إنه شهر تغلق فيه أبواب النيران، وتفتح فيه أبواب الجنان، وهذا الشهر له فضائل ومزايا ومكانة في قلوب المسلمين الموحدين.
فيا ترى كيف يُسْتَقْبَل هذا الشهر الكريم؟!
أيُسْتَقْبَل بالسهر في معصية الله؟!
أيستقبل بالنوم والكسل؟!
بماذا يستقبل هذا الشهر؟!
وكيف كان حال النبي -صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح في رمضان؟
كل هذا ستعرفه في هذا الدرس إن شاء الله.
بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، أتى بالإسلام، خير من صلى وصام، وطاف بالبيت الحرام، وبنى دولة الإسلام، وكسر دولة الأصنام.
عنوان هذه المحاضرة: كيف نستقبل شهر رمضان؟
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيباً زارنا في كل عام |
قد لقيناك بحب مفعم كل حب في سوى المولى حرام |
فاغفر اللهم ربي ذنبنا ثم زدنا من عطاياك الجسام |
لا تعاقبنا فقد عاقبنا قلق أسهرنا جنح الظلام |
ولهذه المحاضرة قطوف وشذور ولها عناصر:
1- محاسبة النفس على عام انصرم، لا ندري ما الذي فعل به، إما حسنة سجلت في ميزان الحسنات، أو سيئة كتبت في ميزان السيئات.
2- تذكر لقاء الله عز وجل، والإعداد لذاك اليوم العظيم الذي تتفطر له القلوب من رعبه وخوفه.
3- اغتنام هذه النفحة الربانية، والعطية الإلهية، التي قد لا تعود على الإنسان مرة ثانية.
4- الإكثار من الطاعات والمسارعة في الأعمال الصالحات.
5- التخلي عن العادات الجاهلية والمخالفات الشرعية.
6- جَدْوَل المسلم في شهر رمضان، كيف يقضي شهر رمضان؟
7- شذرات وقطوف مع محمد عليه الصلاة والسلام في بستانه وروضه.
من زار بابك لم تبرح جوارحه تروي أحاديث ما أوليت من منن |
فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر والسمع عن حسن |
أيها المسلمون! أطل عليكم شهر مبارك، وهو فرصة ثمينة لا تقدر بالأموال، بشر به رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، وهتفت له قلوب الموحدين، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنان، وغلِّقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين).
إذا جاء رمضان تهيأت جنة الرحمن للطائعين.
إذا جاء رمضان أغلقت أبواب النار ليتوب العصاة.
إذا جاء رمضان صفدت مردة الشياطين، فلا يغوون عباد الله.
فرمضان له مميزات عند المسلمين:
هذا القرآن الذي وقف أساطين الدنيا وهم يتحدثون عن معجزاته، فتاهوا ومزقوا وسحقوا.
الشيوعية المنهارة عمرها اثنتان وسبعون سنة، أما القرآن فعمره ما يقارب ألفاً وخمسمائة سنة، وهو يزداد نوراً ويزداد عمقاً وأصالة:
سمعتك يا قرآن والليل واجـم سريت تهز الكون سبحان من أسرى |
والقرآن أنزل في رمضان، قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] فالسر في رمضان أنه تقوى، وأنه يثمر الخشية في قلب المسلم، وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا معشر الشباب! -وإنما وجه الخطاب للشباب؛ لأنهم أهل الثوب القشيب وأهل القلوب الحية، وأهل الطاقة الكامنة التي إن وجهتها إلى الطاعة أفادت، وإلى المعصية عربدت- يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} ووجاء: أشبه بالخصاء، لأنه يذوب معه البطن والكبد فلا تبقى نوازع الشر؛ لأن نوازع الشر في الدم، والشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم، والدم إنما يغذى بالطعام والشراب، ولا يقلص الطعام والشراب إلا الصيام.
فرد عليهم بجواب -يقول الزمخشري: لله دره من جواب- قال تعالى: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:51-52] لأن الشعور الإلحادي والمتزندق في الساحة ينظر إلى القبور فيجدها هامدة فيقول: لا بعث، فيقول:
أتيتُ القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر؟! |
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر |
لكن -والله- ليبعثرن ما في القبور، وليحصلن ما في الصدور.
يقول الحسن البصري رحمه الله -والكلام إليه صحيح- لما قرأ قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:1-2] قال معلقاً على النفس: "لا تجد المسلم إلا لوَّاماً لنفسه، يقول: ماذا فعلت بأكلتي؟ وماذا أردت بكلمتي؟ فهو يلوم نفسه دائماً. أما الفاجر فيعربد ولا يلوي على شيء، غره منصبه ووظيفته وقصره وسيارته: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] وقال تعالى أيضاً: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179] وهي حياة الإنسان يوم يبلغ مبلغ البهيمة، ويوم يسير في مسلاخ الدابة لا يرى نوراً ولا إيماناً ولا استقامة.
1- نفس أمارة: وهي نفس الجاهل المعربد الفاجر.
2- نفس لوامة: وهي نفس المؤمن الذي يخطئ ويخلط عملاً صحيحاً وآخر فاسداً.
3- ونفس مطمئنة: وهي نفس المؤمن الذي يبلغ درجة الإحسان ويطمئن إلى درجة البر: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].
وآخر آية من القرآن -على القول الصحيح من أقوال أهل العلم- هي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281] وتسمى آية المحاسبة، وآية التنقير؛ لأنها تلاحق العبد ليحاسب نفسه وينظر إلى مستقبله، وفي حديث حسن عند الترمذي عن شداد بن أوس رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني} وهذه الكلمة إنما تخرج من شفاه محمد صلى الله عليه وسلم.
والناس فريقان: قوم حاسبوا أنفسهم وتزينوا للعرض الأكبر فخفف عنهم الحساب، وقوم أقبلوا بالجرائم والفواحش فسوف يرون يوم العرض الأكبر، كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
كيف به لو رآنا وذنوبنا وخطايانا؟!
كيف به لو عاش في عصرنا وحالنا ووضعنا! كيف به لو دخل بيوتنا ورأى -والعياذ بالله- البعد عن منهج الله عز وجل؟!
فبدل القرآن؛ المجلة الخليعة، وبدل التلاوة؛ نغمة فاجرة، وبدل السواك؛ سيجارة، وبدل الجلسة النبوية؛ جلسة مع البلوت إلا من رحم ربك.
فهذه فرصة لهذه البيوت والقلوب والأجيال أن تعي مدلول رمضان.
إن رمضان لا يقدر بالأثمان، إنه فرصتنا وذكرياتنا، انتصرنا في رمضان على الشيطان والطغيان وننتصر بإذن الله على النفس.
فـبدر والفتح في رمضان، وقالوا: حطين وشقحب في رمضان.
فكانت غزواتنا دائماً في رمضان، ويسجل النصر بإذن الله للمسلمين، ولكن قبل أن يأتي رمضان، لا بد أن نقف وقفة جادة مع المحاسبة، وننظر ماذا فعلنا في هذه السجلات فإن الله عز وجل يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] وقد صح عن الفضيل بن عياض الذي وعظ الخلفاء فأبكاهم -عابد الحرمين- أنه قال: "والله إني أعرف من يُعَد كلامُه من الجمعة إلى الجمعة"، قال أهل العلم: "ربما يقصد نفسه"؛ لكنه كتم أنفاسه فما أخبر باسمه ورسمه وإلا فاسمه معروف في القلوب، هو الذي يعد كلماته، لأن الله يقول: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
وعند ابن كثير في حديث أنس بسند صحيح: [[أن عمر وقف وراء حائط وأخذ يحاسب نفسه ويقول: والله يا عمر! إن لم تتق الله ليعذبنك الله]].
إن من يبلغ هذه الشفافية والمحاسبة والدقة لجدير أن ينال رضوان الله ورحمته.
يقول بعضهم: "ما بال السلف يشكون الذنوب وما بال الخلف لا يشكونها".
قال أحد العلماء: "مثلنا كرجل له ثوب أبيض وأسود، فإذا لبس الأسود فما عليه ما تلطخ به، فتجده ينام في المزبلة ويخرج وثوبه كما كان، ومثل السلف كمثل رجل لبس ثوباً أبيض فهو يتأثر بأي شيء، ولذلك صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في دعاء الاستفتاح: {ونقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس} لأن الثوب الأبيض لا يقبل، وهذا هو مثل السلف.
جاء شيخ صوفي خرافي إلى ابن تيمية وقال: "يا بن تيمية كراماتنا تفسد عندك وتنجح عند التتار، فيعجب التتار من الكرامات التي نأتي بها وأنت إذا أتينا إليك أبطلت كراماتنا.
قال ابن تيمية: مثلك كفرس أبلق، والتتار كأن أفراسهم سود ونحن أفراسنا بيض، فالأبلق إذا دخل بين السود أصبح أبيض، وإذا دخل بين البيض أصبح أسود، فأنت إذا ذهبت إليهم أصبحت أبيض بما عندك من بقية إسلام؛ لأنهم معرضون، وإذا دخلت بيننا أصبحت أسود لما عندك من بدعة"، وهذا مثلنا وحالنا وقد خلطنا، لكن يقول الله: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:102].
قال ابن عباس: [[(عسى) في القرآن للتحقيق]] فأسأل الله تعالى أن يحقق لنا ولكم التوبة، فوالله! إنا معترفون بالذنب والخطيئة، وإنا نعترف بالتقصير والندم يوم نقارن أعمالنا بأعمال الصحابة، يوم نقرأ تراجم السلف، من الصحابة والتابعين لا ننظر إلى واقعنا؛ لأن الجيل والشباب المستقيم يوم نظروا إلى واقعنا، رأوا واقعاً مزرياً فعدوا أنفسهم كأنهم من الصحابة، ولو نظروا للأخيار لنقص عندهم المقدار.
ويوم القيامة كان في ذاكرة السلف الصالح كالصداع، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد [الحشر:19]
المهدي الخليفة العباسي، وهو جيد بالنسبة للجرح والتعديل، فهو خير من أبيه في المعتقد، وكان مترفاً، قصور هائلة وأموال طائلة وكنوز وذهب وفضة، ولكن لما جاءه الموت ما أغنت عنه قصوره، نظم فيه أبو العتاهية قصيدة رائعة رائدة، وقد أتى الموت فافترس المهدي وسقاه كأس المنون. وأتى الوزراء يحملون جثمانه، فقد أصبح جثة هامدة لا يسمع ولا يرى، يقودونه إلى حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، يقول أبو العتاهية وهو يشيع الجثمان:
نح على نفسك يا مسكـ ـين إن كنت تنوح |
لتموتن وإن عمرت ما عمر نوح |
ثم التفت إلى بنات المهدي ووجدهن يبكين -وقد كانوا في القصر- والدموع تسيل على الخدود قال:
رحن في الوشي وأصبحن عليهن المسوح |
إلى إن قال:
كل بطَّاح من الناس له يوم بطوح |
ستر الله بنا أن الخطايا لا تفوح |
كل من يبطح الرجال يبطحه الله، كان هذا الخليفة يبطح الملوك، ولكنه أتاه بطاح الملوك، الذي بيده مقاليد السموات والأرض: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً [الفرقان:3].
دس ملك الملوك في أنف فرعون الطين، وقتل النمرود ببعوضة، ودكدك سد مأرب بفأرة.
كان سحبان بن وائل يفتخر عند معاوية ويقول: نحن أهل اليمن ونحن... كيت وكيت، فقام له رجل من المسلمين، وقال له: اسكت! دل عليكم هدهد، وهدم سدكم فأرة، ونغص عيشكم وزغة، فلماذا تفتخرون؟!
وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73].
وقتل أبو جعفر أيضاً: عبد الله بن علي، وقتل هرثمة، والوزراء، بدَّدهم وقطَّع رءوسهم، فدخل ابن السماك والمجلس قد اكتمل، فأتى ذباب من خلق الله فوقع على أنف أبي جعفر، ضاقت به الدنيا إلا على أنف أبي جعفر فرماه بيده فطار الذباب، ثم هبط بحفظ الله ورعايته على أنف أبي جعفر مرة أخرى فطيره وهشه، فرجع على أنفه، فطيره مرة ثالثة، وتكرر ذلك، حتى أنه غضب على الذباب وأراد أن يحكم عليه بالإعدام لكنه لا يستطيع أن يصيده ولا يستطيع أن يذبحه، قال: "يا بن السماك، لماذا خلق الله الذباب؟" قال: "ليذل به أنوف الطغاة".
هذه محاضرة ابن السماك الشهيرة التي حُفِظَت له في التاريخ.
وأعود إلى المهدي بن أبي جعفر.
فهذا المهدي دخل مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام فلما رآه الناس مقبلاً قاموا جميعاً إلا ابن أبي ذئب المحدِّث فما قام، بل جلس في مجلسه، فقال الخليفة المهدي: "قام لي الناس إلا أنت يا بن أبي ذئب "، فقال: "أرت أن أقوم لك، فتذكرت قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] " قال: "اجلس والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت"، فذكَّره بذلك اليوم.
ومحمد بن واسع الأزدي المحدث الكبير يقولون له: "اتكئ على اليمين أو اليسار" قال: "لا، لا يتكئ إلا الآمن، وأنا ما جزت الصراط حتى أتكئ".
وقالوا عن حماد بن سلمة راوية مسلم الشهير: "ما تبسم"، والتبسم سنة، ولكن هكذا، قيل له: "ما لك؟"، قال: "كلما أردت أن أتبسم تذكرت الميزان والصراط"، أو كما قالوا عنه، وهذه موجودة في ترجمته.
وعلى كل حال يجب الاستعداد للقاء الله، فوالله ما الاستعداد للقاء الله بكثرة الأموال، ولا الأولاد، ولا المناصب؛ لكنه بالعمل الصالح: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] وفي ترجمة سلمان الفارسي - سلمان الذي أتى بـ(لبيك اللهم لبيك) سلمان عصاه: لا إله إلا الله، وقعبه: التوكل، وفراشه: الزهد، ولحافه: آمنا بالله، وأما سجيته: فحسبنا الله ونعم الوكيل، بيته: المسجد، وإمامه: محمد صلى الله عليه وسلم، ومؤذنه: بلال.
وأبو جهل الطاغية أشرف نسباً من سلمان لكن إمامه: إبليس، ومؤذنه: فرعون، وبيته: الخمارة، وأستاذه: الصنم، ومصيره: إلى النار، قال لـسلمان: من أبوك؟ قال:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم |
صلى سلمان إلى القبلة، فقال لسان الحال: سلمان منَّا آل البيت، وقدم روحه رخيصة في سبيل الله، دخلوا عليه في سكرات الموت فوجدوا عنده شملة وقعباً وعَصَاً، أين الدنيا -وأنت أمير العراق - قال: [[أوصانا صلى الله عليه وسلم أن يكون قوتنا من الدنيا قليلاً -أو كما قال- وأن أمامنا عقبةً كئوداً لا يجوزها إلا المخف، وقد أكثرت من الدنيا. قالوا: غفر الله لك! وهل أكثرت من الدنيا؟! قال: نعم أكثرت.]].
يقول بعض أهل الرقاق: المحاسبة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: حساب قبل العمل:
وهذا مثلٌ يذكره الغزالي وهي: أن توجه نيتك إلى العمل الذي تريد أن تفعله فتستخير الله فيه، وتسأل الله فيه القبول، وتطلب من الله أن يوفقك إليه، فهذه أول محاسبة.
وابن الجوزي كانوا يقولون عنه: "إذا أراد أن يعظ الناس مرَّغ وجهه في التراب وسأل الله أن يفتح له القلوب"، فمن الذي يفتح القلوب إلا الله؟ ومن الذي يفتح البصائر إلا الواحد الأحد؟
فـابن الجوزي كما في طبقات الحنابلة أخبروه أن الخليفة موجود في مجلس الوعظ، فمرغ وجهه في التراب، وقال: يا رب! أسألك التوفيق والفتح، ثم قال على المنبر:
ستنقلك المنايا من ديارك ويبدلك البلى داراً بدارك |
ودود القبر في عينيك يرعى وترعى عين غيرك في ديارك |
يقولون: فبكى الخليفة بكاءً عظيماً.
القسم الثاني: المحاسبة أثناء العمل:
والمحاسبة أثناء العمل بأن توقعه على شرطين:
1- إخلاصٌ لله.
2- واتباعٌ لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود:7] قال الفضيل: [[أصوبه وأخلصه: أن يكون خالصاً لوجه الله وعلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام]].
القسم الثالث: المحاسبة بعد العمل:
وهي أن تنظر لعملك وتستغفر الله مما شابه من رياء وسمعة، وأن تردد قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه} وقد ذكر وكيع في كتاب الزهد بسند صحيح أن ابن عمر كان يقرأ قوله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، وقال ابن عمر: [[يا ليت أن الله تقبل مني مثقال ذرة، فإن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]]].
فنسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح العمل، وأن يغفر لنا ولكم الخطايا والزلل.
والقوميون والوطنيون الآن يقولون: "نحن أهل تاريخ من قبل الإسلام، ما هو تاريخكم قبل الإسلام؟!
إنه وأد البنات، وعبادة الأصنام، والكفر بالله الواحد الأحد، والربا، والزنا، والغِش، والخيانة، بل يبدأ إسنادنا من منبر محمد صلى الله عليه وسلم، منذ أن وقف على الصفا وقال: (يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) أما قبله فلا شيء:
تاريخنا من رسول الله مبدؤه وما عداه فلا ذكر ولا شان |
وهذا المنبر حنَّ لذكره صلى الله عليه وسلم لما عزله وأخذ منبراً آخر، فأخذ الجذع يبكي من الشوق واللوعة - والحديث عند البخاري - فنـزل يسكِّنه ويسكِّته.
ونعود للحديث: (فارتقى عليه الصلاة والسلام المنبر، وقال: آمين، ثم قال: آمين، ثم قال: آمين) وفي رواية في غير المسند: (أنه ارتقى الدرجة الأولى فقال: آمين، ثم ارتقى الثانية وقال: آمين، ثم ارتقى الثالثة وقال: آمين) اللهم استجب.
وأحد الماجنين يقول:
يا رب لا تسلبني حبها أبداً ويرحم الله عبداً قال آمينا |
أيها الناس! رمضان فرصة لا تتكرر، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي) وما أحسن كلمة (لي)!
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا |
فنسبتنا نحن إلى الله، فنحن أمة ربانية تتصل بالله مباشرة، فيأتي البراء بن مالك في المعركة ويلتفت إلى السماء ويقول: [[يا رب! أقسم عليك أن تنصرنا هذا اليوم، وأن تجعلني أول شهيد]] فيُقتل وينتصر المسلمون.
فأي أمة كانت؟!
إنها أمة ربانية.
ومعنى ربانية أي: أنها متصلة بالله مباشرة في قضية السؤال والاستغاثة والطلب، وأما في قضية التبليغ فيبلغها رسولها عليه الصلاة والسلام.
(كل عمل ابن آدم له) لأن عمل ابن آدم: الصلاة، والزكاة، والحج، وغيرها يكتشفها الناس، فأنت تتوضأ أمام الناس، وتصلي مع الجماعة، وتزكي على مرأىً ومسمع من الناس، لكن الصيام من يدري عنك إذا تسترت بالحيطان، هل يكتشفك أحد وأنت بين الجدران؟ قد تشرب ماءً أو تأكل وجبةً، ولا يدري عنك إلا الله.
فالصيام سر بين العبد وربه: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، يدَع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) من أجل الله الواحد الأحد: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه).
وفي الحديث: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) سبحانك اللهم! ما أجمل هذه العبارات! خلوف فم الصائم الذي يخرج من آثار الجوع أطيب عند الله من ريح المسك! وهذا تشريف للصائمين، ولا يناله إلا الصُّوَّام.
وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن في الجنة باباً يُدعى: الريان، يدخل منه الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلا يدخل أحد غيرهم) والريان للصائمين فقط يدخل منه من صام في الحياة الدنيا وجاع وظمئ لمرضاة الله تبارك وتعالى.
وقد سبق معنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الصحيح: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وأغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين -وفي رواية-: مردة الشياطين) أما الذي يصاحب العبد فهو معه، أما الشيطان المارد الغاوي فيصفد ويغل فلا يتحرك.
ولذلك تجد السيئات والجرائم تقل في رمضان، وتجد كثيراً من الناس أقبلوا زرافاتٍ ووحداناً إلى المساجد يحملون المصاحف، يبكون ويندمون ويحافظون على الجماعات، وهذا طيب جميل لو أنه يستمر، لكن بعضهم يخلع جلباب الحياء يوم العيد على المسجد ويقول: إلى لقاء آخر في رمضان آخر، وهو لم يفعل شيئاً، وقد أساء كل الإساءة. فإن رب رمضان هو رب شعبان، ورب شعبان هو رب رمضان، والأيام أيام الله كلها، وهو الواحد الأحد الذي يعلم السر وأخفى.
فهذه النفحة الربانية التي في رمضان قد لا تتكرر، والعمر -يا أيها الإخوة- غال عند المؤمن، ولكنه رخيص عند الفاجر.
فهذا الفاجر المعرض عمر الخَيَّام شاعر الغزل والمجون، وليته غزل فحسب لكن مع إلحاد، يقول في قصيدة له تغنَّى وتنشر في أشرطة الكاسيت على أصحابها من الله ما يستحقونه:
لبستُ ثوبَ العمر لم أسْتَشَر وحُرْتُ فيه بين شتى الفكر |
يقول: ما استشارني الله يوم خلقني، لا إله إلا الله! أيستشيرك يا حشرةً يا رِعديد؟! هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:1-2].
إن الإنسان لا شيء قبل أن يخلق، وإنما هو مضغة أو قطعة لحم فإذا خلق لا يعلم شيئاً، ويسقط على الأرض قطعة لحم يحركها الله بالروح الذي ينفخها في هذا الإنسان، ثم يأتي هذا الإنسان يطلب من الله أن يشاوره قبل أن يخلقه ويفاوضه ويطلب منه: هل ينـزل من بطن أمه أم لا؟
ولذلك أبو العتاهية يتكلم في هذه القضايا يقول: الطفل ينـزل باكياً من بطن أمه؟ لأنه جاء في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام: (ما من مولود إلا ونزغه الشيطان إلا مريم وابنها عليه السلام) فأول ما ينـزل الطفل يبكي، هل سمعتم طفلاً يضحك، حتى طفل الأنبوب ما سمعنا ذلك، حتى الطفل الذي نشر في فنـزويلاَّ أنه يتبسم كان خرافة، بل أول ما ينـزل الطفل يبكي:
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا |
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا |
فهل تعلم ماذا يفعل -عليه الصلاة والسلام- بالطفل؟ أول ما يفعل به -صلى الله عليه وسلم- أنه يأتي إليه ويؤذن في أذنه، لا موسيقى أو صياح الهلوسة أو فلسفة المجانين والمعرضين عن الله، بل يقول في أذنه: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، ثم يتلو عليه كلمات التوحيد فتدخل هذه الكلمات حية إلى القلب مباشرة فتتمكن في السويداء، وهو مولود على فطرة التوحيد، ويأتي الأذان ليزيد التوحيد توحيداً: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] لكن علماء النفس المهلوسون يقولون: "إذا ترجرج الطفل فأعطِه موسيقى فإنه يهدأ" هل نسمعه موسيقى يا أعداء الله؟! سوَّد الله وجوهكم!! إنهم يريدون موسيقى في بلاد الإسلام، أما نحن فعندنا: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:1-2] وعندنا صحيح البخاري وصحيح مسلم.
ما افتُتِحت المستشفيات النفسية إلا بعد القرن السابع، في باريس وواشنطن،فلم يكن عندنا مستشفيات نفسية بل كان عندنا أوراد وأذكار وتسبيح وماء زمزم، وعندنا سجدات ودعاء، فندعو الله فيصلح -إن شاء الله- الحال؛ ولكن لما أتى ديكارت وكانت قالوا: "الموسيقى تهدئة"؛ وذلك لأنهم لا يعرفون معنى الحياة، ويتعاملون كالدواب؛ لأن الفِيَلة أصبحت في البرازيل ترقص على الموسيقى، والجِمال في السويد تلعب، فتجدها إذا سمعت العود تبدأ تراوح بين أرجلها لاعبة فأصبحوا مثلها.
ابن تيمية ألَّف كتاب التدمرية من صلاة الظهر إلى صلاة العصر، لوى رجله وليس عنده مراجع، بل مراجعه في رأسه: {دعها فإن معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر} ثم سل قلمه. وهل تظن أنه مثل تأليف بعض الناس؟! بل تأليف وعلم، فـالتدمرية قواعد، كتبها إلى صلاة العصر، ودرسناها في كلية أصول الدين، ورسب فيها ثلثَي الطلاب، فهذا وقت السلف الصالح.
وابن عقيل كان يأكل الكعك ولا يأكل الخبز، قالوا: "مالك؟" قال: "حسبت ما بين المسافتين وجدت ما بين أكل الكعك وأكل الخبز قراءة خمسين آية، لكن بعض الناس في هذه المسافة يردد ثلاث أغانٍِ من حفظه، أطفالنا في السابعة يحفظون عشرين أغنية ويعرف المغني وأغنيته، ويعرف الدبلجة في الغناء والفن والموسيقى وهذه الأمور، ولكنا سوف نعود -إن شاء الله- يوم أن نعرف مستقبلنا مع الله، وسوف ننتهي من هذا الدجل والخرافة.
فالشيوعيون الآن يعودون إلى الله، فكيف بالمسلم الذي نشأ في البلاد الإسلامية، وشرب ماء الإسلام.
وأقصد بهذا أن فرصة رمضان لا تتكرر أبداً، وعند الترمذي بسند حسن قوله صلى الله عليه وسلم: {اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك...} فالشباب فرصة لا تتعوض، فتجد الشاب يلهو ويلعب ويشرد عن الله، فإذا أصبح في المستشفى ذكر الله، تكسرت ظهور بعض الشباب في حوادث، ودخلت مع بعض الإخوة إليهم ووجدناهم قد عادوا إلى الله، لكن متى؟ لو عادوا وقت الصحة لكان ذلك أفضل، فقد أصبحوا يصلون وهم مكتفو الأيدي، وهم على ظهورهم، فلو صلوا وهم قيام لكان أحسن، ويبكون على تلك الساعات الغالية، التي صرفت في اللهو والعبث، فأحفاد سلمان ومعاذ وطارق وصلاح الدين أصبحوا في الملاهي.
هل كان في معجم المسلمين ملاهي من صلاة العشاء إلى السحر؟ فأي أمة تقدم؟ وماذا يراد من هذه الأمة أن تفعل مع التاريخ؟
قال: {وغناك قبل فقرك...} الأموال الطائلة التي تذهب في البنوك الربوية، في المعصية والفاحشة والرحلات الأجنبية التي تخزي أصحابها، فيصرف هذا المال إلى الخير.
{وصحتك قبل سقمك، وحياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك}.
وأقول: إن رمضان فرصة لا تتكرر، فابدأ برمضان لتجعله موسماً للعبادة، علَّ الله أن يتقبل منا ومنكم.
مالك
إذا دخل رمضان أغلق على كتبه وأتى بالقرآن ففتحه. وكانابن عباس
رضي الله عنهما قال: {جبير بن مطعم القرشي
أقسم باللات والعزى أنه لا يدخل في الإسلام، وحاول المسلمون معه ودعوه، فأقسم وصمم ألاَّ يدخل في الدين، لكن هذا القرآن أقوى من كل شيء، فهو يخترق الصوت والزجاج، يدخل القلوب التي هي أقسى من الحديد، قام عليه الصلاة والسلام يقرأ: ((وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)) [الطور:1-2] وجبير بن مطعم
خارج المسجد فسار الصوت حتى دخل أذنه وقلبه، والقرآن لا يمانع، من يستطيع منكم وهو يعي هذا القرآن أن يقول: هذا كلام بشر؟ فسمع قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (( * * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ)) [الطور:36-38] من يقول: إنه قول بشر؟ أتى يشق الصفوف حتى أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. قال: {كعب بن مامة
وأجواد العرب عنده.ابن حجر
في ترجمةالشافعي
أنه كان يختم القرآن في رمضان ستين مرة، وهذا سنده جيد إلىالشافعي
، ولا يستغربن منكم مستغرب، يقول: يختمه في الليل مرة وفي النهار مرة، وهل هذا هو السنة؟ أنا لا أقول بذلك، لكن أورده إلى الإمامالشافعي
من باب شحذ الهمم، وليست المسألة بالكثرة، بل المسألة بالتدبر والتمعن. فهذا القرآن موسمه هذا الشهر، لمن أحب أن يتزود من تلاوتـه، يقول علـيه الصـلاة والسـلام في صحيح مسلم: {عبد الله بن عمرو الأنصاري
-وهو غيرعبد الله بن عمرو بن العاص
- أنه لما دفنه صلى الله عليه وسلم، وقف على قبره وقال: {ذي البجادين
فذكره بذلك عليه الصلاة والسلام.إن مصداقية المؤمن تظهر في صلاة الجماعة.
فإذا أردت أن تعرف المؤمن من المنافق فانظر إليه في صلاة الجماعة.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس |
أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
فيا أهل الزجل المحبب إلى الملك! عليكم بذكر الله عز وجل، ويا أهل الكلمات النافعة الطيبة والألسنة الفصيحة! استغلوا هذا الشهر وغيره في ذكر الواحد الأحد، وفي أوراد هائلة وتسبيحات ترتفع إلى السماء: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10].
كان أبو مسلم الخولاني لا يفتر لسانه من ذكر الله، قال له أحد السلف: "أمجنون أنت؟" قال: "لماذا؟" قال: "نراك تتمتم بلسانك بشيء ما ندري ماذا تقول"، قال: "عندي دواء المجانين"، فهو ليس مجنوناً، لكن عنده دواء المجانين، الذي يعالج به المجنون فيشفى بإذن الله.
ولما تركنا تمتمة الألسن وتحريك الشفتين أصبح قطاع هائل من الناس يصابون بالصرع، حتى تجد المشايخ يبركون على الصدور ويقرءون آية الكرسي، وهذا وارد، وقد فعله صلى الله عليه وسلم.
وأقصد لماذا لا نتعالج قبل أن نقع في مثل هذا؟ لماذا قبل أن يُبرك على صدر الإنسان ويلطم على وجهه ويقال له: اخرجي يا عدوة الله وتكلمي، فإذا هي تخرج عليه وهي تتكلم بالإنجليزي -فلبينية- فعلينا أن نذكر الله بالأوراد وبالسور، ونذكره بالأحاديث قبل أن نمرض، أما نتحرى إذا مرضنا ونقول: دواؤه الرُّقْيَة، فلا.
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه |
ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه |
ويحق للمصاريع أن يركبهم الجن الفلبينيين، لأنهم أصبحوا في البيت والسيارة وفي الدكان والخياطة وفي السوق فلا تجد موضع قدم إلا وفيه فلبيني، ونحن لا نستزري بأحد من الناس، لكن متى كانت العمالة الأجنبية الكافرة هي غذاء الجيل؟! ومتى كان الكافر صاحب المسلم؟! فأصبح الطفل ينشأ ويرى السائق والخادم والسائقة والخادمة والخياط كلهم من جنس آخر، فيركبه الجن نعوذ بالله من الجن ونسأل الله أن يثبتنا.
لكن أهل آية الكرسي لا تركبهم الجن، فهي تحرق الجن إحراقاً، حتى الشيطان يوصي بها، فعميد وأستاذ الشياطين أوصى أبا هريرة بذلك- والحديث في الصحيحين - عندما أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم كمية كبيرة من التمر ليحفظها، فأتى الشيطان إلى أبي هريرة في صورة شيخ، وأخذ من التمر، فأمسكه أبو هريرة وقال: {لأرفعنك، فقال: اعف عني فإن لي عيالاً، فعفا
قال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُـوداً [آل عمران:191] ويقـول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35] ويقول جل اسمه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41-42] والذكر الكثير: أن تذكر الله قائماً وجالساً وعلى جنبك، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من ذكر الله بالأذكار الشرعية المأثورة فهو من الذاكرين الله كثيراً"، وقد ذكر ذلك في المجلد العاشر في وصية لـأبي القاسم المغربي.
امرأة الملك الإنجليزي، عندنا تظاهر الإنجليز في لندن يريدون الخبز، وقد ماتوا من فقد الخبز، فأخذوا يكسرون زجاج القصر، خرجت من الشرفة وقالت: "لماذا لا يأكلون كعكاً أو بسكويتاً؟ لو وجدوا كعكاً وبسكويتاً لكان الخبز متوفراً، فالناس فقراء، ونعرف أن في الناس من لا يجد إفطاراً، وهذا أمر معلوم لمن كان متصدراً لأمور الناس أو إمام مسجد أو مؤذناً أو نحو ذلك من الأمور التي تناسب العامة أو تتداخل مع العامة.
فالآن أتى موسم الصدقات والعطيات، فليفعلوا كما فعل محمد صلى الله عليه وسلم، حيث كان أجود بالخير من الريح المرسلة.
يقولون: إن ابن المبارك كان يعرض سفرته من كل ما لذ وطاب ويفطر الناس ويباشر عليهم - ابن المبارك علاَّمة المسلمين، أمير المؤمنين في الحديث، وصاحب الكتب المؤلفة التي كأنها الديباج، المجاهد إذا طلبت الجهاد، والزاهد إذا بحثت عن الزهاد، والعابد إذا فتشت في صفوف العبَّاد- كان يفطِّر الناس ويباشر عليهم بالإفطار، لماذا؟! وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الإنسان:8-11].
ابن هبيرة الوزير الحنبلي، حج فكان يصوم في السفر، كان يطعم الناس الفالوذج رضي الله عنه وأرضاه، ولما قحط الناس في مِنَى أو عرفة واشتد الحر بالناس وانتهى الماء رفع يديه وبكى فنـزل الغيث، قال: "يا ليتني أني سألت الله المغفرة!" فرحم الله الوزير العادل ابن هبيرة وابن تيمية عندما يذكره يسميه: الوزير العادل، والإمام العلامة الحنبلي، فهذا هو ابن هبيرة الحنبلي، غفر الله لنا وله.
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب |
ونحن نقف خاشعين إذا سمعنا كلام الواحد الأحد، كما يقول سيد قطب عمر الله حياته في الجنة: "نحن أعلى الناس سنداً لأن الله يقول: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] ". فسندنا يأتي من جبريل إلى رب السماوات والأرض، أما سندهم فمن استالين إلى لينين إلى الشيطان إلى النار والعياذ بالله.
فنحن نقف خاشعين لنسمع التلاوة في قيام رمضان، وليس قيام رمضان معناه عادة يتخذها الناس ولا تهيئات وأشواق تبث في الهواء فقط، وليست مسارح يبري الإنسان موهبته في التلاوة أو الدعاء أو يحفظ قصصاً عجيبة في الدعاء حتى إن بعضهم يجيد في الدعاء أكثر من القرآن، لكن إذا أتى الدعاء بكوا بكاءً عظيماً لأنه يحكي ملاحم مثل خطب ابن نَباتَة كأنه من كتاب بدائع الزهور في وقائع الدهور، فيقفي بالراء فيقول: اللهم يا عالم ما في الصدور، ويا غافر الذنوب ويا كاسر الظهور، ويبدأ في الراء نصف ساعة، ثم يأتي بالدال ثم بالحاء، فيذهب الخشوع ولو بكت العيون.
والسلف كانوا على السجية، ولم يكونوا يتكلفون -وهذا استطراد- وقد نبه عليه بعض العلماء -أثابهم الله- لنحيا مع القرآن، وقبل عامين اهتز الحرم هزة هي خير من ألف محاضرة، إمام وقف يقرأ في سورة محمد فقال: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ [محمد:19] فرفع صوته: فاهتز الحرم بالبكاء.
فعِش مع القرآن خاصة إذا كان المقرئ صاحب نسك وعنده صوت جميل، فإنه التوفيق إذا حضرت القلوب الواعية.
أيها الإخوة! يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} كيف إيماناً واحتساباً؟ أي: يكون مؤمناً لا يكون منافقاً ولا يكون كافراً، واحتساباً: يطلب الأجر من الله، لا رياء ولا سمعة، فبعضهم قد يأتي مجاملة في صلاة التراويح، يجامل الجيران أو الخلان أو الإخوان، فليس له إلا الخسارة والندم يوم العرض الأكبر.
وفي حديث صحيح عن أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له أجر تلك الليلة} فتبقى مع الإمام حتى ينصرف من صلاة التراويح يكتب لك أجر تلك الليلة.
يا إخوتي في الله! وفي السحر ركعتان جميلتان أو أربع أو أكثر.
يا إخوتي في الله! إنه وجد من الجيل من تسيب في رمضان وجعلوها لعب كرة وسوف أبين هذا في النقاط الآتية.
الإسراف في إعداد الطعام، تعال وابحث في البيوت لترى، من صلاة الظهر يبدأ أهل البيت يصنعون الطعام، فيبدأ في المطبخ حريق، ولم يبق إلا أن يستدعى الدفاع المدني، فهذا قدر يفور، وهذا صحن يصيح، وهذا براد يولول، وأصبح البيت في همهمة! لماذا؟ قالوا: البطون جاعت، والإنسان إذا نزل في النهار ودخل السوق المركزي ظن أنه سوف يأكل ما في السوق، فعبأ الأكياس والأخراج وحمل في الأدراج ما الله به عليم، يصرف للأسرة الواحدة ما يكفي أسراً، وفي المسلمين ثلاثة عشر مليوناً مهددون بالمجاعة، ففي أفغانستان لا يجدون كسرة الخبز، وهؤلاء المجاهدون أهل الثياب المتمزقة، وأهل العزة الإيمانية الذين أرغموا وجه الكافر في التراب وردوه خاسئاً، وهم أهل الأذان في هيئة الأمم. واسمحوا لي أن أخرج قليلاً ثم أعود. كيف أذنوا في هيئة الأمم؟
حدثنا يوسف الحمدان بسند جيد "أن كثيراً من قادة المجاهدين حدثوه أن وفدهم لما ذهب إلى نيويورك مقر هيئة الأمم المتحدة، وقد دخل وفد المجاهدين أول مرة ليحضروا الهيئة العمومية لـهيئة الأمم، فلما وفد المجاهدون المصلون المتوضئون في وفد هيئة الظلم والعمالة والخيانة، وأكل حقوق الإنسان وإرعاب الإنسان؛ وقف المجاهدون لما أتت صلاة الظهر وأوقفوا المؤتمرين وأطلق الأذان"، وقالوا: "خرج وفد إسرائيل إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، ووفد آخر لا ندري من هو، وصلى المجاهدون والقادة.
أذَّن هناك ليعلن أن المكان هناك لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن الكافر دخيل وعميل، فأسمع تلك الهيئة الكافرة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا |
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا |
كنا نقدم للسيوف رءوسنا لم نخش يوماً غاشماً جبارا |
وكأن لسان حال هؤلاء يقول: جرباتشوف طاردناك بالكلاشنكوف في أفغانستان، وطاردناك في هيئة الأمم بالأذان.
وهذه فقط رحلة على شاطئ، وأعود بكم إلى الموضوع.
قال رحمه الله: ومن الناس من يسرف في إعداد الطعام إسرافاً عظيماً فتجدهم لا يرضون إلا أن يملئوا النفايات بالطعام والشراب، فأين الأُسَر الجائعة؟! وأين الاقتصاد؟!
يقول أهل الطب: "مَن أكثر من الأنواع أُصيب بالأوجاع". فالذي يأكل عشرين صنفاً أكثر مرضاً ممن يأكل صنفين، والسلف لم يكن عندهم مستشفيات لكن نحن في كل حارة مستشفى، وقسم الباطنية سبع غرف، حتى لا تجد في بعض المستشفيات قسم حنجرة، ولا عظام، بل كلها باطنية، الغرفة الأولى باطنية والثانية والثالثة والرابعة، وكلها مليئة ما شاء الله! وقسم الحنجرة لا تجد فيه أحداً، دكتور الحنجرة مسكين ينتظر كأنه حارس مرمَى، بينما صاحب الباطنية عرقه يتصبب في الأرض، في كل وقت يدخلون عليه رجلاً منتفخ البطن، مات شهيداً، مالَه رحمه الله؟ قالوا: أكل عصيدة في الظهر حارة، فلما وقعت في بطنه أصيب بإغماء، فما ندري هل قتل شهيداً أم قتل على خاتمة طيبة؟ فيشقوا بطنه فيموت، تغمده الله بواسع رحمته.
يا مسلمون! قسم الباطنية مزدحم من كثرة ما أكلنا وشربنا، ما تركنا جديداً ولا قديماً ولا حديثاً إلا أكلناه، وأحياناً يدعى الإنسان إلى مأدُبة وما معه إلا أربعة وإنها لتكفي ثلاثين أو أربعين، فإلى متى هذه الطاقات هدراً وإسرافاً؟! إن الله لا يـحب المسـرفين، قال تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً [الإسراء:27].
يقال: أحد الأَكَلة -ممن يأكل كثيراً- حضر إلى مأدبة فوجد الناس يأكلون، والطعام حار فرفع يده، فما وقفوا، فأخذ يبكي قالوا: "ما لك تبكي؟" قال: "أكلتم عليَّ الطعام" قالوا: "كُل معنا" قال: "حار" وهذا البكاء لا يؤجر عليه لأنه ليس في عبادة.
بعض الشباب سل بهم خبيراً: يصلي الفجر ثم ينام إلى الظهر، ثم يواصل النوم على بركة من الله إلى صلاة العصر، ثم ينام من العصر إلى الغروب، فتوقظه أمه ليفطر فما أحس جوعاً ولا ظمأ ولا عاش عبادة ولا قرآناً ولا نوافل ولا تسبيحاً، يأكل التمر متناولاً كأنه أتى من القرون التي قبل الإسلام، لا حلاوةً، ولا رقةً، ولا شعوراً، ولا خلوداً، ولا طعماً لأسرار الصيام.
إن أسرار الصيام معناها: أن تشعر بالجوع؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] وأنا لا أقول: لا تنام؛ لكن لماذا يُعْكس البرنامج في النهار، فيصبح نوماً كله والليل سهراً، ونعود إلى عمر الخيام -عليه من الله ما يستحقه- حيث يقول:
فما أطال النوم عمراً وما قصر في الأعمار طول السهر |
وهذا البيت يُنْشَد، وكثير من الشباب على الرصيف يصفقون لهذا البيت، وما يعلمون أن هذا البيت فيه كفر، وما قاله إلا زنديق، يقول: نم أو قم في الليل فإنه ليس وراءك إلا نوم في القبر لا بعث بعده -عليه من الله ما يستحقه- ولذلك يقول بعضهم الآن في بعض الصحافة: انتقل إلى مثواه الأخير، وليس المثوى الأخير هو القبر -كما يقول القنوي وهو ممن اتهم بالزندقة وبالتصوف- إنما المثوى الأخير: إما إلى جنة وإما إلى نار: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7] وقال تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62].
يقول الغزالي: "من عمره ستون سنة ينام منها عشرين سنة، والتفصيل في ذلك أنك تنام في الأربع والعشرين الساعة ثمان ساعات، فإذا نمت ثمان ساعات في كل أربع وعشرين ساعة فقد نمت في الستين سنة عشرين سنة، ثم صفي من غيرها للأكل وللشرب ولدورات المياه والاغتسال، فبعضهم إذا دخل دورة المياه مكث فيها ساعتين، وبعضهم إذا اغتسل يأخذ في الغسل ساعة ونصف؛ لأن الحياة معقدة، وإذا أكثر الجسم من الترفيه تعقدت الروح، تعقيد في اللباس وتعقيد في الغسل وتعقيد في الطعام؛ وهذه هي المضرة بعينها:
يا كثير الرقاد أكثرت نوماً إن بعد الحياة نوماً طويلاً |
وبعد النوم يقظة إلى حساب ومعاد، ثم إلى جنة أو نار، وهذه هي وقت الصيحة التي يصيح بها الملك يوم يجمع الله الأولين والآخرين.
وأنا أقول: الكرة ليست حراماً إذا أتت بضابطها الشرعي وأصلها الجائز في سنة محمد عليه الصلاة والسلام الموافقة للنصوص، ولكن أمة محمدية تلعب الكرة من العشاء إلى السحر، أمة تريد رضوان الله تبقى مع الكرة ومع الأهداف والمرمى والأشواط إلى السحر، شباب يراد منهم أن يكونوا حملة القرآن والرسالة والنصر لهذه الأمة ودعاة وعلماء يبقون أربع ساعات مع الغبار ومع الخسران والدمار والعار، فيأتي أحدهم يصلي الفجر وقلبه كالحجر من لعب الكرة، يقرأ الإمام والبعض منهم لا يدري في أي سورة، ملطخ بالتراب على وجهه وأذنيه ثم ينام نومة أهل الكهف إلى صلاة الظهر، فأين الإيمان؟! وهل هذه أسرار الصيام؟! وقد كان الصحابة كما قال ابن القيم:
في الليل رهبان وعند لقائهم لعدوهم من أشجع الفرسان |
إي والله! في الليل رهبان، كانت مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام عاصمة الإسلام تتراد بصوت القرآن والتلاوة الحية، وكانت نسمات القرآن عابقة، وكان محمد عليه الصلاة والسلام يمر فيسمع دوي القرآن، واسألوا تفسير ابن أبي حاتم والعجوز تقرأ قوله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] فيسمعها النبي صلى الله عليه وسلم ويبكي ويقول: {نعم أتاني، نعم أتاني} اسألوا صحيح البخاري فهذا أبو موسى يقرأ في البيت أو في المسجد وقد أوتي مزماراً من مزامير آل داوُد فيعيش معه محمد عليه الصلاة والسلام.
ولكن تعال اليوم واهبط إلى الأسواق واسمع ما يدار من نغمات، وموسيقى، وغناء ماجن، وتمثيليات فاسقة، يستحي الشيطان أن ينظر إليها، وكلمات بذيئة ربتها العلمنة، وفحش في القول والفعل، وخروج على مراسم الشريعة من بعض الناس، فمتى كانت المرأة المسلمة المتحجبة تجوب الأسواق؟! ومتى كانت تعرض نفسها على الخياط السيخي والزنديق؟!
إن هذا حصل يوم انطفأت معالم الرسالة، وأصبحت الأمة لاعبة، فأصبحت أمة بلوت وتريد النصر، لكن النصر على من؟! فإسرائيل أربعين سنة تهاجم العالم الإسلامي، وَعددنا مليار لكن مثل الخفافيش، والأصفار على اليسار:
عدد الحصى والرمل في تعدادهم فإذا حسبت وجدتهم أصفارا |
وأخبر بذلك محمد عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {قالوا: أمِنْ قلة يا رسول الله؟ قال: بل أنتم كثير، لكنكم غثاء كغثاء السيل} فالشاب عمره ثلاث عشرة سنة ويحفظ ثلاث عشرة أغنية، ولكنه يخطئ في سورة المسد، يقدمونه يصلي بالناس فيقول: لا. لا تحرجوني.. بدون إحراج، لكنه في الكرة وفي البلوت وفي حفظ الأغاني جيد.
وأسامة عمره ثلاث عشرة سنة، ويتولى جيشاً فيه عمر وعثمان وعلي، ثم يأتي على فرسه بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ليودعه أبو بكر وأبو بكر آخذ بلجام الفرس، والفرس كأنه طائرة، وأسامة كأنه أسد على الفرس، فأراد أسامة أن يهبط ليركب الخليفة، فقال أبو بكر: [[والله لا تنـزل، ووالله لا أركب، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله؟]] فكأن أبا بكر ما اغبرَّت قدمه قبلها، والله إنها اغبرَّت قدمك منذ أسلمت، لكن نحن متى اغبرَّت أقدامنا؟ ولقد غبرنا أيادينا في الأرز والكبسات، يقول الأول:
سل الرماح العوالي عن معالينا واستشهد البِيْض هل خاب الرجا فينا |
فقال الأخير:
سل الصحون التباسي عن معالينا واستشهد البَيْض هل خاب الرجا فينا |
غفرانك يا رب! لكن هذه الطلعات والإشراقات، وهذه الصحوة المباركة هي من تلك السلالة العظيمة من سلالة أبي بكر ومن عرين عمر ومن مدرسة أسامة:
لكن أبشر هذا الكون أجمعه أنا صحونا وسرنا للعلا عجبا |
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأُسْد تزأر في غاباتها غضبا |
عافوا حياة الخنى والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنبا |
فالذي يسجد هنا هو الذي انتصر على العمالة والعلمنة والحداثة، وانتصر على الإلحاد والشهوة، لأنك مهاجم من كل جهة، ولكن سجدتك هنا انتصار لك، ومن لا يسجد لله فإنه يسجد لجزمته ولطاغوته وشهوته، والله المستعان!
أقول أيها الإخوة: مما يعلم أن هذا البرنامج يتفق مع أوقات الصلاة؛ لأن الله يقول: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103]. أقول:
الأمر الأول: صلاة الفجر في جماعة:
أول ما يبدأ به العبد: صلاة الفجر في جماعة، قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه أدركه، ومن أدركه كبه على وجهه في النار).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر) فهم لا يستطيعونها، فصلاة الفجر محك بين المؤمن والمنافق، فأول ما يبدأ به الصائم أن يصلي الفجر في جماعة.
الأمر الثاني: المكث في المسجد حتى طلوع الشمس، ثم الصلاة ركعتين:
وبعض العلماء -أثابهم الله- يصححون حديث: (من صلى الفجر في جماعة، ثم جلس في مجلسه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت كعدل حجة وعمرة تامة تامة تامة) والبعض يضعف هذا الحديث، ونرجو لمن يفعل ذلك الإثابة الوعدية، الموعودة من معلم الخير عليه الصلاة والسلام، وهو وقت يسير، وخاصة هذه الأيام، لكنه وقت نور ووقت غذاء للقلب ووقت فرح وسرور للخاطر، فتمكث في هذا الوقت العظيم الذي يزيدك من طاقات الإيمان ويغنيك عن كثير من التأليفات، وهذا الوقت أمره عجيب، ثم الصلاة ركعتين كما سلف.
الأمر الثالث: صلاة الضحى:
أقترح لإخوتي ما دعا إليه عليه الصلاة والسلام من ركعتي الضحى، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت:... وذَكَر: ركعتي الضحى) أو أربع أو ست أو ثمان خاصة في رمضان، فهي أحسن ما يكون، وهي صلاة الأوابين، حين ترمض الفصال، فإذا ارتفعت الشمس في أعلى الضحى قم فتوضأ فهو وقت غفلة، الناس في متاجرهم وحراجهم وأسواقهم، وأنت تسبح الله.
الأمر الرابع: الراحة للنوم:
ومنها: الراحة للنوم؛ لأن كثيراً من الناس يسهر في الليل فيرتاح إلى العاشرة ثم يذهب إلى عمله أو وظيفته أو مدرسته.
الأمر الخامس: صلاة الظهر مع رواتبها:
ثم استقبل صلاة الظهر وصلِّ قبلها أربعاً وبعدها أربعاً، فقد صح عن عنبسة بن أبي سفيان أن أخته رملة -أم حبيبة - حدثته أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من صلى أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها حرمه الله على النار.
وفي مسند أحمد: (أن
الأمر السادس: القيلولة:
ثم القيلولة لمن استطاع أن يقيل.
الأمر السابع: صلاة العصر مع راتبتيها:
ثم يصلي أربعاً قبل صلاة العصر، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً).
الأمر التاسع: قراءة القرآن، والدعاء:
وبعد صلاة العصر إلى صلاة المغرب هذا وقت القرآن، وهذا وقت الاتصال بالمصحف العظيم، ووقت الجلوس في الأدعية والأذكار، وأرى أن يخصص الوقت الأوفر لقراءة القرآن، ويبقى وقت بين المغرب وقراءة القرآن للذكر والدعاء.
الأمر العاشر: إيحاءات قبل صلاة المغرب:-
فإذا حل الإفطار كانت هناك إيحاءات ومشاعر فياضة، وأشواق، فمن الإيحاءات:
الأول: أن انصرام هذا اليوم يذكرك بانصرام العمر.
الثاني: أنه كما ذهب منك هذا اليوم فسوف يذهب عمرك من بين يديك.
الثالث: أن الناس في حياتهم وحسابهم كما هم عند إفطارهم، فمقبول منه مشكور سعيه، ومتبر سعيه باطل ما عمل.
الرابع: أنك تقدم يدك للإفطار وأنت جائع ظامئ الكبد، وتقول ما روي وما ذكر في السنة من الدعاء الذي ذكـر: (ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله) وهو حديث في سنده كلام، وتدعو بما تيسر، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (للصائم دعوة لا ترد) وأحسن دعوات الصائم قبل أن يأكل شيئاً وقبل أن يشرب شيئاً؛ لأنه في حالة من الانكسار والعوز والذلة والخشوع والمسكنة، فيرفع كف الضراعة في صلاح نفسه، وقلبه وأسرته وأهله ومجتمعه، ثم يأكل ما تيسر من الرطب، وقد ورد في الحديث: (فإن لم يجد فتمر فإن لم يجد فماء) سبحان الله! أي سر في هذا الدين! ولماذا التمر؟!
لقد اختاره عليه الصلاة والسلام وهو طعام الحامل يوم تضع ولدها، فهو أحسن شيء، وهو ما فعله عليه الصلاة والسلام يوم حنك الأطفال، فأول ما يولدون، وقبل أن يشربوا لبناً أو يذوقوا شيئاً كان يحنكهم عليه الصلاة والسلام بالتمر فيتلمظونه.
وقد أتى أنس بأخيه من أم سليم وهو طفل صغير ما رضع، فحنكه عليه الصلاة والسلام بالتمر، فأخذ يتلمظ الطفل فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: (انظروا إلى حب الأنصار للتمر) فالتمر فيه سر عجيب، يقولون: البطن الخاوي أحسن ما يصادفه الحلو، فإن لم يجد فماء.
الأمر الحادي عشر: صلاة المغرب مع راتبته:
ثم يصلي المغرب مع راتبته.
الأمر الثاني عشر: العَشاء:
ثم يعود فيأخذ ما تيسر ولا يجحف إجحافاً عظيماً، فإن بعض الناس يأكل أكلاً ذريعاً، فيأتي إلى التراويح وكأنه مصاب ببنج، حتى أن بعضهم يصلي العشاء وبعض التراويح وهو جالس؛ لأن بينه وبين أضلعه مخلاة -الله أعلم بها- قد عبئت بأنواع الأطعمة والأشربة ومن السوبر ماركت مباشرة، فلا يستطيع أن يصلي، حتى يقال: إن بعضهم يشرب من هذه الشربة حتى لو غمز بمسمار في قدمه لخرجت الشربة من أذنه.
وعلى كل حال التخفيف وارد؛ ليستطيع أن يواصل الإنسان العبادة، ثم يكمل بعد العِشاء، ومن جرب عرف.
الأمر الثالث عشر: صلاة العِشاء وراتبتيها، والتراويح:
ثم يصلي مع المسلمين العِشاء وراتبتيها، وليحافظ على التراويح.
يا أيها الإخوة! التسيب في صلاة التراويح ليس بجيد، خاصة من طلبة العلم والأخيار، بل يقفون وراء الإمام حتى يقضي الصلاة ويكثرون من الدعاء والاستغفار؛ فإن دعاءهم مع المؤمنين أعظم من دعائهم وحدهم.
الأمر الرابع عشر: السمر مع الأهل وزيارة الأحبة:-
ثم يعودون للسمر مع الأهل أو زيارة الأحبة ولو ساعة أوساعتين.
الأمر الخامس عشر: النوم:-
ثم أحبذ أن ينام المسلم ولو ساعة في الليل، فنوم الليل لا يعوضه شيء، والله قد جعل الليل لباساً والنهار معاشاً، ولذلك أثبت الطب هذه الآيات البينات بل أتى بما يوافقها، ونحن نأخذ بالآيات ولو خالفها الطب، لكن قالوا: إن الخلايا لا تنام في الضوء، ولذلك إذا أرادوا أن ينوِّموا رجلاً في المستشفى أغلقوا النوافذ والنور، فجعل الله هذا الليل هدوءاً للجسم ليرتاح ويهدأ، فسبحان الله الحكيم بعباده! وسبحان الذي جعل النهار نشوراً!
الأمر السادس عشر: الصلاة والدعاء قبل الفجر:-
ثم يستيقظ قبل الفجر فيصلي ما تيسر: ركعتين، أو أربعاً، ويدعو ويستغفر.
الأمر السابع عشر: السحور:-
ثم يتسحر فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (تسحروا فإن في السـحور بركـة) فالسحـور بركـة، و: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) ثم يَكُفُّ عن السحور قبل أذان الفجر ولو بمقدار خمسين آية؛ لحديث زيد بن ثابت في صحيح البخاري في ذلك.
الأمر الثامن عشر: الاستغفار والتهيؤ لصلاة الفجر:-
ويبدأ يستغفر ويتهيأ لصلاة الفجر.
فإذا فعل ذلك فإن حياته وصيامه مقبول بإذن الله.
فهذا برنامج مقترح وهو يقبل التعديل من أصحاب الخبرات وأهل التجارب.
وبلال أذن في الفتح مرتين:
المرة الأولى: في فتح مكة:-
يوم انتصر صلى الله عليه وسلم وأعلن كلمة التوحيد، فقال لـبلال: أذِّن، واختار بلالاً بالذات؛ ليبين أن هذا المولى الذي أتى من أثيوبيا رفعه الإسلام فأصبح سيداً من السادات؛ وأن أبا جهل وأبا طالب والأصنام والأوثان أهل العروبة المزعومة والتراب السحيق قد ذهبوا إلى جهنم، فبدأ يطلق الصوت في الدنيا ليسمع الدنيا الأذان:
قم يا بلال أعد نشيدك في الورى للعالمين وسجل الإنذارا |
ودع التماثيل التي قد صورت جذذاً ومزق عبدها الخوارا |
فقام فأذن، فيقول صفوان بن أمية -وهو مشبوه الإسلام في تلك الفترة-: لطف الله بـأمية مات قبل أن يسمع الغراب الأسود هذا على الحجر، وهو ليس بغراب أسود ولكنه منادي الأرض يستقبل نور السماء.
المرة الثانية: في فتح القدس:-
وأذن بلال مرة ثانية عندما دخل عمر بيت المقدس فاتحاً -كما يذكر بعض المؤرخين- يوم أخذ القدس السليبة، التي هي طعنة في قلب كل مسلم، والتي هي دمعة في عين كل مسلم.
القدس التي ضيعناها يوم ماتت في قلوبنا لا إله إلا الله.
أيا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمرُ |
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا |
نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصراتٌ وقُصَّرُ |
وليمون يافا يابس في أصوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمرُ |
خرج عمر رضي الله عنه وأرضاه ليأخذ مفاتيح بيت المقدس، فأخذ راحلة واحـدة ومولاه، فقـال: أنت تركب عقبة، وأنا أركب عقبة -أي: أنت مرة وأنا مرة- قال المولى: كيف وأنت أمير المؤمنين؟! قال: والله لتركبن وقتاً وأنا وقتاً، فإذا ركب المولى قاد عمر الجمل، وإذا نزل يقود ركب عمر، واقتربوا فقال عمرو بن العاص: خيبتنا يا أمير المؤمنين - عمرو بن العاص كان أمير إقليم - وقال له: أين الخدم؟ أين الحشم؟ أنت خليفة، والنصارى ينتظرونك؛ لأنه دوخ الدنيا، فالنصارى على أسطح المنازل.
وقد كان عمر يحكم من المحيط إلى الخليج بضعاً وعشرين دولة، فلما اقترب عمر من بيت المقدس أتت نوبة المولى ليركب، قال: يا أمير المؤمنين! وصلنا، فيقول عمر للمولى: أهي عقبتك أو عقبتي؟ قال: هي عقبتي، قال: والله لتركبن.
وأتى عمر يقود الجمل، والتفت النصارى وقالوا: من هذا؟ قالوا: الخليفة فبكوا.
فهذا منظر يبكي وهو منظر يقوي الإيمان في القلوب، وهو منظر أعظم من آلاف المحاضرات والكتابات والرسائل، فأخذ عمر يخوض في طين عند مدخل بيت المقدس يرفع ثيابه ويقود الجمل ثم دخل فصلى ركعتين، وقال: يا بلال! أذِّن، قال: يا أمير المؤمنين! ما أذنت لأحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: عزمت عليك أن تؤذن فقام فرفع الصوت بالأذان فبكى الناس.
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى |
فهذا أذان بلال.
فهو موحد من الدرجة الأولى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174] فقالوا له: "قل: إن شاء الله" قال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، وقاتل حتى رُئِيَت الدماء على ثيابه، وتكسر سيفه في المعركة، فكان مجاهداً ومفتياً وخطيباً.
دخل ابن تيمية على قازان، فهزه بموعظة ما سمع الناس بمثلها، فأخذ هذا التتري الذي لا يعرف شيئاً، ولا يعرف قطرة من الإسلام، قال: "ادعُ لي يا بن تيمية إنك رجل صالح"، فقال الترجمان: "ادع له"، فالتفت ابن تيمية إلى القبلة وقال: "اللهم إن كان هذا العبد يريد صلاحاً للإسلام والمسلمين، فانصره وأيده، وإن كان يريد تدمير المسلمين فاجعل تدميره في تدبيره"، ويقول التتري: "آمين" يحسبه أنه دعاء للوالي.. آمين.. آمين حتى انتهى، ثم قام ابن تيمية.
وهذه كانت في رمضان.
تلك المكارم لا قعبان من لبن وهكذا السيف لا سيف ابن ذي يزن |
وارتفع صوت الأذان، وما بقي مسلم في بيت المقدس إلا بكى، وبيت المقدس ينتظر أذاناً ثالثاً، نسأل الله أن نصلي في بيت المقدس نحن وإياكم، يوم نعود إلى الله.
أيها الإخوة هذه محاضرة: (كيف نستقبل شهر رمضان؟) والله الموفق.
.
الجواب:طلب عليه الصلاة والسلام تحري ليلة القدر في العشر الأواخر، وهي في الوتر منه، وفي ليلة سبع وعشرين آكد، وكاد صلى الله عليه وسلم أن يعلم الناس لكن اختلف رجلان، فقال: {رفعت، ولعله أن يكون خيراً فالتمسوها في السابعة والعشرين، في التاسعة والعشرين، في الخامسة والعشرين}. فأقول: تُلْتَمس في العشر الأواخر، خاصة في الأوتار منها: ليلة الواحد والعشرين، أو الثالثة والعشرين، أو الخامسة والعشرين، أو السابعة والعشرين، أو التاسعة والعشرين، فالتمسوها بالذكر والدعاء والتلاوة، عل الله أن يوفقكم بها، وورد في الأحاديث أن في فجرها في اليوم التالي تكون الشمس صافية لا شعاع لها، وكثير من المحدثين صحح هذا الحديث.
الجواب: بل قبل أذان الفجر على الصحيح، فإذا أذن الفجر فمعناه: أنه علامة لطلوع الفجر، والله عز وجل قيد الأمر بطلوع الفجر فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ [البقرة:187] فقبل أن يؤذن بقليل يقوم، أما إذا رفع شيئاً في يده ثم أذن فعليه أن يأكله، وهذا موجود عند أبي داوُد والحاكم:{إذا رفع أحدكم الإناء وأصبح في يده فلا يضعه حتى يقضي نهمته} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
الجواب: لك أن تتنفل مكانها، وليكن من باب قضاء النوافل.
الجواب: صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {عمرة في رمضان كحجة معي} وهذا حديث صحيح، فأوصيك -يا أخي- أن تحرص على العمرة، خاصة في العشر الأواخر، إذا لم يكن عليك مضرة في أهلك أو عبادتك من زحام أو غيرها أو مشقة أو عدم خشوع أو فتنة نظر أو نحوها، فأرى أن تكثر من النوافل في الحرم، وأن تحضر صلاة التراويح والقيام في تلك البقعة الطاهرة المشرفة التي ما خلق الله أشرف منها.
الجواب: إن كان قصدك صلاة التراويح في الليلة الواحدة، أي: تصلي هنا ثم مع إمام آخر ثم ثالث، فلا، بل صلِّ مع إمام واحد في الليلة.
وإن كان قصدك ليلة هنا وليلة هناك فلك أن تبحث عن إمام حسن الصوت تخشع معه، ولا أعلم في ذلك نهي، بل رأيت في ترجمة ميمون بن مهران أنه قال: كان السلف يحبون حسن الصوت، ويتتبعونه في المساجد؛ ولا أعلم في ذلك ما يمنع هذا.
هذا -أيها الإخوة- ما تيسر لي في هذه الليلة، وأسأل الله عز وجل التوفيق والهداية والسداد والرشد.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر