ثم ذكر سبب فتح مكة ومسير أبي سفيان إلى المدينة ومحاولته تأكيد الهدنة، وعرض قصة العباس مع أبي سفيان عند دخول الجيش مكة، ومقتل عبد الله بن خطل، واغتسال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وإسلام بعض الوجهاء من كفار مكة كصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام، وما وقع من معجزات يوم الفتح.
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ومع (مكة في يوم الميلاد) يوم أن أذَّن بلال رضي الله عنه وأرضاه يوم الفتح الذي يقول الله فيه: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً *لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً [الفتح:1-2].
من حاطب بن أبي بلتعة، إلى أهل مكة.
أمَّا بَعْد:
فإن محمداً -يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم- قادم عليكم بجيش كالسيل، أقبل يتلو بعضه بعضاً كالليل، فأنقذوا أنفسكم. والسلام
}.وهذا الحديث اتفق البخاري ومسلم على إخراجه، وهو يشتهر بحديث حاطب بن أبي بلتعة، وله أسباب أوردها أهل العلم.
ثم أخذ الإمام البخاري يستطرد بقصة الفتح، والكتائب التي جمعها صلى الله عليه وسلم.
فقام بنو بكر بقتل رجال من خزاعة، وهذا معناه نقضٌ للصلح الذي تم ووقع عليه كلا الطرفين، طرف الرسول عليه الصلاة والسلام، والطرف الآخر طرف المشركين ووقع عنهم سهيل بن عمرو.
فلما قتلوا هذا القتيل خاف أبو سفيان وهو في مكة أن يأتي الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وإذا أتى الرسولََ صلى الله عليه وسلم الخبرُ بأن أحلاف قريش قتلوا رجالاً من حلفائه، فسوف يغضب عليه الصلاة والسلام، ويعلن الحرب على أبي سفيان وعلى القرشيين.
فسبق بُدَيْل بن وَرْقاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فوصل إلى المدينة في الليل وأخبره، قال: (يا رسول الله! نقضت قريش عهدك ووعدك، وقتلوا رجالاً منا فسكت عليه الصلاة والسلام واحمر وجهه مُغْضَباً) فرجع بُدَيْل بن وَرْقاء مندوب خزاعة، فلقيه أبو سفيان، وقال له: من أين أتيت؟ -و أبو سفيان كان ذكياً من أذكياء الناس، ورجلاً داهيةً- قال: من أين أتيتَ يا بُدَيْل؟ قال: كان لي مال بالغابة ذهبت إليه، ثم مررت على خزاعة أسلم عليهم -يعني: قبيلته- فنزل أبو سفيان إلى بَعَر بَعِير جمل بُدَيْل، ففَتَّه، فوجد النوى فيه، قال: كذبتَ؛ ولكنك كنتَ في المدينة تخبر محمداً.
ثم ركب أبو سفيان ناقته وذهب إلى محمد عليه الصلاة والسلام فوصل إلى المدينة، فلم يجد أحداً في البيوت، حيث كانوا في اجتماع مع الرسول عليه الصلاة والسلام في المسجد، فدخل على ابنته -وابنته كانت زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام- فلما رأته ما استقبلته ذاك الاستقبال الحافي، وما رحبت به، وما هشت وبشت في وجهه؛ لأنه كافر، وهذه علامة الموالاة والصدق مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فدخل وبيده عصا، وقد ربط ناقته، فأتى إلى مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى فراشه، فسبقته إلى الفراش فلفَّتْه وسحبته عنه، فقال: لقد أصابك بعدي شر، كيف تسحبين عني فراش زوجك؟ قالت: هو طاهر وأنت مشرك نجس، فأخبرها الخبر، فقالت: ما أجد لك إلا هؤلاء النفر يشفعون عند الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: من هم؟ قالت: اذهب إلى أبي بكر ليشفع لك؛ لأنه خاف أن يهاجمه صلى الله عليه وسلم بجيش في مكة.
فذهب أبو سفيان إلى أبي بكر فأخبره الخبر، قال: وتظنني يا أبا سفيان أشفع لك عند الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قال: نعم، قال: والله ما أنا بفاعل، فذهب إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه فأخبره الخبر، وأبو سفيان عنده، قال عمر: ماذا تريد؟ قال: تشفع لي عند الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: اللهم ما كان بيننا وبينك من عهد نسأل الله أن يقطعه، وما كان بيننا وبينك من حبل نسأل الله ألا يتمه، والله لو أني لا أجد إلا الذر لحاربتكم بالذر، فقال أبو سفيان: جزاك الله من رحم شراً، ثم خرج من عنده فوصل إلى عثمان، فأخبره، قال: لا أشفع، فذهب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عن الصحابة أجمعين فوصل إلى علي فوجده في البيت، فأخبره الخبر، قال: ما أجترئ، فقام أبو سفيان إلى فاطمة بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: يا فاطمة! اشفعي لي إلى أبيكِ ألا يطأنا بالخيل بكرة النهار، قالت: ما أجرؤ، قال: فقومي بابنك الحسن، فضعيه في حِجْر جده؛ ليكون هذا الحسن سيداً أبد الدهر ليشفع بين الناس، قالت: ما بلغ السن أن يشفع، فقال: يـابن أبي طالب: أنت أقرب الناس مني رحماً -وهذا صحيح؛ لأنهم أبناء عم، هؤلاء من بني عبد شمس.
من الأعياص أو من آل شمس أغَر كغُرَّة الفرس الجواد |
وهؤلاء من بني هاشم -فقال علي: وجدتُ لك حلاً، قال: وما هو؟ قال: اذهب فإذا صلى الناس العصر، فقل: أجرتكم أيها الناس -وأراد علي أن يضحك عليه أمام الناس رضي الله عن علي -فلما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالناس العصر، قام أبو سفيان، فوقف في المحراب، والتفت إلى الناس -وهو لم يصل معهم- وقال: قد أجرتُ ما بينكم أيها الناس، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: (أتقول ذلك يا
وصل إلى أهل مكة، وأهل مكة على أحر من الجمر؛ لأنهم يعلمون أن الرسول عليه الصلاة والسلام أتاه الخبر بقتل الخزاعي، وهذا معناه نقض الصلح وبداية المعركة.
فوصل أبو سفيان إليهم، فقالوا: ما الخبر؟ فأخبرهم، قال: وجدتُ الناس قريبين إلا عمر فوجدته أدنى العدو، قالوا: فماذا فعلتَ؟ قال: تكلمتُ في الناس، فأجرتُ فيما بينهم، قالوا: فماذا؟ قال: محمد! يعنون: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تبسم، وقال: (أهكذا تقول يا
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر في اليوم الثاني، فلما انتهى من الصلاة، وإذا رجل خزاعي اسمه: عمرو بن سالم، من القوم الذين قتل منهم القتيل، دخل بعصاه، وعقل ناقته في طرف المسجد، ورفع صوته ينشد، ويقول:
يا رب إني ناشد محمدا حِلف أبينا وأبيه الأتلدا |
فانصر هداك الله نصراً أيدا وادع عباد الله يأتوا مددا |
فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل البدر يسمو مصعدا |
إن سيم خسفاً وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجري مزبدا |
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا |
وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالوتير هجدا |
وقتلونا ركعاً وسجدا |
فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، وقال: (نصرت يا
ولكن حاطب بن أبي بلتعة -وهو أحد الصحابة الأخيار من أهل بدر - تذكر أن له أطفالاً ونساءً في مكة، فأراد أن يمنعهم من كفار قريش؛ ليتخذ عند كفار قريش يداً، فكتب رسالة -الرسالة السابقة- وأتى الوحي من السماء على لسان جبريل، يخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أن حاطب بن أبي بلتعة قد كتب رسالة يخبر كفار قريش، ومعناه: إذا أخبرهم اعدوا واستعدوا وتواجهوا في الطريق، والرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يفاجئهم فلا يشعرون به إلا وقد طوق مكة من كل جوانبها، فأخبره جبريل، فأرسل صلى الله عليه وسلم علياً وهو فارس الطوارئ، هو والزبير بن العوام، البطل الحواري، والمقداد رضوان الله عليهم جميعاً، فأخذوا الرسالة، وعرضوها على الرسول عليه الصلاة والسلام، فاستدعى حاطباً، فأعلن معذرته، فصدَّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عمر لحماسه للإسلام، ولغضبه لله ولرسوله ما صدَّقه، حتى أنه قال له صلى الله عليه وسلم:(أما تدري يا
ولذلك ضربَ حاطبٌ مولى له، فذهب هذا المولى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: (ضربني
وهذا ثبت، فإن الله عز وجل تجلى للناس يوم بدر، يوم التقى الجمعان، يوم كان المسلمون بالعُدوة الدنيا، وهم بالعدوة القصوى، والركب أسفل منهم، فتجلى لهم الحي القيوم، وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم. وفتح الله لهم أبواب الجنة؛ فهم من أفضل الناس، ومن أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ومضوا رضوان الله عليهم وأرضاهم والرسول صلى الله عليه وسلم قائدهم، وقد أنزل عليه من ذي قبل: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:1-2] فقالوا: أي فتح يا رسول الله؟ فأخبرهم أنه فتح خيبر، ثم فتح مكة.
وتحرك عليه الصلاة والسلام هو والجيش وكان في رمضان، فلما بلغ الكديد شق الصيام على الناس، وكانوا ما يقارب عشرة آلاف، فدعا بالإفطار، فأفطر صلى الله عليه وسلم وأعلن الإفطار في الناس، فأفطروا جميعاً إلا بعض الناس أبوا أن يفطروا، وتحرجوا وتأثموا.
يا سبحان الله! أتقى الخلق لربه، وأخشاهم لمولاه، رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر في رمضان، وهم يتحرجون؟! فلما سمع صلى الله عليه وسلم أنهم لم يفطروا قال: (أولئك العصاة، أولئك العصاة، أولئك العصاة) وهذا في صحيح مسلم.
فلما بلغوا مَرَّ الظهران قال أنس: (فنزلنا، فأتى صلى الله عليه وسلم في منزل، فمَرَّت أرْنَبَة، فأنفجناها -أي: طاردناها- ففرت فصدتُها، فأتيت بها
ونزل صلى الله عليه وسلم قبل الظهر، فوجد الأراك وعليه ثمرٌ أحمر، فبدأ يأكل صلى الله عليه وسلم منه، فلما رآه الصحابة نزلوا يأكلون معه مشاركة له؛ لأنهم إذا رأوه في أمر شاركوه فيه من الحب ومن التوقير والاحتشام، فقال:( عليكم بالأسود من الكُباث -أي: من الثَمَر- فتبسم الصحابة، وقالوا: كأنك رعيت الغنم يا رسول الله قال: نعم رعيتها. وما من نبي إلا رعى الغنم.) لأنه لا يعرف الثمر الأسود من الأحمر من الجيد من الكُباث إلا من رعى الغنم، فأخبرهم بذلك.
وصل عليه الصلاة والسلام إلى مشارف مكة، وما أتى قريشاً؛ لأنه دعا عليهم أن يأخذ الله أبصارهم وأسماعهم، فلا يأتيهم أي خبر، فما علموا أبداً أنه تحرك بجيش، وهذا خلاف ما أقره العقلاء - باستقراء من أحوال الأمم - أن الجيوش العظيمة إذا تحركت من مكان إلى مكان لا بد أن يأتي خبر، من التجار والرعاة، والمسافرين، والمتنقلين، والأعداء، ومن الجواسيس؛ لكن هؤلاء ما أتاهم أي خبر، وهم في مكة.
الكتيبة الأولى: يقودها سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه وهي (كتيبة الموت) كما سماها أبو سفيان -و(الموت الأحمر)كان كامناً في هذه الكتيبة كما يقول ابن حجر - وقائدها سعد بن عبادة الخزرجي رضي الله عنه وأرضاه.
الكتيبة الثانية: يقودها خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه ودخل من الخندمة، وهي التي قاتلت أشد القتال يوم الفتح.
الكتيبة الثالثة: يقودها أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه.
الكتيبة الرابعة: يقودها الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه حواريِّ الرسول عليه الصلاة والسلام وقد أتت من جنوب مكة.
فلما نزلوا طوَّقوا مكة من كل النواحي، وأمر الرسولُ عليه الصلاة والسلام الجيشَ أن يشعل كل واحد منهم ناراً تتوقد، فقام كل جندي وجمع حطباً وأشعل ناراً، فأخذت جبال مكة تلمع في الليل، حتى أصبح كأنه نهار، فخرج أبو سفيان، وأخبره بعض الرعاة: أنهم يرون ناراً في جبال مكة، فقال للعباس: يا أبا الفضل! اخرج معي فإني سمعتُ أن هناك نيراناً في نواحي مكة، فخرجوا ومعهم حكيم بن حزام وبُدَيْل بن وَرْقاء، فنظروا إلى الجبال، قال أبو سفيان: ما هذه النيران؟ كأنها نيران عرفة، أي: يوم الحج، فقال حكيم: أظنها نيران بني عمرو، قال: بنو عمرو أذل وأقل من ذلك، قال: أظنها نيران خزاعة، قال: خزاعة أذل وأقل من ذلك، فقال العباس لما علم أنه الرسول عليه الصلاة والسلام: يا أبا سفيان، أنقذ نفسك، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلنك بكرةً نهاراً، قال: وما الحل يا أبا الفضل! فداك أبي وأمي؟ قال: اركب معي، فهذه بغلة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانت بغلته شهباء، فركب في عجزها، ومر بالمخيمات والمعسكرات خيمة خيمة ومعسكراً معسكراً، لا يعرفه الأنصار، لا يعرفون أبا سفيان إلا النادر منهم، ولا تعرفه قبائل العرب. فلما مر بخيمة عمر، ثار عمر إلى خيمته فاختلع سيفه سالاًّ إياه، وأتى وراء البغلة، فلما رأى العباسُ أن عمر يطاردهم، حرك البغلة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وعمر ينادي في الناس: عليكم بـأبي سفيان، عدو الله، أمكن الله منه، فدخل أبو سفيان وراء العباس في خيمة الرسول عليه الصلاة والسلام حيث القيادة، وحيث الحِلْم والكرم.
من زار بابك لم تبرح جوانبه تروي أحاديث ما أوليتَ من مِنَنِ |
فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر، والسمع عن حسنِ |
فنزل العباس، وأنزل أبا سفيان، فلما رآه صلى الله عليه وسلم تربع، وقال: {يا
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها |
فنزل وجلس، فأخذ عمر يُلِحُّ، لا يريد الصلح مع أبي سفيان، يريد قَتْله، فقال العباس غضباناً: {هوِّن يا
ولما ظهر الصباح، وأشرقت الشمس أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الجيش أن يتحرك إلى مكة، لأن الله يقول: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح:1].
واستفاقت على صباح جديد ملء آذانها أذان بلالِ |
فوقف أبو سفيان ومعه العباس فمرت (كتيبة جهينة) وهم ألف مقاتل، لا يرى منهم إلا الحدق، أي: مدجَّجون بالسلاح، قال: من هذه؟ قال: جهينة، قال: وما لي ولجهينة، بمعنى: هل أنا قاتلتُ جهينة؟
ثم مرت كتيبة غِفار فقال: من هذه؟ قال: غِفار، قال: وما لي ولغِفار، حتى مرت كتيبة الموت معها سعد بن عبادة، وهم الأنصار، وهي أعظم كتيبة وجدت في الجيش، فلما مرَّ سعد بن عبادة زاحم أبا سفيان عند مضيق الوادي، حتى كاد أن يُتْلِفَه من مكان هناك، ثم قال: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة، يقصد: يوم القتل، فصفَّق أبو سفيان بيديه، وقال: أُبيدت خضراء قريش، أي: معناه القتل، وذهب أبو هريرة يسعى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في آخر الجيش، وقال: يا رسول الله! أما سمعتَ ماذا يقول سعد بن عبادة؟ قال: ماذا يقول؟ قال: اليوم يوم الملحمة، قال: خذ الراية من سعد بن عبادة -كالمؤدِّب والمعزِّر له- واعطها ابنه قيس بن سعد، فانظر إلى الحكمة، لو أخذها منه إلى غيره لغَضِبَ سعد، ولو تركها عنده خاف أن يُفْشِي قتالاً؛ لأن الرجل جديرٌ وشجاع ومن أرهب الرجال، فأخذها منه تعزيراً لـه، ودفعها إلى ابنه لئلا يجد في نفسه، فأخذها قيس بن سعد، ومضى عليه الصلاة والسلام فلما مرَّ بـأبي سفيان قريباً منه، قال أبو سفيان: من هذا؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون، وكان بعيداً عنه قليلاً، فقال: من هذا الرجل الذي يتبسم إليه ويتبسم إليه أي: أن هذا يتبسم لهذا وهذا يتبسم لهذا، قال: هذا أبو بكر، قال: لقد عظم قدر ابن أبي قحافة، أي أنه كان في الجاهلية ما له ذاك الصيت كـأبي سفيان، والآن هو من القواد الكبار مع الرسول عليه الصلاة والسلام
قال ابن كثير: فانظر إليه في وقت النصر، كيف يتواضع ويهضم نفسه عليه الصلاة والسلام؟!
ثم مضى صلى الله عليه وسلم وكان يسأل: (هل هناك من قتال في أطراف الناس؟) فيخبرونه أن لا قتال، ويلتفت عليه الصلاة والسلام إلى جهة الخندمة، وهي مدخل من كِداء، فيجد السيوف تلمع في الضحى، والغبار ينقاد من على جبال مكة، فيسأل: (من هذا؟ فيقولون:
ولذلك روى ابن كثير والذهبي أن رجلاً من كفار قريش أخذ سيفه يسمُّه شهراً -يسقيه السم من رأس السيف- وكان يرقص عند زوجته ويتمدح عندها ويقول:
هذا سلاحٌ كاملٌ وأَلَّه وذو غِرارَين سريع السله |
قالت: ماذا تفعل به؟ قال: أفتك بمحمد وأصحابه، وأقودهم لك خدماً يخدمونك في بيتك.
وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا |
فأتت المعركة، فأتى هذا الرجل، فدخل مع صفوان وعكرمة يوم الخندمة، فقاتل فتظاهر خالد بن الوليد بالانهزام، فخرجوا له بنسائهم وأطفالهم، فكر عليهم، فأخذ المسلمون يضربونهم بالسيوف ضرباً لا مرحمة فيه، فدخل هذا الرجل وقد تثلم سيفه ولما دخل بيته أغلق على نفسه الباب وزوجته معه، هذا صاحب التمدح القائل:
هذا سلاحٌ كاملٌ وألَّه وذو غِرارَين سريع السلَّه |
قالت: أين أنتَ؟ ما أجدى عنكَ سيفكَ؟ قال:
إنكِ لو شهدتِ يوم الخندمه إذْ فرَّ صفوان وفر عكرمة |
يقول: إذا كان فر صفوان وعكرمة وهم القادات فأنا من باب أولى.
والمسلمون خلفنا في غمغمه يلاحقونا بالسيوف المسلمة |
أي: أنهم لا يتكلمون مثل الناس.
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه |
ودخل خالد رضي الله عنه وأرضاه، ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى ريع الحجون - كما يقول ابن كثير - التَفَتَ فرأى الخيالة، -خيالة خالد - وقد دخلوا من سِكَّة من جانبه، وإذا النساء القرشيات الكافرات يلَطِّمْنَ بالخُمُر على وجوه الخيول، يُرِدْن رَدَّ الخيول، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال لـأبي بكر -وكان أبو بكر حفاظة نسابة علامة في الأشعار والأخبار- قال: (يا
عَدِمْنا خيلَنا إن لم تروها تثيرُ النَّقْع موعدها كِداءُ |
تظل جيادنا متمطرات تُلَطِّمُهُنَّ بالخُمُر النساءُ |
فوقع ما قال تماماً، فإنهم دخلوا من كِِداء، ولطمت النساء الخيل بالخمر، حتى أنه يقول:
تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخُمُر النساءُ |
يرد على أبي سفيان بن الحارث، يقول:
هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجزاءُ |
أتهجوه ولستَ له بكفءٍ فشركما لخيركما الفداءُ |
فتبسم عليه الصلاة والسلام، وأشار وقال: ادخلوا من حيث يقول حسان، ثم دخل عليه الصلاة والسلام، والصحيح عند أهل العلم أنه دخل من باب بني شيبة، وقيل: من باب تجاه المروة؛ لكن لا يهمنا هذا.
دخل عليه الصلاة والسلام فلما رأى البيت كبر، وهلل اللهََ عز وجل وأخذ المنادي ينادي: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن، ومن دخل الحرم فهو آمن، فأخذ كفار قريش يلقون السلاح، ويتكدسون في الحرم، ويغلقون عليهم بيوتهم ويدخلون في بيت أبي سفيان، وأخذت هند تتعلق برأس زوجها أبي سفيان، لأنها تقول: إنه هو الذي فشل الناس، أي: ما قاتل، وتقول: ماذا تغني عنك دارُك؟ لا أغناك الله، أو كما قالت.
وأما الصحابة فأخذت جيوشهم تدخل من كل جهة، فدخل الزبير من جهة الحجون، فأخذ على الأبواب بجنوده، ودخل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وسعد بن عبادة، وابنه قيس وأبو عبيدة، فلما تكامل الناس، أمر صلى الله عليه وسلم بغلق الأبواب، ألا يمضي أحدٌ، ولا يدخل ولا يخرج، وقام عليه الصلاة والسلام فدخل في نواحي البيت، ومعه قوس.
وكان - كما قيل عند بعض أهل العلم - يطوف على ناقته، فأخذ على الأصنام وكانت ثلاثمائة وستون صنماً.
وانظر إلى هذه الأصنام كيف تركها عليه الصلاة والسلام ثلاث عشرة سنة في مكة، كان يدعوهم إلى (لا إله إلا الله) وأتى وهذه الأصنام في أماكنها، فما غير صنماً منها؛ لأن تغيير الباطل ليس بهذا الأسلوب، لأنه قد يكسرها من الواقع؛ لكن لا يكسرها من القلوب، وإذا كسرها وهاجمها يغضب إليها ألوف وألوف، فيقعون في إرباك ومشقة.
فدخل عليه الصلاة والسلام فأخذ يسدد رمحه، وقيل: سِيْتَه، وقيل: قوساً في يده، إلى وجوه الأصنام ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً} فكان قبل أن يصل القوس إلى الصنم يسقط الصنم على وجهه، وربما سقط على قفاه، ودخل عليه الصلاة والسلام فأمر بغلق باب الكعبة، ودخل معه أسامة وبلال بن رباح، وانظر إليه كيف يعظم ويوقر المعظمين في الإسلام، فإنه أدخل أسامة وبلالاً وهما من الموالي، ولم يدخل أبا بكر ولا عمر، فأتى عليه الصلاة والسلام فوجد صورة إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل عليهما السلام، وهما مصوران، وبأيديهما الأزلام يستقسمان بها، على مذهب الجاهليين الوثنيين، فقام صلى الله عليه وسلم يمحو الصور ويقول يقصد كفار قريش: {قاتلهم الله! لقد علموا إن استَقْسَما بالأزلام قط} كيف يستَقْسِمُون بالأزلام، وإبراهيم أستاذ التوحيد في الدنيا، وهو الذي أتى بـ(لا إله إلا الله) وقررها في البشرية، ويظهرونه في مظهر المشرك، وهذه هي الدعايات الأثيمة، يوم يأتون ببعض الصور أو ببعض الدعايات عن الدعاة أو العلماء أنهم فعلوا كذا وكذا؛ ليغرروا بها الناس، فيقولون: هذه صورة إبراهيم، وهذه صورة إسماعيل، يسْتَقْسِمان بالأزلام.
ثم أمر صلى الله عليه وسلم بإخراج الأصنام من الكعبة، فأخرجت، فقام فصلى، وهذا على الصحيح؛ لأن بعض الحفاظ عند البخاري ومسلم أنكروا الركعتين داخل الكعبة, والصحيح: أنه ركع عليه الصلاة والسلام.
ففي (الصحيح) من حديث ابن عمر، قال: {دخلت بعدما خرج صلى الله عليه وسلم، فقلت لـ
ابن خطل اسمه: عبد الله بن عبد العزى، ونعوذ بالله من الخذلان، يقول ابن تيمية: قد يوجد بعض الأسماء، مثل: بأن يُسمى: تقي الدين، أو صدر الدين، أو ظهير الدين، أو نجم الدين، ومع ذلك يكون من أعدى الأعداء لأهل الدين، وتجد من الناس من يكون اسمه: عبد الله، أو عبد الرحمن، أو عبد الرحيم، أو عبد السلام ويكون من أعداء الله.
فهذا اسمه: عبد الله بن خطل أسلم وارتد على عقبه، أرسله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وأعطاه خادماً معه، قال: {هذا يخدمك} انظر إلى الإحسان وحسن الخلق منه صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يجبي بعض الزكوات أو في مهمة، وقال: {هذا خادم يخدمك، وهذان تَيْسان معك، أحدهما غداء لك اليوم، والآخر غداء لك غداً} فذهب فلما قرب من مكة، نام في الطريق، وقال للخادم: اذبح لنا هذا التيس غداءً ونام، والخادم كان كالاً ومالاً وفاتراً فنام أيضاً، فاستيقظ فإذا الخادم نائم وإذا التيس يقظان، فقام على الخادم فقتله. وارتد عن الإسلام, ولم يَكْفِه هذا بل أخذ عوداً ومغنية، وجلس عند الحجر الأسود لتغني له المغنية الشعر الذي يُهْجَى به صلى الله عليه وسلم، فلما أتى يوم الفتح، أراد أن يستنجد بأستار الكعبة، فتعلق بثياب الكعبة، وهو يقول: إنه يريد أن يعفو عنه صلى الله عليه وسلم، فأتى الخبر الرسولَ عليه الصلاة والسلام، قالوا: {
تقدم عليه الصلاة والسلام إلى البيت وأمر فاطمة أن تستره بثوب، فاغتسل عليه الصلاة والسلام، وبينما هو في المغتسل إذ دخلت أم هانئ، وقالت: السلام عليكم، فقال عليه الصلاة والسلام وهو في المغتسل، وفاطمة تستره بثوب، وهي من وراء الثوب: (من هذه؟ قالت:
ولذلك يستدل به بعض أهل العلم في استخدام الألفاظ كـمرحباً وأهلاً وسهلاً، وكلها واردة.
فقالت أم هانئ: فجلستُ في البيت وخرج صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة وصلى ثمان ركعات ضحى، قالت: ما أدري هل يقرأ الفاتحة أم لا؟ من سرعة الركعات، قيل: هذه ركعات الضحى،وقيل: ركعات الفتح، فلما سلم عليه الصلاة والسلام التفت إلى أم هانئ، وقال: (ما الخبر؟ قالت: زعم ابن عمك أنه يقتل
ولما دخل علي رضي الله عنه ذاك اليوم رأى ابن هبيرة بين الناس، فأخذ علي يتفلت عليه بالسيف يريد قتله في الحرم، فأخذ الناس يحولون بينه وبين علي رضي الله عنه وعلي يأبى إلا أن يقتله، فأتى ابن هبيرة النساء، وهن عمات علي وخالاته ليمسكن علياً -لأن ابن هبيرة وعلياً أقارب- فيتفلت علي والسيف مسلول، ويقول: أقتله اليوم، فأتت أم هانئ تقول: أجرتُه أجرتُه، فما سمع لها علي حتى ذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: (قد أجرنا من أجرتِ). فأتت وأخبرت علياً فسكت رضي الله عنه وأرضاه.
وبعض الكفار من وجهاء مكة قد فروا، منهم:
ركب إلى جِدَّة، وجِدَّة - والحمد لله - تُنْطق جِدَّة، وجَدَّة وجُدَّة، قالها أهل اللغة.
فهو يريد الهجرة والذهاب إلى الحبشة. وقد عاد الناس من الحبشة، وهو بادئ في الهجرة؛ ولكن للشيطان, فوقف وراءه عمير بن وهب وقال: يا صفوان! لا تفجعنا بنفسك.
و عمير بن وهب هذا صاحب قصة قديمة.
أنه جلس مرة عمير بن وهب مع صفوان وغيره تحت ميزاب الكعبة، والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، بعد معركة بدر، فقال عمير بن وهب: يا صفوان! أما ترى ماذا فعل محمد بآبائنا وإخواننا يوم بدر قتلهم؟ قال: نعم. قال: لو وجدتُ أحداً يقوم بأهلي وأسرتي وأطفالي لذهبت إليه في المدينة فقَتَلْتُه، قال: أنا أبو أسرتك بعدك وأبو أطفالك، فاذهب إليه، فحمَّله بالمال، وأعطاه المِيْرة، وذهب إلى المدينة بسيفه، فلما اقترب من المسجد، رآه عمر، فقال: إني أرى الشر بين عينَي هذا الفاجر، فتقدم عمر إليه فأخذه بتلابيب ثيابه وبحميلة سيفه وأدخله على الرسول عليه الصلاة والسلام في المسجد، فأجلسه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ماذا أتى بك يا عمير بن وهب؟ قال: أتيتُ أفادي بعض الأُسارى من أسارى بدر عندك، قال عليه الصلاة والسلام: لا. والذي نفسي بيده، لكنك جلستَ أنت وصفوان تحت ميزاب الكعبة، وقلتَ: لو وجدتُ من يكفل أطفالي وأسرتي لذهبتُ إلى محمد أقتلُه، أما فعلتَ؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فرجع مسلماً منيباً إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو من الداخلين في الإسلام.
فلما فَرَّ أصبح صفوان في الميناء، قال له عمير: تعال يا صفوان! إنه من أحلم الناس، وأوقر الناس، قال: وما علامة ذلك؟ قال: هذا، أعطاني صلى الله عليه وسلم أماناً قيل: من العمامة، وقيل: من الثوب.
فأتى صفوان فوقف على رأس الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: أَصَدَقَ هذا أنك أمنتني؟ قال: كم تريد من الأمان؟ قال: أربعة أشهر -حتى يفكر في الإسلام، هل يدخل العقل أم لا؟ والناس قد دخلوا زرافات ووحداناً، وهو باقٍِ يستخير!! -فقال عليه الصلاة والسلام: خذ أربعة أشهر فأعطاه أربعة أشهر، فأسلم رضي الله عنه قبل الأربعة.
وأما عكرمة فذهب إلى أرض اليمن، فلَحِقَتْه زوجته، فأتت به -ابن الطاغية الكبير، ابن فرعون هذه الأمة: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27].
فأتى عكرمة -فلما رآه الرسول عليه الصلاة والسلام مقبلاً مع زوجته انظر إلى الاحتفاء والعفو والسماحة، لو كان غيره من الأقزام، كان تهدد عكرمة، وقال: انظر كيف فعلنا بكم وهزمناكم وسحقناكم؛ لكن لا، بل قام عليه الصلاة والسلام يجر رداءه حتى لقيه على الفرس، قال: {مرحباً بالراكب المهاجر} -يقصد أنه راكب ومهاجر إلى الله ورسوله، لم يقل: إنك منهزم، وفار، وقال: {مرحباً بالراكب المهاجر، فقال
فَصَدَقَ موعود الله، وبايع الله، فبقيت بيعة الإسلام في عنقه حتى يوم اليرموك، يوم انهزمت ميمنة المسلمين في عهد أبي عبيدة وخالد، فقام عكرمة وذهب إلى خيمته، فاغتسل وتحنط ولبس أكفانه، وسل سيفه، وقال: من يبايعني على الموت؟ فبايعه أربعمائة بطل، فشق بهم الصفوف، وقُتِلوا وأُتِي به إلى خالد، وقد تجندل، وكان قبلها يقرأ القرآن ويقبله ويبكي ويقول: [[كلام ربي كلام ربي]] واستدل بعض أهل العلم على جواز تقبيل المصحف من فعل عكرمة.
ولا بأس بالاستطراد مع عكرمة.
فلما أُتي به إلى خالد، وضعه خالد في حجره، ووضع ابن عكرمة وكان شاباً صغيراً في حجره كذلك؛ لأن خالد هو القائد، وأتى بـالحارث بن هشام رضي الله عنه وأرضاه. الحارث بن هشام: عم عكرمة، أخو أبو جهل، انظر كيف هدى الله حارثاً إلى الجنة، وأخذ أبا جهل إلى النار.
و الحارث بن هشام من أغنى أغنياء مكة، كان يطوف بجفنته على رأسه مكللة بالثريد كل صباح إلى الأيتام والمساكين.
فلما خرج إلى الجهاد في الشام بكى أهل مكة جميعاً عليه، والحارث بن هشام، هو الذي هجاه حسان يوم بدر، لأنه فر من بدر، حين كان مع المشركين، فيقول حسان:
إن كنتِ كاذبةَ الذي حدثْتِنِي فنجوتِ منجى الحارث بن هشامِ |
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجى بفضل طمرَّةٍ ولجامِ |
فلما أتى يوم اليرموك صدقوا الله جميعاً فقُتِلوا، فكانوا أربعة: فقال خالد لـعكرمة: ماذا تريدون؟ فما استطاع عكرمة أن يتكلم -لأن الموت قد داخَلَهُ، وموعود الله عز وجل قد وصله، والعهد الذي قطعه مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قد ختمه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111]-.
فظن خالد أنهم يريدون الماء، فَدُعِا بماء بارد من الخيمة، فقدمه لـعكرمة فرفض، وأشار إلى عمه الحارث، ليشرب قبله -انظر إلى الإيثار حتى في سكرات الموت: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولها الأشجارا |
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا |
فوصل الماء إلى الحارث، فقال: إلى عكرمة، فأعطوه عكرمة فرفض إلا أن يشرب المسلم الرابع قبله، فرفض المسلم، فعادوا إلى عكرمة، فوجدوه قد مات، ودفعوه إلى الحارث، فإذا هو قد فارق الحياة، وإلى الثالث فإذا به قد مات، وإلى الرابع فوجدوه ميتاً، فرمى خالد بالكوب، وقال: [[اسقهم في جنتك، زعم الناس أنا لا نموت، بلى والله نموت تحت قصع السيوف وضرب الرماح]].
ولذلك أكثر من يَرِدُ الحوض والرسول عليه الصلاة والسلام واقف يسقي الناس جماعات، الأنصار، وهو يقول لهم في الدنيا: (اصبروا حتى تلقوني على الحوض) فهو العلامة الفارقة بين الأنصار والوعد، والرمز الذي جعله صلى الله عليه وسلم هو الحوض المورود، وطوله شهر، وعرضه شهر، والرسول عليه الصلاة والسلام على الصحيح يسقي الناس بيده صلى الله عليه وسلم، فهو يسقيهم بيده يوم القيامة، نسأل الله أن يسقينا بتلك اليد الشريفة، وبذاك الحوض المورود شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
(فلما أقنعهم صلى الله عليه وسلم فرحوا وارتاحوا، وأتى رجل آخر، فقال: أين تنزل غداً يا رسول الله؟ -يقصد: في مكة، هل لك أملاك تنزل فيها؟- قال: وهل ترك لنا عقيل من رِباع؟)
و عقيل بن أبي طالب، ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام، أخو علي وأبو طالب مات مشركاً كما تعرفون وقد خلَّفَ أربعة أبناء:
أما اثنان فسبقا إلى الإسلام، وكانا نجمين ساطعين في تاريخ الدعوة المحمدية والرسالة الخالدة:
جعفر الطيار: الذي مُزِّق وقُطِّع في مؤتة، والذي ارتفع إلى الله وله جناحان، يطير بهما في الجنة حيث يشاء.
أبو الحسن علي بن أبي طالب: الزاهد العابد، صانع الكلمة الحارة.
وأما الآخران فكانا غير مسلمَين:
طالب: مات مشركاً.
عقيل: كان همه بيع الأملاك، أملاك الرسول عليه الصلاة والسلام في مكة، وأملاك علي بن أبي طالب، يوزعها على الكفار، فباعها جميعاً.فهم جميعاً أربعة:
طالب أكبر من عقيل بـ(10) سنوات.
و عقيل أكبر من جعفر بـ(10) سنوات.
و جعفر أكبر من علي بـ(10) سنوات.
و علي الأصغر.
فبين الأكبر والأصغر (40) سنة.
فلما سُئِلَ الرسول صلى الله عليه وسلم: أتنزل في دارك؟ -أي: قبل أن تهاجر- قال: (وهل ترك لنا
لما حانت صلاة الظهر سكت الناس جميعاً، وأمر صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يقوم فيؤذن على الكعبة. وكان يستطيع أن يؤذن على البساط أو بجانب سارية؛ لكن هكذا؛ ليكون صوت الحق عالياً، وكأنه يقول: هذا العبد الفقير الحقير الذي أخرجتموه، والذي ردَّد: أحدٌ أحد، يردد الآن صوت الحق.
وكان بلالٌ قليل اللحم، فقيل: لَمَّا تسلق الكعبة كان كأنه صقر، لم يكن هناك سُلَّم، وإنما وثب وثباً حتى صعد.
فلما صعد أخذ يصدح بصوته الندي الشجي الذي يأخذ بأطناب القلوب.
فيقول عتاب بن أسيد، أحد سادات مكة: لقد كان من الفتح أن يموت أسيد قبل أن يسمع هذا الغراب يؤذن على هذا المكان.
ويقول عمرو بن سعيد بن العاص: لقد كان سعيد موفقاً يوم أن لم ير هذا السواد على هذا البيت، وسعيد هو أبوه، وكان قد قتل في بدر.
ويقول أبو سفيان: دعوه، فإن كان موفقاً أَتَمَّ، وإلا فسوف يخسف الله بهم الكعبة، بمعنى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان موفقاً في دعوته أَتَمَّ الله له، وإلا فسوف يخسف الله بهم الكعبة؛ لأنهم أطلعوا العبد على الكعبة، انظر إلى الورع والزهد!!
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال:35] أي: هل هؤلاء أهل صلاة وأهل عبادة؟!
إنهم لا يعرفون إلا تصفيقاً وغناءً.
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: سَامِراً تَهْجُرُونَ [المؤمنون:67].
ولذلك ليسوا بأوليائه؛ إنما أولياؤه: محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه.
فلما أذن ذلك اليوم، كان يوماً مشهوداً في تاريخ البشرية، وكان ميلاد مكة ذلك اليوم، وكان هو الفتح، فإنها - كما يقول أبو ريشة:
فاستفاقت على صباح جديد ملء آذانها أذان بلالِ |
لأنه قبل هذا البيت قال:
قال: ياعمِّ! لا تدعني هنا وحدي ما لي سواك من مفضالِ |
فتلقاه بالدموع وسارت بهما الخيل في شعاب التلالِ |
فاستفاقت على صباح جديد ملء آذانها أذان بلالِ |
فرضي الله عن بلال، وأكرم مثواه، وحشرنا معه، ومع كل صِدِّيق.
وعاد عليه الصلاة والسلام بعد هذا الفتح، وأحداثه تطول؛ لكن فيها دروس وعبر، وسيرته صلى الله عليه وسلم مناطها يدور على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: العقيدة:
فإن المعتقد يطلب من السيرة.
الأمر الثاني: الأحكام:
فإن السيرة مليئة بالأحكام.
قال ابن سريج الشافعي: من أراد دقائق الأحكام فليقرأ السيرة.
الأمر الثالث: الآداب والسلوك والتربية:
فإنها في السيرة.
فإن الله أطلعه على بعض علم الغيب، والله هو الذي يطلع على علم الغيب - سُبحَانَهُ وَتَعَالَى - من يريد، ولا يطلع على علم الغيب أحداً غير الأنبياء والأولياء الصالحين.
وأما غيرهم من المشعوذين والكهنة، فقد يأتيهم من الجن، ومن خدامهم، والذين يتولونهم من الشياطين؛ فإن الكاهن يأتي إليه الشيطان، ويأتي إليه وليه، فيخبره، فيكذب معها مائة كذبة، كما قال صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث في (سنن أبي داوُد): قال: {ويقرها في أذنه كما تقر الدجاجة، فيأخذها فيزيد عليها مائة كذبة}.
أما الرسول عليه الصلاة والسلام فيأتيه الخبر صافياً نقياً، لا شائبة فيه، من السماء.
فقد كاد حاطب رضي الله عنه وأرضاه أن يُودي بالإسلام والمسلمين في داهية، ولكن مع ذلك قَبِل صلى الله عليه وسلم معذرته.
ومن حسن إسلام المرء أن يقبل اعتذار من يعتذر إليه؛ فإنه ما اعتذر إليك إلا لجلالتك في قلبه، ولمحبتك إليه، والله عز وجل سِتِّيْرٌ يحب الستر، وعذر العاذرين في الدنيا، ويسامح المسامحين، وييسر على الميسرين، والجزاء من جنس العمل.
فإذا اعتذر إليك مسلم قد أخطأ، فاقبل عذره، واحمله على أتم المحامل فإن هذا من شيم الصالحين، بل إنه من شيم العرب من قبل ذلك.
فـالنابغة الذبياني لما أساء مع النعمان بن المنذر، قبل النعمان معذرته، فيقول:
لئن كنتَ قد بلغت عني وشايةً لمبلغك الواشي أغش وأكذبُ |
فقَبِل النعمان عذره، فيقول:
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً وليس وراء الله للمرء مذهبُ |
والرسول عليه الصلاة والسلام قبل أعذار الناس، حتى الذين كادوا له، والذين دبروا اغتياله، وأخرجوه من دياره.
وفي حديث في سنده نظر: أن كعب بن زهير قدم على الرسول عليه الصلاة والسلام وقد أساء، وأهدر دمه، فلما وصل إلى المدينة قال للصحابة: ماذا أفعل؟ والرسول عليه الصلاة والسلام قد أهدر دمي، والله ما تهنيتُ بطعام ولا شراب، ولا اكتحلتُ بنوم؛ لأنه كان يمضي في الليل وينام في النهار، قالوا: أنت شاعر مجيد، اصنع لك أبياتاً وقدمها للرسول عليه الصلاة والسلام، فأتى في صلاة الفجر، فلما صلى صلى الله عليه وسلم ألقى عليه تلك المقطوعة الرائعة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ مُتَيَّمٌ إِثْرَها لَمْ يُفْدَ مكبولُ |
إلى أن يقول:
نبئتُ أن رسول الله أوعدني والوعد عند رسول الله مأمولُ |
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة الـ ـقرآن فيها مواعيظٌ وتفصيلُ |
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب ولو كثُرَت فيَّ الأقاويلُ |
فعفا عنه صلى الله عليه وسلم وسامحه، ومع ذلك حَطَّ له جُبَّتَه من عليه، فبِيْعَت بأربعين ألفاً في عهد معاوية، وبقيت يتداولها خلفاء الدولة العثمانية في الأتراك، وقيل في بعض الروايات: إنها لا تزال في المتحف في اسطنبول، والله أعلم.
الغضب للنفس ردى، والغضب للناس علياء، والغضب لله عز وجل علياء وأجر.
ولذلك يقول بعض أهل العلم: طابع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم يغضبون لله، ويرضون لله؛ فلا يغضبون لأنفسهم.
فـعُمَر كان يُسَب أمام الصحابة من بعض الناس، ويُسَب أمام الناس، فما يغضب، فإذا سمع أن دين الله أو رسالة الله، أو شيئاً من مبادئ الدين الخالد يناله شيء، غضب وأصبح كالأسد. فهذا هو الغضب لله، والرضا له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثم هناك حول الغضب لله مسائل:
ورد من الغضب لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه طارد مجرماً كافراً مشركاً، فلما طارده وقع المجرم على ظهره، فأتى علي رضي الله عنه يطعنه بالسيف، فبَصَق هذا المشرك في وجه أبي الحسن، فكَفَّ رضي الله عنه وأرضاه عن قتل المشرك. قال الصحابة: ما لك؟ قال: أولاً كنتُ أريد قتله لوجه الله، والآن أردت أن أقتله لنفسي، فترك ما لنفسه لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فيا لتلك القلوب! كيف بلَغَت من التربية ومن الصدق؟!
وهم كما قال ابن مسعود: [[أخلص الأمة إيماناً، وأعمقها علماً، وأبرها قلوباً، وأقلها تكلفاً]].
ولذلك يقول الله فيهم يوم الفتح: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحَاً قَرِيباً [الفتح:18].
قال ابن القيم: علم ما في قلوبهم من اليقين والإيمان، ومن التقوى والبر، فهم أتقى الناس، وأبر الناس، وأصدق الناس، وأخشى الناس.
فسبحان الذي اختارهم لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم.
حيث أنهم أفضل الناس بعد العشرة المبشرين بالجنة.
وذلك بدلالة هذا الحديث، الذي أفطر فيه صلى الله عليه وسلم وهو مسافر إلى مكة لَمَّا شق على الناس، ولما خالفه بعض الناس، قال: { أولئك العصاة، أولئك العصاة}.
فمن شق عليه الصيام في السفر، فالأفضل في حقه أن يفطر؛ لهذا الحديث ولغيره.
وفيها معلم من معالم الإسلام وهو أن الواجب على المسلمين أن يظهروا التكاتف والتعاون، وأن يظهروا المراسيم الإسلامية بقوة، حتى يرهبوا أعداء الله، خاصة في الأعياد، وفي الجمع، ومناسبات الخير.
فمن إرهاب العدو:-
حمل ذلك بعض الصحابة رضوان الله عليهم على لبس الحرير في المعركة؛ ليرهبوا أعداء الله: فإذا رأى المسلم أن من اللباس ما يغيظ به الكافر والمنافق فله أن يلبسه.
وبعضهم مشى مشية الخيلاء: كـأبي دجانة، الفارس المشهور؛ فإنه أخذ يتبختر يوم أحد، فقال عليه الصلاة والسلام: {إن هذه مشية يبغضها الله؛ إلا في مثل هذا الموطن} حيث أراد أن يغيظ بها الكفار.
وإذا كان من القوة والاجتماع ومن الشيء أن يغيظ به أعداء الله فإن الدين -كما يقول ابن القيم - يكون على المراغمة: أي: أن تراغم أعداء الله، فما أحسن المراغمة! وأعظم ما يُراغَم الشيطان، فإنك كلما عصيتَه أرغمت أنفه في التراب.
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام متعمِّداً لهذا العدو، فإنه دخل بعشر كتائب، وزعها على أربعة جيوش، وأشعل كل جندي ناراً، حتى أخذت جبال مكة تلتهب، فأدخل الله الرعب في قلوب الكفار.
نصرت بالرعب شهراً قبل موقعة كأن خصمك قبل القتل في حُلُمِ |
إذا رأوا طائراً في الجو أذهلهم ظنوك بين بنود الجيش والحشمِ |
فهذا جائز، ولا بأس به، فالرسول عليه الصلاة والسلام في قصة الفتح، قرأ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح:1] وأخذت تُهَوْجِلُ به الدابة، فأخذ صوتُه يتردد صلى الله عليه وسلم، قال أحد الصحابة: {والله لولا أن يجتمع عليَّ الناس لرَجَّعْتُ بكم بصوتي كما رَجَّعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوته}.
فإذا ركبتَ السيارة، أو الطائرة، أو أي دابة فلك أن تقرأ كتاب الله عز وجل، فإنه نعم الأنيس؛ لأن بعض الناس يتحرج؛ لأنه راكب أو ليس مستقراً في مكان.
وورد عنه عليه الصلاة والسلام: {أن داوُد عليه السلام سهل الله عليه الزبور} وفي لفظ آخر: (القرآن) لكن حَمَلَه بعض المحدثين على أنه الزبور: {فكان يقرأه قبل أن تُسْرَج لـه الدابة}.
فهذا دليل على أنهم كانوا يقرءون في أسفارهم، فلا بأس من القراءة على الدابة، ولا بأس أن تقرأ وأنت تمشي، إذا كان هذا أصلح لقلبك وأفيد وأحفظ لوقتك.
كان بعض الصالحين إذا رأى الشباب يتوجهون إلى المساجد قال: تفرقوا من طريقكم إلى المسجد وفي رجوعكم. قالوا: لماذا؟ قال: لأنكم إذا سرتم سوياً تحدثتم, وإذا تفرقتم قرأتم القرآن وذكرتم الله.
فالرسول عليه الصلاة والسلام لما دخل البيت، طمس صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهذا واجب المسلم ألاَّ يبقي في بيته صورة، خاصة تلك التي تعلق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة} وفي لفظ: (ولا جُنُب) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فعلى المسلم أن يكون بيته نظيفاً من هذه الصور، خاصة الخليعة منها، أو التي تُعَلَّق للذكرى وللتعظيم، فهذه محرمة.
أما الضرورية التي في الحفائظ والمستندات فلا بأس بها للضرورة.
فإن أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان لما دخل عليها أبوها، سَحَبَتْ عنه فراش رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
فعلى المسلم أن ينتبه لهذه، وألاَّ يوالي مشركاً ولو كان ابناً أو أباً أو أخاً إذا كان يحاد الله عز وجل ويعارض كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بل يعاديه، فإن هذا هو الإيمان.
فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كتم أمره.
فالواجب على المسلم إذا أراد أمراً في مصلحة لنفسه في الدنيا والآخرة لا إضرار على المسلمين أن يكتب هذا الأمر.
وهناك أثر يرفعه بعض أهل العلم، يقول: {استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان} وقال عمر: [[من كتم أمره كان الخيار في يده]].
فأنت إذا كتمتَ أمرك فالخيار في يدك أن تمضي هذا الأمر أو تسحبه.
فواجب المسلم أن يكتم أموره إلاَّ عن صديق محب يستشيره في ذات الله عز وجل.
فقد كان سيد المتواضعين، وكان يعلن حالات الفقر والذكريات الأولى التي مرت به في أول حياته؛ فإن بعض الناس إذا رفعه الله في الدنيا وتولى منصباً أو تصدر في الناس أو توجه، لا يذكر ذاك الماضي، كأنه نشأ في هذا النعيم منذ نعومة أظفاره، وكأنه ما عرف البؤس ولا الجوع؛ لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: {رعيت الغنم على قراريط لأهل مكة لـابن أبي مُعَيط}.
و عمر بن الخطاب خطب في الناس، فلما خطب فيهم قال: [[من أنا؟ قالوا: أنت أمير المؤمنين، قال: أنا
وفي فتح مكة أتت بنت قيلة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فرأت الرسول عليه الصلاة والسلام فأُرْعِدت فرائصُها، وخافت من هيبته، فقال: {هَوِّنِي عليكِ} وعند أحمد: أنه رجل، قال له: {هَوِّنْ عليكَ، فإني ابن امرأة كانت تأكل القَدِيْدَ بـمكة} عليه الصلاة والسلام.
نعم، كانت تأكل القديد بـمكة؛ لكن أصلح الله على يديك البشرية، ورفع على يديك معالم الإنسانية، وزعزع بفضله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ثم بإرسالك معالم الوثنية.
ذكروا عن الإمام أحمد: أنه خرج إلى السوق، فأراد الناس أن يحملوا الحطب عنه، وكان على ظهره، فقال: نحن قوم مساكين، لولا ستر الله لافتضحنا.
فإن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو قائد الجيش ومعلم البشرية أُرسِلت له فخذ أرنب طُبِخَت، فَقَبِلَها صلى الله عليه وسلم ودعا لـأبي طلحة.
فالمسلم يقبل الهدية، ويقبل ما عرض له سواء كان كثيراً أو قليلاً؛ لأنه لا قيمة للمسلم عند نفسه؛ لأن الذي يرفع ويكرم ويسدد ويوفق هو الحي القيوم، أما الناس فليس لأحد عندهم قدر إلا ما قدروه لأسباب دنيوية.
قال ابن تيمية في المجلد الأول وهو يتحدث عن العقيدة: إن الناس إذا أكرموا الإنسان فإنما يكرمونه لأسباب أكثرها دنيوية.
حتى أنه قيل: من استغنيتَ عنه فأنتَ نظيره، ومن احتجتَ إليه فأنتَ أسيره، ومن احتاج إليك فأنت أميره فأنت بين أمير أو أسير أو نظير.
فإن الرسول عليه الصلاة والسلام ما باهَتَ المشركين وما عاجَلَهُم حتى أسْمَعَهم داعي الله وكلامه، كما فعل بـأبي سفيان يوم أتاه في الخيمة.
وهي من أعظم النوافل التي يتقرب بها المتقربون إلى الله، وهي صلاة الأوابين، صلاها صلى الله عليه وسلم ثماني ركعات يوم الفتح، وقيل: صلاها ستاً، في بعض الأوقات، وقيل: صلاها أربعاً، وأكثر ما أوصى صلى الله عليه وسلم أن تصلى ركعتين اثنتين، فإنه أوصى أبا هريرة كما في (الصحيح) قال: {أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث، لا أدعهن حتى أموت: بركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام، وبصيام ثلاثة أيام من كل شهر} وعند أحمد في (المسند) في رواية أخرى: {وبغسل يوم الجمعة}.
فعلى المسلم أن يفرغ من وقته دقائق في النهار، ليصلي ركعتي الضحى؛ فإنها تعادل أجر ثلاثمائة وستين صدقة، فالتسبيحة بصدقة، والتحميدة، والتكبيرة، والتهليلة، وإصلاح بين الناس، وأمر بمعروف ونهي عن منكر صدقة، على كل مفصل وكل سُلامَى، وفي الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً، فيغني عن ذلك كله ركعتان من الضحى.
ووقت صلاة الضحى: بعد طلوع الشمس، من ارتفاعها إلى قريب الظهر، سبحاً طويلاً، فمن أراد أن يتقرب فليتقرب.
وقل لـبلال العزم مِن قلب صادقٍ أرِحْنا بها إن كنت حقاً مُصَليا |
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجِنان الثمانيا |
وذلك خلافاً لما ذهب إليه بعض أهل العلم، حيث قالوا: لا يُصلَّى داخل الكعبة، والصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام صلى داخل الكعبة، وأنه لا بأس به.
وأما الأمر الممنوع: فهو الصلاة على ظهر الكعبة، فوق السطح؛ لحديث الترمذي عن ابن عمر قال: {سبع مواطن نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها: ظهر الكعبة، ومعاطِن الإبل، والمقبرة، والمجزرة، وقارعة الطريق} إلى آخر تلك السبعة؛ لكن هذا الحديث في سنده زيد بن جبيرة الأنصاري، وهو ضعيف عند أهل العلم.
فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل إجارة أم هانئ لـابن هبيرة لَمَّا أجارت ابن هبيرة من علي بن أبي طالب.
فيجوز لك للحاجة وأنت تغتسل أن تتكلم، إلاَّ إذا كان في مكان تُقضَى فيه الحاجة فكره أهل العلم ذلك، لكن المكان الذي يُغْتَسَل فيه، فلك أن تتكلم ولا بأس؛ لأنه لم يَرِدْ مانع من ذلك.
فالرسول عليه الصلاة والسلام وفاطمة تستره، قال: {من هذه؟ قالت:
فإنه لما خطب صلى الله عليه وسلم الجموع يوم مكة، خاف أن يُتَوَهَّم أنه يجوز استحلال مكة دائماً، والدخول بالجيوش والمقاتلة، فقال: {يا أيها الناس! إنما أُحِلَّت لي مكة ساعة من نهار، ثم عادت حُرمتُها كما كانت يوم خلق الله السموات والأرض، لا يُعْضَدُ شوكُها، ولا يُخْتَلَى خلاها، ولا ينفر صيدُها، فمن فعل ذلك - في بعض الروايات - فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين}.
ولذلك في صحيح البخاري: عن أبي شريح قال: لما حزَّب عمرو بن سعيد الأشدق -وهو أموي، وهو أول مَن رَعَفَ على منبر الرسول عليه الصلاة والسلام حيث يقول صلى الله عليه وسلم في أثر فيه ضعف: {كأني ببني أمية يتَنازَون عن منبري كما تتَنازَى القردة، يَرْعُفُون} أي: يَرْعُفُون بالدم، فأتى عمرو بن سعيد، وكان جباراً بائساً ظلوماً غشوماً، دخل المدينة وخطب على المنبر، ثم سَعَل، ثم رَعَفَ، نزل الدم من أنفه، فعرف الصحابة أن هذا منهم.
فأتى عمرو بن سعيد هذا فحزَّب الجيوش، يريد بها مهاجمة ابن الزبير في مكة، فأتى أحد الصحابة وهو أبو شريح، فقال: يا أيها الأمير! اسمع مني كلاماً، قال: ما هو؟ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة الفتح، سمعته أذناي، ورأته عيناي، ووعاه قلبي، يقول: { إن مكة أُحِلَّت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتُها كما كانت يوم خلق الله السماوات والأرض، لا يُخْتَلَى خلاها، ولا يُعْضَدُ شوكُها، ولا يُنَفَّر صيدُها، فَبَسَرَ الأميرُ في وجهه، وكََلَحَ، وقال: نعم أعلم بهذا منك، يا أبا شريح! والله ليس بأعلم ولا أدرى، لكن هكذ ثم قال: الحرم لا يُعِيْدُ فارَّاً بِخَرِبَة} هذه رواية، بمعنى أنه لا يعيد هذا. فليُعْلَم هذا.
وهذا هو الصحيح؛ إلا ما خالف معاذ رضي الله عنه وأرضاه جمهور أهل العلم في المسألة، وقال: المسلم يرث من الكافر؛ لكن الكافر لا يرث من المسلم، واستدل معاذ أبو عبد الرحمن، وهو سيد العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم: {الإسلام يعلو ولا يُعلَى عليه} فيقول: المسلم يرث من الكافر، والكافر لا يرث من المسلم.
لكن جماهير أهل العلم، وهذا هو الصحيح، يقولون: لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم.
فالرسول عليه الصلاة والسلام ترك أملاكَه وتَرِكَتَه لما دخل؛ لأن الكفار أخذوها، ولأن الذي ورث طالب بن أبي طالب، وميراث الرسول صلى الله عليه وسلم كان عند عمه أبي طالب، فأخذها طالب، فأصبحت ميراث مشرك.
وقد مرت قصة، لكني صدفت عنها، وهي: أن أبا قحافة والد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أبو أبكر اسمه: عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة، فـأبو قحافة هو أبوه- كان يوم الفتح موجوداً، أتدرون أين كان؟ كان يرعى الغنم في جبل من جبال مكة، ولم يسلم حتى ذلك اليوم، وقيل: أسلم، فقال لابنته، أخت أبي بكر: ماذا ترين؟ قالت: يا أبتاه! إني أرى سواداً يَنْقاد، قال: المَحِي، هل هو ثابت أولا؟ قالت: لا. ثابتٌ بالأرض، قال: هذا الخيل. أترين شيئاً؟ قالت: أرى رجلاً يصعد وينزل أمام الخيل، قال: هذا الخيال يَرُدُّ الخيلَ ويصُفُّها أي: خيل الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما قدم الرسول عليه الصلاة والسلام من تواضعه صلى الله عليه وسلم ومن معرفته لمكان أبي بكر ولمقامه في الإسلام، قام صلى الله عليه وسلم وذهب ليزور أبا قحافة هذا، فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: نحن نأتي به يا رسول الله، أي: لمكانة الرسول عليه الصلاة والسلام فأتوا به وهو شيخ كبير، ولحيته كالثغامة البيضاء، أي: أنها بيضاء كلها ليست مُغَيَّرة، لا بأسود ولا بأحمر ولا أصفر، فقال صلى الله عليه وسلم: {غيروا هذا وجنبوه السواد} وجنبوه السواد: ليست ضعيفة، بل هي صحيحة، وليست مُدْرَجة بل هي متصلة في المتن.
فالصحيح أن السواد لا يصبغ به، وأنه منهي عنه؛ ولكن يغير الشيب إما بأحمر أو بحناء، أو بكَتَم، أو بشيء من الأصفر.
وعند أبي داود في سننه حديث فيه كلام: يقول صلى الله عليه وسلم: {ليكونن أقوام من أمتي في آخر الزمان لحاهم كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة يوم القيامة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، قيل: هؤلاء الذين يغيرون بالسواد؛ لأن فيه خديعة.
واستثنى بعضُ العلماء -كما يقول ابن حجر - استثنوا ذا السلطان؛ فإن ذا السلطان يغير بالسواد؛ لكن هذا الاستثناء ينبغي أن يتوقف إلى الدليل، وقالوا: إن الحسن والحسين غيرا بالسواد.
لكن الأولى للمسلم أن يجتنب هذه الأمور التي فيها مخالفة؛ لأنها ظهرت النصوص فيها.
فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ مفاتيح الكعبة، فأتى علي بن أبي طالب فقال: {سلم لنا المفاتيح يا رسول الله! فقال: لا، اليوم وفاء وبر، ثم دعا
فإن بعض أهل العلم كره السواد؛ لكن لا بأس به، فالرسول عليه الصلاة والسلام لبس ثوباً مُرَحَّلاً من شعر أسود، ولبس عمامة يوم الفتح سوداء.
ولذلك لما أتى أبو مسلم الخراساني، الطاغية الظالم، الذي قاد حملة دولة بني العباس ودخل إلى بغداد، وهو الذي أسقط دولة بني أمية، وقتل مليوناً من المسلمين، أي: ألف ألف - كما يقول الذهبي - وهو مسلم في الظاهر، وأظنه مسلماً، لما أتى ووقف على المنبر يوم الجمعة وعليه عمامة سوداء، وقف أحد المسلمين وقال: ما لي أراك تلبس السواد؟ قال أبو مسلم الخراساني: حدثني فلان عن فلان عن أبي الزبير عن جابر {أن الرسول عليه الصلاة والسلام دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء} يا غلام! تناوله فاضرب عنقه، فضرب عنقه وسط الصف. هذا أبو مسلم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لبس السواد صراحةً،؛ ولكن أحسن اللباس هو البياض: {البسوا البياض وكفنوا فيه موتاكم}.
فلا كراهة في ذلك، وإنما كره أهل العلم ذلك لغير الحاجة، أما للحاجة فيجوز لبس السلاح داخل الحرم؛ وهي مسألة عالجها البخاري في (صحيحه) وتطرق إليها.
فإن الرسول عليه الصلاة والسلام ما عاد إلى مكة، وما لبث فيها بعد الهجرة.
هذا، ونسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفقهنا وإياكم في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي سيرته، وأن يحشرنا في زمرته، وأن يأخذ بأيدينا لكل خير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر