في الصحيح عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقد أنزل الله عليَّ آيات لَمْ يُرَ مثلهن: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]) وقرأ السورتين عليه الصلاة والسلام.
وكان عليه الصلاة والسلام يعيذ الحسن بتعاويذ، فلما أنزل الله المُعَوَّذَتَين: (الناس) و(الفلق) قرأهما عليه الصلاة والسلام واكتفى بهما.
ويكفي من أراد أن يستعيذ بالله أن يستعيذ بسورة (الناس) وبـ (الفلق).
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه سورة هي آخر سورة في المصحف، فمن أولها إلى آخرها سينات مشتبكة، كأنها حركة الشيطان وهو يوسوس في صدر ابن آدم، أو كأنها حركة الموسوسين الذين يوسوسون من الإنس في آذان الناس.
وسوف تسمعون كلام أهل العلم من العصريين، وسوف تسمعون إن شاء الله بعض الأفكار المطروحة، وبعض كلام أهل الأدب في هذه السورة.
قُلْ [الناس:1]: قل أيها الضعيف: أعوذ.
أَعُوْذُ [الناس:1]: ومعنى أعوذ: ألتجئ وأعتصم وأستجير؛ لكن بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
قال ابن كثير: ومن كلام المتنبي:
يا من ألوذ به فيما أؤمله وأستعيذ به مما أحاذرهُ |
لا يجبر الناسُ عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابرهُ |
يمدح مخلوقاً والله هو المستحق لذلك.
قال ابن كثير: وربما دعا ابن تيمية بمضمون هذين البيتين في سجوده. وذكر ذلك ابن القيم.
فالذي يُستعاذ به هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو الذي يُلتجأ إليه في الضائقات.
ومن خصائص وحدانيته وألوهيته: أنه يجيب المضطر إذا دعاه، فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62].
الأولى: رب.
الثانية: ملِك.
الثالثة: إله.
بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]: فأما (رب): فهو توحيد الربوبية الذي أقر به الناس جميعاً، وإن أنكره بعضهم في الظاهر؛ فإن فرعون أنكر الربوبية في الظاهر، فهو يقول لقومه: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] بينما بَكَّتَه موسى عليه الصلاة والسلام وكذَّبه وعنَّفه، وقال: يا عدو الله: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء:102].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: لم ينكر أحد من الناس الصانع -أي: الخالق الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- إلا فرعون، فقد أنكره في الظاهر وأقر به في الباطن. وإلاَّ فالخليقة كلها كافرها ومؤمنها، ضالها ومهتديها؛ يشهدون ويقرون أن هناك رباً، ولكن ما خالف بعض أهل الكفر وأهل الزيغ والإلحاد إلا في مسألة الإله، فخالفوا في توحيد الألوهية، فأتى الرسل عليهم الصلاة والسلام يدعون إلى توحيد الألوهية، الذي ذكره الله في هذه السورة: (رب - ملِك - إله).
والعبد في كل يوم لا بد أن يلتجئ إلى هذا الرب والملِك والإله.
فالرب: الذي يربي عباده بالنعم، وهو المربوب، وهو المصرف المدبر الخالق الرازق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65].
والملك: هو الذي يستحق الملك.
قال القرطبي: وإنما ذكر الله عز وجل الربوبية لجميع الخلق لأمرين:
الأول: لأن الناس معَظمون، فأعْلَمَ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه لا معَظَّم إلا هو تبارك وتعالى.
الثاني: لأنه أمر بالاستعاذة من شرهم، فأعْلَمَ بذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه هو وحده الذي يُعِيذ، ولا يعيذ غيره.
وهذا في مسألة (رب).
مَلِكِ النَّاسِ [الناس:2]: وأما (ملِك): فإنه انفرد بالملك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولو أن في الناس ملوكاً، ولكن المُلك حقيقة له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولذلك أثنى على نفسه فقال: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26].
والله عز وجل سمى نفسه يوم القيامة: ملكاً؛ لأنه: {يقبض السماوات بيمينه، والأرضين بشماله} هكذا في لفظ مسلم.
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا اللفظ، هل يطلق عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالشمال؟ فأقره سماحة الشيخ، وقال: يقره أهل السنة، وأما حديث: {كلتا يدي الله يمين} فهو من باب التكريم والتبريك، وإلاَّ فـأهل السنة يقرون لفظ الشمال، كما في صحيح مسلم.
فإذا قبض الله السماوات والأرض نادى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]؟ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]؟ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]؟ فلا يجيبه ملَك مقرب، ولا نبي مرسل، فيجيب نفسه بنفسه ويقول: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]. فهو ملِك الناس.
إِلَهِ النَّاسِ [الناس:3] وأما (إله): فهو المستحق للألوهية والعبودية سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وقد أُرسل الرسل بذلك، وخاتمهم رسولنا عليه الصلاة والسلام فقد أتى بهذا التوحيد، وهو الذي أنكره المشركون، وكان عليه الصلاة والسلام يقول لهم: { قولوا: (لا إله إلا الله) تفلحوا} وكل نبي قال لقومه: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59].
فالمشركون عبدوا مع الله غيره، وسألوا ودعوا مع الله غيره, فضلوا ضلالاً مبيناً.
وعند أبي داود في السنن: أن حصين بن عبيد الخزاعي وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام فقال له عليه الصلاة والسلام: {يا
وعند أحمد في المسند وأبي داود أيضاً: عن أبي جري الهجيمي، قال: {وفدتُ على الرسول عليه الصلاة والسلام فقلت: يا رسول الله! إِلامَ تدعو؟ قال: أدعو إلى أن يُعبَد اللهُ لا إله إلا هو، ثم قال: الذي إذا أصابتك سنة فدعوتَه كشفها عنك -أي: قحط وجدب- والذي إذا ضلت ناقتك في الصحراء فدعوتَه ردَّها عليك} فانظر كيف خاطب هذا الأعرابي بمنطوقه ومفهومه، فإنه يفهم القطر في الصحراء، ويفهم الضالة إذا ضلت، فخاطبه بشيئين عليه الصلاة والسلام.
فالله عز وجل هو الذي يستحق الألوهية، وإنما يَضِلُّ العبدُ يوم يدعو إلهاً غير الله عز وجل.
وقد وقع الناس في كثير من الشركيات، كشرك المحبة، والرجاء، والخوف، وهذه ليست بظاهرة، بل أجزِمُ جزماً أكيداً أنه حتى من يحمل الشهادات العالية، وربما الشهادات الشرعية منها، يقع في شيء من هذا الشركيات.
وقلتُ أكثر من مرة، وقال غيري ممن هو أفضل: إن كثيراً من الناس لا يعبدون النجم أو الحجر أو الشجر. لكن منهم من يشرك شرك الخوف.
وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن من نواقض (لا إله إلا الله): شرك الخوف، وهو الذي يقع فيه الناس، ومعناه: أنك تخاف من البشر أكثر من خوفك من رب البشر.
وتعتقد أنت في نفسك، ولو أنك تصلي وتصوم وتعبد أن من الناس من يمكن أن يقدم أجلك ساعة، أو ينهي حياتك، أو يقطع رزقك أو يضايقك، دون أن يقدِّر الله ذلك، أو يستطيع أن يضرك دون أن يكتب الله ذلك. وهذا شرك منك في لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً [آل عمران:145].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ [آل عمران:175].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [الزمر:36].
وصح عنه عليه الصلاة والسلام عند الترمذي وأحمد أنه قال: {واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشي لم ينفعوك إلا بشي قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجفت الصحف}.
فهل اعتقدنا هذا؟ وهل عشناه؟ وهل خلَّصنا أنفسنا من هذه الشركيات؛ شرك الخوف، والرجاء، والمحبة؛ أن ترجو غير الله أكثر مما ترجو الله، أو تحب غير الله أكثر من حبك الله؟
فمن هو الوسواس؟
من هو الذي يوسوس؟
ومن هو الذي أغوى أجيال الأمة؟
ومن هو الذي أضل الألوف المؤلفة؟
ومن هو الذي جعل الشاب يتنكر لمبدئه، ويتنكر لمسجده ومصحفه؟
ومن هو الذي جعل طواغيت الأرض يحكمون بغير ما أنزل الله؟
ومن هو الذي جعل الظَّلَمة يستبدون بدماء الناس وأموالهم وأعراضهم؟
ومن هو الذي جعل المرأة تخرج سافرة... كاشفة... تكفر بالحجاب؟
من هو الذي جعل الأقلام المأجورة تكتب كفراً، وزندقة وحداثة، ورجساً؟
من هو الذي جعل الأديب يرتقي المنبر؛ ليكفر بالدين ويسب الرسول عليه الصلاة والسلام؟
من هو الذي جعل التاجر يخون في تجارته، ويتعامل بالربا، ويكذب، ويغش، ويخادع؟
من هو الذي جعل الشيخ في السبعين من عمره يختم عمره بشهادة الزور؟
من هو الذي جعل المغني يحمل العود، والطبلة، والكمنجة، والناي، ويُعرض عن القرآن، والدرس، والهداية، والمحاضرة؟
إنه الشيطان!!
فالذي أتى بـاليهودية العالمية: الشيطان.
الذي أتى بـالنصرانية المحرفة: الشيطان.
الذي أتى بـالشيوعية الكاذبة: الشيطان.
الذي أتى بـالعلمانية الخاسرة: الشيطان.
إذاً: فالشيطان وراء هذه الأحزاب، والأحلاف، والأنظمة، والاتجاهات، والكفريات في الأرض كلها.
إنها مدرسة الشيطان، والله هو الذي خلقه، فسأل ربه أن يُنْظِرَه، فأنظره الله، ليعيش الصراع العالمي: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [البقرة:251] ليكون هناك اتجاه وموكب فيه: نوح، وإبراهيم، وعيسى، وموسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام ويكون هناك اتجاه وموكب آخر فيه: الشيطان، وفرعون، وقارون وهامان وأبو جهل وأبو لهب، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. أولئك إلى الجنة, وأولئك إلى النار: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7] فهذا هو الشيطان.
ولم يذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للعلم به، قال أهل العلم: والمعنى: من قوله تعالى: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:4] أي: من شر ذي الوسواس. فحذف المضاف. قال هذا الفراء: والْوَسْوَاسِ [الناس:4] بفتح الواو، بمعنى: الاسم، أي فاسمه: الوَسْواس، أي: الموسوس.
والوَسْوَاسِ [الناس:4] تُقرأ: الْوِسْوَاسِ [الناس:4] بكسر الواو على المصدر، فقرئت كذلك من الوَسْوَسة، وتنطق: من الوِسْوَسَة. وكذلك الزَّلزال بفتح الزاي الأولى، والزِّلزال بكسر الزاي نفسها.
والوسوسة: حديث النفس، وهو ما يحدث به الإنسان نفسه.
فالشيطان يأتي للإنسان ويحدثه في نفسه بأحاديث تصل به إلى الكفر، أو البدعة، أو المعصية كبرى كانت أم صغرى، كما سوف يأتي.
يقال: وسوست إليه نفسُه وَسْوَسةً ووِسْوَسهً، ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلي: وِسْواس.
قال ذو الرمة:
فبات يُشْزِئهُ تَأْدٌ ويُسْهِرُهُ تَذَوُّبُ الريحِ والوسواسُ والهضبُ |
وقال الأعشى: وهي في قصيدته الطويلة التي مطلعها:
ودِّعْ هريرةَ إن الركب مرتحلُ وهل تطيق وداعاً أيها الرَّجُلُ |
قال:
تسمع للحلي وِسواساً إذا انصرفَتْ كما استعان بريحٍ عشْرقٌ زَجِلُ |
الحُلي، أي: حلي المرأة.
وِسواساً، أي: وِسواس الحُلي.
هذه هي الوَسوسة التي يحدثها الشيطان في قلوب كثير من الناس، وسماه الله عز وجل: وسواساً لهذا السبب.
وسوف يأتي معنا الأثر والأحاديث في هذا الباب، ولكنه يوسوس في حديث النفس.
قال قتادة: أول ما يبدأ به الشيطان: يوسوس للناس في الوضوء.
وصدق فيما قال، فهو أول الأمراض التي تصيب الناس، وهذا ملحوظ في كثير ممن يسأل في مسألة الوضوء، فيتلاعب به الشيطان في مسألة الوضوء إلى أن يعيد وضوءه، فيلعب ويسرف بالماء، ثم يدخله في الشك في العقيدة حتى يخرجه من الملة، والله المستعان.
ومنه قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ [التكوير:15] والخُنَّس: النجوم؛ لاختفائها بعد ظهورها، وهي تختفي في أبراجها.
وسميت الظباء خوانس؛ لأنها تخنس في الأرض وتختفي.
وسميت الشاعرة الخنساء بـالخنساء؛ لأنها جميلة كالظبي.
فكل شيء يختفي يقال فيه: خَنَسَ، أي: اختفى، والشيطان اختفى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27].
قال أحد التابعين لما قرأ هذه الآية: [[الله المستعان، كيف بعدُوٍ يراك ولا تراه؟!]] بمعنى أنه: ينتصر عليك، تصوَّر أن عدواً يريد أن يصيدك، ومعه سلاحه وعياراته، وهو يريد أن يقتلك، وأنت تريد أن تهرب منه، وهو يراك وأنت لا تره، سوف يصيدك ولو مرة.
والمشكلة التي أوقعت كثيراً من الناس في حبائل الشيطان هو أنه يراهم وهم لا يرونه، وهذه فتنة من الله عز وجل يقول الشاعر:
تسترتُ من دهري بظل جناحه فعيني ترى دهري وليس يراني |
فلو تسأل الأيام عني ما درتْ وأين مكاني؟ ما عرفن مكاني! |
وهذا مثل الشيطان الرجيم، فهو خناس، والعجيب: أنه يسكن في القلب، وأنه جاثم على قلب الإنسان، وهو - عند بعض أهل العلم- كـ(الضفدع) ووصفه بعضهم وقال: كـ(السلحفاة) ووصفه بعضهم بقوله: كـ(الحية الرقطاء) وما شئت من الأوصاف، إنما يجري في الإنسان مجرى الدم، كما قال عليه الصلاة والسلام.
وكلٌ معه قرين -شيطان- خلق معه مصاحباً له يغالبه، فالشيطان يدعوه للفاحشة، ويَعِدُه الفقر، والمسلم بنفسه وواعظ الله في قلبه يدعوه إلى الإيمان والغنى والتصديق بوعود الله، فأيهما غلبَ فهو الغالب، والحرب سجال: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في: صحيح مسلم: {ما منكم من أحد إلا وُكِلَ به قرينُه من الجن فهو معه، قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: حتى أنا، لكن الله أعانني عليه فَأَسْلَمَ} وضُبِطَتْ كلمةُ: (فأسلم) عند بعض العلماء بمعنى: {فَأَسْلَمُ} أي: فَأَسْلَمُ منه، أي: أعانني الله عليه فغلبتُه، فأنا سالِمٌ منه، وهذا رأي ضعيف، والضبط الأول: {فَأَسْلَمَ} من الإسلام، أي: اعتنق الإسلام هو الصحيح، فلا يأمره إلا بخير.
وفي الحديث: {إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا غفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس} أي: تأخر وأقْصَرَ.
وقال قتادة بن دعامة السدوسي، وهذا فيه ملعقتان من القدر، وهو من رواة البخاري ومسلم؛ لكن فيه ملعقتان قدر، قال عنه الذهبي: رأس في القراءات.. رأس في الزهد.. رأس في الحديث، هذا وفيه بدعة القدر، ولا نبطله، ولا نرد علمه؛ لكن نقبله وننبه على خطئه في القدر، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث. وهذا الكلام هو الإنصاف، وهو العدل.
يقول قتادة، وهو من سادات المفسرين: [[الخناس: الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب، في صدر الإنسان]].
فإذا غفل الإنسان وسوس له، وإذا ذكر العبدُ ربه خنس، يقال: خَنَسْتُه، فَخَنَسَ، أي: أخَّرْتُه فتَأخَّرَ، وأخْنَسْتُه أيضاً، ومنه قول العلاء الحضرمي، وقد أنشد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:
وإن دحسوا بالشر فاعفُ تكرماً وإن خنسوا عند الحديث فلا تسلْ |
وعن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا نسي التقم قلبه فوسوس} والحديث ضعيف، وإنما ذكرتُه؛ لأن كثيراً من المفسرين ذكروه، كـالقرطبي وغيره من أهل العلم، فذكرتُه لأبين أنه ضعيف.
وقال ابن عباس: [[إذا ذكر الله العبد خنس الشيطان من قلبه فذهب، وإذا غفل التقم قلبه فحدثه ومنَّاه]].
وقال إبراهيم التيمي: [[أول ما يبدأ الوسواس من قِبَل الوضوء]].
وقيل: سمي خناساً؛ لأنه يرجع إذا غفل العبد عن ذكر الله، والخَنَس: الرجوع.
هذا عرض موجز لكلام السلف، ثم أعود إلى كلام أهل العلم مفصلاً في قضايا السورة.
وأراد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن تكون المعركة في الصدر؛ ليعلم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من ينشرح صدره للهداية، ومن يضيق صدره فهو ضيق حرج بالغواية.
قال تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر:22].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125].
وقال حاكياً عن موسى دعاءه ربه: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25] فسأل أعظم مطلوب في أول السؤال.
وقال لرسولنا عليه الصلاة والسلام ممتناً عليه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1].
فإذا شرح الله للعبد صدره سَلَّمه من الشيطان، وأخرج هواجس ووسوسة الشيطان.
قال مقاتل في: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس5]: إن الشيطان في صورة خنـزير، يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، سلطه الله على ذلك، قال تعالى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس:5].
وعن شهر بن حوشب عن أبي ثعلبة الخشني وأبو ثعلبة الخشني أحد الصالحين الكبار، وهو من الصحابة عند كثير من أهل العلم، وقد سأل الرسولَ عليه الصلاة والسلام عن الأمر والنهي عن المنكر، فقال: {مُرْ بالمعروف، وانْهَ عن المنكر، فإذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرَة، وإعجابَ كلِّ ذي رأي برأيه، فعليك خاصة نفسك}.
فيقول أبو ثعلبة هذا: [[سألتُ الله أن يريني الشيطان، ومكانه في ابن آدم، فرأيتُه يداه في يديه، ورجلاه في رجليه، ومشاعبه في جسده، غير أن له خطماً كخطم الكلب، فإذا ذكر اللهَ العبدُ خَنَسَ الشيطان ونَكَسَ، وإذا سكتَ عن ذكر الله أخذ بقلبه]].
معنى ذلك: أنه رأى يدَي الشيطان في يدَي الإنسان، ورجلَي الشيطان في رجلَي الإنسان، ومشاعبه أي: أظافره في جسد الإنسان.
فهو -على ما وصف أبو ثعلبة - متشعب في جسم الإنسان، ويصحح ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: {إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم}.
فقبيلتُه وأسرتُه ودمُه ونسبُه ودارُه في الجن؛ ولكن له في الإنس إخوان، وأعوان، وأحزاب، وألوية، وجمعيات، ومؤسسات، وزَّعها في العالم. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175] قال أهل العلم: معناها: يخوف بأوليائه، ويرسل بعوثه، حتى إنه نصب عرشه على البحر، فيرسل تلاميذه في أطراف الأرض، فيأتي أحدهم، فيقول له: ماذا فعلتَ؟ فيقول له: أغويتُ العبدَ، قال: ما فعلتَ شيئاً، فيقول للثاني: ماذا فعلتَ؟ فيقول: تركتُه يؤخر الصلاة، قال: ما فعلتَ - أي: لم تفعل شيئاً - فيقول للثالث: ماذا فعلتَ؟ فيقول: ما تركته حتى فرَّقتُ بينه وبين زوجته، قال: أنتَ حبيبي. هكذا في التفسير.
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام:112] فذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن للناس شياطين.
وقال عليه الصلاة والسلام لـأبي ذر: {تعوذ يا
أما شياطين الإنس: فمنهم أناسٌ لا نراهم، وهم الذين يصدون عن منهج الله، ويوسوسون بالخواطر السقيمة، والهواجس الأثيمة، والأفكار المُرْدِية.
الأمر الأول: الكفر:
قال أهل العلم: أول ما يوسوس الشيطان بالكفر، لا يترك العبد حتى يكفر، ويشرك بالله - عز وجل - ويلحد، ويحاول دائماً أن يدخل عليه الكفر بأي سبب من الأسباب.
الأمر الثاني: البِدْعة:-
فإذا لم يستطع في الكفر انتقل إلى البدعة، فلا يزال يزين له البدعة حتى يبتدع في دين الله، والله يقول: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً [فاطر:8] فلا يزال يُحَسِّن له البدعة، ويريه أنه مأجور في فعلها، حتى يبتدع في دين الله، فيحق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) -وفي رواية-: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
الأمر الثالث: الكبيرة:
فإن لم يستطع في البدعة -وهي أدهى من المعاصي- أتى به من طريق الكبائر: من الزنا، وشرب الخمر، والسرقة، ونحو ذلك، فلا يزال يحسن له الذنب، حتى يرتكب الكبيرة من الكبائر، ثم يقبح له التوبة حتى يعصي الله، ويموت على كبيرته.
الأمر الرابع: الصغيرة:
فإن لم يستطع على الكبيرة، ابتلاه بالصغائر من الذنوب، وأصابه بالترخُّص، وأفتاه بأنها صغيرة، وأنها لا تضره، حتى يجمع عليه من السيئات الصغار أمثال الجبال، حتى تعادل الكبائر.
الأمر الخامس: المباح:
فإن لم يستطع على الصغائر، أتاه من طريق المباحات، حتى يسرف في مباح من المباحات، مثل: الأكل، والشرب، واللباس، والسكنى، والخلْطَة حتى يُضَيِّعَ كثيراً من أوقاته.
الأمر السادس: المرجوح:
فإن لم يستطع بذلك أتاه من طريق المرجوح على الراجح، فيأتي بالعمل المرجوح، حتى يفوت الراجح.
فمثلاً: الراجح في مثل هذه الجلسة من المغرب إلى العشاء: أن تحضر مجلس العلم، والدرس والفائدة، فيأتيك الشيطان، ويقول: أفضل لك أن تجلس في زاوية في بيتك تسبح الله، والتسبيح ليس معصية، بل هو أجر ومثوبة؛ لكن يأخذك من الراجح إلى المرجوح، حتى تترك الراجح الذي ينفعك عند الله.
وقد ذكر الراجح والمرجوح ابن القيم في: مدارج السالكين.
الأمر السابع: اللازم:
فإن لم يستطع أتاك بالنفع اللازم عن النفع المتعدي، فيحبب إليك -مثلاً- نفعك اللازم، فإن كنتَ تاجراً غنياً، وعندك أموال قبح إليك الإنفاق، وقال: عليك بالنوافل، بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، ولذلك ما أحسن على التجار من صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ لكن الإنفاق عليهم صعب، فيأتيه بهذا.
ويأتي إلى العالم ويقول له: نخاف عليك من الشهرة، ومن حب الظهور، وأخشى عليك أن إذا تكلمتَ أن تفتتن بالناس، فعليك أن تبقى في بيتك، وتقرأ صحيح البخاري وتتنفل، وتسبح الله عز وجل فيتركه من النفع المتعدي الذي هو الجهاد في سبيل الله، وهو أعظم التضحيات، وهو طريق الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام إلى طريق أهل التصوف المنقمعين في بيوتهم، المتسترين بلباسهم، وبأستار حجبهم، الماكثين في زواياهم، والإسلام يُذْبح مساءً وصباحاً، ونهاراً وليلاً، ودعاةُ الكفر على المنابر، والدجال اقترب خروجه، والمتكلمون بالإثم ألوف مؤلفة، والأقلام التي تحارب ربها سُبحَانَهُ وَتَعَالى ملء الأرض، والخونة والعملاء ملء الديار، ومع ذلك يأتي إلى الدعاة والأساتذة والفضلاء والعلماء، ويقول: اتقوا الله! اجلسوا في بيوتكم، نخاف عليكم الشهرة، لا تشاركوا، ولا تحاضروا، فيسمعون لداعيه، فيوقعهم في أعظم الورطات.
هذه من صنوف حيله ومكره.
الأمر الأول: الاستعاذة:
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98].
وقال: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36].
فإذا أحسست بالشيطان في غضب، أو شهوة، أو كِبْر، أو غفلة، فالتجئ إلى الواحد الأحد.
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:99-100].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:98].
قالوا في تفسير هذه الآية: أي: مَرَدَة الجن.
وقيل: الجن عموماً.
وقيل: الفَسَقَة منهم.
فعليك أن تلتجئ إلى الله.
وعند البخاري في الصحيح عن سليمان بن صرد قال: (تسابَّ رجلان -وليس تسابَّا؛ لأن هذه الأخيرة على لغة (أكلوني البراغيث) وإنما هي تسابَّ؛ لأنها بمعنى: تعدد الفاعل- قال: تسابَّ رجلان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فسبَّ أحدُهما الآخر حتى احمر وجه الآخر، فقال صلى الله عليه وسلم: إني أعلم كلمةًَ لو قالها لأذهب الله عنه ما يجد، لو قال: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم). فأُخبر الرجلُ، فقال: أمجنون أنا؟!). أي: تكبَّر ولم يقُلْها.
فأول شيء تبدأ به أن تستعيذ.
الأمر الثاني: الوضوء:
أن تتوضأ، وهو سلاح المؤمن، ولا يطرد الشيطانَ شيءٌ كالوضوء.
الأمر الثالث: الإكثار من ذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى:
فإن الذكر من أعظم الأسلحة، ويسمى: الحصن الحصين، وهو السلاح الفتاك الذي يُقْتَل به أعداء الله عز وجل فتكون مسبحاً مستغفراً مهللاً مكبراً.
الله أكبر! كل هم ينجلي عن قلب كل مكبر ومهللِ |
وهو من أحسن ما يكون.
قال تبارك وتعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً
وقال جلَّ شأنه: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191].
وفي الصحيح: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحي والميت).
الأمر الرابع: الإيمان:
فالإيمان وترسيخه في القلب من أعظم ما يطرد الشيطان.
ويكون ذلك بالتفكر في الآتي:
التفكر في آيات الله الكونية: في السماء.. في الأرض.. في الذوات.. في المخلوقات.. في الكائنات.. في العجماوات.. في الجمادات.. في الزواحف.. في الحشرات.. كلها تدلك على رب الأرض والسماوات.
التفكر في آيات الله الشرعية: وهو القرآن العظيم، بتدبر وتمهل وتأنٍ؛ ليكتب الله في قلبك الإيمان، ويؤيدك بروح منه.
الأمر الخامس: صدق اللجأ:
وهو الاستجارة بالله، والدعاء، وتفويض الأمر إليه.
الأمر السادس: العلم الشرعي:
وهو أعظم ما يُطْرَد به الشيطان، والشيطان يغضب من العلماء وطلبة العلم، ومن مجالس العلم، ولا يُرى أدحر ولا أصغر منه عند مجالس العلم، أو اجتماع أهل الخير، كاجتماعهم في عرفات، أو يوم الجمعة، أو في الدروس العلمية، أو المحاضرات النافعة، فإنه يَصْغُر ويَذِل ويُدْحَر ويَخْنَس ويَخْسأ.
الأمر السابع: الجلوس مع الصالحين:
ومنها أيضاً -أيها الإخوة الفضلاء- ومما يعمق ذلك: الجلوس مع الصالحين، ومحبتهم، وطلب دعواتهم وزياراتهم.
هذه مما يطرد بها الشيطان الرجيم، وكذلك أمثالها من الوسائل المفيدة النافعة، التي بُيِّنت في كثير من المناسبات.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل}.
ولذلك يُنْصَح هذا الجيل الطاهر الطيب العامر من أمثالكم أن يتقي الله عز وجل في من يجالس، أو يصاحب، أو من يسافر معه، أو يلعب معه، أو يرحل معه، أو من يزوره، أو يستزيره، أن يحذر كل الحذر من هؤلاء؛ فإن في الساحة أناساً يتجلببون بجلباب شياطين الإنس، وهم يشكلون خطراً على هذا الجيل الذي يتجه إلى الله، وإلى جنة عرضها السماوات والأرض. فنحذر هذا الجيل من هؤلاء أن يحرفوه عن منهج الله.
يكمن في ذلك رفقاء السوء الآتي ذكرهم:
فمن رفقاء السوء: من يقدم لك السيجارة.
ومن رفقاء السوء: من يقدم لك المجلة الخليعة بديلاً عن القرآن.
ومن رفقاء السوء: من يقدم لك المقهى بديلاً عن المسجد.
ومن رفقاء السوء: من يقدم لك شريط الغناء بديلاً عن الشريط الإسلامي.
وعجبتُ وأنا أرى بشرى تُبَثُّ في البلد، بشرى افتتاح تسجيلات غنائية، مُدَّتْ بآلاف الريالات، لتهدم الجيل والبيوت، فتذكرت قول الله في من ينفق أمواله في هذه: فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36] فهذا من رفقاء السوء.
ومن رفقاء السوء: من يأتيك وأنت تريد أن تحفظ وقتك، فيضيع عليك وقتك بالغيبة، والنميمة، والوقيعة في أعراض الناس، وتحبيب الفواحش لك.
ومن رفقاء السوء: من يدغدغ مشاعرك الغريزية، ويذكرك بالجنس المحرم، ويقدم لك وسائل الإغراء حتى تقع في الفاحشة.
ومن رفقاء السوء: من يحبب لك السفر إلى الخارج؛ لتنسى الله عز وجل وتنسى موعوده، وتترك أهلك ودعاة الإسلام وأهل العلم؛ لتبتعد هناك، ولكن لا تبتعد عن عين الله عز وجل.
ومن رفقاء السوء: من يصدك عن مجالسة أهل العلم والدعوة والخير، ويحذرك من العلماء والدعاة، ويصفهم بالتزمُّت، والتطرف، والتشدد، وأنهم مصدر خطر على الأمة، وأن على الأمة أن تحذرهم، وأنهم يفهمون الدين بالمقلوب، كما قال بعض المرتزقة فيما كتب، قال: هؤلاء يفهمون الدين بالمقلوب! فكيف بفهمه هو؟! كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف:5].
ومن رفقاء السوء: من يحذرك من مصاحبة أهل الخير في المراكز الإسلامية، والمخيمات النافعة، والجلسات المفيدة، بحجة أنهم سوف يشددون عليك، أو يحرجونك، أو يوصلونك إلى طرق مغلقة, أو نحو ذلك.
والنمام: هو الذي يفسد بين الجيران والأُسَر، وبين القبائل والعشائر، وهذا موجود في كل مجتمع، وفي كل قرية.
وشياطين الإنس النمامون هؤلاء من الرجال ومن النساء، وهم كتل بشرية تمشي على الأرض، وتحرق قلوب العالمين، وتقطع الأواصر: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23].
قال عليه الصلاة والسلام: {لا يدخل الجنة نمام} وذلك لما يفسد، قال بعض العلماء: يفسد النمام في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة.
وقد وجدنا أثر شياطين الإنس من النمامين في المُقَاتَلَة التي تقع بين القبائل بالسلاح، وإزهاق الأرواح، وسفك الدماء، بسبب نميمة النمام.
ورأينا النمام في تقطيع أواصر الجيران، وذهابهم إلى المحاكم الشرعية، والشكايات فيما بينهم بسبب كلام النمام.
ورأينا النمام يفعل بين الزملاء والقرناء، والأحبة، فيفسد بين الصاحبين، والحبيبين، والزميلين، والصديقين، فيجعل بينهم ناراً تلظى، وجَبَلاً من رماد في القطيعة والمسبة والغضب.
ورأينا النمام يدخل بين الرجل وزوجته، وبين الرجل وأبنائه، وبين الأخ وأخيه، فيهدم البيت فيبقى البيت قاعاً صفصفاً لا ترى فيه عوجاً ولا أمتاً.
ومن شياطين الإنس -يا معشر الأحبة- أصحاب الأقلام المغرضة الذين يطالعوننا في كل صباح على صفحات الجرائد والصحف، وكأن ذنب الأمة الوحيد أنها أتبعت محمداً عليه الصلاة والسلام وكأن على هذه الأقلام حقاً أن تحارب الرسول عليه الصلاة والسلام في دعوته، فإذا الاستهزاء بالدين، وإذا التعريض بالقرآن، وإذا السخرية بمعالم وسنن محمد سيد الخلق عليه الصلاة والسلام وإذا بالنـزول المغرض والطرح العشوائي في قضايا الأمة واللعب بمقدراتها، ومصادر عزتها.
إن أصحاب هذه الأقلام من شياطين الإنس، الذين تركوا حرب الكافر، وتوضيح المبادئ للأمة، ونشر الفضيلة بين الناس، وأتوا بالذبذبة الفكرية، والطرح الغثائي، والهامشية في العرض، بل بعضهم وصل به الحال إلى أن تزندق وألحد، وكتب كفراً.
فهم في خلواتهم وجلواتهم ونواديهم، يكفرون بالله ويتبجحون، ويُسَمُّون (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر): شركة صَلُّوا، وأحدهم كتب مقالة يقول في أعلاها: (جاءك الموت يا تارك الصلاة) يشنع بها على الذين يدعون إلى إغلاق المحلات، وإلى ترك التجارات في أوقات الصلاة, والله يقول: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:36-37].
والله يقول: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
والله يقول: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُـرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَـوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُـونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
والله يقول: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].
وقد ذكرتُ لكم من هؤلاء الشياطين، من القديم: الدَّشَرَة؛ لأن الدَّشَرَة قديمة، الدَّشَرَة مع إبليس من يوم وضع في الأرض، فأتى الكفر معه، وأتى الخزي معه، وأتى العار معه، وأتت قوى الشر معه، وأتت محاربة المبادئ معه، وأتى الظلم والظلام معه.
وأذكر نماذج، لَعَلِّي كررتُها؛ لكن اسمع إلى الكفر القديم الذي أتى به شياطين الإنس:
يقول أحدهم، وهو يعترض على الله، ويخاطب ربه؛ لأنه من شياطين الإنس في الأدب:
أيا رب تخلق أغصان رَنْدٍ وألحاظ حورٍ وكثبانَ رملِ! |
وتنهى عبادك أن يعشقوا أيا حكم العدل ذا حكم عدلِ؟! |
ويقول أبو العلاء المعري، معترضاً على الله عز وجل:
أنَهَيْتَ عن قطع الرءوس تعمداً حتى بعثت لقتلها مَلَكَيْنِ |
وزعمت أن لها معاداً ثانياً ما كان أغناها عن الحالَينِ! |
المعنى: يقول: يا رب! أأنت حرمت أن يُقتل الإنسان بالسكين، وأنت ترسل ملَكَين يذبحون الإنسان، فلماذا تعيد الإنسان وتخلقه؟! كان الأفضل ألاَّ تخلقه من أول الطريق، فعليه غضب الله إن لم يكن تاب.
ويقول الثالث:
أتوب إليك يا رحمن مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوبُ |
وأما من هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوبُ |
وهذا من شياطين الإنس.
إذا وقع الذباب على طعامٍِ رفعتُ يدي ونفسي تشتهيهِ |
وتجتنب الأسودُ ورودَ ماءٍ إذا كنَّ الكلابُ ولغن فيهِ |
فهؤلاء الشياطين -أهل الشهوات من شياطين الإنس- يريدون أن تخرج المرأة عارية، وأن تكون جندية، وأن تكون المرأة شرطي مرور، وأن تكون بائعة، وأن تكون مباشرة في الفنادق، وعلى أبواب السكك، وفي مجتمعات الناس، وأن تكون في البرلمان. فهؤلاء من شياطين الإنس.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية:23].
فتجد في بعض القبائل رجلاً متصدراً، وهو شيطان من شياطين الإنس، إذا دعوتَه للشريعة، قال: لا. أنا وقبيلتي على هذا إلى آخر قطرة من دمائنا، فتدعوه إلى الحجاب الشرعي، يقول: لا. قلوبنا نظيفة.. نشَأْنا على هذا.. آباؤنا وأجدادنا...، ويعترض على الشرع، تدعوه إلى أن يسلم الميراث للمرأة الضعيفة المسكينة الذي ذكره الله في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يقول: لا. عيب عندنا على المرأة أن تطلبت الميراث، وهذه شريعة غير شريعة الله عز وجل. وتجده يجعل مراسيم لأخذ الأموال ظلماً من الناس، والرشوة، وغير ذلك، وتجده أحياناً قد يحارب الدعاة في قبيلته، فيضطهدهم، ولا يقبل كلامهم، ويعارضهم، ولا يسمح بالندوات والمحاضرات والدروس، فهو شيطان من شياطين الإنس، وتجده أحياناً قد يعترض على فتاوى أهل العلم، كأن تقول له: الاجتماع في وقت العزاء من أمور الجاهلية، وقد حرمه أهل العلم، فيقول: ومن هم أهل العلم؟ وما يدريهم؟ لا بد من هذا! لا تصلح الأمور إلا بهذا، لنا عادات وتقاليد لا بد أن نستمر عليها... فهذا طاغوت، وشيطان من شياطين الإنس.
الأولى: أن يحب الله ورسوله:
وذلك بأن يعمل بطاعة الله ورسوله، وينتهي عمَّا نهى الله ورسوله عنه.
الثانية: أن يكون ذا مروءة:
بأن تكون مروءته ظاهرة في معاملاته بعقل وحكمة.
وإن شئتَ قلتَ: يجب أن يكون:
1- تام الدين.
2-كامل المروءة.
لأن بعض الناس عنده دين؛ لكن تنقصه المروءة، بقلة عقله، فلا بد من العقل، ولا بد من الدين، حتى تصاحبه على بصيرة.
قال بعض الفضلاء: ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر بلا منكر.
وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من يُرِدِ اللهُ به خيراً يفقهه في الدين} ومفهوم المخالفة: أن من لا يريد الله به خيراً لا يفقهه في الدين.
فرجائي من الإخوة: أن يجتمع كل مجموعة من الإخوة في كل بلدة، أو قرية، أو مدينة، يجتمعوا في يوم من الأسبوع بدرس في مادة الفقه، فيتدارسوه حتى يكونون على بصيرة من دينهم.
عجباً للمهتدي كيف اهتدى! وعجيب كيف ضل المستضل! |
فالعجيب كل العجيب: أن تجد الضال ينحت في أفكار الناس، ويقدم دعوته لهم.
والعجيب: أن تجد الضال يسهر إلى الثانية ليلاً يكتب مقالاً يحارب به الله ورسوله، ثم يُنشَر في الصحف والمجلات.
والعجيب: أن تجد الألوف تصرف على دبلجة ومونتاج أغنية لتخرج للناس في آخر مونتاجها ودبلجتها وعرضها.
والعجيب: أن تجد الألوف وهي تُصْرَف في مسلسل يهدم الأخلاق، ويحرك غرائز الأمة، ويفسد الجيل.
والعجيب: أن تجد أماكن يُحارَب فيها المعروفُ، ويُقام فيها المنكرُ، وتُصْرَف فيها الأموال.
ثم مع ذلك، تجد أهل الخير سلبيين إلى أبعد الحدود، أحدهم يتوجس خيفة، لا يقول الكلمة، ولا يكتب المقالة، ولا يوزع الشريط الإسلامي، ولا يؤثر بكلمة، ولا يدعو إلى الله، ولا يقدم ضريبة محمد عليه الصلاة والسلام التي عليه، هو على الحق وغيره على الباطل، وأهل الباطل أقوى منه، وأشجع منه، وأكثر تأثيراً منه، ومع ذلك تجده خائفاً متأخراً متخلفاً سلبياً لا يقدم شيئاً للإسلام.
لا بد لكل واحد منا أن يسأل نفسه في المساء: ماذا قدمتُ لهذا الدين؟ عندما تَنَمْ سَلْ نفسك: ماذا قدَّمت؟ أنا أعرف أنك صليت الصلوات الخمس اليوم، وأنا أدري أنك قرأت شيئاً من القرآن, وأنا أعرف أنك سبَّحت؛ لكن أسألُك بالله! هل سألتَ نفسك هذه الأسئلة:
هل كنتُ سبباً في هداية شخص؟
هل أمرتُ اليوم بمعروف؟
هل نهيتُ عن منكر؟
هل أهديتُ لصديق كتيباً نافعاً؟
هل أهديتُ شريطاً إسلامياً؟
هل وقفتُ مع من يرتكب منكراً فنبهته على منكره؟
هل تحدثتُ إلى من خالف سنة بيني وبينه بأدب ولين، ونبهتُه على مخالفته للسنة؟
هل وعظتُ أحداً؟!
لا بد أن تسأل نفسك، وإن لَمْ تفعلْ فاعلم أن فيك نقصاً كبيراً، وأنك لا بد أن تركب في مركب محمد صلى الله عليه وسلم وهو مركب الدعوة، حتى تكون مؤثراً وداعية إلى سبيل الله.
يقال: لماذا ينتشر الباطل أكثر من الحق، والضلال أكثر من الرشد؟ قلنا: سبحان الله! ألفُ هادمٍ وبانٍ واحد، فخطبة جمعة تلقى يوم الجمعة فقط، ودرس أحياناً في الأسبوع في مواجهة آلاف الأغنيات، والمسلسلات، والتمثيليات، والأفلام، والأشرطة، والمجلات، ألا تفْسُد بها الأمةُ، ألا تضيع بها الأمةُ، ألا تضل بها الأمةُ.
أرى ألف بانٍ لم يقوموا لهادمٍ فكيف ببانٍ خلفه ألف هادمِ |
فهذه هي قضايا: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ... [الناس:1].
المقصود -أيها الإخوة- من قراءة هذا القرآن أمور:
أولاً: التبرك بالقرآن:
فمن أعظم الأجور: تلاوة القرآن، والتبرك به.
ثانياً: التدبر في القرآن:
بأن تُجْعل قراءةُ القرآن طريقاً إلى التدبر والتفهم والتفقه، ليُعْرَف ماذا يريد الله عز وجل منا بهذا القرآن.
ثالثاً: العمل بالقرآن:
بأن يُجْعَل التدبر والفقه طريقاً إلى العمل بهذا القرآن، وتطبيقه في الحياة.
رابعاً: الصلاح في القرآن:
بأن يُعْلَم أن القرآن والسنة فيهما صلاح العباد ظاهراً وباطناً، في كل قضية من قضايا الحياة.
خامساً: شمول القرآن:
أن لا يُزَوَّى القرآنُ عن حياة الناس، وأدبهم ومشاركتهم، وعن اقتصادهم، وألاَّ يُجعَل في زاوية، أو فقط لافتتاح الحفل، وإذا مات الميت قرئ عليه، أو لصلاة الاستسقاء فقط، وللمآتم، ثم يُنَحَّى عن الحياة. فهذا ظلم ظلمنا به كتاب الله عز وجل الذي قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى في دينه وشرعه: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162].
سادساً: تفهيم القرآن:
وأحبذ من الإخوة أن يقربوا أبناءهم إلى القرآن, وإلى التفسير المعروض بالأشرطة أو الكتيبات؛ لأن هناك في المكتبة الإسلامية تقصيراً في جانب الطفل، في كتيبات الطفل وأشرطته، وأن يقربوا له مثل هذا الشرح، أو غيره مما يرون، فإذا حفظ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ... [الناس:1] سمع ماذا يريد الله من هذا الكلام، حتى يحفظ على بصيرة وعلم ونور.
سابعاً: مرونة القرآن:
وأحبذ من الإخوة أيضاً أن يربطوا واقع الناس بكتاب الله عز وجل وأن يعلموا أن هذا القرآن باقٍ لهذه الأمة حتى يُنْهِي الله هذه الأرض ويرثها سُبحَانَهُ وَتَعَالى وأنه ليس خاصاً بفترة من فترات التاريخ قد انتهت ومرت، أو كما يقول العلمانيون: أنه لا يواكب التطور، أو كما يقولون: بأنه لا يواكب الأمور العصرية، أو أنه لا يستطيع أن يواكب هذا الزخَم الهائل القادم من الغزو الفكري وأمثاله، وهم لا يُسَمُّونه غزواً فكرياً، بل رافداً فكرياً، وحواراً عالمياً، ونحن نسمية غزواً.
ثامناً: تحفيظ القرآن:
وعلينا أيضاً أن نحصن أبناءنا بالقرآن، وأن نحفظهم من الصغر، ولا نستجيب لدعوات بعض الناس، وقد قرأتُ مقالة في مقابلة في مجلة الدعوة قبل ثلاثة أسابيع لأحد الفضلاء، هو فاضل ولكن لكل جواد كبوة.
يقترح في هذه المقابلة: ألاَّ يَحْفَظ الطلاب الصغار؛ لأنهم لو حفظوا القرآن صدَّهم حفظُه عن فهمه.
قلنا: سبحان الله! تريده أن يكون مثل الفقير اليهودي، حيث لا دين ولا دنيا. الطفل أصلاً لا يعرف أن يفقه أو يفهم، فلو أتيتَ بالطفل الصغير في السابعة أو في السادسة، وحفَّظته السور، وقلتَ له: استنبط، فإنه لا يفهم؛ لكنه يحفظ، ففي سن الحفظ نحفظه، حتى يصل إلى سن الفهم لنفهمَه، ثم إنه إذا حفظ القرآن استدرج النبوة، غير أنه لا يوحى إليه، ثم إنه إذا حفظ القرآن صار رصيده عند الله عز وجل عظيماً، أن يُغرَس القرآن أو يُمْشَق في لحمه ودمه، أو يسري القرآن في عروقه وشرايينه.
- فمنهم من اعتنى بالجوانب اللغوية والنحوية. والقرآن مقصده أعظم.
- ومنهم من أتى بِخُزَعْبَلات بني إسرائيل وكَذَباتهم وافتراءاتهم. والقرآن أجلُّ.
- ومنهم من نحا نحو الواقع، وترك مناهج السلف الصالح، ومنهج أهل السنة والجماعة. ولا بد من عرض ذلك.
- ومنهم من تساهل في الأحاديث الضعيفة.
ومن أمثل ما يوجد: تفسير ابن كثير؛ لكن ينقصه ربطه بواقع الأمة، فيحتاج من يقرؤه إلى أن يربط تفسير ابن كثير بواقع الناس وحياتهم ومعايشاتهم، حتى إذا قرأ الإنسان السورة في الصلاة تذكَّر واقعَه الذي يعايشه أربعاً وعشرين ساعة، وتذكرَ ماذا يمكن أن يغير إذا خرج من المسجد، وما هي صور الجاهلية التي نعيشها صباح مساء، الجاهلية التي تجدها في السوق، والدكان، والمدرسة، والجامعة، والنادي، والطريق، والبيت.
الجاهلية التي تعرض لك في كتيب، أو دعاية، أو برواز، أو لافتة، أو ورقة، أو صحيفة، أو مجلة، أو شريط، أو فيلم.
الجاهلية التي تُعْرَض لك في أشخاص، تجدهم من داخلهم مُبَرْمَجِين، أي: بُرْمِجُوا وانتهتْ بَرْمَجَتُهُم (هناك) ثم قُدِّمُوا للأمة لِيُبَرْمِجُوا الأمةَ كما بُرْمِجُوا هُم.. ليُؤَثِّروا على الأمة كما أُثِّرَ عليهم، فمن داخلهم مُنْتَهون، مُسْتَهَلَكَةٌ في ذواتهم المبادئُ الأصيلة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يريدون كذلك إغواء الأمة في التالي.
تجد الجاهلية في أشخاص يتصورون أن الدين صلاة فقط، وإذا ما خرجتَ فلا تشارك في الحياة ولا تدخل الدين في كل شيء، وينادون بذلك في الصحف والمجلات، ويقولون: تريدون إدخال الدين في كل شيء؟ وما دخل الدين في هذا؟ ما لكم وللدين، الدين لكم، تركنا لكم المسجد اعملوا ما شئتم، أما خارج المسجد فالحذر الحذر، ليس للدين دخل!
وبهذا فقد ازدادوا ديناً ما أتى به عليه الصلاة والسلام، هذا دين ما أراده أبو بكر، وعمر وعثمان، وعلي.
هذا دين يخالف دين المسلمين، هذا دين أهل التصوف الهندوكي والهندوسي.
وهذا دين الذين وَلَغُوا في شرع الله عز وجل بالإثم، أو أنكروا معالم الدين. فهذا الدين لا نريده.
نحن نريد الدين الذي بُعِث به محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون في المسجد، والمقهى، والمنتدى، والمكان، والجامعة، والدكان، والبيت، وعلى الرصيف، حتى نعيش الإسلام قضية واحدة. هذا ما يُراد.
والدرس المقبل إن شاء الله سوف يكون بعنوان: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] وبعده: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ونستمر مع هذه السور - كما قلتُ لكم - في زحف مبارك مقدس، سائلين المولى أن يعيد علينا وعليكم بركات القرآن، وأن ينفعنا وهذا الجيل به، وبأسراره وكنوزه.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
ثم بدأ بمقدمة يخاطبني، وبَجَّلَ -جزاه الله خيراً- وذكَر وأثنى، ثم قال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله العلي العظيم، القائل في محكم التنـزيل: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] وقال عليه الصلاة والسلام: {لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى} وقال الصادق الأمـين عليه الصلاة والسلام: {إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}.
أيها الحبيب الفاضل: أنا أتقدم بسؤالي أريد أن أفهم بعض الأمور الدنيوية من خلال الإجابة، وأرجو أن تجيب ولا تكتم الحق، وأن توضح لنا البرهان، وأن تتقي الله فيما تقول، فقد وثقنا فيما تقول.
السؤال: هل الإسلام حرم الزواج من المرأة أو الرجل الغير قبلي للقبلي؟ ومقصوده: هل يحرُم أن يتزوج القبلي من غير القبلي؟ -أو العكس، أي: بمعنى أصح: الطرف من الأصل أو العكس وربما سماه بعض الناس خط مائتين وعشرين, وخط مائة وعشرة. وسمعتُ حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما معناه: {تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس} وحديثاً آخر، يقول صلى الله عليه وسلم: {تنكح المرأة لأربع: لجمالها، ولمالها، ولنسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك} فهل يعني اختيار النسب هنا: أن نمنع زواج القبليين من غير القبليين من أهل الحرف الموجودين في مجتمعنا المسلم الذين يصلون ويصومون ويتبعون الرسول عليه الصلاة والسلام؟ وما معنى ذلك إذاً؟
أرجو أن توضح، وأن تتقي الله في التوضيح.
الجواب: في هذا السؤال صراحة وشجاعة وتهديد.
أولاً: قبل أن أبدأ أفصل لكم الحكم على الأحاديث التي وردت في الرسالة:
حديث: { لا فضل لعربي على أعجمي} حديث حسن.
حديث: { إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه} حديث صحيح، رواه: الترمذي.
حديث: {تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس} لا يصح عنه عليه الصلاة والسلام وليس من كلامه.
حديث: {تنكح المرأة لأربع} متفق عليه وهو في الصحيحين.
ثانياً: أقول لهذا الأخ: حيَّاك الله وبيَّاك، وأبشر ثم أبشر أني سأقول الحق، الذي أعتقد أنه الصواب، وأقول باختصار، ثم أفصل: من زعم أنه لا يجوز للقبلي أن يتزوج من غير القبلي فقد أخطأ، وقد خالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والنسب هو الدين، وإن من اتقى الله، وعمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان أقرب إلى الله فهو أقربنا إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو أكرمنا وأحبنا إليه، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13] وقد هدد عليه الصلاة والسلام وندد، وشجب التمييز العنصري، وحارب صلى الله عليه وسلم من أراد ذلك في الأمة، ونادى يوم عرفة: أن: {لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى} وقرب صلى الله عليه وسلم أجناس الناس بـ(لا إله إلا الله) قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63] ودخل بلال وهو عبد حبشي الجنة بـ(لا إله إلا الله) وأما أبو لهب وهو سيد قرشي، وأبو جهل، وهو أصيل قرشي، فقد دخلا النار لأنهما كفرا بهذا الدين. وقد زوج صلى الله عليه وسلم بعض الموالي من أسر قريش، وتزوج بعض أسر قريش من الموالي زواجاً شرعياً صحيحاً، على ملة الله عز وجل وعلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما الذين يدعون أن هذا مخالفة شرعية، ويستدلون ببعض الأحاديث الضعيفة، فما صدقوا في هذا، وقد أخطئوا خطأً بيناً، وهذه حرب شعواء يستغلها أعداء الله عز وجل من الكفرة والملاحدة، فيهجمون على هذا الدين، ويقولوا: انظروا لدين المساواة والعدل والفضيلة، يأتي فيميز بين القبلي وغير القبلي، ومن قال لنا: أن هناك قبلياً وغير قبلي؟! إلى من ينتهي السند؟! من هو الأب الأكبر؟! من أين أتانا القبلي وغير القبلي؟! من آدم وحواء.
إذا فخرت بآباء لهم شرف نعم صدقتَ ولكن بئسما ولدوا |
أتى سلمان وهو فارسي، وتزوج من قريش، ويروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: {
ولما بُعِثَ محمد عليه الصلاة والسلام كانت الأسر تفخر بأسرها، والقبائل تفخر بقبائلها، وأهل المجد يفخرون بأمجادهم، الآثم منهم والجاهلي، فلما أتى صلى الله عليه وسلم أتى بشمس: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
فالفضل فضل التقوى، والحسب حسب الدين.
فيا أيتها القبائل: اتقي الله في هذه الأسطورة الجاهلية، والطاغوت الذي فعلتموه، ورضيتم به، وهو عدم التزاوج بين القبلي وغير القبلي.
أنا أعرف أن الناس يستصعبون ذلك، لكنه لو قام أهل العلم والدعوة والتوجيه والرأي، وأهل الحل والعقد، فإنهم سوف ينهون هذه المسألة التي تخالف الدين الإسلامي الحنيف الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا نُضْحِكَ العالَمَ علينا.
العالم الغربي الآن، خاصة الرأسمالي يدعو إلى إنقاذ الإنسان، وإلى محاربة التمييز العنصري، ويحاصرون جنوب أفريقيا، ويسبونها عبر وسائل الإعلام؛ لأنها تمايز بين الجنسين الأسود والأبيض، ونحن نكرر هذه في قبائل اتبعت الرسول عليه الصلاة والسلام واعتنق أجدادها الإسلام، بل كانوا في فترة من فترات التاريخ، هم الذين نصروا دين الرسول عليه الصلاة والسلام.
أنا ابن أنصارك الغر الأُلَى سحقوا جيشَ الطغاة بجيش منك جرار |
فما جزاؤها الآن إلا أن تعود إلى سنته عليه الصلاة والسلام.
قال الإمام مالك رحمه الله: "الكفاءة في النكاح: الدين". قال أهل العلم: "وصدق الإمام مالك "، ورجح ذلك الشوكاني، وغيره من العلماء الجهابذة الأجلاء، وارتضوه، واعتبروه الصحيح.
فيا أيها الإخوة: الكفاءة: الدين، ليس القبلي وغير القبلي، فأرجو أن تزال هذه، وأرجو من الدعاة أو المتكلمين أو الناطقين أو المؤثرين، ألا يجرحوا شعور الناس في المجالس بذكر هذه الجاهليات التي أتى صلى الله عليه وسلم بسحقها، وقد سحقها يوم عرفة، وأزالها، واعتبرها لاغية من سجله صلى الله عليه وسلم.
فهذه المسألة أردتُ أن أعرضها، وقد عرضتُها بما أعتقد أنه الصواب، وأرجو صراحةً أن تُدْرَس دراسة وافية، فلا يكفي فيها مثل هذه الكلمة؛ لكني أطالب العلماء، والدعاة، والمشايخ، والكتبة، ومن يُسْمَع لهم، أن يبحثوها بحثاً إسلامياً شرعياً، ثم ينشرونها بين الناس؛ لئلا نوجِد هذه الطبقية الممقوتة البغيضة، التي أوجدت الحزازيات والحساسات والجراحات بين الناس بشيء لا يرضاه الله ولا رسوله عليه الصلاة والسلام.
الجواب: أقول لهؤلاء: عليهم أن يفعلوا كما فعل كثير من الفضلاء في بعض المدن، كمدن القصيم، وهي أن يوجد مجموعة من الدعاة الفُطَناء النابهين، المحبين لله ورسوله، العقلاء، أهل الحكمة، وأهل الرشد والصواب، فيجتمعوا في تنسيق ندوات في أماكنهم هذه، كأن يكون هناك ندوة في كل أسبوع، في مثل: تنومة والنماص، وسراة عبيدة، ومحايل، وغيرها من المناطق الآهِلَة، كـالواديين والدرب وبيش، وغيرها الكثير، فيوجدوا محاضرة في كل أسبوع، ثم يكون همهم أن يأتوا بالدعاة من الرياض والقصيم وجدة والشرقية وأبها ومكة المكرمة، ومن كل مكان، وهذا الدرس يكون أسبوعياً في هذا البلد، فهذا من مهمة هذه المجموعة.
ومن مهمة هذه المجموعة أيضاً: جمع التبرعات من الناس، أو اشتراك شهري في صندوق يسمى: (صندوق الشريط الإسلامي) سيصرفون في كل شهر، أو في كل أسبوع شريطاً ويوزعونه على أهل هذه البلدة.
ومن مهمتهم أيضاً: أن يجتمعوا بالقاضي والأمير في البلدة والمسئولين، فيفهمونهم بعض الأخطاء التي يقع فيها المجتمع، ويناصحونهم، ويكتبون لهم المنكرات.
ومن مهمتهم أيضاً: أن يوزعوا الكتاب الإسلامي.
ومن مهمتهم أيضاً: أن يُلْقوا دروساً خفيفة، من ربع ساعة إلى ثلث ساعة في المساجد في بلدتهم، يشتغلوا بها، فيعظون الناس ويرشدونهم.
ومن مهمتهم أيضاً: أن يكاتبوا العلماء عما يحصل من مشاكل في بلدتهم، ليأتوا بفتاوى ينشرونها بين الناس في المسائل التي تقع فيها الأخطاء.
ومن مهمتهم أيضاً: أن يقوم منهم مجموعة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، بالحكمة، واللين، والمعروف، فتنبه الناس على أخطائهم.
هذه المجموعة، أنا أرى أن لو تُشَكَّل في كل منطقة فسوف يُرَى بعد سنة الخير وقد عَمَّ هذه المنطقة، والفضل، والنور، والفقه، والفهم، أما قضية أن تقف سلبياً وحدك في منطقتك أو قريتك، ثم تجد الناس يتفاعلون في قراهم ومدنهم، وأنت لا تقدم شيئاً لبني قريتك أو مدينتك فإنك تكون سلبياً مخطئاً غير موفٍٍ في أداء رسالتك التي أوكلها الله إليك.
هذا اقتراح أكرره وأعيده، عسى أن يكون هناك من يلبي، لأني رأيتُ بعضَ الناس، حتى من سنتين ومن ثلاث سنوات يأتي أحدهم من المناطق المذكورة فيطلب الداعية، فإذا اعتذر الداعية، قال: ماذا نفعل إذاً؟ أتعتذر؟ الذنب ذنبكم والتقصير تقصيركم؛ لأنكم ما جئتمونا. هكذا يقول. وأنتَ والأساتذة الذين معك بالعشرات في المدينة التي أنت فيها، وفي الضاحية، وفي القرية، أنت والقضاة الذين عندك، والمدرسون، والدعاة، والفضلاء، لماذا لا تجمع؟ ولماذا لا تنظر؟ ولماذا لا تؤثر؟ ولماذا لا تتفاعل؟ هذه هي المسئولية.
أردتُ أن أعرض هذا الرأي؛ لأنه صراحةً لا يستطيع الإنسان مهما أوتي من قوة أن يصل كل ضاحية وقرية، وكل مكان ليلقي محاضرة، ثم إن المحاضرات العامة إذا أتت في السنة مرة فخير كثير؛ لأنها مثل أسبوع الشجرة، هذه المحاضرات العامة مثل أسبوع الشجرة، تُزْرَع الشجرة في السنة مرة؛ لكن مَن الذي يَسْقِي الشجرة؟ مَن الذي يقلمها؟ مَن الذي يهذبها؟ مَن الذي يمنع الآفات عنها؟ هم أهل المنطقة، وأهل القرية، والضاحية.
فهذه أمانة أقدمها بين أيديكم، وليتأمل كل منكم إذا أتى من بلدة، أو من قرية، أو من ضاحية، ليتأمل: ماذا يقدم لقريته وضاحيته، وماذا سوف يجيب الله يوم القيامة، إذا سأله: ماذا فعلتَ بقريتك؟ وليحفظ قوله تبارك وتعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214].
أسأل الله لي ولكم السداد، والهداية، والرشد، والتوفيق.
والإخوة الذين قدموا أسئلتهم -كما يرون- ليس عندنا وقت للإجابة الآن؛ ولكن أعدهم لا كمواعيد عرقوب أن أجيب عنها في المستقبل إن شاء الله.
ومواعيد عرقوب: كان لأحد الناس عليه دين، فأتى صاحب الدين، فقال: أعطني مالي. فقال: ما عندي لك مال؛ لكن هذه النخلة تثمر إن شاء الله فإذا أطلعت خذ طلعها. فأطلعت النخلة، قال: اتركها حتى تصبح بُسراً، فتركها، فلما أصبحت بُسراً، قال: أعطني. قال: حتى تصبح بلَحاً، فلما أصبحت بلَحاً (رُطَباً) قال: اتركها حتى تصبح تمراً. فلما أصبحت تمراً اخْتَرَطَها عرقوب في الليل، وترك الدَّيَّان.
أعوذ بالله أن أكون مثل عرقوب.
كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً وما مواعيده إلا الأباطيلُ |
لكنَّ مواعيدنا مواعيد محمد صلى الله عليه وسلم: يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119].
فإن قُصِّرَ في شيء فالإنسان مصدر نقص؛ لكن الوقت لا يمكن أن يُزاد فيه.
قد يضيق العمر إلا ساعةً وتضيق الأرض إلا موضعا |
فنسأل الله إذا قَصُرَ هنا اللقاء أو ضاق بنا الوقت أن يجمعنا في وقت طويل: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55] يوم يتقبل الله منا ما عملنا، ويتجاوز عن سيئاتنا: فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16].
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر