وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وسلم ما تعاقب الليل والنهار، وما هطلت الأمطار، وما فاحت الأزهار، وما ترعرعت الأشجار، وعلى آله والتابعين لهم بإحسان.
أشكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى على أن جمعني بهذه الوجوه التي سجدت له، وبهذه القلوب التي أحبته، ثم أشكر مركز الدعوة بـالدمام، وعلى رأسه فضيلة الشيخ حمد الزيد على تبنيه لهذه اللقاءات القيمة، وأما أنتم يا أيها الحضور فأقول:
فَتْحُ نظمي ومقالي حمد رب العالمينا |
وصلاة الله تالي تبلغ الهادي الأمينا |
ما بدا نور الوصال في وجوه الساجدينا |
وعلى الدمام حالي والحضور المكرمينا |
أيها الإخوة: ماذا يقول المسلم يوم يرى هذه الجموع وقد توجهت إلى الله؟
يقول: المستقبل لهذا الدين. يقول: العظمة لـخالد وطارق وصلاح الدين، ولسان الحال:
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا |
لسنا وإن كرمت أوائلنا يوماً على الأحساب نتكل |
أما عنوان المحاضرة فهو عبارة عن (حوار بين روح القدس ومعلم البشرية صلى الله عليه وسلم) وروح القدس ليس به خفاء، يقول حسان:
وجبريل أمين الله فينا وروح القدس ليس به كفاء |
يسمى: جبريل، ويسمى: روح القدس، وسمي روح القدس تسمية من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ومن رسوله عليه الصلاة والسلام، وكان صلى الله عليه وسلم يحرك داعيته حسان لينثر الأبيات اللاذعة على رءوس المشركين، فيقرب له المنبر، ويقول: (اهجهم وروح القدس يؤيدك) وأجمل بيت قاله حسان في مدح جبريل ومحمد عليه الصلاة والسلام، يوم اشتركت القيادة في بدر، قيادة الملائكة مع قيادة الصحابة تحت علم محمد صلى الله عليه وسلم، يقول:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد |
من يقول مثل هذا البيت؟ من ينحت مثل هذا الكلام؟
وهذا الحوار سؤال عظيم، أعظم سؤال فيما أعلم، ولعلكم تعلمون ذلك في السنة المطهرة قاطبة، وسوف يرويه لنا إمام معتبر، إن طلبته في الزهد وجدته، وإن استقرأته في الأدب والإشراق والعدل قرأته.. أبو حفص عمر بن الخطاب، وأنا أستحي منكم أن أعرف عمر! أأقول للبدر يا بدر ما أجملك؟!!
مر أعرابي -بدوي- في الليل بناقة، ولمَّا أتعبه الظلام مرة يسقط ومرة يقوم، وإذا بالبدر قد بدا، والقمر قد طلع، فأصبح يرى مواقع الإبرة في الأرض.
فقال: يا قمر! إن قلت: رفعك الله فقد رفعك الله، وإن قلت: جملك الله فقد جملك الله، وإن قلت: حسنك الله فقد حسنك الله.
وأنا أتقاصر وأستحي أن أقف أمام هذه النهاية من النور عمر بن الخطاب.
أقول: رفعه الله وقد فعل، وجمله الله وقد كان، وحسَّنه الله وقد حصل.
يروي الحديث وأنا أسرده مع الشرح، ثم فيه دروس وقضايا ننتهي بها والله المستعان، وهو الذي يفتح سُبحَانَهُ وَتَعَالى، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
انظروا الأدب! لم يقل: كان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً معنا، العظيم دائماً يضاف إليه، ولا يضاف العظيم لغيره.
كنا جلوساً مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ومجالسه صلى الله عليه وسلم كانت مجالس إيمان ويقين ونور، ساعة واحدة يجلسها الأعرابي مع محمد عليه الصلاة والسلام يتحول إلى داعية وقائد وزعيم.
شباب جلسوا معه ساعات ثم أخذوا سيوفهم يحملون (لا إله إلا الله) ويقتلون على ضفاف الفرات ودجلة وتستر..! وعلماء الصحابة يخرجون من مسجده علماء في ساعات.
ومن الطرافة ما الفرق بين اقعد واجلس؟ تقول العرب للنائم إذا أرادت أن تجلسه: اقعد، وتقول للواقف: اجلس. قالوا: (بعد مشي جلسنا، وبعد نوم قعدنا).
قال: {كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم} وهي إضافة ما أحسن منها!
يقول أبو هريرة: خرجنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويقول زيد بن ثابت في الصحيحين: {تسحَّرنا مع الرسول عليه الصلاة والسلام}.
وليس من الأدب أن تأتي بفاضل أو نبيل أو عالم جليل، وتأتي وتقول: أتى معي، وركب معي، ودخل معي، وخرج معي.. لا، جلسنا مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وإذا كان إمام المجلس محمد صلى الله عليه وسلم فحسبك به!
يقول مجنون ليلى:
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا |
يقول: يكفي أن نذكرك للنوق
وإني لأستغشي وما بي غشوة لعل خيالاً منك يلقى خياليا |
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا |
فأما مجلس الله فمجلس أوليائه، وأولياء الله مجالسهم معروفة.
قيل لـابن المبارك الزاهد الشهير: مع من نجلس؟ دلنا على جليس؟ فأنشد أبياتاً كأنه كتبها بدمه، قال:
من كان ملتمساً جليساً صالحاً فليأتِ حلقة مسعر بن كدام |
فيها السكينة والوقار وأهلها أهل العفاف وعلية الأقوام |
مجلسكم هذا من أعظم المجالس لا لحضوري أنا، لكن لحضوركم أنتم..
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا |
وما ذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا |
لأنفاسكم، ولجلوسكم، ولتسبيحاتكم خمس فوائد في مجلسكم هذا:
1/ لعل الله أن يغشانا بالسكينة.
2/ ويحفنا بالرحمة.
3/ وتتنزل علينا الملائكة.
4/ ويذكرنا الله فيمن عنده.
وخامسة أحلى من العسل: يقول الله لنا في آخر المجلس: انصرفوا مغفوراً لكم.
فتقول الملائكة: يا رب! عبدك فلان جلس معهم هكذا -أي: ما أراد الجلوس وإنما رأى الجماهير فجمهر- قال: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من جلس مجلساً لا يذكر الله فيه، إلا كانت عليه ترة يوم القيامة} أي: حسرة وندامة.
ومجالس أهل الخير إذا جلسوا فيها عمروها بالتقوى.. لما حضرت سكرات الموت عمر بن الخطاب وطعن، قال: [[ما آسى على الحياة إلا على ثلاث، ومنها: ومجالس قوم ينتقون لي أطايب الكلام كما ينتقى أطايب التمر]].
مجالس أقوام هي لذائذ في الحقيقة، وبعض الناس لم يجد هذه المجالس؛ إما لوحشته في دهره؛ أو لأنه ما وجد صالحين فأخذ يبكي على مجالس الصالحين.
أما المتنبي فيقول:
أعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب |
ونحن نقول: يا أبا الطيب! لو عرفت جلساءنا لما مدحت الكتاب، بل خير جليس في الزمان رجل صالح، يتحدث إليك بقلبه المؤمن، وبسجداته وبتطلعاته الإيمانية، وبإقباله على الله.
قال: (جلسنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم -وفي رواية
(بينما) تستخدم للفجاءة.
إذ طلع: كل شيء بقضاء وقدر، لا يقال: رأيته فجأة، إلا في العربية، ولكن كل شيء بقضاء وقدر لا صدفة.
قال: (إذ طلع علينا رجل).
من هو الرجل؟ إنه جبريل.
لماذا سماه عمر رجلاً وهو ملك؟
قالوا: لأنه اعتقد أنه رجل فسماه رجلاً، وما كذب عمر وما زاغ وما طغى في كلامه.
مثل أحد السلاطين الطغاة، كان عنده حرس يسبلون ثيابهم، وهذا الطاغية يقتل الأنفس ويمزق الأعراض، فقال له الواعظ: عندي لك كلام. قال: ما هو الكلام؟ قال: بيني وبينك أيها السلطان. قال: قل. قال: يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر} وجنودك يسبلون ثيابهم.. غفر الله لك! وهل المسألة مسألة إسبال؟
يقول الرجل: يا أبا مسلم.. تلبس السواد لقد خالفت السنة؟
فقال: حدثني فلان عن أبي الزبير عن جابر -وهذا الحديث في مسلم ولا أدري كيف أدركه أبو مسلم وهو ليس من أهل الحديث- حدثني فلان عن أبي الزبير عن جابر: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء} يا غلام! اضرب رأسه؛ فقطع رأسه!!
الشاهد هنا: أن الأبيض مطلوب، وفي الصحيحين كان عليه الصلاة والسلام يقول: {ونقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس}.
لماذا الأبيض؟
لأن شريعتنا بيضاء، يقول عليه الصلاة والسلام: {أتيت بها بيضاء} دينه أبيض، وشريعته بيضاء، ولبسه أبيض، ومنهجه أبيض، نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35].
وفي سنن النسائي بسند صحيح: أن عمر رضي الله عنه وأرضاه أتى بنسخة من التوراة -وجد أوراقاً، أمة أمية تفرح بالمراسم والأقلام والألوان إذا وجدتها، عمر لا يقرأ، فلما وجد قراطيس عند أهل خيبر، وقيل: في مدراس عند أهل خيبر قال: آتي بها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام- قال: يا رسول الله! خذ هذه من التوراة -أي: استفد منها- فغضب عليه الصلاة والسلام، وقال: {أمتهوكون فيها يـ
والشاهد هنا قوله: لقد أتيتكم بها بيضاء. فشريعته بيضاء.
أبي بن كعب سيد القراء، قالوا في ترجمته: كان ثوبه أبيضاً، ولحيته بيضاء، ورأسه أبيضاً، وقلبه أبيضاً نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35].
قال: { إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب} لماذا استنكر عمر شدة البياض؟
قالوا: لأنه لو كان مسافراً لكان مدنس الثوب، وهذا لا يعرفونه؛ لكنه نزل فجأة شديد بياض الثياب.
كان يصوره الله في صورة دحية بن خليفة الكلبي، وكان هذا الرجل جميلاً، فكان يقول الصحابة: رأينا دحية مر من هنا وعليه ثياب بيض، ويدخلون فيجدون دحية فيقولون: يا دحية، رأيناك خرجت. قال: أنا دحية، قالوا: بل رأيناك خرجت. قال: أنا موجود هنا؛ فيخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه غير ذلك.
أحد المفكرين -لا زال حياً- كان في الحرم يصلي ركعتين عند المقام، فأتاه أحد الشباب، وقال: يا شيخ! يقول الناس: إنك مت. قال: لا أنا لم أمت. قال: والله لقد أخبرني ثقات.
قال: أنا موجود أمامك.
قال: لا. الذي قال لي ثقة ولا يكذب.
قال: إن كنت صدقته فأجل أنا مت، لكنني عند المقام الآن!
مثل ما قاله عيسى عليه السلام فيما أورده الغزالي: مرَّ بسارق يسرق، فقال عيسى: لا تسرق.
قال: يا روح الله! والله ما سرقت. قال: صدقتك وكذبت بصري.
يكذب فيك كل الناس قلبي وتسمع فيك كل الناس أذني |
وهذا ليس هو الشاهد، بل الشاهد أن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- وصفه أنه رجل، وأنه شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، والسؤال الذي طرحه أهل السنة: كيف يتصور في هذه الصورة عليه السلام؟
والجواب: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فاطر:1] كان جبريل عليه السلام له ستمائة جناح، كل جناح يسد ما بين المشرق والمغرب.
جلس سفيان بن عيينة مع معتزلي ضال مبتدع، قال: دعنا من خزعبلاتك! أتعرف كيف ينص الجناحان؟
قال: نعم. قال: أعطني جناحاً ثالثاً ونصه؟
قال: لا أدري.
قال: فكيف خلق له ستمائة جناح؟
قال: لا يكون هذا.
قال: جبريل عليه السلام له ستمائة جناح. فبهت المبتدع والله لا يهدي القوم الظالمين، كان كل جناح يسد ما بين المشرق والمغرب، ولما أرسله الله إلى المؤتفكات -قرى قوم لوط التي عصت الله- اجتاحهم بجناح واحد، ورفعهم وهي أربع قرى فيها ستمائة ألف، فلما اقتربوا وسمعت الملائكة صياح الديكة ونباح الكلاب، رمى بهم في الأرض، فبعداً للقوم الظالمين.
يقول ابن سلام للنبي صلى الله عليه وسلم: من صاحبك من الملائكة؟ قال: جبريل.
قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة.. مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98]
قال ابن حجر: لماذا عادى اليهود جبريل؟ لماذا لا يعادون ميكائيل وإسرافيل؟
قال أهل العلم: لأنه كشف أسرارهم للرسول عليه الصلاة والسلام، وفضحهم في سورة البقرة، وأخبر بما فعلوه يوم السبت، والرسول صلى الله عليه وسلم أمي، أخبر بما فعلوا وبما كذبوا وبما غشوا وبما زنوا، فقالوا: فضحنا جبريل.
وقالوا: لأنه دمرهم كثيراً.
وقالوا: لأنه جاء بالرسالة إليهم؛ فحول الرسالة إلى العرب وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
من يحكي مثل هذه الكلمات؟! أرأيتم أجمل من هذه الكلمات؟!
السفر يا إخوان سفران: سفر له أوبة وهو السفر القصير، وهو سفرك من مكان إلى مكان، من الدمام إلى الرياض، فهو سفر مؤقت، وسفر لا أوبة بعده، وهو السفر إلى الدار الآخرة.
كان الحسن البصري يبكي إذا ودع أصحابه، ويقول:
وخفف وجدي أن فرقة واحد فراق حياة لا فراق ممات |
يقول: أنا أبكي عليكم لكن السهل أنكم سوف تعودون.
قل لي بالله! من تفارقه من أصحابك وأحبابك وأبنائك... كيف يكون شعورك بعده؟
لا لقاء إلا أن تكون صالحاً ويكون صالحاً، فيجمع الله بينكما في الجنة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21].
التهامي رجل مفلق، التهامي من أكبر شعراء العرب، كان يحب ولده كما يحب الإنسان ولده، فلما مات ابنه؛ دفنه في حوش البيت من شدة حبه له، ودفنه قريباً من المجلس، لكن وهل ينفع ذلك؟ سواء دفنه وراء ألف ميل أو عند المجلس سيان، لكن انظر إلى شغف الوالد بولده! يريد أن يستأنس بقبر ابنه، فلما دفنه قريباً منه كان يبكي عليه في الليل والنهار، وكان يقول:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواريd |
يقول: جاورته في البيت، لكن ما رضي جواري بل جاور الله.
قال ابن كثير: رؤي التهامي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي. قالوا: بماذا؟ قال: ببيتي المشهور:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري |
امرأة الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فقدت زوجها، فبكت عليه سنة، ونصبت خيمة حول قبره، وهذه أفعال لم يقرها الإسلام، وبعد أن انتظرت سنة هل يخرج لها الحبيب من القبر؟ لم يخرج، ولم يكلمها ولو ليلة، سكوت..
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر |
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر |
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر |
مكثت سنة تنتظر أن يكلمها بكلمة فما كلمها.
يقول المتنبي: مال أهل القبور لا يتحدثون؟ ما لهم لا ينطقون؟
أقول: يا متنبي! يقول الله: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ [سبأ:54].
يقول المتنبي:
خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلال مطلق |
لكن لا يتكلمون.. نصبت خيمتها سنة، ثم اقتلعت الخيمة؛ فسمعت هاتفاً يهتف -والعهدة على أبي الفداء ابن كثير - قال هاتف لأخيه: هل وجدوا ما فقدوا؟
قال: لا. بل يئسوا فانقلبوا.
قال: { لا يرى عليه أثر السفر} والإنسان في سفر، يقول سيد قطب -متعه الله بالجنة- عند قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] يقول كلاماً ما معناه: يا أيها الإنسان!
يا من حمل غمومه وهمومه! يا من حمل مقاصده! يا من حمل تبعاته! يا من حمل تصرفاته! إنك كادح إما في الخير أو في الشر كدحاً فملاقيه.
أرى كلنا يبغي الحياة بحبه حريصاً عليها مستهاماً بها حباً |
وحب الجبان النفس أورده البقا وحب الشجاع الحق أورده الحربا |
كلنا كادح، الذي في البارة والخمارة كادح، صاحب المخدرات كادح، صحاب السيجارة كادح، الذي يرقص على الأغنية الماجنة كادح، الذي يسهر أربع ساعات على البلوت كادح، والمصلي كادح، والذي يبكي في آخر الليل كادح، والذي يجلس مع هذه الطلعات الإيمانية الرائدة كادح، والذي يقرأ ويعلم الناس كادح، ولكن اللقاء عند الله الواحد الأحد.
وفي صحيح مسلم: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر الرجل يطيل السفر-قالوا: سفر الآخرة أو سفر الدنيا، في جمع الأموال أو في العبادة- أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟!}.
والسؤال الذي أورده الشراح: لماذا يقول عمر: لا يعرفه منا أحد؟ هل جزم أن الناس لا يعرفونه؟
قالوا: على حسب ما ظهر لـعمر، رأى الوجوه -وبإمكانك أن تستقرئ- أنه لم يعرفه أحد.
فأتى فجلس، ما أحسن الأدب! أدب طالب العلم! الشيخ محمد عليه الصلاة والسلام، والتلميذ: جبريل عليه السلام، والسؤال: لماذا أتى جبريل في هذه الفترة؟
قال أنس: [[منعنا من السؤال]].
منع الصحابة من السؤال لأن الله نهاهم عن كثرة الأسئلة؛ لأن الدعوة لو فتحت لاضطرت الأمة إلى تضييقات وإحراجات شديدة، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [المائدة:101]
وقيل: السبب أن العرب كانوا يسألون أسئلة تافهة مثل وجوههم، يأتي الأعرابي ويربط ناقته في واد، ويقول: يا محمد! أين ناقتي؟ وهل يدري الرسول عنك وعن ناقتك؟! وهل أتى ليخبرك عن ناقتك؟!
أعرابي آخر قال: بماذا يبعث الدجال يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: {يبعث معه ثريد (أي: لحم وخبز) فيغوي الناس بثريده، فمن أطاعه، وأكل من ثريده غوى. قال الأعرابي البدوي: والله الذي لا إله إلا هو لآكلن من ثريده حتى أتضلع، ثم أقول: آمنت بالله وكفرت بك}.
هؤلاء الأعراب تضيع الصحون معهم، لو يترك لهم صلى الله عليه وسلم المجال لسألوه في كل باب، وضيعوه عليه الصلاة والسلام، وضيعوا دعوته، فأتى الأمر (لا تَسْأَلوا) قفوا حتى يأتي الأمر من الله.
يقول أنس كما في الصحيحين: [[فكان يعجبنا الرجل العاقل الذي يأتي يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم]] ومن ثم أتى ضمام بن ثعلبة الذي مرت أحاديثه في جلسات، فسأل الرسول عليه الصلاة والسلام.
كفرت بـلينين وأذناب نهجه وآمنت بالرحمن والفوز مطلب |
أنا قصة من بدر أرسلها الهدى محمد يرويها وجبريل يكتب |
قال: (جلس وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه).
على فخدي من؟ على فخذي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأنس، وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام؛ لأن من الناس من تستطيع أن تضع يديك عليه.
كان صلى الله عليه وسلم ربما شبك أصابعه بأصابع أصحابه، وربما داعبهم، يأخذ بكتف الصحابي ويضمه، يأتي إلى زاهر في السوق، وزاهر بدوي، يبيع سمناً وعسلاً، فيقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (
فأتى إلى زاهر وهو مشغول بالسمن والعسل، فأتى معلم الإنسانية وهادي البشرية من ورائه، فضمه إلى صدره وهو يقول عليه الصلاة والسلام: (من يشتري العبد، من يشتري العبد).
وهو في السوق يحرج به، فأخذ زاهر يتفلت من يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ويلتفت، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ يتحنك بكتفيه لا يريد أن يتركه، ويقول: يا رسول الله! كأني كاسد؟ أي: كأني مفلس، فقال: (لكنك لست عند الله بكاسد).
إنها تربية، والمداعبة في السوق تحتاج إلى محاضرات، لماذا داعبه؟ ولماذا حرج عليه؟ ولماذا مزح عليه؟ أعنده وقت فراغ عليه الصلاة والسلام؟
بعض الناس الآن من متصوفة القرن الثالث، يقولون: لماذا لا تمشط لحيتك؟ قال: مشغول بالعبادة.
عجيب! حتى في مشط اللحية مشغول؟! ومحمد صلى الله عليه وسلم رجَّل رأسه، ومشط لحيته، ومازح الأعراب، وحمل الأطفال، وصلى بـأمامة، وصعد الحسن والحسين على ظهره صلى الله عليه وسلم، وداعب وضحك وسابق عائشة!
إنها حياة تكامل، روعة وجمال، أما أن تقصر في جانب وتظهر في جانب فهذا ليس بصحيح، بل هذا نقص.
أتى الرسول صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله، فضرب على صدره، ورجل آخر نفث صلى الله عليه وسلم وقرأ، كلها سكينة ولطف، وتجد بعض الناس من غلظته وفظاظته لا تستطيع أن تقربه، بينك وبينه ثلاثة أمتار، ولا تستطيع أن تنظر إليه، وإذا نظرت إليه تقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق! كأن سيف الحجاج بيده!.. فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم!!
(فوضع يديه على فخذيه، ثم قال: يا محمد!) لأنه لو قال: يا رسول الله! لكشف نفسه، فكأنه لا يدري بالرسالة ولا يدري بالرسول صلى الله عليه وسلم.
لأنه الإسلام، لأنه الصدق والوضوح؛ لأنه يصل إلى النفس.
قال: ما الإسلام؟ قال عليه الصلاة والسلام في الجواب- ويستدل به البخاري على أن الدين عمل، ويأتي بهذا الحديث، قال: فأخبرهم عن دينهم، لأن المرجئة يقولون: إن الإيمان قول واعتقاد فقط، لا. بل هو عمل.. يقولون: صلِّ أو لا تصلي، أنت مؤمن مثل المصلي، أنت وأنا مثل أبي بكر الصديق عند المرجئة!
ويقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص كلنا سواء! عجيب! أنا وأنت على ما قدمنا للإسلام يوم نصلي صلاة الجماعة! لا جاهدنا، ولا قاتلنا، ولا عذبنا، ولا دفعنا أموالنا مثل أبي بكر! لا والله ولا يكون هذا.
(قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً). جواب ما أحسن منه!
(قال: صدقت. قال
لأن الجاهل ليس عنده سابق علم، فلماذا يصدق أو يكذب؟
الطالب الآن إذا سأل الأستاذ وقال: يا أستاذ! ما حكم هذه المسألة؟ ثم قال: صدقت، أدبه الأستاذ، وسيقول له: تعلَّم الأدب، تصدقني أنت! أنت تدري أني صدقت أو كذبت، أصبت أو أخطأت في المسألة!
قال عمر: عجبنا لهذا السائل أتى ليسأل، ويقول: صدقت! كيف يصدِّق الرسول عليه الصلاة والسلام؟!
أولاً: شهادة أن لا إله إلا الله الدنيا أقيمت عليها، والأرض دمرت خمس مرات من أجل (لا إله إلا الله) رسالته عليه الصلاة والسلام تبدأ بلا إله إلا الله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19].
يقول أبو هريرة كما في البخاري: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه).
الله أكبر كل هم ينجلي عن قلب كل مكبر ومهلل |
ولا إله إلا الله كفر بها أبو طالب فأصبح في ضحضاح من النار، في أخمصه جمرة يغلي منها دماغه.
(لا إله إلا الله) تحول العبد من رعديد في مسلاخ الحمار إلى ولي من أولياء الله، والذي لا يحمل (لا إله إلا الله) أحقر وأذل من الحمار، يرقص ويشجع ويطرب ويغني ويزمر، لكن ما عليه نور أبداً؛ لأن شجرة (لا إله إلا الله) ما غُرست في قلبه
وأعطوني من الإيمان ديناً شباباً مخلصاً حراً أمينا |
أمد يدي فأقتلع الرواسي وأبني المجد مؤتلفاً مكينا |
الرواسي تدكدك بلا إله إلا الله.
يدخل جنود محمد صلى الله عليه وسلم إيوان كسرى، فيهللون؛ فيقع الإيوان في الأرض.
يدخل محمد صلى الله عليه وسلم الحرم المكي وفيه ثلاثمائة وستون صنماً؛ فيقول: لا إله إلا الله وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الإسراء:81] فتتنكس الأصنام على وجوهها..
يا غارة الله جدي السير مسرعة في سحق أعدائنا يا غارة الله |
الآن من الناس من يقول (لا إله إلا الله) وهو لا يصلي! ويقول (لا إله إلا الله) وهو لا يزكي! ويقول: (لا إله إلا الله) وهو لا يحمل الإيمان، بل يهاجم أهل الإيمان ويستهزئ بهم، فهي كلمة فحسب.
يوم أصبحت (لا إله إلا الله) كلمة في البراويز؛ أصبحنا كالعجائز من المعاجيز.
ويوم أصبحت كلمة (لا إله إلا الله) معلقة في الدكاكين؛ تأخرنا في رحاب الضالين.
ولكن (لا إله إلا الله) تنبعث من جديد؛ لتشهدها هذه الصحوة المباركة، رائدها محمد عليه الصلاة والسلام، ومصدرها الكتاب والسنة، وأنتم أساتذتها، ولك الحمد يا رب.
فأما الحسب: فنطق بها إبراهيم فأصبحت النار هباءً منثوراً، وأصبحت باردة.
كيف الحسب؟ قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، والحسب نطق بها موسى ففجر الله له البحر، اضطرب موسى ووراءه فرعون بستمائة ألف، وقيل: بأكثر، وأمامه البحر، فالتفت؛ فقال هارون: نغرق اليوم! قال: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] بسم الله، حسبنا الله ونعم الوكيل؛ فانفجر البحر.
سبحان الله! الماء يغرق ولكن بحسبنا الله ونعم الوكيل لا يغرق.
والنار تحرق ولكن إذا أتت (حسبنا الله ونعم الوكيل) لا تحرق، فإبراهيم ما أحرقته النار؛ لأنه التجأ إلى الواحد الغفار، وموسى ما غرق في البحر؛ لأنه التجأ إلى البر الرحيم.
يدخل أحد الخوارج على أحد الصالحين بالسيف، وأراد هذا الصالح أن يضحك على هذا الخارجي، فـالخوارج يكفرون الناس، مسلم يصلي ويعبد الله ويقرأ القرآن في البيت؛ فدخل الخارجي عليه بالسيف، يقول للصالح الذي يبكي من القرآن وهو فاتح للمصحف من ربك؟ قال: ربي البر؟ أي: الله، البر الرحيم، لكن الخارجي يتصور أنه يعني الصحراء!
قال: ومن نبيك؟ قال: أميٌّ، أي الأميٌّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً منهم [الجمعة:2] فقال: حق دمك. قال: أسألك بالله أن تنتظرني حتى أتشهد، ثم دعا الناس وقال: اشهدوا عليه، أجبته بجواب ما فهمه، هل يستحل دماء المسلمين بهذا الجواب؟ حسيبك الله يا خارجي، لا تفقه من الدين شيئاً.. وإنما هذا استطراد.
قال: شهادة أن لا إله إلا الله، ومنها الحسب (حسبنا الله ونعم الوكيل) وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: [[حسبنا الله ونعم الوكيل! قالها إبراهيم لما أُلقي في النار؛ فجعلها الله عز وجل برداً وسلاماً]].
كيف قالها؟
وضع في المنجنيق؛ فلما ركب في المنجنيق وأصبح في الهواء -تصور إبراهيم عليه السلام إمام العقيدة وأستاذ التوحيد، وشيخ الإسلام في الهواء بين الأرض والمنجنيق والنار- أتاه جبريل في الجو في موقفٍ حرج ليس أحرج منه موقف وقال: يا إبراهيم! ألك إلي حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم.
مد الجسور إلى الرحمن معتمداً واشدد يديك فإن الرب برهان |
والزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان |
يقولون للإمام أحمد إمام أهل السنة، وهو يجلد بالعصا على رأسه ويمزع جسمه: كيف التوكل؟ قال: مثل إبراهيم: يأتيه الجنود والحرس والوزراء، يقول ابن خاقان: يا أحمد.. ويعرض عليه خدماته. قال: لا أريد الخدمات. أتريد شيئاً؟ قال: أريد الله. صدق الإمام أحمد، ولذلك دكدك الإمام أحمد جيوش المعتصم ومن معه وانتصر، وهو وحيد وما هاب؛ لأن الله ثبته وكان معه.
فألقي إبراهيم في النار فكانت برداً وسلاماً.
أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في أحد، وقد أنهك أصحابه وأصبحوا جرحى، وقالوا: يا رسول الله! إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، قال الله: فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174].
يذكر عن علي بن أبي طالب وكان في الكوفة يقضي بين اثنين، تحت جدار، والجدار يريد أن ينقض -ويريد أن ينقض ليس من المجاز بل هو من الحقيقة، وهذا وصف الله بأنه يريد أن ينقض- قالوا لـعلي: يا أمير المؤمنين! الجدار يريد أن ينقض عليك. قال: [[حسبنا الله ونعم الوكيل]]. وهي كلمة تقال للتوكل لا للتواكل، لا تأتِ وترم بنفسك من على عمارة مرتفعة، وتقول: حسبنا الله ونعم الوكيل! نعم، ولكن رأسك سوف يكون مع الكفرة في الأرض، ولا تأت وتنام في الطريق، وتقول: حسبنا الله ونعم الوكيل! هذا ليس من هذا.
فقام علي من المكان، فلما ذهب سقط الجدار مكانه، وسَلِمَ علي، وهذه كرامة من كرامات الأولياء إن صحت عنه.
وفي (لا إله إلا الله) محبة ذاقها الصحابة، فقد قدموا أرواحهم رخيصة في سبيل الله عز وجل.
وفي (لا إله إلا الله) إرادة، فتعلق إرادة العبد بالله عز وجل حتى ما يراد إلا هو.
وفي (لا إله إلا الله) اعتماد، دخلوا على أبي بكر الصديق في مرض الموت، قالوا له: ماذا تشتكي؟ قال: ذنوبي. لا إله إلا الله..! أبو بكر يشتكي ذنوبه! فكيف بنا نحن المذنبين المقصرين؟
أبو بكر الذي ما وجد وقتاً ليذنب، من يوم أن أسلم وهو في قوة وفي جلاد، وسهاد، وجهاد، وعبادة وزهد، قدَّم دمه ودموعه ووقته رضي الله عنه وأرضاه، قالوا: ماذا تشتكي يا خليفة رسول الله؟
قال: أشتكي ذنوبي.
قالوا: ماذا تريد؟
قال: أريد المغفرة.
قالوا: ألا ندعو لك طبيباً؟
قال: الطبيب قد رآني.
قالوا: ماذا قال؟
قال: يقول: إني فعال لما أريد.
أتته ابنته عائشة وهو في سكرات الموت، فقالت: يا أبتاه -وهو يلفظ الأنفاس الأخيرة إلى جنة عرضها السماوات والأرض- يا أبتاه! صدق الأول (تعني حاتم الطائي):
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر |
فالتفت إليها مغضباً، وقال: يا بنية! لا تقولي ذلك، ولكن قولي: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:19-22].
عفاء على دنيا رحلت لغيرها فليس بها للصالحين مُعَرَّجُ |
كدأب علي في المواطن كلها أبي حسن والغصن من حيث يخرج |
جمعنا الله بهم في دار الكرامة!
هذا الاعتماد على الله عز وجل، والتفويض إلى الله، والافتقار إليه، ولذلك جاء في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: أقرب الناس إلى الله أشدهم افتقاراً إليه.
وله قصيدة اسمها (الفقرية) يقول في مطلعها:
أنا الفقير إلى رب السماوات أنا المسيكين في مجموع حالاتي |
الفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي |
انظر إلى شعر ابن تيمية! شعر علماء، ليس كمثل شعر الشعراء، شعر عالم.
يقول: ابن دقيق العيد في بيت له:
واختلف الأصحاب في وجدنا فرجحوا نجواك وهو الصحيح |
كأنه من متون الفقه! فـابن تيمية كان يجيد هذا، وشاهدنا لـابن تيمية أنه افتقر واعتمد على الله فنصره الله.
دخل الإسكندرية، فقالوا له: إن الناس قد جمعوا لك يريدون قتلك وذبحك، فنفخ في يديه -وكان شجاعاً صنديداً يركب الأهوال مثل الجبال، كان يدوس الرجال وهو فرد..
كأنه وهو فرد من جلالته في موكب يوم تلقاه وفي حشم |
فنفخ في يديه، وقال: والله كأنهم الذباب.
دخل على الناصر قلاوون، فأصابت السلطان قلاوون حمى من ابن تيمية، رأى النجوم في النهار، علمه درساً في العقيدة لا ينساه، أراد أن يفترس ابن تيمية فافترسه ابن تيمية، كان قلبه قوياً، لماذا؟
كان ابن تيمية إذا صلى الصبح يبقى إلى الضحى يردد الفاتحة، ويستجلي أخبار ودرر وكنوز الفاتحة، كانت مصادرهم الكتاب والسنة، فقوي اعتمادهم وحسبهم وإيمانهم، وأصبح مصادر تلقينا أو بعضنا ما يلقى في الساحة من عفونات وأفكار البشر، فأصبحت ثقافتنا جامدة هامدة، ولا تجد هناك إلا قلة أعلنت توجهها وهم شباب الصحوة.
لكن أبشر هذا الكون أجمعه أنَّا صحونا وسرنا للعلا عجبا |
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضبا |
عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنبا |
أعرابي يصلي في الصحراء، قالوا: لمن تصلي؟ قال: لله.
قالوا: هل رأيته؟
قال: البعرة تدل على البعير، وأثر القدم يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وليل داج، أفلا تدل على السميع البصير؟!
هذا توحيد غرسه محمد صلى الله عليه وسلم، وأهل الدكتوراة كثير منهم شهاداتهم معلقة عندهم في البيوت عليها عشعش العنكبوت وما نفعتهم في الإيمان ولا في الحسب، ولا التوجه، ولا في المحبة، والإرادة.
أي: تصلي صلاة تمنعك من الفواحش، تصلي صلاة تصلك بالله؛ لأن قطاعاً هائلاً من الناس اليوم يصلون لكن انظر إلى صلاتهم، يعلقونها بعد الصلاة في الأبواب، يقول: مكانك تحمدي أو تستريحي حتى صلاة العصر! ويقول: إن الله غفور رحيم، ولكن تدخل البيت فإذا الربا أمامك كالجثمان، والغناء والفتون والفجور والإعراض والفاحشة..!
الصلاة يقول الله عنها: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]
وما وقع من وقع في خزعبلات وتراهات ومعاصٍ وفواحش إلا يوم أخل بالصلاة، نسأل الله السلامة والعافية.
الصلاة قرة عين المصطفى عليه الصلاة والسلام.
ليسمع صفوان بن أمية وأبناء أمية بن خلف، ورعاديد أبي جهل، هذا الذي كانوا يسحبونه على الرمال ويعذبونه وهو يقول: أحد أحد، أحد أحد، أحد أحد وهم يذيقونه العذاب.
قم أذن؛ فارتقى الكعبة، فيقول أحد الجاهليين لأخيه: ما كنت أظن العيش يطول بي حتى أرى هذا الغراب الأسود يؤذن من على الكعبة! ويقول الآخر: إن من الفوز للوليد أنه مات قبل أن يرى هذا الأسود يؤذن ويصيح من على الكعبة.
لا والله.. إنه صوت الحق، وأذن بلال فبكى المسلمون، ومرة ثانية أذن بلال في بيت المقدس يوم شهدها وقادها عمر هناك.
خرج عمر ليأخذ مفاتيح بيت المقدس، فما خرج بحرس ولا بجنود، حارسه الله، كان قلبه معه يحمل التوحيد، قال لمولاه: [[أنا وإياك على الناقة. فقال
والجيوش أمامه، بقيادة عمرو بن العاص وأبي عبيدة، وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان، كل واحد بجيش مثل الجبل. لكن عمر لم يأخذ جيشاً، وانتظر الصحابة قدوم عمر وواجهوه في الطريق، فأشرف عليهم وإذا هو بثيابه القديمة المرقعة، والعصا في يده، وهو يقود الجمل، قال عمرو بن العاص: [[فضحتنا يا أمير المؤمنين]]. يقول: النصارى ينتظرونك تأخذ المفاتيح في أبهة وفي حرس ووزراء ومستشارين وفي كبار الصحابة، وتأتينا بجمل وزيادة على ذلك أنك أنت الذي تقوده!! فقال كلمة لو سمعها الدهر ووعاها، ولو وعتها القلوب وحفظتها، يقول: [[نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]].
والله لما أصبحنا أمة لموع وسطوع وألوان؛ اندحرنا والله، [[نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]]. فأتى الصحابة وقالوا: نمشي معك يا أمير المؤمنين! قال: لا. انصرفوا.
وذهب عمر، فخرج النصارى ليروا ويسمعوا عمر، هذا الإمام المعتبر، عمر الذي دوخ الدنيا، عمر الذي تخاف منه العجوز في حجر دارها وهي في بيت المقدس.
خرجوا على السطوح فاقترب عمر، وأتت النوبة للمولى ليركب، واقتربوا من دخول بيت المقدس، فقال مولاه: النوبة لي يا أمير المؤمنين وهي لك؛ لأننا اقتربنا من الناس. قال: والله لا تنزل ولا أركب. واقترب عمر يقود الجمل، فرفع ثيابه من الطين عند مدخل بيت المقدس، فتباكى الناس على أسطح المنازل.
إنه والله موقف مؤثر، بكوا من هذا الإمام العظيم، يرفع ثيابه من الطين، يالك من عظيم!! رعاك الله! ثم تقدم إلى بيت المقدس؛ فقال: يا بلال! عزمت عليك أن تؤذن هذا اليوم؛ لأن بلالاً اعتزل الأذان بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، قدم استقالته لـأبي بكر وقال: والله لا أؤذن لأحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: كفر عن يمينك يا بلال، وأسألك بالله أن تؤذن.
فأتى بلال! فرفع صوته بأذان الفتح. لا إله إلا الله! فبكى الصحابة والجيش جميعاً، فقد ذكرهم بالحبيب:
وداعٍ دعا إذ نحن بـالخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري |
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائراً كان في صدري |
فتوحات وتوكل على الله، والشاهد: الصلاة.
أتى صلى الله عليه وسلم وهو في مرض الموت، فسمع بلالاً يقول: الله أكبر الله أكبر! فقام فتعثر صلى الله عليه وسلم فسقط، فغسل بالماء فأغمي عليه خمس مرات، وفي الأخير قال: مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس. وسارت هذه الكلمة فبكى الصحابة في المسجد، أشرف رجل من طرف المسجد؛ فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. أين الإمام؟ تعطل الإمام، أين الحبيب؟ جلس الحبيب.. بأبي أنت وأمي!
فداً لك من يقصر عن فداكا فلا ملك إذاً إلا فداكا |
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا |
قال: مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس، قال: صلِّ يا عمر بالناس؟ قال: أنت أولى؛ فتقدم أبو بكر، فلم يعرف الناس ماذا قال في الصلاة من كثرة البكاء على فقد إمام يقود الأمة إلى قيام الساعة، إلى الجنة، من تخلف عن ركبه والله لا يذوق سعادة، ولو جمع أموال الدنيا.
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { والذي نفسي بيده! لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار} والله جلت قدرته يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].
زكاة القلب تقوى الله، وزكاة العين غضها والنظر بها في آيات الله، وزكاة الأذن استماع الحق وكفها عن الباطل، وزكاة اليد نفع الناس وعدم البطش، وزكاة اللسان إنفاق ما أعطاك الله من العلم والدعوة والأمر بالمعروف، وحبسه عن الغيبة والنميمة والزور.
وبالمناسبة أيها الإخوة! يا مباركين! يا أخيار! يا أبرار! نحن في هذا المجلس في تكييف عجيب، وفي راحة وفي هدوء واطمئنان، الثريا على رءوسنا، والهدوء ينتابنا، والارتياح معنا، والسكينة حلت علينا، لكن إخواننا رفعوا السلاح في الجبهات في أفغانستان، الموت ينتظرهم صباح مساء، يريدون أن يرغموا الكافر، لكنهم يريدون مساعدتهم مادياً، وبعد صلاة العشاء نرجو أن تقدموا لهم ما يحتاجونه من أموال لتلك العمائم التي ارتفعت بها (لا إله إلا الله) لتلك العمائم التي أرغمت أنف جرباتشوف وبريجنيف في الطين في التراب، لتلك العمائم التي رسمت (لا إله إلا الله) في هيئة الأمم.
وهنا أبشركم بخبرين سارين: الخبر الأول وهو آخر خبر: أن مدينة هرات قد سقطت في أيدي المجاهدين، والعهدة على الأستاذ يوسف الحمدان، حدثنا بسندٍ رجاله ثقاة، سقطت هرات قبل يومين، ودخلها المجاهدون بالسلاح وبالكلاشنكوف بعد أن صلوا الفجر، فقد أرسل حكمتيار كتيبة إلى هناك وهم يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا |
الخبر الثاني من نيويورك: أول مرة في عمر هيئة الأمم يصلَّى فيها صلاة الظهر أثناء انعقاد الجلسة الأخيرة، عندما صلاها وفد المجاهدين الأفغان هناك، حيث قام رئيس الوفد بحضور رئيس هيئة الأمم، فأخذ الميكرفون وحوله ورفع الأذان في هيئة الأمم؛ فخرج وفد إسرائيل، ووفد تشيكسلوفاكيا ودولة أخرى، وبقي الناس مشدوهين مثل الماعز. أما تعرفون هؤلاء المؤذنين؟! هؤلاء أبناء خالد، وسعد، وطارق، وصلاح الدين، أتوا يؤذنون في هيئة الأمم المتحدة، وهيئة الأمم المتحدة هي لهم وليست لكم يا كفار، وانزلوا من على الكراسي، واخرجوا من هذه الدنيا، فالأرض أرض الله، وهي للمجاهد المسلم.
قام رئيس وفد المجاهدين يؤذن بصوته الجميل وعليه عمامته؛ ليخبر جرباتشوف أن الصحوة في كل مكانـ وأن الدين الإسلامي هو المهيمن على كل الملل والنحل، يقول الناس: إن الخبر هذا نقل على بعض الشاشات فأخذ المسلمون يبكون في مشارق الأرض ومغاربها.
هيئة الأمم النجسة المنتنة التي ما رفع الأذان فيها مرة قط، حتى قام المجاهد الأفغاني هذا بثيابه التي لا تعادل عشرة من الريالات، يوم أتى الظهر أوقف رئيس هيئة الأمم المتحدة، ماذا تريد؟ حول المكرفون إليه، ثم دوى في المجلس: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، حتى ظن الأمريكان أنه رفع القلم عن المجاهدين، وهو ما رفع القلم إلا عن أذناب العملاء الخونة، أما أولئك فالله يكتبهم في الخالدين.
إلى جنة الرضوان سرنا كتائباً نسجل في التاريخ أقدامنا دما |
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياةً مثل أن أتقدما |
فليست على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما |
فهم يريدون المساعدة، والمعاونة، والإغاثة لكم بالمرصاد عند الأبواب، بكراتينها، الكرتون يأخذ أربعمائة ألف أو خمسمائة ألف وهو يفضل أن تكون العملة من ورق الخمسمائة، فإن لم يكن فمن المائة، فإن لمن يكن فمن الخمسين، ومن تصدق بعشرة جاز، ومن تصدق بريال نفع، ولا يغيب على الله شيء، من تصدق بصدقة؛ فإن الله يقبلها ويربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه، حتى تصبح كـجبل أحد، أنتم أهل البسالات، خاصة المنطقة الشرقية، يقول أحد المجاهدين: أكثر نسبة من الشهداء في الدول الإسلامية من المنطقة الشرقية، أكثر الشهداء من هنا، واسألوا الصحف واسألوا الأنباء، فمثلما قدمتم أرواحكم، قدموا أموالكم يثيبكم الله، صح فيكم قول الشاعر:
هم القوم يروون المكارم عن أبٍ وجدٍ كريمٍ سيدٍ وابن سيدِ |
وهزتهم يوم الندى أريحية كأن شربوا من طعم صرخد |
ويطربهم صوت الصوارم في الوغى بيوم الوغى لا ما ترى أم معبدِ |
وغيرهم يهتز للغناء والمجون، وهم يهتزون لـ (لا إله إلا الله) والإسلام، فرفع الله منزلتنا ومنزلتكم في الدنيا والآخرة.
إنه يحتاج إلى كلام طويل، ثم يقول في آخر الجواب من السؤال الأول في الفقرة الأولى: {وأن تحج بيت الله إن استطعت إليه سبيلا}.
ثم سأله: ما الإيمان؟ فأجابه.
ثم سأله: ما الإحسان؟ فأجابه.
ثم سأله: ما الساعة وما علاماتها؟ فأجابه.
فشكر الله للسائل وللمسئول، وجمعنا الله عز وجل بمحمد عليه الصلاة والسلام.
الأولى: أدب السؤال، وهذا أمر افتقرنا إليه يوم افتقدنا مصدر التلقي من الكتاب والسنة، وكيف تسأل؟ وكيف تكون سائلاً؟
الثانية: حرص المسلم على طلب السؤال، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
الثالثة: الجواب الذي يجيبه عليه الصلاة والسلام، وأجوبته صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام:
1/المطابقة.
2/ الجواب الحكيم.
3/ الجواب بأكثر من السؤال.
المطابقة: كأن يفتي السائل، فيقول: نعم أو لا.
وجواب الحكيم: أن يترك السؤال ويفتي بجواب لسؤال آخر، مثل قوله تعالى: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]
وأما الجواب بأكثر من السؤال فمثل حديث: (إنا نركب البحر... ثم قال السائل: فهل نتوضأ بماء البحر؟ قال: نعم، هو الطهور ماؤه، الحل ميتته).
والرسول عليه الصلاة والسلام استخدم (لا أدري) ثلاث مرات في حياته، فقد روى الحاكم بسند صحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (لا أدري! أذو القرنين نبي أم لا؟ ولا أدري أتبعٌ لعين أم لا؟ ولا أدري هل الحدود كفارات لأصحابها أم لا؟).
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجيب نظر إلى حال السائل فأعطاه جواباً يناسب حاله، فقد ثبت في حديث صحيح أن غيلان الثقفي أتاه وهو قوي البنية، وقال: (يا رسول الله! دلني على أفضل عمل. قال: عليك بالجهاد) أعطى القوس باريها، وأتاه الشيخ الكبير ابن بُسر وقال: (دلني على عمل. قال: عليك بذكر الله) وأتاه أبو أمامة فقال: (دلني على عمل؟ فقال: عليك بالصيام) لكن من يستطيع على هذه الأجوبة إلا رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
أولاً: أسأل الله لي ولكم وللنساء مغفرة عامة وخاصة، وإني لأحمد الله على ما هناك من صحوة في جانب النساء وعودة إلى الواحد الأحد، ولكن الأم المسلمة أطلب منها قضية واحدة: أن تدخل حديث جبريل بيتها، لكن لا تدخله في ورقة معلقة، ولا في برواز ملصق بحائط، ولا في شريط فحسب، تدخله بقلبها ولحمها ودمها في قلب طفلها، تنقش هذا الحديث في قلب الطفل، تربيه على طاعة الله، وعلى (لا إله إلا الله) من يوم يولد الطفل في الإسلام وهو ينقش في قلبه (لا إله إلا الله).
فيا أمة الله! الطفل اليوم مسئوليتك، أنتِ الرائدة في البيت، اكتبي في قلب الطفل (لا إله إلا الله).
أما أن يرسل الطفل فقط ثم يعود من كل مكان بأشعار وبأخبار، وأسعار وأمطار، ولا يحمل عقيدة ولا مبادئ، ما ينشد إلا اللعنات والسباب والشتائم؛ فهذا مسئولية الأم، وهي التي تحاسب عند الله.
الطفل الذي ينشأ على الموسيقى ينشأ راقصاً، حتى تجد بعض الأطفال إذا انتظر عند الدكان ليأخذ غرضاً يرقص في وقت الفراغ، لا يريد أن يضيع شيئاً من حياته..! وبعض الأطفال يهز رأسه في الفصل، متعلم ومتدرب على الغناء، وبعضهم يذهب بدون وعي فينشد أغاني، وإذا قلت له: اقرأ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] قال: لا أحفظ هذه السورة. هذا من القرآن؟ قلنا: نعم من القرآن.
قال: متى نزلت؟ قلنا: نزلت قبل أن تدخل الموسيقى بيتك، وقبل أن تحفظ الأغنيات الماجنات، وقبل أن تتربى في هذا الجو المعتم، الجو الضائع، والطفل ولد مؤمناً لكن حسبنا الله، يريد بعض الناس أن يجعلوه ملحداً ومنحرفاً، لا! الطفل مؤمن، أتى بقرطاس من بطن أمه مكتوب على جبينه (لا إله إلا الله) (كل مولود يولد على الإسلام؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)
أتى حنيفاً مسلماً، لكن يبدأ التحركات، يرى أباه لا يصلي فيقلده، ويراه يكذب ويخون فينشأ خائناً كذاباً، ووالله إنه ولد أميناً صادقاً خائفاً من الله فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30].
يا أم! يا أخت! يا مسلمة! أنت مسئولة أمام الله في أطفالك، أدخلي القرآن في قلوب أطفالك، أدخلي ذكر جبريل وذكر محمد صلى الله عليه وسلم في البيت، ضوِّئي البيت بالحديث النبوي علَّه أن يحيا حياة سعيدة طيبة.
اللهم ثبتنا يا رب العالمين! واقبلنا فيمن قبلت، واغفر لنا خطايانا وذنوبنا.
يقولون في الدمام صحب وإخوة وأسكنتهم لحمي وأسقيتهم دمي |
فإن رضوا فلا اللحم يسقي ولا الدم يكفي، ولكن الحب في الله وكفى.
أسأل الله أن يجمعني بهم في دار الكرامة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: أشكر السائل على شعوره الطيب، وأثابه الله وأكرم مثواه وإياكم، وأما عن حال هذا الرجل الكبير في السن فأمر عجيب ونبأ غريب! الإنسان إذا شاب رأسه وشابت لحيته أتاه النذير.
الإنسان إذا احدودب ظهره وكلَّ بصره وسمعه وقلبه أتاه النذير.
الإنسان إذا فقد الشهية ظمأ إلى لقاء الله عز وجل.
الكبير إذا جاوز الستين كان عليه حقاً أن يشتري كفناً أو يتهيأ، فقد أصبح بينه وبين القبر قاب قوسين أو أدنى.
أحد الفضلاء من الأدباء كان فقيراً يجمع الأموال، يجمع ويجمع، فلما أصبح في الثمانين رزقه الله بمال كثير! فقال:
ما كنت أرجوه إذ كنت ابن عشرينا رزقته بعدما بلغت سبعينا |
قالوا أنينك طول الليل يسهرنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا |
يقول أطفاله: ما تتركنا ننام، تتأوه علينا في المنام، اتركنا ننام، من ماذا تشتكي؟ أظلمك أحد؟ قال: الثمانين.
أهجرك أحد؟ قال: الثمانين.
آذاك أحد؟ قال: الثمانين..
قالوا أنينك طول الليل يسهرنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا |
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أنه قال: {أعذر الله امراً بلَّغه ستين سنة} أي: انتهى العذر، يأتي يوم القيامة يقول الله عز وجل له: لماذا فعلت؟
قال: ما أمهلتني حتى أتوب! ما أمهلك وقد أصبحت بعمر ثلاثة حمير؟! الحمار يعيش عشرين سنة، وأنت عشت عمر ثلاثة حمير وما تبت؟! قال: والله لو أمهلتني سنة لكنت ترى ماذا أصنع!
سبحان الله..! ستين سنة تجعل السفيه عاقلاً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان} شايب ويزني! ليته شاب؛ ولا يعذر الشاب؛ بل الزنا فاحشة! بل هو وصمة عار! بل هو ذنب! بل هو كبيرة من الكبائر! لكن..
وكنت مع الصبا أهدى سبيلاً فما لك بعد شيبك قد نكثتا |
مشيت القهقرى وخبطت عشوا لعمرك لو وصلت لما رجعتا |
والله لو أطعت الرحمن لما رجعت، عمره ستون ويزني! ستون ومخرف! ويرقص على الأغنية! ويسهر مع الشيشة والدخان والبلوت في المقهى! هذا مجرم، ما كأنه يريد الخير، ولكني لا أقصده لذاته وإنما أقصد من يفعل ذلك؛ لكي يتوب.
يذكر هذه القصة مثل صاحب الحلية وغيره، يقولون: كان رجل من بني إسرائيل عمَّره الله ثمانين سنة، أما الأربعين فصلح فيها أيما صلاح، أطاع الله، ثم أدركه الخذلان فعصى الله أربعين سنة، وأصبح شيبة، فالتفت إلى المرآة ورأى صورته وإذا به قد شاب..
رأين الغواني الشيب لاح بعارضي فأعرضن عني بالخدود النواضر |
الشيب عجيب! الشيب نذير يقودك إلى القبر!
قال: يا رب! أطعتك أربعين سنة، ثم عصيتك أربعين سنة، أتقبلني؟
فسمع قائلاً يقول: أطعت الله فأحبك الله، وعصيت الله فأمهلك الله، وإذا عدت إلى الله قبلك الله.
ومع ذلك؛ فباب التوبة لا يزال مفتوحاً، فبعضهم تاب في التسعين، أصبح قاب قوسين منحني على عصاه، وكان في انحنائه على عصاه مجرماً ثم تاب، تداركه الله بتوبة قبل أن يموت بشهر أو بشهرين فتاب الله عليه، فالله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
وأنا أوصيك مع كبير السن بأمور:
أولاً: أن تنزله منزلته، فبعض الشباب إذا تكلم مع الشيخ الكبير كأنه يتكلم مع طفل، أما تدري أن هذا الشايب الكبير يظن أنه الإسكندر المقدوني أو فاتح الدنيا؟ فلابد أن تنزله منزلته، وتقول له: أنت أكبر تجربة، وأكبر عقلاً، وأكبر عمراً، ولكن ما رأيك حفظك الله في كذا؟
ثانياً: ألاَّ تجرحه وتنصحه أمام الناس، تدعو ضيوفاً وإذا اجتمعوا في المجلس تقوم وتقول: وأنت حفظك الله فعلت كذا يوم كذا وكذا.. هذا يزيده غلولاً وحقداً وغشاً ولا يقبل منك.
ثالثاً: أن تحاول أن تسلط عليه بعض الدعاة المقبولين، إما بداعية أو بكتاب أو بمصحف أو بشريط، أو بدعوة في ظهر الغيب، ثم اجعل الأمور لله ولا تيأس من روح الله.
الجواب: الصحوة ليست فقط عندنا، ليست في الرياض ولا في الدمام ولا في جدة ولا في أبها، هذه الصحوة مرت على الأخضر واليابس، هناك صحوة في أوزبيكان وأذربيحان وتشيكوسلوفاكيا، والله في استراليا أتت رسالة قبل مدة -والحسيب الله- من رجل لا أدري هل هو فلسطيني أو سوري، كتب يقول: الأشرطة التي تلقى بعد أسابيع تصلنا في استراليا، وإن الصحوة تجتاح الشباب المسلم هناك، والناس يدخلون في دين الله أفواجاً في استراليا.. سبحانك يا رب..!
حتى استراليا تعيش في صحوة!
نعم؛ لأنها أرض الله، وبلد من بلاد الله، فهذه الصحوة أصبحت في كل قطاع، كل الناس يريد أن يركب في موكب النور الذي أتى به صلى الله عليه وسلم، ذاقوا العمالات والسخافات، جربوا لينين فوجدوه ملعوناً، جربوا هتلر فوجدوه ملعوناً، جربوا كانت وديكرت أحمقين ملعونين؛ فأتوا إلى محمد عليه الصلاة والسلام فوجدوه نوراً وإماماً معصوماً صلى الله عليه وسلم!
خذ ما رأيت ودع شيئاً سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل |
لكن هذه الصحوة تحتاج إلى أمور:
أولاً: تحتاج إلى علماء ومشايخ وقضاة ودعاة ينزلون للساحة، هذه الصحوة مثل الجمل الهائج، جمل ترسله بلا خطام، هذا الجمل يكسر الحيطان، ويدخل الحدائق، ويقتحم البيوت والمنازل، جمل شجاع لكن ما عنده خطام! هذه الصحوة مثل السيل تحتاج إلى نظام حبس وصرف، ونظام الحبس والصرف هم العلماء، والقضاة، وكتاب العدل، والدعاة، لينزلوا للشباب في حلقات ولو مصغرة، ولو لم يحضر الحلقة إلا واحد أو اثنان أو ثلاثة؛ فإن الله سبحانه وتعالى سوف يبارك فيهم، فقضية نزول العلماء أمر عظيم وأمر مطلوب، وهم مدعوون في كل مكان إلى أن يقيدوا هذا الصحوة ويرتبوها.
ثانياً: أن يحرص الشباب على التحصيل العلمي الشرعي، فصحوة بلا علم لا تساوي شيئاً، تثير حماساً وهيجاناً، فالصحوة تكون بعلم وبتأصيل، ومصدر التلقي هو الكتاب والسنة.
ثالثاً: لا اختلاف! دعونا من الخلافيات، دعونا من النزاع، دعونا من الضغينة، أكلنا لحوم بعضنا في المجالس.. فلان من طائفة آل فلان وفلان، لا نقبل طريقته، وفلان ذهب مع فلان، وفلان نبرأ منه... لماذا هذا الكلام؟
تزيدون الأمة جرحاً! نزيد الطعن في جرح الأمة!
أقول وأنا طويلب علم: أنا مستعد أن أعمل مع كل مسلم فيما أصاب وأتجنب -إن شاء الله- إساءته، لا يمنعك أن تعمل مع أخيك ولو كان في مشرب آخر فيما أصاب {لا يكن أحدكم إمعة! إذا أحسن الناس أحسن، وإذا أساءوا أساء، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسنوا فأحسنوا، وإن أساءوا فتجنبوا إساءتهم} والحديث في الترمذي.
لماذا لا تعمل مع إخوانك؟
يذكر ابن تيمية قاعدة مهمة، وقد ذكرتها مراراً ينقلها الشيخ عبد الرحمن ناصر السعدي علامة القصيم، يقول ابن تيمية: بعض الناس كالذباب لا يقع إلا على الجرح!! يترك محاسن الناس والأفراد والطوائف ويأتي بعيوبهم في المجالس.. سامحهم الله فيهم كذا وكذا. لماذا لا تذكر محاسنهم؟ لماذا لا تتعامل معهم؟ لماذا لا تنصحهم في بيوتهم؟ النصيحة ورادة وليست الفضيحة.
فالتي تعطل مسيرة الصحوة هي الخلافيات والمداخلات، والشيطان له وسوسة، كما قال صلى الله عليه وسلم: {إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم}.
وأنا أرى أن يأتي أناس أهل الحل والعقد لا صغار الأسنان ولا أحداث، يأتون إلى هذه المشكلة فيحللوها، ويجلسون في مجالس وينظرون من المخطئ؟ وما هي المسائل التي ينبغي أن تدارس بضابط الكتاب والسنة لا برأي أحد من الناس مهما بلغ؟
وتعظيم هؤلاء الناس والزعماء المفكرين أنا أحبه، لكن أن يجعلوهم في مكانة محمد صلى الله عليه وسلم فلا والله. تأتي بمفكر أو شهيد أو إمام، وتقول: قال، وكان يفعل، وكان يأكل، وكان يشرب.. أنا أحبه أكثر منك، لكنه رجل.
يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: [[يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال الله وقال رسوله، وتقولون: قال
انتبهوا يا إخوتي! المسألة مسألة عقيدة، والله ليس في قلبي ضغينة لأحد، وأنا أحبهم وأتولاهم، لكن لماذا هذا الأمر؟ نتقي الله في إيماننا ومعتقدنا وتوحيدنا.. هذا ما يحضرني في هذا الباب.
الجواب: والله يا أخي! ما مثلك يتوقف في مثل هذه المسألة، وأنا أجلك عن مثل لا أقصدك به، يقولون: حمار وقف يشاور نفسه بين ماء وعلف، الحمار جائع أصلاً؛ لكن رأى الماء فخاف أن يذهب إلى العلف يأكل فيموت قبل أن يأتي إلى الماء، فيذهب خطوتين إلى الماء، ثم يتذكر العلف فيذهب إلى العلف، فإذا اقترب من العلف تذكر الماء، فيقولون: مات بين الماء والعلف. والحمار -للفائدة- من أذكى الحيوانات وأنتم تعلمون ذلك!
هذه قصة من كتاب كليلة ودمنة يقولون: ألقى الأسد فكاهة؛ فضحكت الحيوانات في الحال إلا الحمار، ضحك بعد ثلاثة أيام، قالوا: لماذا تضحك يا أبا حصن؟ قال: تذكرت الفكاهة.
أما أنت يا أخي! فلا تتوقف عن القرب من الشباب، إذا رأيت المصلحة في القرب منهم، لكني أقول هذا نسبياً لبعض الأفراد، وليس هذا الجواب عاماً، بعض الأفراد لا يصلح إلا مع إخوانه في مخيم، في مدرسة، في مركز، وبعضهم قد ينمي نفسه بمطالعة خاصة أو باتصاله ببعض الأفراد، أو بإمامة مسجد، أو بخطابة، فهذا أحسن له قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60].
الجواب: يقول ابن القيم: أهل البدعة يهاجمون أهل السنة، ومثلنا ومثلهم كمثل قول القائل:
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان |
لهانَ عليَّ ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني |
هل تدري من يهاجم شباب الصحوة؟
رجل باع حياته بسيجارة، أو رجل ضائع ضال مارد لا يعرف من القرآن حرفاً، ولا يعرف من السنة شيئاً، أو مروج مخدرات، أي: محكوم عليه بالإعدام غيابياًً.
مروج مخدرات ويهاجم شباب الإسلام! أو رجل انسلخ من العقيدة فقلبه مريض، أو رجل جاهل وجد موقفاً من بعض الشباب فأجرى القياس على كل الشباب، فإن بعض الناس قد يأتي بموقف ليس بصحيح؛ فيجني على الشباب جميعاً. فأقول: ماذا أقول له؟ أقول له: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31] وأقول له: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3] وأقول له: قدمت لنا حسناتك، وما أظن أن لك حسنات، وأخذت من سيئاتنا في أطباق وعندنا سيئات يقيناً.
الجواب: هذا السؤال مثل قول الأندلسي، شاعر من الأندلس ما كان شاعراً لكنه يقول:
الليل ليل والنهار نهار والأرض فيها الماء والأشجار |
وصدق هذا السائل في قوله، فقد أتى بتحصيل حاصل: يزيد الإيمان في الذكر وينقص إذا فارق الذكر، وقد شكا الصحابة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام من هذا، فأخبرهم بالواقع وبالجبلة، فقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: {والذي نفسي بيده! لو كنتم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة، ولكن ساعة وساعة} أرجوك إذا أدبرت روحك، فألزمها الفرائض، وإذا أقبلت فأكثر من النوافل، إذا كلَّت روحك فأكثر من الذكر والتعلق والدعاء والابتهال خاصة بينك وبين الله، وأوصيك بعمل الصالحات في أوقات الرخاء علَّ الله أن يحفظك في أوقات الشدة فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144].
الجواب: هذا الحديث صحيح من حديث أبي ثعلبة الخشني، لما زار صلى الله عليه وسلم المقبرة قال: {وددنا لو أنا رأينا إخواننا، قالوا: ألسنا بإخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، ولكن إخواني قوم يأتون بعدي -ثم ذكر الحديث صلى الله عليه وسلم- وقال: للعامل منهم أجر خمسين، قالوا: منا يا رسول الله؟ قال: منكم} لكن أهل العلم يتكلمون على هذا الحديث، فيقولون: أما فضل الصحبة فلا يصل إليها أحد، ولكن مضاعفة الأجور بأجور الصحابة قد يصلها الإنسان منا خمسين ضعفاً من عمل الصحابي، ولكن إذا وصلنا إلى الصحبة تفَّوق علينا الصحابة بصحبتهم للرسول عليه الصلاة والسلام.
ونعود للحديث في الصحيحين، قول النبي صلى الله عليه وسلم: { لو أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه}.
ولماذا يضاعف لنا الأجر؟
لأن الصحابي يوم كان يصلي كان إمامه محمد صلى الله عليه وسلم، كان عن يمينه أبو بكر، وكان عن يساره عمر، ووراءه أبو هريرة وابن مسعود، وكان المقرئ أُبي، لم يكن عندهم مجلة خليعة، ولا شاشة مهدمة، ولا فتاة متعرية متكشفة سافرة، ولا خمر، ولا مخدرات، وكان الطائعون أكثر من العصاة، وكانت الهيمنة للإسلام فوجدوا أعواناً.
أما نحن فحذاريك حذاريك من كل جانب تنهش! فكان أجرك كأجر خمسين من الصحابة.
الجواب: رمضان كفارة وفرصة لا تتعوض، وهو موسم ذهبي لمن استغله في طاعة الله، ووصيتي -أيها الإخوة- عن أمور هي من التخلية ثم آتي بأمور من التحلية:
التخلية ظواهر لا تستحسن في رمضان: الإسراف؛ الإسراف في النوم، في الليل والنهار، حتى أن بعضهم ينام النهار كله، ثم يستيقظ على الإفطار، وكأنه ليس بصائم، صام في الحلم! لم يجد طعم الجوع، ولا طعم حرارة الظمأ ولا لذة قراءة القرآن والذكر، ومعايشة الصيام؛ لأن المقصد من الصيام أن تحس بالصوم.
والإسراف في السهر؛ بعضهم أسرف في سهره إلى السحر، وأعرض عن التلاوة وعن ركعتي السحر، وعن النوافل، في لعب كرة، أسرف فيه حتى قسا قلبه وأصبح كالحجر.
والإسراف في الأطعمة؛ يصفون الموائد بألوان وبأشكال ولا يأكلون منها إلا قليلاً، ثم يرمونها للكلاب والقطط؛ والمجاهدون المسلمون ينتظرون خبز العيش، وهناك ثلاثة عشر مليون مسلم فقير مهدد بالمجاعة!
وإسراف في ضياع الأوقات؛ في لعب البلوت، والسهرات اللاغية، والنزهات التي لا تنفع، وإسراف في المعاصي غفر الله لنا ولكم.
أما التحلية في رمضان فالقرآن، هذا المصحف اجعله كتابك، الإمام مالك، لما أتى رمضان يقولون: أغلق على كتبه وعطل مجالس التدريس والفتوى، وأخذ القرآن، وقال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] كان السلف إذا دخل رمضان أخذوا المصحف وجلسوا في المسجد، يكررون ويعيدون ويختمون ويتدبرون ويستغفرون.
الأمر الثاني: صلاة الجماعة في رمضان وفي غير رمضان، وفي رمضان آكد.
الأمر الثالث: أدعوكم يا إخوتي لصلاة التراويح! من يدري لعلك تصلي صلاة التراويح فيغفر الله لك، من يدري لعل باكٍ دعا في الصفوف وبكى، فاستجاب الله دعوته، فغفر لك بمغفرته له.
ومنها: الدروس لطلبة العلم أرى ألا تتوقف في رمضان.
الإمام مالك أوقف الدروس لأن مالكاً كان في أمة علمية تزخر بالعلوم، لكن نحن بحاجة إلى نشاط من الدعاة في رمضان، والانطلاق إلى المؤسسات، إلى المراكز الحكومية، إلى الدوائر، إلى المدارس، إلى المساجد، التكلم، الخطب، الوعظ، أما أن يأتيك الشيطان ويقول: تحب الظهور! فقل له: اخسأ يا عدو الله والله لن تعدو قدرك. ظهور أو لا ظهور، يقولون: هذا السوق سوق مناهبة، إما أن تنهب أنت أو ينهب أهل الضلالة من شباب الإسلام، إما نهبت أنت في جعبتك وإلا نهب الشيطان في جعبته، والله أعلم.
الجواب:
أولاً: طوبى لك، وقرة عين لك، وأحسن الله إليك إحساناً وقد فعل، كنت عازف عود ولكن تتحول -إن شاء الله- إلى عازف قلوب، وعزف القلوب أحسن من عزف الأعواد، إذا عزفوا خشبة أو طنجة أو ناياً أو وتراً؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم عزف قلوب العالم فاستجابت لذكر الله، إذا غنوا بالترّهات والسخافات فنحن نردد الآيات البينات.
إذا طربوا للعود في ساعة الخنا طربت لذكر الله فهو المحبب |
إذا ظمئ اللاهون للخمر والخنا فزمزم للأخيار ورد ومشرب |
وكعبتي الغراء بيتي وقبلتي وبستاني المعمور بالحب يثرب |
فشكر الله لك.
ثانياً: دم على هذا الطريق، فالله سبحانه وتعالى أراد لك خيراً أن تتوب، وليس بعجيب أن تتوب، فالفنانون كثير منهم أعلنوا التوبة، جربوا الحياة فوجدوها مرارة وزهقاً وطفشاً، فعادوا فأعلنوا التوبة، واستسلموا لله ودخلوا المساجد؛ فرحبت بهم المساجد، وما استقبلوا من إخوانهم إلا بالضم، وبالعناق الحار، وبالبشاشة وبالاستقبال، وزادوا في صفوفنا.
أنا أفخر بك الليلة أنك جلست معنا؛ لأنك انتصرت على نفسك، يقول الهنود: من انتصر على نفسه فهو أعظم ممن فتح مدينة. انتصرت أنت على نفسك، كان لك جمهور، أو كان زملاء أو جلساء وأصحاب فتركتهم وأتيت إلى جلساء أهل الخير، إلى الأولياء والصالحين، فطوبى لك، وأقر الله عينك بإيمانك، وزادك يقيناً وإيماناً، وثبتنا الله وإياك.. والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر