فلما رأى الناسُ أدبَه صلى الله عليه وسلم وسلوكَه وأخلاقَه دخلوا في دين الله أفواجاً، وحتى ينجح الداعية في دعوته لا بد أن يلتزم بالآداب التي تحلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه الحلقة بعنوان: (أدب الدعوة في حياته عليه الصلاة والسلام). وهذا الأدب نحتاج إليه صباح مساء، ونحن ملزمون إن كنا نريد اتباع محمد عليه الصلاة والسلام أن نتفقه في هذا الباب، وسوف أجعل لهذا الدرس حديثاً من المصطفى عليه الصلاة والسلام، تكون مسائل هذا الباب تدور في فلكه.
هذا الحديث -كما تعرفون- رواه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وعن أبيـه، عن الرسـول عليه الصلاة والسلام قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) متفق عليه.
ومسائل هذا الباب تتحدث عن مكانة العلم في دعوته عليه الصلاة والسلام:
- التدرج في رسالته.
- الصبر.
- اللين.
- اطِّراح التكلف.
- أدب الفُتيا في منهجه صلى الله عليه وسلم.
- كيف ندعو إلى الله؟
راوي هذا الحديث هو: خال المؤمنين، معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه، ونشهد أنه مِن كَتَبَة الوحي، وأنه ما تلبس بنفاق، وهذا من كلام أهل السنة فيه، وأنه لو كان فيه مغمز لما جعله عليه الصلاة والسلام كاتباً، وهو خال المؤمنين، وهو أخو أم حبيبة بنت أبي سفيان، زوجة محمد عليه الصلاة والسلام، وله مناقب كثيرة نسأل الله أن يجمعنا به وبأمثاله في الجنة.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ففيه مسائل:
المسألة الأولى: إثبات الإرادة لله بقسمَيها.
المسألة الثانية: ما معنى: (يفقهه في الدين)؟ ولِمَ لَمْ يقل: يحفظه الدين؟
المسألة الثالثة: ما هو الفقه في الدين بضوابطه الشرعية؟
المسألة الرابعة: ما هو مفهوم المخالفة في الحديث؟
ولذلك قال سبحانه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] فبدأ بالعلم قبل القول والعمل. فمن لوازم الدعوة:
أولاً: أن تعلم ما تدعو إليه: ومن دعا إلى أمر يجهله، فقد لبس على الناس، فإن طلب العلم لما تدعو إليه من المسائل، هو الأمر المقرر في منهجه الدعوي عليه الصلاة والسلام، قال الله لنبيه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] وقال له: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] وتجدون جماهير المفسرين يقولون في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النحل:125] يقولون: الحكمة: هي العلم. ويقول ابن تيمية، فيما يُذكر عنه في كتاب الجهاد، يقول: "ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر بلا منكر"، بل حمل علماء الصحابة قولـه سُبحَانَهُ وَتَعَالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] قالوا: البصيرة: هي العلم، وهي العلم الشرعي، الذي تدرك به أسرار الدعوة التي تدعو إليها.
- أولاً: سندها باطل.
- ثانياً الإمام الشافعي لم يكن حياً آنذاك، فلقد وُلِدَ الإمام الشافعي بعد مالك بن دينار بما يقارب سبعين سنة، فكيف يصلي وراءه الفجر؟ أتظن أن الشافعي وُلِدَ في ليلة وكبر، ثم صلى إماماً بالناس؟! مالك بن دينار في عهد الحسن والشافعي بعده، قبل أحمد بسنوات، هذا أمر.
- ثالثاً: مالك بن دينار لم يتزوج.
- رابعاً: مالك بن دينار كان صالحاً من الصغر.
أيضاً: مثل قصة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم التي ينقلونها عن معاذ وهي موجودة في شريط في الأسواق، وأنه في اليمن، لما أتاه الخبر، حثا بالتراب على رأسه، وهذا خطأ، ما كان لـمعاذ أن يفعل ذلك، ثم قالوا: وكان معاذ يأتي يطرق الباب على أبي بكر، ويقول: أخبرني بوفاة الحبيب، فيلقي عليه أبو بكر محاضرة من وراء الباب، قال:
مَن بالباب؟ مَن فَجع الأصحابْ؟ مَن وَلَّهَ الأحبابْ؟
ثم يلقي قصيدة، والقصيدة من قصائد مجنون ليلى ومجنون ليلى وُلِدَ بعد أبي بكر بمائة وخمسين سنة.
أيضاً من القصص المشهورة: ما يُنْسَب إلى عمر، أنه سأل المَلَكَين في القبر، فقال: من ربكما؟ ما دينكما؟ من نبيكما؟
ومثل: قولهم: إن أبا بكر رضي الله عنه سلم الله عليه وقال على لسان جبريل: بلِّغ أبا بكر السلام، وقل: إني رضيت عنه، فهل هو راضٍ عني؟ فقال أبو بكر: نعم، ولكن والله لا آمَنُ مكرَ الله ولو كانت إحدى رجليَّ في الجنة والأخرى خارج الجنة؛ فهذا ليس بصحيح، وليس بثابت، ولن يقوله.
من القصص أيضاً: قصة علقمة وأمه، أنه كان لـعلقمة أمٌّ، وكان يقدم زوجتَه عليها، فلما حضرته الوفاة عُسِّرَت عليه الشهادة، فما استطاع أن ينطق الشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم: اجمعو لي حطباً، لأحرق علقمة، فجمعوا حطباً، فعَفَتْ أمه، فنطق الشهادة، فهذا ليس بصحيح.
أيضاً: قصة ثعلبة، يوردها ابن كثير وابن الأثير: أنه امتنع عن الزكاة، فلم يقبلها أبو بكر، ولا عمر بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومات على ذلك. هذه تخالف أصول الإسلام، قال الله: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5] إلى آخر تلك القصص التي توجد في هذه المحاضرة والله أعلم.
قال صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، في باب العلم: {مثل ما بَعَثَنِي الله به من الهدى والعلم...} انظر إلى الألفاظ المنتقاة، من يستطع أن يصوغ مثل هذه الكلمات؟!
ما بنى جملةً مِن اللفظ إلا وابتَنى اللفظُ أمَّةً مِن عفاء |
{مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث} هذا السطر الواحد نقف معه وفقات.
يقول: { مثل ما بعثني} ولم يقل: أرسلني، يقول بعضهم: إنما قال: {بعثني} في باب التوحيد؛ لأنه بُعث في قوم أموات، والرسالة تأتي في باب الإخبار، لكن لما أتى إلى قوم أموات، قال: {بعثني} فكأنه يوم بُعِثَ في الأمَّة الأمية، كأنه بُعث حياً في أموات فأحياهم الله عز وجل بدعوته.
{: مثل ما بعثني} ولذلك في باب التوحيد يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُـولاً [النحل:36] وفي باب الإنذار والإخبار: قال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا [هود:25] إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ [نوح:1] وهذه من البلاغة التي كان يستعملها عليه الصلاة والسلام في ألفاظه.
قال: { مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم} أليس العلمُ هُدَىً؟ بلى، أليس الهُدَى علماً؟ بلى، لماذا لم يكتفِ ويقُل: مثل ما بعثني الله به من الهدى كمثل الغيث، لأن في الهدى علماً؟ ولماذا لم يقل: مثل ما بعثني الله به من العلم كمثل الغيث؟ وإنما قال: { مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم} والعطف يقتضي المغايرة: فالهدى شيءٌ، والعلم شيءٌ، قال ابن تيمية: "الهدى: العمل الصالح، والعلم: العلم النافع".
فالرسول عليه الصلاة والسلام مبعوث بالعلم النافع والعمل الصالح، فمن عنده علم وليس عنده عمل صالح؛ فهو أشبه بـاليهود، وهو مغضوب عليه في الدنيا والآخرة، ومن عنده عبادة وليس عنده علم، ولا يعبد الله على بصيرة؛ فهو أشبه الناس بـالنصارى، وهو ضال، قال الله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].
فالعالِم الذي لا يعمل؛ سَمِّهِ مغضوباً عليه، والعابد الذي لا يعلم سَمِّهِ ضالاً، فـالنصارى يعبدون الله في الكنائس والمغارات بلا علم، قال سبحانه: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27] وقال في اليهود: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [المائدة:13] وقال في عالِم اليهود: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176] وقال فيهم: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] فوصفهم بالعلم لكن بلا عمل، وغضب الله عليهم، ولعنهم في مواطن كثيرة، وقال: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة:61].
وأما النصارى: فحذر الله من اتباع منهجهم، فقال: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77] فهم ضالُّون؛ لأنهم عبدوا الله بلا علم، قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: "وقد وقع في أصناف الأمة بمشابهتهم لتلك الأمتين ما وقع، فوُجِدَ طلبةُ علمٍ لا يعملون، فهم مغضوب عليهم، ووُجِدَ مِن العُـبَّاد من لا يفهمون ولا يسألون، فهم ضالون" هذه مسألة مقررة، ومن استقرأ الواقع وجد هذين الصنفين. هذه مسألة العلم.
قوله: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث} لماذا لم يقل: كمثل المطر؟ تَرَكَ المطر، وأتى بالغيث.
- يقول بعضهم: الغالب في المطر إذا ذُكِر أن يكون بمعنى: العذاب، كما قال الله: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [الشعراء:173] هذا في الغالب، ليس على العموم، فترك صلى الله عليه وسلم المطر، وأتى بلفظ الغيث.
- ثم إن في الغيث غوثاً للقلوب.
- ثم إنه صافٍ، الغيث ما زال صافياً، لم يُشَبْ بشائبة، ورسالته عليه الصلاة والسلام لم تُشَبْ بشائبة، بل هي صافية نقية.
قال تعالى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47] وقال سبحانه: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً [الأنعام:90] فطلب الأجر لا يكون إلا من الله، والداعية إذا طلب أجراً من الناس، أو مثوبة على دعوته؛ سقط من أعينهم سقطة ما بعدها سقطة، فلا يقبلون لـه كلاماً، فهم لا يحترمونه في الباطن وإن احترموه في الظاهر، ولا يقبلون كلامه، ولا يجلسون على مائدته، وتراهم من أشنع الناس عليه في غيابه، والحديث المشهور: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس) وهذا الحديث مما اضطربت فيه الأقوال، فبعضهم يضعفه، وبعضهم يصححه، لكن يقول ابن حجر: حديثٌ حسن رواه ابن ماجة، وغيره بسند حسن.
إذا عُلِمَ هذا؛ فإن من زهد فيما في أيدي الناس؛ قَبِل الناس منه، والداعية لا يطلب الأجر من الناس، ولا يتقاضى مرتباً على دعوته، بل يطلب الأجر من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، قال تعالى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47] ولذلك ردَّ الله على كفار مكة، فقال: أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [الطور:40] كأنك تطلب منهم شيئاً، فهم مثقلون من الطلب الذي تطلبه، وقد غرموا عليك غرامة، بل أنت ما أخذتَ منهم شيئاً، ولذلك ما مدَّ يده.
وإذا مدَّ الداعيةُ يدَه إلى الناس؛ باءت دعوتُه بالفشل، قال ابن الجوزي عن بعض الوعَّاظ، ذكرهم في القصاص، قال: كان يقف على المنبر، فيُبكي الناس، فإذا انتهى قال: " والله لا أنزل من على هذا المنبر حتى تملئوا هذا الخرج ذهباً "، وهذا مثل أحمد الغزالي، وهو أخو محمد الغزالي صاحبِ الإحياء، كان هذا يأخذ التبرعات بالقوة، ولذلك يقولون: ما قبل الناس منه فيما بعد، قدمت لـه امرأة سواراً من ذهب، تتبرع، قال: "قدمي السوار الآخر الذي في يدك اليسرى قطعها الله " فقدمته، وهؤلاء ذهبوا إلى الله عز وجل.
وبعضهم يطلب أجراً معنوياً، لا يطلب دراهم؛ لكن يحب أن يُصَدَّر في صَدْر المجلس، ويحب أن يُدعَى بسماحة الشيخ، وفضيلة الشيخ، وأن يُقَبَّل على رأسه، هذا إذا بُلِيَ به واستغفر الله منه أُجِرَ على ذلك، أما إذا طلب هذا الأمر وهو الأجر المعنوي والأجر الحسي فيكون الخلاص منه مدخولاً والرياء حاصلاً؛ بتواجد هذا الأجر المعنوي أو الحسي، ولذلك من يطلب هذه الأمور لا تأتي إليه، كتب أبو بكر لـخالد: [[فِرّ مِن الشرف يتبعك الشرف]] أي: فِرّ من هذه الأمور، تتبعك هي، لكنك إذا تبعتها فرَّت منك. والله المستعان!
وإنما تشوَّه علمُ مَن تشوَّه؛ لأنهم طلبوا الدنيا، وجعلوا علمهم شبكة للدنيا ومصيدة لها، فجمعوا وأخذوا، فطمس الله نور العلم منهم.
يقول عبد القادر الجرجاني، في قصيدة مليحة له، وكان منقبضاً عن الدنيا، وعن الناس، كان يعلِّم الناس، ولا يأخذ على ذلك شيئاً، فقالوا: ما هذا الانقباض؟! فردَّ بقصيدة من أجمل القصائد:
يقولونَ لي فيك انقباضٌ وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما |
أأشقى به غَرساً وأجنيه ذلَّةً إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما |
يقول: أنا أشقى، وأذاكر في الامتحان وأتعب، ثم أكون محروماً من لذته ونوره، إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما.
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما |
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما |
وهذا أدب نبوي، أن نبدأ بالأولويات مع الناس، ألا نقدم صغار المسائل قبل كبار المسائل، أن نعرف كيف ندعو الناس، ما هي كبريات المسائل التي ينبغي أن ندعو الناس إليها، وهذا فعله عليه الصلاة والسلام، أتى إلى الأصنام في الحرم، والخمر يُشرَب, والزنى يرتكب، فما أتى إلا يقول: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: معك غير هذا؟ قال: لا. قولوا لا إله إلا الله، قال لـأبي جهل: كلمة واحدة، قلها لي، قال: وأبيك وألفاً، ما هي الكلمة؟ قال: لا إله إلا الله، قال: أما هذه فلا.
كان يقول: لا إله إلا الله، وما تعداها ثلاث عشرة سنة، فلما ضمنتها القلوب؛ أتى عليه الصلاة والسلام بالفرائض، فلما قامت القلوب بالفرائض، دعا إلى السنن.
ليس بصحيح أن ندعو الناس إلى السنن وهم لا يقيمون الفرائض، إنسانٌ لا يصلي وتدعوه أن يربي لحيته، ولو كانت لحيته إلى الأرض، إنسانٌ يزني ويشرب الخمر، وتأتي إليه وتقاومه وتهجره من أجل أنه لا يأكل باليمين، وما ينفع ألا يأكل باليمين وهو ما أقام أعظم من ذلك، بل فَسَقَ وفَجَرَ في الإسلام. فالبداية بكُبْرَيات المسائل قبل صُغرياتها، ثم نعطي كل مسألة حقها.
والناس في هذه المسائل ثلاثة: طرفان ووسط.
- منهم من يأتي فيقيم الدنيا ويقعدها على جزئية، ويتبرأ من الناس، حتى تجده لا يصف الناس إلا بهذه الأوصاف، ما رأيكَ في فلان؟ فلا يَذْكُرُ علمَه، ولا حِلمَه، ولا صبرَه، ولا زهدَه، ولا صدقَه، ولا أمانتَه، ولكن يقول: عنده لحية. ما شاء الله، تبارك الله، أي: لو رأيته بلحيته وبقِصَر ثيابه لذكَّرك بأهل بدر، ولكن هل هذه هي الضوابط الصحيحة؟
وبعضهم ربما كان صادقاً، مؤتَمَناً، باراً بوالديه، مصلياً، لكن أساء وأخطأ في حلق لحيته، فتسأله عنه، قال: فاجر من الفجرة، حلق لحيتَه من الأذُن إلى الأذُن. وأنا أقول: من فعل ذلك ففيه فجور، لكن أما أنك تلغي حسناته بسبب هذا الذنب فليس بصحيح.
- وبعضهم يقابل في الطرف الآخر، فأرخى الحبل حتى انسحب، قال: هذه قشور، المسألة ليست مسألة لِحَى، قلنا: ما هي المسألة؟ قال: إيمان، والمسألة ليست مسألة ثياب، المسألة ليست أكل بـاليمنى ولا أكل باليسار، المسألة أعظم من ذلك. حتى شذَّر الدين، وقطَّع الدين، ما بقي عليه إلا أن يقول عن الصلاة: المسألة ليست مسألة صلاة.
ما هو هذا الإيمان الذي فهمتَه أنتَ وما فهمَه الصحابة؟!
- وتوسط قومٌ، فأعطوا كل مسألة حقها، قال الله: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق:3] فأعطَوا الصلاة حقها، واللحية مقدارَها، والثوب مقداره: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثيراً [البقّرة:269].
وهذا أمرٌ لو أدركناه؛ لقاد الله لنا القلوب؛ لأن الناس مفطورون على فطرة الله، مفطورون على الخير، أترى لبائع أشرطة الجنس؟ أترى للمغني؟ أترى للسكير؟ كلهم إذا أثرت فيهم لا إله إلا الله، وهم مسلمون، ثارث في قلوبهم، لكن من يثير لا إله إلا الله؟ إن إثارة لا إله إلا الله بالتجريح موتٌ لهذه الفطرة، تميتها أنت في قلبه، لكنك لو أتيت إلى نوازع الخير في قلبه، وذكرته وأخذته، وحاولت أن تدعوَه استنار بإذن الله عز وجل، وقام واستيقظ ووُفِّق، قال الله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:158-159].
واللين هنا: أن تُكسِب الإنسانَ مكانتَه، لا يصح أن تهز عليه مكانته، وأن تجرح مشاعره، ثم تقول: أدعوك إلى الله، بعد ماذا؟ لا يصح أن تهينه أمام الجماهير، ثم تدعوه إلى الله، لا يصح أن تشهِّر به على المنابر، ثم تدعوه إلى الله، هذا ليس بصحيح.
- منها: البسمة الحانية.
- ومنها: الزيارة.
- ومنها: الهدية.
- ومنها: الخدمة التي توجهها له، كأن يكون مريضاً فتزوره.
أحد المغنين زاره كثير من الشباب أثابهم الله من أهل الاستقامة، فكرروا عليه الزيارة في المستشفى، فلما خرج وجد أن الأخيار إخوانه؛ لأن الفسقة ما زاروه، أهل الطنبور والعود هجروه في المستشفى، وأتى الأخيار فزاروه، وقدموا لـه الخدمات، حتى أخجلوه، وفي الأخير عاد إلى الله وتاب؛ لأن هذه معناها ما يقول المتنبي:
وما قَتَل الأحرارَ كالعفو عنهم ومَن لك بالحر الذي يحفظ اليدا |
يقول: إذا أردت أن تقتل الحرَّ، فجُد عليه، وتفضل عليه، هذه المنن هي من اللين، ولذلك قدَّم عليه الصلاة والسلام الكافر، أعطى بعض الكفرة، وهم في التوجه إلى الإسلام مائة ناقة فأسلموا، عفا عن كثير منهم، تبسَّم، وزار، وأهدى عليه الصلاة والسلام.
وبعضهم يجعل من الجزئية طريقاً حائلاً في طريق دعوته.
نُقل إلى بعض العلماء أن طالباً بادئاً دخل في مجلس، والمجلس ليس لـه، إنما لأحد الناس، دعاه يتغدى مع قوم ضيوف، فدخل المجلس، أتدرون ماذا فعل؟! وجَدَ على المخَدَّة مكتوباً عليها: (الله أكبر) فقام هذا الشاب، فأخرج مفتاح سيارته، ونقضَ المخدة من (الله أكبر) نقضاً، ثم قطع ما هو مكتوب عليها، فوَجَمَ صاحب البيت، وتكدرت الضيافة، وتحول البيت إلى صمت مُطْبِق، وإلى رعب مخيف، وإلى غضب لا يعلمه إلا الله، لماذا؟
أولاً: هل تكلمتَ بينَك وبين صاحب البيت؟
ثانياً: هل البيت لك؟
ثالثاً: هل استأذنته؟
رابعاً: أما في البيت من هو أكبر منك سناً، فتخبره؟
وفي الأخير أصبحوا ينقلون هذه الكلمة عن الدعاة جميعاً، وعن طلبة العلم، وشباب الصحوة، لأن أهل الخطأ أو أهل الانحراف، إذا وجدوا صورة واحدة عمَّموها. قالوا: يفعلون ويفعلون، ومُتَزَمِّتون، وفيهم من الغلظة، وهي لم تقع إلا من شاب واحد، فجعلوها قاعدة مطَّردة، تسري على جميع الشباب.
قال الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].
إن من يدعو بكلام جميل وفعله فعل قبيح إنما يُكَذِّب دعوته، ولذلك لا يثق الناس في الواعظ الذي خالط الناس، ثم ماحَلَهُم في الدنيا وخاصمهم، فلا تجدهم يَقْبَلون منه، فإذا قام يعظهم يوم الجمعة، ينامون ولا يستفيدون، ويدعون عليه بعد الصلاة، فيقال: أما قال كلاماً جميلاً؟ أما أتى بقرآن وسنة؟ قالوا: بلى، أتى بقرآن وسنة، لكنكم لا تعرفون أخباره، نحن نعرف سيرته، ونعرف ترجمته، كلامه كذب، لأنه يكذبه بفعله، لا نقبل منه أبداً. ولذلك لا يتأثرون، تجد بعض الخطباء خمسين سنة في قرية، ما استفادوا منه مسألة واحدة، بسبب أن عمله وقف عائقاً في طريق القبول منه والاستفادة، يريدون أن يستفيدوا ويسمعوا، لكن يتذكرون أفاعيله.
أحد الوعاظ بكى على المنبر، فيقول أحد الجماعة بعدما خرج: "لا تصدقوه في البكاء، والله ما بكى إلا على الأراضي التي أُخِذَت منه"، ويقرءون حياته، ويرون كلامه بعمله.
كيف كان يفتي الناس عليه الصلاة والسلام؟
كان له عليه الصلاة والسلام في الفتيا آداب:
سئل علي بن أبي طالب عن مسألة، فقال: [[لا أدري، وما أبردها على قلبي]] وقال: ابن سيرين: [[إذا فات العالم كلمة: (لا أدري) فقد أُصِيبَت مَقاتِلُه]]. والناس في هذه المسألة أيضاً طرفان ووسط:
- منهم: طلبة علم يقولون في كل شيء: لا أدري، من باب الورع البارد. يقال له: كم أركان الإسلام؟ قال: لا أدري. يسأله العامِّي: كم أتمضمض في الوضوء؟ قال: لا أدري، الله ورسوله أعلم! قلنا: ورَعُك باردٌ سامِجٌ ميِّتٌ، أنتَ كتمت العلم بهذا الورع المُهَلْوِس الموسْوِس.
- وبعضهم: قابلهم، فأفتى في كل مسألة، اسأله في كل مسألة، لن يقول: لا أدري، بل يدخل في كل مسألة، ويجيب على كل معضلة، مسائل لو عُرِضت على عمر رضي الله عنه وأرضاه لجمع لها أهل بدر، ومع ذلك يفتي بطلاقة، ويتحدث بقوة، ويشرح ولا عليه! لأنه يقول: إذا قلتُ: لا أدري انكسر جاهي مع الجماعة، والذي عقد رءوس الحبال يحلها، نفتي الآن، وإن شاء الله نبحث عن المسألة، وتجده أحياناً يقول: للعلماء فيها أقوال: قول يقول كذا، بلا أدلة؛ لأنه يدري أنه لا يخرج من الأقوال، لكن إذا قلتَ له: ميز الضعيف من القوي؛ فلن يجيب.
- ومنهم قوم توسطوا -أثابهم الله- فأفتوا فيما يعرفون، وسكتوا عما لا يعرفون؛ وهم أهل الجادَّة، وأهل الخوف من الله.
ثانيها: أما المسائل التي عرضت عليه عليه الصلاة والسلام فكان موقفه منها ثلاثة مواقف، جوابه على ثلاثة أضرب:
- جواب الحكيم.
- وجواب المطابقة.
- وجواب الزيادة.
فجواب الحكيم: أن يُسأل عن مسألة، فيترك المسألة ويأتي بجواب آخر لسؤال آخر، وهذا يسمى عند أهل البلاغة: جواب الحكيم، قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [البقرة:189] فما مكان الجواب؟ ما هو شرح السؤال؟ السؤال: يقول كفار مكة لمحمد عليه الصلاة والسلام: "كيف الهلال يبدو صغيراً، ثم يكبر يكبر، ثم يعود صغيراً؟ هذه أسئلة أطفال الروضة، أتى كفار مكة يقولون: يا محمد! ما للهلال يبدو صغيراً صغيراً، ويكبر ويكبر، ثم يصغر يصغر حتى ينتهي؟ وهل الرسول صلى الله عليه وسلم مكلف أن يجيبهم عن هذا السؤال؟ لماذا لم يسألوا عن فائدة الهلال؟ وعن المصلحة من الهلال؟ فأورد الله السؤال، ولكن لم يورد الجواب على السؤال، قال: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [البقرة:189] وهو معروف سؤاله، ثم أجاب بجواب لسؤال آخر، فقال: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189].
فائدة الهلال: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189].
وكان عليه الصلاة والسلام ربما أجاب بالمطابقة، يسأله السائل، فيقول: نعم، يسأله السائل فيقول: لا.
وربما زاد على سؤال السائل، يقول السائل والحديث عند الخمسة بسند صحيح: {يا رسول الله! إنا نركب البحر، وليس معنا إلا الماء القليل، فإذا توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ -اسمع الجواب- قال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته} هذه أرقى أنواع البلاغة، التي لا يصل إليها الإنسان، هو الطهور ماؤه الحل ميتته. فسأله عن الماء، فأفتاه بالماء وأفتاه بحل الميتة؛ لأن مَن جَهِل الماء، فمن باب أولى أن يجهل حكم الميتة، وقوله: {هو الطهور ماؤه} ظرَّفها بمعرفتين، والتظريف بمعرفتين يقتضي الحصر، كقوله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ [المنافقون:4] {هو الطهور ماؤه الحل ميتته} أربع كلمات أوخمس أو ست، جَمَعَت معاني البلاغة، ولذلك شرحها بعض العلماء في عشرات الصفحات، وعجزوا عن شرحها. هذه مسألة.
- خلافٌ يُفَسَّقُ صاحبُه ويُضَلَّل. وهو ما خالف في مسائل أجمع عليها أهل السنة، وهي مسائل الأصول، فهذا لا يؤجَر ولا يشكَر.
- ومن خالف في المسائل الفرعية، مجتهداً وأصاب؛ فله أجران، ومن أخطأ؛ فله أجر واحد.
- منهم من بلغه الدليل، ومنهم من لم يبلغه، فهذا أفتى بالدليل، وذاك برأيه.
- ومنهم من صحَّ عنده الحديث، ولم يصح عند الآخر.
- ومنهم من كان الحديث عنده ناسخاً، وعند الآخر منسوخاً.
- ومنهم من فهم من الحديث ما لم يفهمه الآخر.
فهؤلاء معذورون، وعليك أن تترحم عليهم، ولا تُشَنِّع على خلافهم لجميع الناس، ولا تُظْهِر عَوَرَهم، ولا تتبجح بأنك أصبت، فإنهم أخطئوا في جزئية، وأصابوا في آلاف الجزئيات.
يقولون: إذا زاد البياض أصبح برصاً.
التكلف في الصوت ضياع لمعالم الصوت، تجد المقرئ قارئاً من أجمل الناس صوتاً، فلا يرضى بقسم الله له في الصوت الحسن، ولا يرضى بهذه الموهبة، حتى يتكلف ويشحب بصوته، ويرفع بنَفَسِه حتى تضيع هذه الموهبة بسبب التكلف، قال عمر في كتاب الأدب من صحيح البخاري: (نُهِينا عن التكلف) تجد الخطيب بارعاً ومفيداً، لكن يتكلف، ويريد أن يقلد غيره فيضيع، يقولون: الغراب قلد مشية الطاوس، فضيع مشيته ومشية الطاوس، أراد أن يعود لمشيته الأولى فضيَّع.
والتقليد هذا ظاهر عند بعض الناس من بعض البادئين؛ أنهم يريدون أن يكونوا صُوَراً طبق الأصل لبعض الناس، حتى يقلد العالِِم في سَعْلَتِه، وفي تَنَحْنُحِه، وصوته، خلق الله لـه صوتاً ولك صوتاً، وله سَعلةً ولك سَعلة، وله كحَّة ولك كحَّة، وله عُطاس ولك عُطاس، فأما أن تقلده بهذا التقمص فهذا يسمى إذابة للشخصية، ويسمى موت لمعالم الإنسانية في النفس، تسحق شخصيتك سحقاً. ولكن قلده في العلم، وفي المعنويات، والكرم، والصبر، وفي الحلم.
التكلف هذا عندما دخل على المسلمين ضيَّع معالم سيرتهم، حتى التكلف في الأسئلة، يسألون عن أسئلة ما أنزل الله بها من سلطان ما وقعت، ولكن سَلُوا فيما وقع، وقد أتى بعضهم يسأل عن مسائل كثيرة، منها:
ما رأيكم في أطفال أهل الفطرة؟ وتجد هذا عامياً لا يعرف سجود السهو، هل هو قبل السلام؟ أو بعد السلام؟
وماذا تقولون في تُبَّع؟ هل هو نبي أو لا؟ فأنا محتار، من البارحة وأنا أفكر في هذا الموضوع.
ومسائل أخرى وأخرى.
إذاً: فلا بد من طرح التكلف.
هذه معالم من تربيته عليه الصلاة والسلام، ومن نهجه في الدعوة، ولعلَّ في الحلقة المقبلة إن شاء الله معالم أخرى في حياته، ولكن هذه إنما هي دروس أو إيحاءات من سيرته صلى الله عليه وسلم، في باب الدعوة، كيف دعا إلى الله؟ وكيف علَّم؟ وكيف أفتى؟ وقبل أن ننتهي أستمع إلى سؤالين أو ثلاثة.
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
.
الجواب: أولاً: أشكرك على هذا السؤال، وهذا يُنْبِي عن فهم، وقد نُـبِّه عليه في كثير من الدروس والمحاضرات، ولكنك أثرت مسألة، وددتُ أنني تطرقت لها في أثناء الكلام.
اعلم أن العلم إذا أطلق في الكتاب؛ فمعناه علم الكتاب والسنة.
ثانياً: لا تظن أنك إذا تعلمتَ الهندسة، أنك لستَ مأجوراً بتعلمك لها، بل العجيب كل العجيب والغريب كل الغريب؛ أني وجدتُ أناساً في الهندسة والطب أكثر تقوىً وصلاحاً من كثير ممن يدرسون الشريعة وأصول الدين. هذا على الكرسي من الصباح إلى صلاة الظهر، ست محاضرات، في فتح الباري، وفي رياض الصالحين , ومع ابن حجر، ومع ابن تيمية، ومع الشوكاني، ومع الصنعاني، ومع ذلك تجده فاسقاً من الفسقة والعياذ بالله! وهذا من الصباح، في التجريح والتشخيص والتحليل، وتجده ولياً من أولياء الله.
فاعلم أن هذه المسألة واردة، وأحمد الله عز وجل على أن وُجِدَت الصحوة في كثير من هذه القطاعات، حتى تدخل في بعض المستشفيات، فترى الأطباء يذكرون بـأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، من سيرتهم وأخلاقهم وتعاملهم.
فإذا سُبِقْتَ إلى العلم والفُتيا، فلا تُسْبَق على التقوى، لا يسبِقُك أحدٌ على التقوى والانضباط، فإنه قد سبق كثيرٌ من الناس كثيراً من أهل الشريعة في هذا الجانب، وصدقوا مع الله، فأعطاهم الله ما تمنَّوا، ورفع منـزلتهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثالثاً: اعلم أن الإسلام تخصصات، وأن من أراد أن ينصر الدين من باب الشريعة فله ذلك، وهو مأجور، ومن أراد أن ينصره من باب الطب أو الهندسة أو أي تخصص، فهو مأجور ومشكور. والأمةُ فرضٌ عليها فرض كفاية؛ أن تقوم بهذه التخصصات.
ويوم تركنا الطب والهندسة لغيرنا؛ غُزينا في عقر دارنا، وأنا سمعتُ من بعض الفضلاء أن النصارى اجتمعوا في الكنيسة، فقال لهم رئيسهم أو كبيرهم الذي علمهم السحر: "تعلموا الطب، واغزوا بلاد المسلمين..."، لماذا؟ "… لابتزاز أموالهم، ولكشف عورات نسائهم، ولقطع نسلهم". فيوم وجد الطبيب المجرم، وأتى الورع البارد في فتراتٍ من الفترات، وتركوا تعلم الطب، أتت هذه النوعية، كشفوا عورات النساء في المستشفيات، وقطعوا النسل، وأخذوا الأموال من أيدي الناس.
فيا أيها الإخوة! يا أطباء الإسلام! ويا مهندسو الإسلام! اعلموا أنكم على ثغرة من الثغرات، من كان في الحراسة كان في الحراسة، ومن كان في الساقة كان في الساقة، ومن كان في الطب كان في الطب، ومن كان في الهندسة كان في الهندسة.
وما يدريك؟ لعل أكبر أمل لك بعد الفرائض أن تدخل الجنة بالهندسة وبالطب.
حسان بن ثابت دخل الجنة بعد الفرائض بالقافية والشعر؛ لأنه نصر الإسلام به.
و امرؤ القيس يوم أجرم شعره؛ كان قائد الشعراء إلى النار.
و خالد بن الوليد دخل الجنة؛ لأنه كان يجيد عمليات قطـع الرءوس عن الأكتـاف، كان يَفصـل الجماجم رضي الله عنه، له طريق خاصة في الذبح، على الطريقة الإسلامية، يستقبل بالأبطال القبلة، ثم يُذَبِّحُهم كما تُذَبَّح الدجاج، فدخل الجنة بهذه الطريقة الممتازة.
و أُبَي بالقراءة.
و زيد بن ثابت بالفرائض.
و ابن عباس بالتفسير.
فأنت ما عليك وزر ولا حرج، غفر الله لنا ولكم.
الجواب: أنا أرى أن الأحوط لك أن تبول جالساً، فإن لم تستطع، وكان عليك ضرر من عَود الرذاذ، أو عَود البول، وأصبحت المضرة أعظم من المصلحة، فَبُل قائماً، فقد صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام، عند البخاري ومسلم، من حديث حذيفة: {أنه أتى سُباطةَ قومٍ، فبال قائماً عليه الصلاة والسلام} والسُّباطة هي: المزبلة، وجاء عن بعض العلماء من علماء السلف؛ أنه خاف صلى الله عليه وسلم أن يتلوث من هذه السباطة فبال قائماً، فإذا تأكدت أنك إن لم تفعل ذلك وقَعْتَ فيما وقَعْتَ فيه فلك ذلك: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
وقبل أن أنتهي، هنا مسائل أنبه عليها باختصار:
مثل هذا المجلس، ولو لم يكسب السامع فيه فائدة، فليعلم أنه خرج بفوائد إذا أحْسَنَ النية:
- أن الملائكة حفت به.
- وأن الرحمة تنـزَّلت عليه.
- وأن السكينة غشيته.
- وأن الله ذكره في ملأ خير من هذا، وهم الملائكة.
- وأننا نطمع في أمر خامس، وهو من أحسنها؛ أن يقال لنا في آخر المجلس: انصرفوا مغفوراً لكم، فتقول الملائكة: {يا رب! عبدك فلان إنما جلس لحاجة، قال: وله غفرتُ، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم} ويُروى في حديث مُخْتَلَفٍ في صحته: {مَن جلَس بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، فهي كحجة وعمرة تامة تامة تامة} ولعله إن شاء الله حديث حسن.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر