وفي هذه المادة تحدث الشيخ عن هذه الشروط والآداب، وعن حكم التعدي والاستبطاء فيه، وطلب الدعاء من الصالحين.
وتطرق فيها إلى ذكر بعض أدعية الأنبياء والرسل كنوح وإبراهيم وموسى وغيرهم.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
رأيت أن نتحدث هذه الليلة عن موضوع خطير وكبير ومهم، وهو موضوع الدعاء وعنوان هذا الدرس: الدعاء هو العبادة.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55] ويقول تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] وصح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (الدعاء هو العبادة) رواه الحاكم بسند صحيح.
وعند الترمذي في سننه: (الدعاء مخ العبادة) لكن فيه ضعف، فيه دراج أبو السمح يروي عن أبي الهيثم وهو ضعيف.
فإذا علم هذا -أيها الأخيار- فموضوعنا هذه الليلة: الدعاء هو العبادة يندرج فيه عناصر:-
أولها: الحث على الدعاء.
الثاني: دعاء الأنبياء في القرآن عليهم الصلاة والسلام.
ثالثاً: أعظم الأدعية في السنة.
رابعاً: أدعية نبوية عامة صحت عنه صلى الله عليه وسلم.
خامساً: سيد الاستغفار وشرحه.
السادس: الاستعاذة من الهم والغم وما في حكمهما، أي: الأمور التي استعاذ منها صلى الله عليه وسلم.
المسألة السابعة: نماذج في استجابة الله لأوليائه، يوم تنقطع بهم الحبال ويبقى حبل الله، ويوم تنقطع بهم الأسباب ويبقى سبب الله، ويوم توصد أمامهم الأبواب، فيبقى باب الله، نورد قصصاً ونماذجاً من دعاء الأخيار والأبرار والصالحين الذين التجئوا إلى الله في وقت الحرج، فأجابهم الله فكشف كربهم، وأزال همهم وغمهم، وكان معهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى، على حد قوله تبارك وتعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ [النمل:62].
المسألة الثامنة: طلب الدعاء من الصالحين، هل لك أن تقول لرجل صالح: لا تنسانا من دعائك يا أخي أم ماذا؟! وتفصيل القول في ذلك، بإذن الله.
التاسع: التعدي في الدعاء وكيف يكون التعدي؟
المسألة العاشرة: الملل والسأم والضجر والانقطاع عن الدعاء واستبطاء الإجابة؛ فإن كثيراً من الناس يدعون فيستبطئون الإجابة، فيتركون الدعاء ويوقِّتون الأمر لله، ويحددون إجابة دعواتهم بالزمن بشهر أو سنة، فإذا ما أتى مطلوبهم كرهوا الدعاء، وسئموا منه، وانصرفوا عن باب الواحد الأحد، فوقعوا في شر مما فروا منه.
الحادية عشرة: الاستثناء في الدعاء: إن شاء الله، وما في حكمها.
الثانية عشرة: الأوقات الفاضلة للاستجابة، ما هي الأوقات التي إذا دعوت الله فيها أجاب الله دعوتك؟ وما هي الأوقات التي تفضل غيرها، بالاستجابة وبالتحري؟
أما آخر المسائل وهي الثالثة عشرة: فالدعاء والقضاء، وهي مسألة تطرح عند كثير من الناس، كيف أدعو الله أن ينجحني وقد كتب علي أني راسب؟ كيف أدعو الله أن يشفي ابني وقد كتب عنده أن ابني يبقى مريضاً؟ يجاب عن هذه الأسئلة وعن غيرها -إن شاء الله- في غضون هذا البحث.
- الحث على الدعاء، كما سمعتم قوله عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة).
وبعض الناس يجعل الدعاء باباً ثانوياً، حتى تجد بعضهم يقول: لا بأس أن تدعو، وكأن الدعاء أمر سهل إن أتى وإن ذهب، وما علموا أن الدعاء سهام الليل.
قال: أوتار أمدها بخشوع وأرسلها بدموع مع السحر فيرفعها الحي القيوم، يقول لها: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين، فقال السلطان -وهو يرتعد-: مادام أنك التجأت إلى الحي القيوم فلا أمسك.
من الذي التجأ إليه فلم ينصره؟!
دخل البرامكة وزراء بني العباس السجن، بطروا وأكلوا وشربوا وضحكوا، وعمروا ورفعوا القصور حتى بلغ من إعجابهم بأنفسهم أن أخذوا ماء الذهب وطلوا به القصور بطراً.
وأخذوا عبيد الله عبيداً وخولاً، وسفكوا الدم، وكان هناك شيخ كبير مسن ظلموه، فرفع يديه في السحر وقال: يا قاصم الجبابرة! خذ البرامكة، فأخذهم العزيز المقتدر، الذي يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ فإن أخذه أليم شديد: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
أليم يصل إلى القلوب، وشديد لا يطاق على الأرواح، فغضب عليهم الخليفة أقرب الأقرباء إليهم، لأنه يقال: من اعتمد على غير الله جعل خوفه من هذا المأمن، فيقطعهم من المكان الذي استأمنوا منه.
ومن تعلق بحبل غير حبل الله انقطع به الحبل، ومن ركن إلى صديق وإلى صاحب ورضي به من غير الله، لا تأتيه الحية أو العقرب إلا من هذا الصاحب.
فأخذهم الله، فغضب عليهم هارون الرشيد، فقتل شبابهم في صباح النهار، وأتى إلى شيوخهم فأوقعهم في السجن، ثم أخذ قصورهم.
دخلوا على شيخ من البرامكة، وهو شيخ كبير سقط حاجباه على عينيه، قالوا له: كيف حالك؟
قال: لست بميت من أهل الآخرة، ولست بحي من أهل الدنيا، ما رأيت الشمس ثمان سنوات، قالوا: ما هو السبب؟
قال: دعوة من مظلوم سرت في ظلام الليل غفلنا عنها وما غفل الله عنها.
ولذلك الدعاء ليس أمراً ثانوياً عند المسلم، بل هو أمر أكيد، وإنما يفعل ذلك الحمقى، يقول ابن الجوزي في كتاب الحمقى قالوا لأحمق: ندعو لك، -وقد أراد سفراً- قال: لا أحتاج إلى دعاء فالمكان قريب.
سبحان الله قريب أو بعيد! فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الحافظ وهو الراعي وهو الرائد، وهم الذين عطلوا مشيئة الله، وأنتم تسمعون إلى الأحمق الآخر الذي قال له الناس: إلى أين تذهب؟ قال: إلى السوق، قالوا: ماذا تفعل؟ قال: أشتري حماراً، قالوا: قل: إن شاء الله، قال: لماذا أقول: إن شاء الله؟ الدراهم في الجيب والحمار في السوق، فضاعت دراهمه وعاد في المساء، فقالوا: أين الحمار؟ قال: ضاعت الدراهم إن شاء الله، قالوا: نفاها في موضعها واستخدمها في غير موضعها.
أتى الحجاج بن يوسف فمر بـالحسن البصري -الحسن البصري أمة من الأمم، وعالم من العلماء، وموجه من الموجهين، عرف الله- فمر به الحجاج والحسن يظن أن الحجاج ليس موجوداً -والي العراق - فمر الحسن بجمع من القراء وطلبة العلم، عند قصر الحجاج، قال: أين تذهبون؟
قالوا: نذهب إلى الحجاج لنأخذ أعطياتنا، فغضب الحسن وقام فألقى خطبة، وقال: هذا الحجاج بن يوسف، يقرأ القرآن على لخم وجذام، ويلبس لباس الفاسقين، ويعظ وعظ المعتبرين، ثم دعا على الحجاج.
فدخل الحجاج القصر وقال: علي بـالحسن البصري، قال له وزراؤه ماذا تريد منه؟ قال: أريد قتله.
فذهبوا إلى الحسن في بيته، وقال الجنود للحسن: اذهب إلى الحجاج، قال: فأمهلوني قليلاً، فدخل واغتسل ولبس أكفانه من تحت الثياب وقال: يا حي يا قيوم،! يا ذا العزة التي لا تضام والركن الذي لا يرام! أسألك أن تقصم الحجاج وأن تسخره لي هذا اليوم.
ثم خرج، وفي أثناء الطريق وإذا بـالحجاج قد تغير وهو على الكرسي قبل أن يدخل عليه الحسن البصري غيره الذي يغير الليل والنهار، والذي قلوب العباد بين يديه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً [الفرقان:3].
فلما دخل أخذ يرتعد الحجاج، ثم قام إلى الحسن وأخذ قارورة من الطيب فطيب لحية الحسن، وأجلسه بجانبه، وقال: لعلنا أزعجناك يا أبا سعيد! قال: نعم أزعجتني، قال: عد سالماً مكرماً، فلما خرج قال له مقربوه: ماذا حدث بك؟ قال: والله ما أن خرج من بيته إلا وأوقع الله هيبته في قلبي، حتى ما هبت أحداً من الناس كهيبته، وإنني خفت منه يوم دخل قصري أن يبطش بي.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174].
الأول: الاستجابة المطلقة لله ولرسوله، فمن لم يستجب لله ولرسوله، فلا يستجيب الله له أبداً، لأنه عطل طريق الإجابة، فكما تكونوا يول عليكم.
الأمر الثاني: أن يكون مؤمناً عاملاً الصالحات، ومهما طال المدى فإن العبد بين نعمة الدعاء، حتى يقول أحد الصالحين: والله! إني أريد أن يتأخر قضاء حاجتي أو أن تتأخر حاجتي لأجل ما أجد من لذة الدعاء. فهو يريد أن يُفتح له باب في الدعاء، فيريد أن تتأخر حاجته؛ ليبقى داعياً مقبلاً على الله.
موسى عليه السلام، يقف ويرفع يديه وعنده هارون بجانبه، فيقول داعياً ربه: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس:88] فقال هارون: آمين آمين آمين، فأنزل الله: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89] فجعل المؤمِّن والداعي داعين، قال أهل العلم: بعد أربعين سنة أجاب الله دعوته، وما قنط وما هاب وما مل وما سئم.
يعقوب بكى أربعين سنة على يوسف، يقول بعض أهل التفاسير وأهل السير ولله الحكمة البالغة، يقولون: لما جاء إخوة يوسف في الصباح قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يوسف:11-13] فأوحى الله إليه: خفت الذئب وما رجوتني، فمن الذي بيده الذئب وتصرف الذئب إلا الله، فخاف أن يأكله الذئب فأتى الخوف من غير مأمنه.
يقول: ما كان في أذهان أولاد يعقوب أن يقولوا أكله الذئب، لكن فتح لهم الطريق، قالوا: يقول أبونا: أخاف أن يأكله الذئب، إذاً في المساء إذا أتينا نقول: أكله الذئب، فذهبوا به فألقوه في غيابة الجب، قال ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم: أسقطوا يوسف عليه السلام في حبل فوقع في الماء على صخرة في الجب، فأخذ يسبح الله، يقول: تهدأ الحيتان والضفادع ولا يهدأ هو من التسبيح، حتى أوحى الله إليه: يا يوسف! لا تخف: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [يوسف:15].
يقول: سوف ننجيك، وأنا معك.
وعند الإمام أحمد في كتاب الزهد أن موسى عليه السلام لما عبر أرض مدين وكشف الصخرة وردها وسقى تولى إلى الظل، ثم بكى فرفع يديه فقال: يا رب! فقير مريض جائع غريب، فأوحى إليه: يا موسى! الجائع: من لم أكن أنا مطعمه، والغريب: من لم أكن أنا مؤنسه، والفقير: من لم أكن أنا مغنيه، والمريض من لم أكن أنا طبيبه، ذكرها الإمام أحمد.
فأتى هؤلاء الأبناء -على سبيل الاستطراد- فقالوا: أكله الذئب، قال ابن عباس: خلعوا قميصه خلعاً ولم يشقوه والذئب لا يعرف خلع القميص، بل المعروف أنه إذا أكل أكل، فأتوا بالثوب سالماً معافى ولطخوه بدم، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [يوسف:18].
والقميص في سورة يوسف ثلاثة: قميص كذب، وقميص براء، وقميص شفاء.
أما قميص الكذب فهذا القميص، وأما قميص البراءة فهو: لما قد قميصه من دبر، وأما قميص الشفاء: فهو القميص الذي في قوله تعالى: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ [يوسف:93] فإذا علم هذا، فطالبنا الله بالدعاء وقال عليه الصلاة والسلام: {الدعاء هو العبادة}.
وإذا أردت أن تعرف قوة إيمان العبد فانظر إلى دعائه، فإذا رأيت العبد يبتهل في أدبار الصلوات وبعد الفجر، وإذا قام من النوم وقبل الصلوات ويوم الجمعة، فاعرف أنه مؤمن، وإذا رأيت العبد كالاً فاتراً، ما يدعو إلا بسهو أو لهو فاعرف أن إيمانه على قدر دعائه.
فالذكر يدعى من الخوف فعلى الذاكر أن يكون خائفاً، وعلى الداعي أن يكون مخفياً فيخفي الداعي دعاءه لأمور:-
أولاً: لا يتشوش قلبه.
الأمر الثاني: لأنه أخلص للعبادة وأبعد عن الرياء والسمعة.
الأمر الثالث: أنه أبعد عن عين الحاسد، فإن الحاسد ينقم على النعمة، وأفضل النعم أن تدعو الله إلى أمور أخرى.
يقول أبو موسى الأشعري: {كنا في ثنية مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فأخذ الصحابة يرفعون أصواتهم بالذكر والتكبير والتهليل والتحميد والتسبيح، فقال عليه الصلاة والسلام: أيها الناس! أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً بصيراً أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، ثم قال -لـ
يقول عز وجل: a=6000192>وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] وهو قرب العلم، وإلا فالله مستوٍ على عرشه بائن عن خلقه استواء يليق بجلاله، ولذلك ذكر الله معية العلم، فقال: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7] فهذا بالعلم ما يكون اثنان إلا والله ثالثهم تبارك وتعالى بعلمه، وإلا فهو مستوٍ على عرشه، قريب يسمع دعاء الداعي ويرى مخ النملة في عظمها الناحل، ويرى دبيب النمل ويسمعها وهي في حندس الظلام على الصفا السوداء في بقاع الأرض أو في قعر المعمورة، يقول تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام مادحاً لهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] فوصفهم بكثرة الدعاء، وما أتى مطلوب إلا بدعاء، وسوف نمر بنماذج من دعاء الأنبياء والرسل، ولا يستهين العبد بالغرض البسيط، فبعضهم لا يدعو في الأمر السهل، لأنه يقول: ما يحتاج هذا إلى دعاء، وهذا خطأ، بل قد صح في الحديث: {ليدع أحدكم ربه، حتى في شسع نعله، فإنه إن لم ييسره لا يتيسر أبداً}.
وذكروا عن سهل التستري أو غيره: أنه ذهب إلى صلاة الجمعة فانقطعت حذاؤه، فقال: أتدرون لم انقطعت؟ قالوا: بقضاء وقدر، قال: لكني أظنها بسبب وهو أني تركت غسل الجمعة، ثم عاد واغتسل.
وأخبروا ابن الجوزي بهذه القصة فقال: قلت ذنوبهم فعرفوا من أين أتوا، وكثرت ذنوبنا فلا ندري من أين أُتينا.
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد |
فالثوب الأبيض إذا نقطت فيه نقطة سوداء عرفت من كل مكان، أما الثوب الأسود فلطخ فيه ما شئت، لا يظهر عليه الأسود ولا الديزل ولا الشحم ولا الأحمر ولا البنفسجي.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {ونقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس} فالثوب الأبيض مثل المؤمن، والثوب الأسود مثل الفاجر الذي تلطخ من كل جهة، حتى إن بعض الناس إذا قلت له: لا تستمع الغناء قال: ليس معكم إلا مسألة الغناء! والحديث عن الغناء! الناس معاصيهم مثل الجبال، وأنت مع الغناء! وذلك لأن معاصيه مثل الجبال، فأصبح الغناء عنده شيئاً طبيعياً، تحدثه عن إسبال الثوب، قال: ألا تعرفون إلا الثوب؟! الحمد لله نحن أحسن من غيرنا، لو ذهبت أوروبا لرأيت المنكرات والدواهي، لأنه يقيس نفسه على بوش، وريجن، فيرى أنه أفضل منهم، فهو يشهد أن لا إله إلا الله، وهو يصلي الخمس فيرى أن له ميزة أو مزية.
فإذا علم ذلك، فلا بد من الدعاء ولو بالأمر السهل، حتى الصالحون كانوا إذا خرجوا من بيوتهم يدعون الله أن يسهل لهم أمورهم، ويفتح قلوب الناس لهم ويسخر لهم مطالبهم، ويهيئها، فإنها إن لم يهيئها الله لا تتهيأ.
ما هو لسان الصدق في الآخرين؟ الذكر الحسن، أن تموت ولك ذكر حسن في الناس:
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى |
علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، أتاه رجل أعرابي، فقال: أريد منك حاجة يا أمير المؤمنين! -وهذه يذكرها ابن قتيبة - فقال علي: اكتب حاجتك على الأرض لئلا تصب ماء الحياء والمروءة من وجهك -يقول: لا أريد أن أحرجك وأخجلك، فلعل هذه الحاجة طلب شيء، لأن بعض الناس يستحي أن يطلب- فكتب على الأرض حاجته، فأتى علي فقضى حاجته.
وقد كان أمير المؤمنين في الكوفة، فقال الأعرابي وقد أعطاه حلة ومالاً كما طلب:
كسوتني حلة تبلو محاسنها لأكسونك من حسن الثنا حللا |
قال علي: ذلك خير، يقول: والله لأثني عليك في الناس أحسن من هذه الحلة التي أعطيتني، قال علي: ذلك خير.
أتى وفد غطفان إلى عمر وفيهم أبناء هرم بن سنان، شيخ قبائل غطفان، وهو الذي أصلح بين قبيلة عبس وذبيان في معركة استمرت أربعين سنة، حتى كانت ديات القتلى آلاف الإبل، وقد قالت قبيلة عبس وذبيان: لا نصطلح حتى تودي قتلانا أنت -شيخ قبيلة غطفان- قال: قتلاكم عندي أوديهم، فذهب هرم في قبائل العرب فجمع الديات وسلمها وأصلح بينهم، حتى يقول له زهير يمدحه:
تداركتما عبساً وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم |
يميناً لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم |
ثم مدحهم مدائح سارت بها الركبان، وكانت العرب تسمر عليها، فأتى أبناء هرم بعد موت زهير الشاعر وموت أبيهم، فقال عمر لأبناء هرم: ماذا أعطيتم زهيراً؟ قالوا: مدحنا فأعطيناه، قال عمر: ذهب والله ما أعطيتموه وبقي والله ما أعطاكم، وهو الذكر الحسن، والذكر الحسن لا يتأتى إلا للمؤمن، والله لو حاول الفاجر أن يجمع الدنيا ويجعل الدنيا صحفاً ويجعلها مجلات ودعايات، ويجعلها لوائح ولافتات، والله لا يقود القلوب إلا من خلق القلوب.
قال البخاري في الصحيح، في كتاب الرقاق: باب: المِقة من الله، أي: الحب من الله، كل شيء يستطيع أن يتصرف فيه العبد إلا الحب هذا، ثم أتى بحديث: {إن الله عز وجل إذا أحب عبداً قال لجبريل: إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فتحبه الملائكة، ثم يضع الله له القبول في الأرض -حتى يشرب قبوله وحبه مع الماء البارد- وإذا أبغض عبداً قال لجبريل: إني أبغض فلاناً فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فتبغضه الملائكة، ثم ينـزل له البغض والمقت} حتى يشرب الناس بغضه وكراهيته مع الماء البارد.
فالحب من الله تبارك وتعالى وهو لسان الذكر في الخالدين، فيحرص عليه المؤمن بأن يحسن سريرته مع الله، وبالصدق مع الله تبارك وتعالى.
يقول: يا رب! خذ أولادهم معهم، ما يأتي الولد إلا مثل أبيه.
تلك العصا من هذه العصية لا تلد الحية إلا حية |
فيقول: يا رب! أخرجهم من الدنيا جميعاً، لا تترك حتى أطفالهم؛ لأنهم لا يهتدون، أنا جربتهم.
حتى يقول صلى الله عليه وسلم: {أما أنت يا
يقول سيد قطب رحمه الله معلقاً على الآية: فتش في جوانحك وابحث في خفاياك، أما شرحنا لك صدرك فكان واسعاً فسيحاً، وقد كان ضيقاً قبل أن تأتي النبوة، قال: شرحنا لك صدرك.
وشرح الصدر أعظم منة يمنها الله على العبد، تجد المسلم المؤمن في الزنزانة وصدره فسيح واسع، وتجد الفاسق في القصور وفي الدور، وفي السيارات والعمارات، و: صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] كأن اللعنة جمعت له، لماذا؟ لأن الله أخذ على نفسه ميثاقاً وعهداً بيَّنه في سورة "طه" فقال: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] في الدنيا ولا في الآخرة، قال ابن عباس: [[أخذ الله على نفسه، أن من اتبع هذا القرآن فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة]] وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:124] حتى كلمة ضَنْكاً لا تكاد تقرأ، فالضاد حرف ثقيل، ثم النون بين الضاد والكاف، فعيشته مثل نطق الكلمة: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126].
أوله: أنه اعتراف بالتوحيد.
الأمر الثاني: أنه اعتراف بالتقصير.
الأمر الثالث: أنه استغفار.
فقال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فوجب على العبد إذا ضاقت به ضائقة وأتاه حادث، أو أتاه هم وغم، أن يكرر هذا الدعاء فإنه بإذن الله فتح عظيم، يقول الأندلسي يوصي ابنه:
وناد إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذا النون بن متى |
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا |
ذكر أهل التفسير وأهل السير: أن يونس بن متى غاضب قومه وخرج فأوقعه في البحر الربان وأهل السفينة، لأن القرعة وقعت عليه: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141] ما معنى الآية؟
لما ركب في السفينة كانت تتموج، وثقلت وأصبحت على غير العادة، وكانت في العادة تمشي بحفظ وبراعية وبتؤدة وسكينة، لكنه لما ركب وهو لم يستأذن الله ترجرجت، وهذا فيه درس: أن من التعكير والشؤم وبعض الصعوبات والمشاق على المسافرين والمقيمين المعصية، فقال الربان: معنا رجل فيه معصية، لا بد أن نتساهم ونقرع قرعة فمن أتت فيه أنزلناه في البحر، فشرعوا في أول قرعة فوقعت على يونس، قال: نعيد القرعة، هذه خطأ، فاستهموا مرة ثانية فوقعت عليه، قال: الثالثة، فوقعت الثالثة عليه، فأخذوه بيديه -سبحان الله العظيم، أحبابه وأقاربه تخلوا عنه! لأنهم يهلكون لو لم يفعلوا ذلك- فأخذوه بيديه ثم رموا به في البحر، فأصبح في ظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة الحوت، فقد تلقفه حوت يوم وقع فابتلعه فأصبح في بطنه، انظر إلى الموقف! من يسمعه؟ حتى ولو كان هناك فرق إنذار، أو خفر سواحل أو طوارئ ما سمعوه في بطن الحوت، لكن إلى السميع المجيب، إلى الذي أقرب من حبل الوريد: a=6000192>وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] فأتى بكلمة تنفجر من القلب من أعظم الكلمات عند أهل التوحيد، قال: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] يقول أهل العلم: لما قالها، عبرت بصوته إلى السموات السبع تخترقها، فسمعتها الملائكة فبكت، وقالت: صوت معروف من عبد معروف، يا رب! أين فلان؟ قال: أنا أعلم به، سمعوا الصوت لكن ما يدرون هل هو في بحر قزوين أو في البحر الأحمر، فأنقذه الله، وأخرجه ونجاه لأنه التجأ إليه، فحق على المسلم أنه إذا ضاقت به الضائقة، أن يردد: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] وعند البخاري في الصحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {دعاء الكرب: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش العظيم} فهذا دعاء الكرب الذي -بإذن الله- من دعا به استجيب له.
وذكروا عن العلاء بن الحضرمي أنه لما قحط الناس قال: يا علِيُّ! يا عظيم! يا حكيم! يا عليم! فأغاثه الله, وأغاث الصحابة معه.
يا معشر المسلمين! والله الذي لا إله إلا هو إن التربية الآثمة، والتربية الأوروبية تربية الخواجات التي أخرجت من شبابنا وفتياننا وأبنائنا من لا يتذكر لقاء الله ولا حسن الخاتمة ولا الموعود الذي وعده الله، ومن يبني مستقبله على هوايات آثمة تضحك العقلاء.
تجد في المجلات صور شباب في الخامسة عشرة من أعمارهم، هواية محمد بن سعيد بن طلال جمع الطوابع، وهواية علي بن محمود المراسلة، وهواية ذاك مطاردة الحمام وصيد الدجاج، أما يخجل الإنسان؟!
من هم أهل هذه الصور؟
إنهم أبناء أبي بكر وعمر، وأبناء عثمان، وعلي، وأبناء خالد وسعد، الذين فتحوا الدنيا، وأذنوا في سمع المعمورة وقدموا أرواحهم رخيصة لترتفع لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
فيربى الجيل على هذه الأمور! حتى إنه في بعض الطلبات في ما يطلبه المستمعون، هناك مريض على المستشفى مكسور الظهر والرأس، قال أهدي لأخواتي وعماتي أغنية عبد الحليم، أو فريد الأطرش، سبحان الله أصبحت في الآخرة وتهدي لأقاربك أغنية! تريد فساداً في الدنيا وفساداً في الآخرة، وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ [فصلت:16].
سمعت داعية إسلامياً وخطيباً فارهاً، يقول على المنبر: بالأمس فقدوا مغنياً، فقامت فتاة تشيع جنازة المغني، ومعها مسجل فيه شريط للمغني، فلما وصلت إلى القبر، رفعت المسجل ففتحت الأغنية، قال: فكان اتفاقاً وفتحاً من الله، فكان هو صاحب الأغنية -ميت، أصبح تحت الثرى- يقول: نار يا حبيبي نار، قال: نار من فوقك ونار من تحتك لأنك تركت الأمة في نار، فهذه كلماتهم، ولكن كما أسلفنا: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:124].. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] لكن من عرفه الله وبصره ثم انحرف فقد قامت الحجة عليه مرتين.
هل تعلم خيراً ما ضمته هذه الآية؟
هل تعلم معروفاً في الدنيا والآخرة أو فقهاً أو رزقاً لا يدخل في هذه الآية؟
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200] من هم؟
إنهم أعراب حجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فرفعوا أيدهم في عرفات وفي منى وقالوا: اللهم أدر لنا الضرع، اللهم إنا نسألك غيثاً مغيثاً هذا العام، اللهم أنتج لنا إبلنا، وأحي لنا زرعنا ومواشينا. وهذا كله في الدنيا، فهم لم يقولوا: ربنا اغفر لنا، وما تذكروا أن يقولوا: رحماك يا رب!
وهذا أعرابي ذكروا عنه أنه ذهب فحج، فلما رمى جمرة العقبة في اليوم الأول ذهب مسرعاً ودخل البيت، فلقيه صديق له عند باب الحرم، فقال: مالك؟ قال: أريد أن أدخل قبل أن يدهم الناسُ رب العالمين، أي: يكثروا عليه، سبحان الخالق! فتعلق بأستار الكعبة وقال: يا رب! اغفر لي قبل أن يزدحم عليك الناس. والله لا تختلط عليه الأصوات، ولا تتغير عليه اللهجات، ولا تتفاوت عليه الحاجات، ولا تتباين لديه النغمات، يعطي كل واحد مسألته مكانه: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته مانقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) خزائن الجود عنده، مهما سأل الإنسان فالله أوسع وأعلم وأحلم وأكرم تبارك وتعالى.
فذم الله من قال ذلك -ربنا آتنا في الدنيا حسنة. فهو من طلب الدنيا فقط.
فبعضهم تجده يقول: اللهم أحي لي أبنائي.. اللهم اجمع لي دراهمي.. اللهم نجح بناتي.. اللهم إني أسألك أن تثمر تجارتنا.. لكن ما تذكر الآخرة، فذم الله ذلك الصنف ومدح من قال: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
وهناك صنف آخر يطلب الله عز وجل في الآخرة ولا يطلبه في الدنيا شيء، حتى إن بعضهم يطلب على نفسه المرض، وفي حديث صحيح: ( أن رجلاً من الأنصار رفع يديه وقال: اللهم ما كنت معذبي به في اليوم الآخر فقدمه لي وعجله لي اليوم، فابتلي بالمرض حتى أصبح كالفرخ -أصبح كالفرخ من المرض- فزاره عليه الصلاة والسلام وقال: يا فلان! أقلت شيئاً؟ قال: قلت -يا رسول الله-: اللهم ما كنت معذبي به من عذاب فقدمه لي، قال: سبحان الله! وهل تطيق عذاب الله؟! بل قل: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]).
ومن أعظم الأدعية: اللهم إني أسألك العفو والعافية، يقول العباس: (يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به، قال: قل: اللهم إني أسألك العفو والعافية -وبعضهم يزيد كما في المسند لـأحمد - اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة) فهذا الدعاء عظيم جد عظيم، أن تدعو بالعفو والعافية، العافية في جسمك وأهلك، والعفو من الذنوب والخطايا.
فكان علي دائماً يقول: [[اللهم اهدني وسددني]] وهي من أحسن الدعاء وأوصيكم بها صباح مساء.
ومنها -وهذا صحيح-: (اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي) فعلمه صلى الله عليه وسلم حصين بن عبيد والد عمران بن حصين، كما في السنن: (أنه وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام فقال صلى الله عليه وسلم: يا
وفي الصحيحين عن أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، قال: (قلت: يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به في صلاتي -وهذه الأدعية لا بد أن تحفظ وأنا أوصي الإخوة الذين لا يحفظونها من مرة أن يراجعونها من كتيبات أو يستعيدوها من الشريط- قال
خرج عليه الصلاة والسلام على معاذ بعد الصلاة فشبك أصابعه كذا وقال: (يا
لأن الأدعية الأحسن أن تكون شرعية ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، أما بعض الأدْعِيَاء تجدهم يدعون بأدعية بدعية، حتى ذكر الغزالي يقول من الأدعية: يا دهر الدهارير، وهو يعتبره اسم من أسماء الله؟!
أحد الحمقى ذكر عنه ابن الجوزي يقول: يا رب! يا أحد! يا صمد! يا رحمان! يا رحيم! يا جبرائيل! يا ميكائيل! يا أويس القرني! ذكر هذا في كتاب الحمقى، وهذه أدعية بدعية، ولذلك تجد من أدعية الناس أحياناً ما يخالف السنة؛ لأنهم ما حفظوا شيئاً، والحفظ سهل لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
في صحيح مسلم كان يقول صلى الله عليه وسلم دعاء إذا قام من الليل وهو من أعظم الدعاء: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون! اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
يقول ابن تيمية: عند الاشتباه في الأمور، والالتباس في بعض القضايا، يكرر العبد هذا الدعاء، فإنه عظيم.
ومن الأدعية وخاصة في السجود: (يا مقلب القلوب والأبصار! ثبت قلبي على دينك) اللهم ثبت قلوبنا على دينك.
ومن الأدعية العظيمة وخاصة في السجود: (يا مصرف القلوب! صرف قلبي على طاعتك) أو كما قال.
ومن الأدعية الصحيحة، قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة والنجاة من النار).
ذكر صاحب طبقات الحنابلة أن عالماً دفن، فرئي في المنام، قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر الله لي مغفرة عامة وخاصة، قالوا: ماذا توصينا فيه؟ قال: أوصيكم بسيد الاستغفار.
فسيد الاستغفار أمره عجيب وإني أوصيكم جميعاً بحفظه، وتذكره صباح مساء وفي أدبار الصلوات وأن تكرره كثيراً.
وهو قوله صلى الله عليه وسلم: {اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} ففيه توحيد، واعتراف، وتسبيح، واستغفار، وفيه لجأ واعتراف بنعمته، وتبرء من الذنب.
استعاذ صلى الله عليه وسلم من أشياء منها: الهم والغم والحزن، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال).
وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر) فإن الفقر قد يصل إلى درجة أن يتسخط العبد على الله.
وكان صلى الله علية وسلم يستعيذ من غنى مطغٍ وفقر منسٍ، والغنى المطغي: الذي يبلغ بالعبد إلى أن يطغى على عباد الله، والفقر المنسي: الذي ينسيه رحمة الله وعفوه وجلاله.
وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة).
وكان يستعيذ عليه الصلاة والسلام من عذاب القبر والنار وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال في أدبار الصلوات.
وكان إذا خرج من بيته عليه الصلاة والسلام يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أَضِل أو أُضَل، أو أَزِل وأُزَل أو أَظلِم أو أُظلَم، أو أَجهَل أو يُجهَل عليّ) وعند ابن عساكر (أو أبغي أو يبغى علي).
وهذا مما يحفظ ويقال دائماً، إذا خرجت إلى وظيفتك أو مزرعتك أو السوق وقلت هذا الدعاء تولاك الله، يكون معك ملكان إذا خرجت وقلت: بسم الله توكلت على الله، أخذ الملكان رايتين واحد عن اليمين وواحد عن اليسار، ويقول أحدهما للآخر: من لك بعبد قد كفي ووقي؟! كفاه الله ووقاه، ويتخلى الشيطان ويقول: من لكم بعبد قد كفي ووقي؟ ما يستطاع له.
وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يرفع -أو لا يستجاب له-) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فنعوذ بالله من ذلك.
إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل فصارت برداً وسلاماً.
حسبنا الله ونعم الوكيل قالها النبي صلى الله عليه وسلم في أحد الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174].
إذا سمعت أحداً يتحرش بك، أو يكيد لك أو يتربص بك، أو يدير لك الدوائر فقل: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وإذا سمعت تحزبات أو جلسات أو تخطيطات، ووصلت إليك، فقل: حسبنا الله ونعم والوكيل.
إذا كادك كائد، أو أراد أن يجتاحك ظالم، أو دبَّر لك مدبر أو وقف بك خبيث فقل: حسبنا الله ونعم الوكيل.
فهذا هو الدعاء وهذا مقامه، فسوف تنقلب برشد لا يمسك سوء بإذن الله.
وأما دعاؤه صلى الله عليه وسلم في بدر، فدعا دعاء عظيماً حتى سقطت بردته من على كتفيه، فنصره الله نصراً مؤزراً ما سمع التاريخ بمثله؛ لأنه التجأ إلى الله حتى يقول علي: (نظرت إلى الناس ما منهم إلا نائم، إلا الرسول عليه الصلاة والسلام فرأيته يدعو عند شجرة حتى الصباح).
حتى يقول أبو بكر: (يا رسول الله! بعض مناشدتك ربك) يقول: يكفي، فألح عليه الصلاة والسلام حتى نصره الله.
ومن الدعاء المستجاب ما دعاه صلى الله عليه وسلم لدوس لما أتى الطفيل بن عمرو وقال: (يا رسول الله! إن دوساً عصت الله فادع عليهم، فرفع يديه صلى الله عليه وسلم فقال الناس: هلكت دوس ويل لدوس، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد دوساً وأت بهم، اللهم اهد دوساً وأت بهم، اللهم اهد دوساً وأت بهم) فهداهم الله، وأتى بهم مسلمين.
ومن الدعاء المستجاب: أتى أبو هريرة إلى رسول صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أمي دعوتها إلى الإسلام فسبتني وأسمعتني سباً فيك، فادع الله لها، قال: اللهم اهد
ومن دعائه الذي استجيب عليه الصلاة والسلام: أن ابناً لـأبي لهب أتى فآذى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقيل: بصق في وجهه، فقال: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) فخرج في تجارة إلى الشام فكان كلما أتوا ينامون، أخذ أصحابه فنام وسطهم، فقالوا: مالك؟ فقال: دعا علي محمد أن يسلط علي كلباً وأخاف من ذلك.
قالوا: ما عليك، قال: لا. ثم حلف باللات والعزى ما دعا دعوة إلا أتت كفلق الصبح، فذهب فلما أصبح قريباً من الشام، نام وسط أصحابه، فلما انتصف الليل جاء أسد -وهو يسمى تجوزاً كلب من كلاب الله وغضنفر وليث- فاخترق النائمين، فاستيقظوا ورأوا الأسد، قال: كان يدنو من الرجل يشمشم وجهه، ثم يتركه -أي: ليس على الوصف فهو مرسول بوصف إلى رجل محدد- قال: فيتركه ويأتي إلى الذي جواره فيزيل عنه الغطاء ويشمشمه فلا يجد تلك الرائحة التي هو مرسول إليها، حتى أتى إلى الوسط فأخذ رأس ابن أبي لهب لقمة واحدة.
وأتاه رجل فسب الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم اقتله كيف شئت) فمن حقارته على الله -وحقارة هذا الرجل لأنه استهزأ بالرسول صلى الله عليه وسلم وسط الناس، وجزاء المستهزئين أن يحقروا- أنه ذهب يحلب عنـزة فالتفتت إليه فرمحته فبجرت بطنه فمات عند رجلها، ما يحتاج أكثر من عنـز، وما كلف إلا عنـزاً.
النمرود بن كنعان ملك الدنيا، يقول: أريد أن أقتل إله إبراهيم، فابتلاه الله ببعوضة فأكلت من دماغه حتى أصبحت كالعصفور، فكانت إذا فرفرت وجد طعم الموت، فيضربونه حتى يهدأ، فضربه أحد خدمه فطير رأسه فمات.
وقوم سبأ كان سد مأرب في اليمن، فبطروا وأعرضوا وتجبروا على عباد الله، فأرسل عليهم فأرة فهدمت سدهم، ولذلك يقولون عنهم: هدمت سدهم فأرة، وأخبر بهم هدهد، ودل عليهم عقرب أو كما قالوا.
فإذا علم هذا، فهذا من الدعاء الذي تم، وأتى عامر بن الطفيل وأربد بن قيس يريدان اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال الطفيل لـأربد: سوف أشغل محمداً عنك، فإذا شغلته فاقتله، فأخذ يكلمه ولا يتقدم ذاك، فكلمه وكلمه فلا يضرب، فلما انتهوا قال: مالك؟ لن أرهبك بعد اليوم، قال: كيف؟ ثم أقسم ما أردت أن أضرب إلا رأيتك أنت بيني وبينه أفأقتلك؟!
فعلم عليه الصلاة والسلام أنهم أرادوا قتله فقال: (اللهم اكفنيهم بما شئت) فأما عامر بن الطفيل فأتت فيه غدة كغدة البعير حتى سالت على صدره، فأخذ يحكها فكلما حكها نزلت حتى غطت بطنه، فقال: أموت في بيت امرأة من بني سلول -وقد كان في بيت عجوز في الطريق- أركبوني على الفرس وأخذ يصيح ويقول: غدة كغدة البعير، في بيت امرأة سلولية، فقتله الله.
وأما أربد بن قيس فأخذ جمله وبضاعته وأراد السوق، فلما أصبح بين بيته والسوق أرسل الله عليه صاعقة، فأخذت الرجل والجمل والخرج والبضاعة والخطام.
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار |
فهذا من الأدعية.
وأما ما استجاب الله للصالحين فكثير وكثير، وأكثر ما استجاب لـسعد بن أبي وقاص، يقول: (يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، قال: يا
وفي صحيح مسلم: (وذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له!).
فقد جاء سعداً رجل وافترى عليه، فقال: لا يحكم بالسوية ولا يعدل في الرعية، ولا يخرج في السرية، فدعا عليه، فقال: إن كان كاذباً فأطل عمره وعرضه للفتن، فأطال الله عمره وعرضه للفتن، حتى سقط حاجبا هذا الشيخ على عينيه، وكان يتعرض للبنات في شوارع الكوفة يغازلهن، ويقول: شيخ مفتون، أصابتني دعوة سعد.
وتكلم رجل في 1000112>طلحة
والزبير عند سعد بن أبي وقاص فقال: لا تسب إخواني، فقال: والله لأسبنهم، قال: اللهم اكفنيه بما شئت، فانطلق جمل من الكوفة فتأخر الناس عنه، فأتى إلى هذا الرجل ثم ضربه بيده -الجمل ضرب الرجل بيده، والقصة عند الذهبي في السير - فقتله.وغيره كثير من دعاء سعد رضي الله عنه، وأرضاه.
وأما العلاء بن الحضرمي، فإن الصحابة قحطوا وهو قائد الجيش، فقال: [[يا عليُّ! يا عظيم! يا حكيم! يا عليم! اسقنا]] فأتت سحابة فأمطروا.
ودخلوا في البحر فسأل الله أن يجمد لهم البحر فجمد لهم فمشوا عليه، وما فقدوا إلا مخلاة، فأتى رجل وإذا هي معلقة في البحر، ما أصابها الماء، فأخذها.
ومن كرامة الأولياء واستجابة دعائهم ما حصل لـأم أيمن رضي الله عنها وأرضاها، فقد خرجت مهاجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وفي أثناء الطريق عطشت وظمئت، وظلت تبحث عن الماء حتى أشرفت على الموت، فدعت الله، فنزل لها دلو من السماء فشربت منه، ثم عاد الدلو فما ظمئت في حياتها كلها، وقد عاشت بعد هذه الشربة ما يقارب أربعين سنة.
والبراء بن مالك قال عنه صلى الله عليه وسلم: (رب ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، منهم:
الشرط الأول: أن يكون حياً حاضراً.
الشرط الثاني: أن يكون صالحاً.
فأما الحي: فيخرج الميت، فلا يجوز أن تذهب إلى مقبرة ولا إلى ميت وتقول: يا فلان! ادع الله لي، فإن فعلت ذلك فإنك إذاً لمن المشركين، فإن فعلت ذلك فقد خسرت حظك من الدنيا والآخرة وليس لك من خلاق يوم القيامة، قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66].
والثاني: أن يكون حاضراً، فلا تقل لغائب، كأن يكون في الرياض أو جدة فتقول: يا فلان! ادع الله لي، فهذا لا يجوز.
والأمر الثاني: أن يكون الرجل هذا صالحاً، فلا تأتي إلى فاجر أو إلى كافر، أو إلى شيوعي ملحد، فتقول: لا تنسنا -يا أخي- من دعائك، وأي دعاء له عند الله؟! إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40].
فالكافر لا حظ له عند الله، ولا دعوة ولا قبول، ولا فتح، ولا رضا ولا عفو، وإنما غضب ولعنة ومحق وسخط والعياذ بالله، فلا بأس أن تقول للرجل الصالح: لا تنسنا -يا أُخي- من دعائك، فقد روى الترمذي عن عمر قال:(قلت: يا رسول الله! أريد عمرة - أي يستأذنه- قال: لا تنسنا -يا أخي- من دعائك).
وابن تيمية يقول: وعلى طالب الدعاء الذي يطلب من أخيه؛ أن يريد نفع الداعي كذلك، فعليك إرادة منفعته، لأنه إذا دعا لك فإن الله يكتب له بقدر ما دعا لك، ويقول له الملك من السماء: ولك بمثل ذلك، ولك بمثل ذلك، ولك بمثل ذلك.
بل قال بعض العلماء: إن دعوة المسلم لأخيه أرجى من دعوته لنفسه، فإنها علامة الصدق والإخلاص، فإذا دعا لأخيه المسلم، قال الملك: ولك بمثل ذلك، وبالمناسبة إني أسأل الله لي ولكم المغفرة نقول: لا تنسونا من دعائكم ونحن -إن شاء الله- لا ننساكم، عسى الله أن يتغمدنا بفضله ورحمته ورضوانه.
السؤال: يقول أحد الإخوة -أنا ما أجبته إلا لضرورة ملحة وإلا فإنه سؤال أشبه بالشخصي- يقول: أنا متزوج والحمد لله، وزوجتي والحمد لله طائعة، ولكن أبوها يجبرها على أن تكشف على أولاد عمها، وأنا غير موافق ولكن إذا أوصلتها على أساس الزيارة أجبروها على ذلك، وهي الآن محتارة بين أن تطيع أباها أو أن تطيع زوجها، حتى إنها كرهت الحياة وتدعو الله بأن يقضي عليها بالموت، علماً بأننا ساكنون في قرية كثيرة الاختلاط -اختلاط الرجال والنساء- خاصة في المناسبات والأعياد وغير ذلك؟
الجواب: أولاً: ما فعلته الزوجة من أنها امتنعت عن الكشف على أبناء عمومتها فقد أصابت في ذلك، فلا يجوز لها أن تكشف عليهم لأنهم أجانب، ولا على أخي زوجها لأنه حمو، والحمو كما قال عليه الصلاة والسلام: الموت، ولا يجوز لها أن تجلس مع من لم يحل لها الجلوس معه، ولو كانوا أقارب، كأبناء الأخوال.
ولو أمرها أبوها أن تجلس معهم وتكشف عليهم فقد عصى الله ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وعليها أن تطيع الله ولا تطيع أباها في هذه المعصية، بل وتطيع زوجها لأن زوجها أمرها بالمعروف وأبوها أمرها بالمنكر، والذي ندعو الله أن يصلح هذا الأب، وأن يلهمه رشده، وأن يعطيه سُبحَانَهُ وَتَعَالى علماً وفهماً لكتابه: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].. وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33].. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31] وقوله عليه الصلاة والسلام: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) رواه أحمد بسند جيد.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تخلون امرأة برجل -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- إلا مع ذي محرم) فإذا علم هذا، فهذا هو الأمر والجواب، وقد أصابت وعليها أن تتقي الله وتطيع زوجها، وقد أحسنت صنعاً، وأما غضب أبيها فعليها أن تسترضيه بغير أن تطيعه في هذا الأمر، لكن تطيعه في طاعة الله، أما أن تطيعه في الكشف فلا طاعة له، ولو غضب فإن رضا الله مقدم على رضاه، وغضب الله أكبر من غضب أبيها، والله المستعان.
والدعاء بما ليس له، والدعاء بالمستحيل كأن يدعو أنه حي ميت، أو موجود معدوم، أو متحرك ساكن، فإنه لا يجتمع نقيضان أو ضدان، أو يتنطع في الدعاء، كما فعل ابن مغفل قال: اللهم إني أسألك القصر الأبيض على يمين الجنة، قال: يا بني! إني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ليأتين أقوام يعتدون في الدعاء والطهور) أو كما قال.
وكرهه أهل العلم.
وكذلك السجع، أن يسجع الإنسان في الدعاء كثيراً، ولو أنه أتى في الحديث سجع، لكن بلا تكلف، لكن يسجع فيقول: اللهم إني أسألك سعتة في الدور، وبسطة في القصور، وقوة في الظهور ورفعاً في الدور، إلى غير ذلك، يجمع بالراء محاضرة ويأتي بالدال ويتكلف وبالعين وبالحاء، فهذا خطأ، يدعو بما تيسر.
ومنها: بين الأذانين، بين الأذان والإقامة كما عند النسائي دعوة مستجابة، إذا أذن المؤذن فالوقت الذي بين الأذان والإقامة أكثر فيه من الدعاء، واسأل الله أن يلبي لك ويعطيك ما تمنيت.
ومنها: السجود، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: (أقرب ما يكون العبد لله وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) أي: حري وقريب وجدير أن يستجاب لكم، الله الله في كثرة الدعاء، إذا سجد العبد بعد أن يقول: سبحان ربي الأعلى ما شاء الله، أي: ما قدر الله له أن يقول.
ومنها: الثلث الأخير من الليل: ففي الصحيحين: (ينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟).
ومنها: عصر الجمعة، ففي يوم الجمعة ساعة لا يدعى الله فيها بخير أو بدفع من شر بغير قطيعة رحم، أو إثم إلا استجاب الله لصاحب الدعوة من المسلمين، وهي آخر ساعة من يوم الجمعة بعد العصر، ومنها: يوم عرفة، يوم يتجلى الله للناس بعرفة وبغير عرفة، لكن بعرفة آكد.
فنقول: الدعاء لا يتعارض مع القضاء، فأنت تدعو لأنه قد كتب الله لك أنه يصرف عنك هذا الشيء بسبب أنك تدعو، أو كتب الله عليك هذا الشيء وكتب لك أنك تدعو فيزيله الله عنك، مثل ماذا؟ مثل أنه قدر على ابنك الرسوب، وقدر أنك تدعو فينجحه، فتأتي فتقول: كيف أدعو لابني أن ينجح والله قد كتب عليه الرسوب فلا ينفع؟ نقول: ادع الله، لأن الله كتب أن تدعو ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الدعاء والقضاء يعتلجان بين السماء والأرض) أي: يتناطح الدعاء والقضاء، فالدعاء يريد صرف القضاء والقضاء يريد النـزول على الدعاء، فيمضي الله عز وجل الدعاء أو بما كتب سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
فعليك بالدعاء وعليك دائماً بعدم اليأس من روح الله، وأكثر من الدعاء فإنه لا يعارض القضاء، بل يصرفه بقضاء وقدر آخر من الله، أو يلطفه ويخففه أو يكون أجراً ومثوبة إذا لم يحصل لك هذا الشيء، فإنك لن تدعو إلا بخير، إما يحصل لك غيره، وإما أن يدخر لك الله من الخير، وإما يصرف عنك من الشر.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربما تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
والسلام عليكم روحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر