الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا -بعون الله وتوفيقه- الدرس الثاني حول تفسير سورة المائدة، وبه نختم -إن شاء الله تعالى- هذه السورة، وقد بينا غير مرة أن منهجنا في التفسير هو أننا ننتقي ونختار آيات من السورة التي نعنى بتفسيرها، وما كان من الآيات معنياً كثيراً بالفقهيات نحاول أن نبتعد عنه؛ لأن هذا له موطن آخر.
والآيات التي نستعين بالله جل وعلا على تفسيرها هي من قول الله تبارك وتعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [المائدة:111] إلى آخر السورة.
فنقول مستعينين بالله تبارك وتعالى: هذه الآيات تتكلم عن نبي الله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وقد جرت سنة الله تبارك وتعالى في خلقه أنه ما بعث رسولاً إلا ويؤيده في الغالب بأنصار وأصحاب يعضدونه، كما قال الله في حق نبينا صلى الله عليه وسلم: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:62] ، كما يجعل فريقاً آخر يعاند ذلك النبي ويعاديه، قال الله جل وعلا: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31] .
وفي هذه الآيات يخبر الله جل وعلا أنه ألهم قلوب الحواريين الذين هم أنصار عيسى ابن مريم، وقذف جل وعلا في قلوبهم محبة عيسى، والإيمان بالله جل وعلا من قبل، ونصرة ذلك النبي الكريم صلوات الله عليه وعلى نبينا، فقال الله جل وعلا: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ [المائدة:111] و(أوحى) في القرآن تأتي على ثلاثة أضرب: فتأتي بمعنى الإرسال، وهو الذي يختص بالنبيين، فالوحي الذي يكون به الإنسان نبياً يسمى إرسالاً، ويأتي على عدة هيئات، منها: أن يكلم الله جل وعلا العبد من وراء حجاب، أو يرسل جبرائيل بذاته، أو أن يقذف شيئاً في قلب ذلك النبي، وهذا النوع هو الذي يميز به النبيون عن غيرهم.
والضرب الثاني: وحي بمعنى الإلهام، قال الله جل وعلا: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل:68]، وقال الله تبارك وتعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7] فوحي الله جل وعلا إلى النحل ووحي الله تبارك وتعالى إلى أم موسى لا يجعل من النحل ولا من أم موسى أنبياء، ولكن المقصود الإلهام الذي ألهمه الله جل وعلا النحل وألهمه الله جل وعلا أم موسى، وهذا هو الذي قصده الله بقوله: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي [المائدة:111] أي: ألهمتهم الإيمان بالله والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم.
الضرب الثالث: الوحي بمعنى الأمر، قال الله جل وعلا: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:1-5] فقوله: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:5] أي: بأن الله أمرها.
فينجلي عن هذا أن الوحي في القرآن على ثلاثة أضرب: وحي بمعنى الإرسال، ووحي بمعنى الإلهام، ووحي بمعنى الأمر. وقول الله جل وعلا: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ [المائدة:111] أي: ألهمت الحواريين أن يؤمنوا بي وبرسولي.
قال الله تعالى: قَالُوا [المائدة:111] أي: الحواريون آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [المائدة:111] واختلف في المخاطب بـ(اشهد) هل هو الله أو عيسى؟ وقواعد القرآن لا تنافي أن يراد الاثنان، أي: أشهدوا الله وأشهدوا عيسى على أنهم مسلمون.
وبعد أن ذكر الله جل وعلا أن الحواريين كانوا أنصاراً لعيسى ابن مريم -أي: خلصاء وأصحاباً وأصفياء ويعضدونه ويؤمنون بالله- قال جل وعلا: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:112].
هذه الآية فيها قراءتان: القراءة الأولى المشهورة التي بين أيدينا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا [المائدة:112] ، والقراءة الثانية: (هل تستطيع ربَّك) بالتاء بدلاً من الياء، وبنصب (رب) بدلاً من رفعها, وهي قراءة الكسائي ومن وافقه من القراء، ومعنى الآية مع تقدير المحذوف: هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟
فهذه القراءة قرأ بها الكسائي ، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه تختارها.
وعلى القراءة الأولى -وهي قراءتنا في المصحف الذي بين أيدينا- يصبح معنى الآية: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [المائدة:112] الاستطاعة المعروفة، وليس المقصود إظهار عجز الله كما سيأتي.
قال تعالى: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:112] وعندما يتكلم الإنسان المفسر أو غيره عن أمر لابد له من أن يستصحب واقع الحال، فهؤلاء الذين يتكلمون ويسألون عيسى هم أنصاره وحواريون وأصفياؤه، فلا يعقل أبداً أن يكون الحواريون يشكون في قدرة الله، ولو كانوا يشكون في قدرة الله لما كانوا مؤمنين فضلاً عن أن يكونوا حواريين لعيسى ابن مريم.
فالمقصود: أنهم أرادوا أمراً زيادة في اليقين، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260] فالذي يظهر -خروجاً من خلاف المفسرين- أن سؤال الحواريين هنا من نوع سؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ [المائدة:112] المائدة: الطعام الموجود في مكانه المعد للأكل، وهو لا يخلو من أن يكون على أحد حالين: فإن كان على خوان -وهو الذي يسمى اليوم طاولة الطعام- يسمى مائدة، ولا يسمى مائدة إن لم يكن عليها طعام.
وإن كان على ما يسمى اليوم بالسفرة -وهي كلمة فصحى- سمي كذلك مائدة، فإن كانت السفرة خالية من الطعام لا تسمى مائدة.
فالمقصود أن الحواريين طلبوا طعاماً.
وإذا عرجنا على الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام فقد ثبت عنه -كما عند البخاري من حديث أنس - أنه (لم يأكل على خوان قط) أي: ما يسميه اليوم الناس طاولة طعام، نقله أنس رضي الله عنه وهو خادم نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا يعني هذا التحريم قطعاً؛ لأن الفعل المجرد لا يدل على حكم، ولكنه عليه الصلاة والسلام كان نبياً عبداً ولم يكن نبياً ملكاً، وكان الأكل على الخوان من دأب الملوك، فكان عليه الصلاة والسلام لا يأكل حتى يكون أقرب إلى العبودية، والحديث رواه البخاري عن أنس ، ولكن الذي روى الحديث عن أنس هو قتادة بن دعامة السدوسي المشهور، فقال: حدثني أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث وفيه ثلاثة أشياء، ومنها: (وما أكل على خوان قط) ، فقيل لـقتادة : على أي شيء كانوا يأكلون؟ فقال: على السفرة.
والسفرة في القديم كان لها معاليق، فيجمع بعضها مع بعض وتعلق، ويوضع فيها الطعام أحياناً؛ لأن طعامهم كان غالباً ليس مما يحفظ في الثلاجات اليوم، وإنما غالب الطعام تمر أو شيء يحفظ، فكان يوضع بعضه في السفرة فتعلق، فإذا وضعت بين أيدي الناس مدت، فإذا مدت أسفرت عما فيها، فلما كانت تسفر عما فيها سميت سفرة، وقيل: إن السفرة اسم للطعام، ولكن الأول أقرب فيما نعلم.
فهذا هو الطلب الذي تقدم به الحواريون إلى عيسى، فقال لهم عيسى: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:112] وكأنه عليه السلام استعظم الطلب.
فلما استعظم الطلب أدلى الحواريون بحجتهم في بيان سبب أنهم طلبوا هذه المائدة، فقالوا: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:113]، فذكروا أربعة تعليلات، وقبل أن نعرج على التعليلات التي ذكرها الحواريون نقول: إن الحوار والأخذ والعطاء أمر محمود، ولا يوجد أحد منزه عن الخطأ إلا الأنبياء لما عصمهم الله جل وعلا به، فكون الإنسان يناقش ويأخذ ويعطي ويقبل أن يعترض عليه ويعترض على غيره ويقدم أدلة هذا أمر محمود، فهذا نبي يطلب منه أنصاره مائدة فيقول: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:112] فيردون عليه بذكر السبب قائلين: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا... [المائدة:113] إلى آخر الآية، ففيه أخذ وعطاء.
فالرجل المعصوم الذي يجلس على كرسي ولا يقول إلا الحق لا يوجد، ولا تبحث عنه، فإن العصمة خصها الله جل وعلا بأنبيائه ورسله، وذلك هو المشهور من أقوال العلماء، فقد قال مالك : ما منا إلا راد ومردود عليه، وقال الشافعي رحمه الله تعالى: ما أعلم أحدا حفظ السنة كلها.
فلا يوجد أحد تحارب وتعادي وتوالي وتخاصم من أجل أن قول الحق غير نبينا صلى الله عليه وسلم، أما غيره فإنه -مهما بلغ- يعرض قوله على الكتاب والسنة، فيقبل ما هو حق ويعتذر له عما أخطأ فيه.
فواجب عند اختلاف الفهم إحساننا الظن بأهل العلم
فتعتذر له، ولكنك لست ملزماً بقوله، والناس منذ القديم كانوا يأخذون ويعطون ويقبلون، ومن دلالة علو كعب العالم أنه يناقش ويأخذ ويعطي، والمهم أن يكون المراد من المناقشة والأخذ والحوار الوصول إلى الحق، لا المجادلة وإظهار علو الصوت ونبز الأقران والتعالي على الناس، تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
قال تعالى: قَالُوا [المائدة:113] أي: الحواريون نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:113] .
قولهم: (نَأْكُلَ مِنْهَا) إما لحاجتهم من الفقر الذي كانوا عليه، وإما لكونها منزلة من السماء بإذن من الله وفضل منه، فتكون مباركة طيبة، فيحسن -بلا شك- الأكل منها.
وقولهم: وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا [المائدة:113] انتقال إلى مرحلة تسمى عين اليقين؛ لأن الإنسان إذا حدثه أحد من الصادقين بشيء فهو يقين، ولكنه إذا رأى الشيء بعينه انتقل من اليقين إلى عين اليقين.
ومن أظهر الأدلة ما حصل لموسى عليه السلام، فإن الله جل وعلا أخبر موسى بأن قومه عبدوا العجل من بعده، فلما أخبره الله جل وعلا اشتاط غضباً ورجع، فلما رجع إلى قومه رآهم بعينه يعبدون العجل، فكان هذا أعظم في عينه وأوقع أثراً في نفسه، وليس الخبر كالمعاينة، فألقى الألواح؛ لأن الشيء الذي تراه بعينك ليس كما يقال لك.
فالحواريون أرادوا أن يصلوا إلى مرحلة عين اليقين؛ لأنهم يرون المائدة تنزل، فيكون إيمانهم أرفع، وقد قال العلماء: من الفوائد في ذلك: أن الإنسان يجدد إيمانه فيبحث عن وسائل تزيد من إيمانه بين الفينة والفينة، وبين الحين والحين الآخر، وأما ما يزيد به إيمانه فهذا باب واسع.
ثم قال سبحانه عنهم: وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا [المائدة:113] والخطاب لعيسى وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:113] أي: نخبر من بعدنا أن هناك مائدة نزلت، فيصبح في ذلك فوائد دنيوية وفوائد دينية، فالدينية: أن نخبر الناس ونشهد على صدقك، والدنيوية: أننا نأكل ونطعم ونسد جوعنا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:113] .
فاقتنع عيسى بقولهم، وجاء في بعض الآثار أنه أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوماً، فصاموا فدعا ربه، قال الله جل وعلا بعدها: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ [المائدة:114].
قوله تعالى: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:114] أي: النبي (اللَّهُمَّ) أصلها (يا الله)، والعرب تحذف أحياناً حرف النداء، فلما حذفت حرف النداء في (يا الله) عوضت بدلاً منه بالميم.
ولا يقال: (يا اللهم) بالميم والياء، فلا يجمع بين البدل والمبدل منه إلا عند الضرورة الشعرية، كما نقل سيبويه وغيره عن الراجز أنه قال:
إني إذا ما خطب ألما أقول يا اللهم يا اللهم
فهذا شاهد نحوي المقصود به الجمع بين البدل والمبدل منه، ولكن لا يقاس عليه، لأن الأصل أن الياء حذفت وأبدلت عنها الميم.
وقوله تعالى: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا [المائدة:114] الأصل: (يا ربنا)، وحذف حرف النداء، فأصبح (رب) منادى، ولأنه مضاف نصب مباشرة، فلذلك جاءت الفتحة على الباء.
قال تعالى: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ [المائدة:114] ثم نعت تلك المائدة فذكر بعض أوصافها وتعليلات لذلك الطلب فقال: أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ [المائدة:114] فذكر عيسى عليه الصلاة والسلام في دعائه لربه مصلحتين: المصلحة الدنيوية في قوله: وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ [المائدة:114] وقوله: تَكُونُ لَنَا عِيدًا [المائدة:114]، والمصلحة الدينية في قوله: وَآيَةً مِنْكَ [المائدة:114] أي: علامة وأمارة على أنك قبلت دعاءنا، فيكون ذلك سبباً في أن يدخل الناس في الدين بعد ذلك أفواجاً.
وقوله: تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا [المائدة:114] العيد الشيء الذي يعود ويتكرر، ولكن لا ينبغي أن يكون ثمة عيد إلا بإذن شرعي، أما أن يتخذ الإنسان من أي مناسبة دينية أو غير دينية عيداً فهذا أمر -إذا ربطه بالدين- لا يجوز شرعاً، أما إذا جعله من باب العادات فهذا باب واسع لا يحسن تفصيله الآن، ولكن نقول: الأشياء الشرعية لا تثبت إلا بشيء شرعي، فالله جل وعلا على مر العصور يجعل من بعض عبادات أنبيائه ورسله وعباده سنناً يجتمع الناس عليه، فكلنا في الطواف والسعي نمر على الصفا والمروة لنحيي سنة هاجر، ولكن هذا الإحياء لم يكن من أنفسنا، إنما كان بإذن من الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فنطوف بالبيت كما طاف به إبراهيم عليه الصلاة والسلام من قبل، ونرمي الجمار كما رماها إبراهيم من قبل، فنحيي ملة إبراهيم، ولكن هذا أمر لم نجتهد فيه نحن من أنفسنا، وإنما شرعه الله تبارك وتعالى لنا، والدين لا يكون باجتهاد شخصي أبداً، قال الله جل وعلا: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].
ثم قال سبحانه: قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:115].
اختلف العلماء: هل أنزل الله جل وعلا المائدة أو لم ينزلها، وذلك لأن الله قال: إِنِّي مُنَزِّلُهَا [المائدة:115] وليس في القرآن أن الله أنزلها.
فجمهور العلماء من المفسرين على أنها أنزلت، وقالوا: إن هذا وعد من الله لنبيه، والله لا يخلف الميعاد، وهو الذي نختاره.
وذهب مجاهد رحمه الله تعالى المفسر المعروف تلميذ ابن عباس إلى أن الله لم ينزلها؛ لأنه مجرد مثل ضربه الله في كتابه، وهذا أبعد الأقوال عن الصواب في ظننا.
والقول الثالث قاله الحسن البصري رحمه الله تعالى وتبعه عليه بعض المفسرين، وهو: أن الله لما قال لهم: (فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) خافوا وطلبوا الإعفاء من نزولها واستغفروا الله ولم تنزل المائدة.
والذين قالوا بهذا الرأي من أدلتهم: أن هذه المائدة لم تذكر في الإنجيل الذي بين أيدينا، والنصارى لا يعرفون قصتها إلا من القرآن.
فرد جمهور العلماء على هذا القول بأن كونها لم تذكر في الإنجيل من الشيء الذي نسوه، كما قال الله جل وعلا عنهم: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:14] ، فهذا من الحظ الذي أنساهم الله جل وعلا إياه.
والذي نختاره -والله أعلم- من هذه الأقوال أن الله جل وعلا أنزلها، وهو مذهب جماهير العلماء.
يقول تعالى: قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:115].
إن الآية إذا كانت ظاهرة وأقيمت الحجة ينقطع العذر، فإذا انقطع العذر لا يقبل عند الله إلا الإيمان، فإما إيمان وإما كفر أو ينزل العذاب.
ولنرجع في بيان هذا إلى سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، ففيها أن النبي عليه الصلاة والسلام -كما في مسند أحمد من طريقين كلاهما جيد- طلبت منه قريش أن يجعل لهم الصفا ذهباً فقالوا: إن جعلت الصفا ذهباً آمنا بك. فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو أن يجعل الله الصفا ذهباً حتى يؤمنوا، فبعث الله إليه جبرائيل أو ملكاً غيره فأخبره بأنه لو جعل الله الصفا ذهباً ولم يؤمنوا فإن الله سيهلكهم عن بكرة أبيهم.
وإذا هلكوا عن بكرة أبيهم فلن يكون منهم مؤمنون، ولكن إذا بقوا ولم يهلكهم الله فهناك أمل في أنهم يؤمنون أو يأتي من ظهورهم من يؤمن.
فاختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا على حالهم حتى يؤمن منهم من يؤمن أو يخرج الله من ظهورهم من يؤمن بالله ومن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، ولذلك قال الله في سورة الإسراء: وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59] .
والله إذا أراد أن يرحم أمة أمات نبيها قبل إهلاكها، فيكون النبي فرطاً سابقاً لأمته، وإذا أراد الله أن يهلك أمة أبقى نبيها حياً وأهلكها ونبيها ينظر؛ ليكون ذلك أقر لعينه، كما هو دأب الله في سنن الأنبياء الذين قبلنا، فقوم صالح، وقوم نوح، وقوم لوط كلهم أهلكوا وأنبياؤهم ينظرون إليهم، قال الله جل وعلا عن قوم صالح: وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل:53] بعد أن أخبر أنه أهلك قومه، وكذلك قال الله عن شعيب، وكذلك الله قال عن عاد وغيرهم من الأمم، وهذا ظاهر.
يقول تعالى: فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:115] أخذ بعض العلماء من هذه الآية أن أعظم الناس عذاباً ثلاثة: أتباع فرعون، قال الله جل وعلا: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، والذين كفروا بالمائدة بعد نزولها من قوم عيسى، قال الله جل وعلا: فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:115]، والمنافقون الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145] ويظهر لي أن هؤلاء المنافقين هم أشد خلق الله جل وعلا عذاباً.
ثم قال الله جل وعلا: وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [المائدة:116] إلى آخر السورة.
هذا الموقف موقف في الآخرة، أما موقف المائدة فكان في الدنيا، فهذا موقف في الآخرة وإن قال بعض العلماء: إنه موقف دنيوي، وقولهم بعيد، فكونه جاء بصيغة الماضي لا ينفي أنه سيكون يوم القيامة.
قال تعالى: وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ [المائدة:116] ونحن نعلم أن الله يعلم أن عيسى ابن مريم لم يقل هذا للناس، والله ما أراد بهذا السؤال توبيخ عيسى، وإنما أراد الله تقريع النصارى وتوبيخهم في يوم العرض الأكبر على ما اتهموا به نبيهم كذباً أنه دعاهم إلى عبادة نفسه وإلى عبادة أمه، وقالوا بالأقانيم الثلاثة، وزعموا أن المسيح ابن الله، فأراد الله جل وعلا أن يبطل كيدهم ويظهر كذبهم على ملأ من الأشهاد بنطق عيسى نفسه، وذلك في يوم حشر العباد، ويوم الحشر يوم عظيم، وفي حديث الشفاعة أن الأنبياء يقولون جميعاً: (إن الله غضب غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) فيتدافعون الشفاعة حتى تصل إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، فالموقف موقف جليل وخطب عظيم ودعاء النبيين يومئذ: (اللهم سلم سلم)، ففي هذا الموقف يسأل الله جل وعلا عيسى: (أَأَنتَ) والهمزة الأولى للاستفهام، والهمزة الثانية من أصل الكلمة، أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:116].
والمتبادر إلى الذهن أن المفروض يقول عيسى: لا، أو يقول: لم أقله.
ولكن عيسى في هذه الآيات ضرب أروع الأمثلة في الأدب مع الرب جل وعلا، فبدأ جوابه بقوله: سُبْحَانَكَ [المائدة:116] ، وقد قال بعض العلماء: إن عيسى عليه السلام قدم الجواب بكلمة (سبحانك) لسببين:
الأول منهما: تنزيه الله عما أضافته النصارى إليه.
الثاني: الخضوع لعزة الله والخوف من سطوته. فمن أجل ذلك قال هذا النبي الكريم: (سبحانك).
ثم دخل في الجواب فقال: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة:116] فهناك أشياء -يا أخي- تملكها وأشياء لا تملكها، ومن أعظم ما لا نملكه: أننا عبيد، وإذا كنا عبيداً فإننا لا نملك أن نتكلم كما يتكلم الرب سبحانه وتعالى، ولا نطالب بحق الإلهية؛ لأننا لسنا آلهة، فلا إله إلا الله، وكل أحد سوى الله مربوب وعبد، والله جل وعلا وحده هو الإله وهو الرب لا رب غيره ولا إله سواه، فلا يصح أن يأتي أحد لا يملك هذا الحق فيطلبه لنفسه، فعيسى يقول: أنا مربوب وعبد ولا أملك أن أطلب من الناس أن يعبدوني من دونك؛ لأن هذا ليس لي فيه حق، فمقام الإلهية غير مقام العبودية.
ولم يقل: أنا لم أقله، بل قال تأدباً مع ربه: إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:116]، وهذا الجواب لا يكون إلا مع الله، فلا يصح أن تجيب أحداً من الناس بهذا الجواب، فهذا الجواب لا يمكن أن يكون إلا مع الله، وأما مع الناس فتقول: لم أقله، أو تقول: قلته، وتقول: ذهبت إلى مكان كذا أو: لم أذهب لمن سألك: ذهبت أو لم تذهب؟ ولا يعقل أن تقول له: إن كنت ذهبت فأنت تعلم أني ذهبت!
فهذا جواب لا يقال إلا لله.
قال تعالى عنه: إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116] وهذه واضحة لا تحتاج إلى بيان، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:116] ، فما من غيب إلا والله جل وعلا يعلمه، كما قال لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16] .
ثم أخذ يبرئ ساحته أمام النصارى، فقال: مَا قُلْتُ لَهُمْ [المائدة:117] و(ما) نافية (إِلاَّ) للاستثناء مَا أَمَرْتَنِي بِهِ [المائدة:117] فأنا عبد أنفذ أوامرك، وأؤدي ما أوكلته إلي، ولا أستطيع أن أخرج عن أمرك مثقال ذرة.
قال تعالى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة:117] (أن) حرف تفسير لا محل له من الإعراب، فجملة: (أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) مفسرة لقوله: (إلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ) يعني: الذي أمرتني به هو (أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)، وقد مر بنا نحو هذا في سورة البقرة، ومنه قول الله جل وعلا: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الحجر:66] ، فقوله: أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الحجر:66] مفسر لقول الله جل وعلا: ذَلِكَ الأَمْرَ [الحجر:66].
وكذلك قول الله تبارك وتعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة:117] مفسر لقول الله تبارك وتعالى: إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ [المائدة:117] ، فعيسى عليه السلام قبل أن يقرر أن الله رب لهم قرر أن الله رب له هو فقال: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة:117] وهذا هو التوحيد الذي بعث الله جل وعلا به الرسل من نوح إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والذي لا يقبل الله من أحد صرفاً ولا عدلاً إلا بتحقيقه.
ثم قال تعالى عنه: وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة:117].
قوله: (مَّا دُمْتُ فِيهِمْ) أي: أنه عبد، فمتى ما وضع أو رفع لا يعلم شيئاً، ولا يوجد عاقل يدعي أنه يفهم كل شيء أو يعلم كل شيء، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يعيش في المدينة، وحوله في المدينة مهاجرون وأنصار ويهود ومنافقون، فالله يقول لنبيه: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ [التوبة:101] قال العلماء: إذا جاز على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أن يكون له جيران يسكنون مدينته ولا يعلم أنهم يكيدون له وأنهم منافقون؛ فمن باب أولى أن يخفى ذلك على من دونه، وكل الناس دونه صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة:117] أي: وأنا بينهم أعيش كنت أقول لهم: اعبدوا الله، فهذا يوافق وهذا لا يوافق، فأنا شهيد عليهم بأن هذا وافق وهذا لم يوافق، وهذا قبل وهذا لم يقبل، وهذا رضي بك رباً وهذا لم يرض.
قال تعالى: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة:117].
قوله: (توفيتني) فيه نوع من الإشكال؛ لأن عيسى عليه السلام ليس بميت، وإنما رفع إلى السماء، قال الله جل وعلا: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، وعندما تريد أن تفسر أمسك أصلك، فإذا جاء شيء يعارض الأصل فرد العارض وابق على الأصل، ولا تنتقل عنه إلا بعارض يفوق الأصل، وفي حياتك في أمر دين أو في أمر دنيا أمسك أصلك، ولا تترك الأصل لأي عارض أو لأي شبهة، ولو لم تفهم العارض.
فالله جل وعلا تكلم عن عيسى في سورة النساء وقال: إن اليهود زعمت أنها قتلته، وقال جل وعلا: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ [النساء:157] ثم قال: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ [النساء:157-158]، فالله يقول في كتابه: إنه رفع عيسى، فلما تأتي آية فيها أنه توفى والله يقول: إنه رفع لا تجتمع وفاة مع رفع، فنبقي على الأصل الذي هو الرفع، ونقول: إن الوفاة هنا بمعنى الرفع، فقوله: (توفيتني) يعني: استوفيت بقائي معهم ثم رفعتني، لكي نبقي على الأصل، ومن أخذ بهذه القاعدة فإنه يسلم في أمر دينه وأمر دنياه؛ لأنه ليس كل شبهة تستطيع أن تردها، فلو وجدت شبهة لا تستطيع أن تردها فابق على الأصل حتى يمن الله عليك بعالم تسأله عن هذه الشبهة فيردها، أما أن تمسك بكل شبهة تأتيك فتأخذ بها فإن الشبه لا تنتهي، وستصل إلى ما لا نهاية، فتتخبط بك الطرق كما هو حاصل في بعض ممن ينتسبون إلى العلم، فيتخبط أحدهم ميمنة وميسرة لأنه لا يوجد أصل يقبض عليه ويمسك به.
فالأصل -مثلاً- في المؤمن أنه من قال: (لا إله إلا الله)، فإخراجه من الملة يحتاج إلى أصل أعظم من هذا، ولا يوجد ذلك حتى يفرح هو بالكفر، فإذا قال: أنا كافر فقوله يهدم الأصل، لكن إذا فعل أفعالاً خلاف في أنها كفر ولم يرض بها فليس لك ولا لغيرك أن يكفره بمثل هذه الشبهات.
وهذا الذي وقع فيه من وقع في أيام الصحابة لما كفر علياً وكفر عثمان وكفر غيرهما فضـل بهذا الطريق، فلا يمسك أصلاً، فكلما جاءته شبهة طبقها على الناس.
ويروى عن الذين خاصموا علياً أنهم مروا على شجرة ليهودي فيها بلح وهم جياع، فقالوا: هذه شجرة يهودي، وهو ذمي مستأمن، فلا يجوز لنا أن نأخذ منها.
وبعد قليل جاء عبد الله بن خباب بن الأرت فقالوا: تقول في عثمان وعلي ؟ فقال: صحابة أخطئوا في أشياء وأصابوا في أشياء، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومردهم إلى الله، فقالوا: إن هذا الذي في صدرك -يعنون القرآن- يأمرنا بقتلك؛ لأنك ما قلت الحق! وعلي حكم الرجال في دين الله، والله يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57] فأصبح علي كافراً وأنت لا ترى أن علياً كافر، فأنت كافر؛ لأن من لم ير كفر الكافر فهو كافر.
فانزلوه من فوق ظهر ناقته ومعه زوجته وابنه، ثم ذهبوا به إلى نهر دجلة الذي في العراق وذبحوه على النهر وسال دمه على النهر واليهودي ينظر، فقال: والله ما رأيت أجهل منكم! أتمتنعون عن التمر وتقولون: أكله حرام وإنما هو شيء من بلح ثم تأتون إلى رجل من أتباع دينكم يقول: لا إله إلا الله فتذبحونه كما تذبح الشاة وتقولون: هذا يجوز؟!
فالعاقل في كل شئون حياته يمسك الأصل ويتمسك به، وليس سهلاً أن تهدم الأصل؛ لأن هذا الباب لو دخلت فيه لا تنتهي.
وأذكر أنني تأخرت يوماً عن الصلاة، فصلى شخص بدلاً عني، فدخل رجل فرأى رجلاً ساجداً على أمشاط أصابعه لا على الأطراف، فرآه رجل فأخذ بيدي وقال: انظر كيف يصلي! فالسجود على الأعضاء السبعة، وهذا ما سجد على الأعضاء السبعة! فهذه الفتوى المركبة معناها أن السجود غير صحيح، والسجود ركن من أركان الصلاة، فصلاته غير صحيحة، فكأنه ما صلى، والرسول يقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، فصار بذلك كافراً، وقعد يقول: سبحان ربي الأعلى سبحان ربي الأعلى، اللهم اغفر لي! فعقلك لا تعطيه لغيرك، واحفظ لسانك عن أعراض المسلمين من عالم أو حاكم أو أمير أو وزير أو صغير أو كبير، ففي النقاش العلمي ناقش كما تشاء، فالعلم حق مشاع، ولكن الإخراج من الملة والإدخال في الملة ليس لأحد، فالله يقول: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:106].
يقول تعالى عن عيسى عليه السلام: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي [المائدة:117]، وقلنا: إن الوفاة هنا بمعنى الرفع، والوفاة في كتاب الله تأتي بمعنى الموت وانقضاء الأجل، ومنه قول الله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر:42] أي: حين انقضاء أجلها، وتأتي بمعنى النوم، قال الله جل وعلا: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ [الأنعام:60]، وتأتي بمعنى الرفع، كما في الآية التي بين أيدينا: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) أي: رفعتني كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة:117]، ولا ريب في أن الله على كل شيء شهيد.
ثم قال الله جل وعلا عن عيسى عليه السلام: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] وهذه من أعظم آيات القرآن في المعاني، فالله جل وعلا أرحم بعباده من أنفسهم، فإذا ألحق العذاب بأحد فمعنى ذلك قطعاً أنه مستحق للعذاب، ولو لم يكن عبدا متمرداً مستحقاً للعذاب لما عذبه الله؛ لأن الله أرحم بنا من أنفسنا وأرحم بالعبد من الوالدة بولدها.
فقوله: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) يعني: لو لم يستحقوا العذاب لما عذبتهم، والأصل أنهم عبادك مملوكون لك تفعل وتحكم فيهم ما تشاء.
قال تعالى: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118].
ولم يقل عيسى هنا: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم وهذا مرده إلى أن الموقف موقف عظمة وخطب جليل، ولا يريد عيسى أن يظهر بمظهر من يملي على ربه ما يفعل، ولذلك قال بما يناسب واقع الحال: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] بمعنى: أنك لو غفرت غفرت وأنت قادر على أن تعذب، ولكن لحكمة لم تعذبهم، وإلا فليس عفو الله عمن يعفو عنه لضعف أو عجز كما يفعل بعض أهل الدنيا، كمدير ضعيف شخصية يتأخر عنده المدرس في الحضور وله قرابات وشفاعات، فيقول: هذه المرة لن نكتب تأخرك ولن نعاقبك، فهذا عفو ولكنه ناجم عن ضعف، وأما عفو الله جل وعلا عمن يعفو عنه فناتج عن عزة وقدرة، وإلا فإن الله قادر على أن يعذبهم، ولذلك قال عيسى: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118].
وهذه الآية ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة يرددها، وثبت عند مسلم وغيره من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله جل وعلا عن إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [إبراهيم:36] ، وقول الله في هذه الآية عن عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] ، ثم بكى صلى الله عليه وسلم، فلما بكى جاءه جبرائيل بعد أن بعثه الله وقال له: سل محمداً علام يبكي؟ والله أعلم بذلك، فجاءه جبرائيل فسأله فقال: أمتي أمتي. فقال الله جل وعلا: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)، ولهذا قال العلماء: إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة مرحومة، أخذاً من هذا الحديث، فالله جل وعلا وعد نبيه أنه لن يسوءه في أمته، والله جل وعلا لا يخلف الميعاد، والنبي صلى الله عليه وسلم يسوؤه ألا ترحم أمته، والله قد وعده ألا يسوءه.
وينتهي الموقف بقول الله تبارك وتعالى: قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119] أي: صدقوا في النيات، وصدقوا في الأقوال، وصدقوا في الأعمال، فكان صدقهم نافعاً لهم بين يدي ربهم، والجزاء من جنس العمل، قال تعالى: هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60] ، فلما صدقوا مع الله قال الله جل وعلا عنهم: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ [القمر:55].
قال الله تعالى: قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119] فهذه أتم نعمة، ولا توجد نعمة بعد رؤية وجه الله أعظم من رضوان الله، وهي آخر ما يعطاه أهل الجنة، بلغنا الله وإياكم رضوانه.
ثم ختم الله جل وعلا السورة كلها بقوله: لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120]، وتقديم الخبر نوع من أنواع الحصر، والمعنى: أن الله جل وعلا المالك وحده لما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما فيهما، وهو تبارك وتعالى على كل شيء قادر، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، يقدم من يشاء بفضله، ويؤخر من يشاء بعدله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله.
هذا ما تيسر إيراده من سورة المائدة، فلله الحمد على توفيقه وإحسانه، ونسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما قلنا، والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر