إخوة الإيمان! حملة التوحيد! رواد العقيدة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نعم!عنوان هذه المحاضرة: (الدعاة والورقة الرابحة) وقبل أن أبدأ؛ أشكر المولى على أن جمعني بهذا الجمع المبارك الكريم، وأسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يتمم هذا الاجتماع بكم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأشكر الزميلين الفاضلين: فضيلة الدكتور/ إبراهيم الهويمل، وفضيلة الشيخ/ أحمد الباتلي، وأتوجه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى من هذا المنبر الكريم أن يحفظ إمام السنة، وعالم الأمة في هذا العصر؛ سماحة الوالد الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وله مناسبة ولسماحته مقام في هذه المحاضرة؛ إذ خطابه الذي وجهه إلى الأمة هو الورقة الرابحة للدعاة إلى الله على بصيرة.
ائذنوا لي قبل أن أبدأ بالمحاضرة أن ألقي على مسامعكم مقطوعة بعنوان: (أسماحة الشيخ).
أسماحة الشيخ الجليل تحية تهدى إليك وأنت فيض خطابي |
براقة كجلال وجهك يا أبي محفوفة بالأهل والأصحاب |
أنا إن مدحتك صرت أمدح مهجتي فرضيت تلويحاً عن الإعراب |
يا بن الثمانين التي أفنيتها في العلم والأخلاق والآداب |
يا بن الثمانين التي أهديتها لله بين هداية وصواب |
يا بن الثمانين التي أمهرتها للمجد لا لملذة وكعاب |
أنت الصدوق إذا تلعثم كاذب برقاعة الأسمال والأثواب |
أنت الوفي إذا تعثر خائن وأتاك بالأحفاد والنواب |
لله درك لم تزل متوقداً كالفجر في إقدامه الوثاب |
حلفت قلوب الناس إنك صادق نسب المحبة أعظم الأنساب |
يا عالم الإسلام كل معلم تلميذكم في هذه الأحقاب |
بالله يا محبوب أي فضيلة خلفتها للصيد والأحباب |
أسرج فديتك خير جيل محمد من طنجة الفيحا إلى البنجاب |
عرضي لعرضك من سفيه فدية سود العيون تصان بالأهداب |
ودمي على مسعاك سال منادياً شاهت وجوه الزمرة الأذناب |
أهل الحداثة والتفرنج والخنا هم زعزعوا الإسلام بالأطناب |
مردوا على الكفر العظيم وظاهروا أسيادهم بالفكر والأسباب |
ورووا خطابك يا كريم فحرفوا ألفاظه أشباه أهل كتاب |
حملوه من مرض النفوس محاملاً مغلوطة في الحضر والأعراب |
وتقصدوا أعراضنا بخناجر مسمومة من صنع ذاك الغاب |
ورموا حمانا بالتطرف ويلهم من زمرة الأوثان والأنصاب |
يا رب فاقبلنا حماة عقيدة نرجوك في الأخرى عظيم ثواب |
أيها الكرام البررة! يا تلاميذ المدرسة الربانية؛ مدرسة أهل السنة والجماعة، المدرسة الخالدة التي تستمر وتعطي وتنتج، رضيها الله عز وجل، طائفة منصورة إذا اجتمعت معصومة من الخطأ والزلل، يمثل هذه المدرسة إمامها محمد صلى الله عليه وسلم، ومن تلاميذها: أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ: محمد بن عبد الوهاب، والشيخ: عبد العزيز بن باز، وهذه المسيرة الرائدة.
وإنني من هذا المكان أدل الجيل على كتب جيدة علمها من علم! وطرحها من طرح؛ لفضيلة الشيخ الدكتور/ ناصر العقل، فلله دره! كيف أجاد في عرض مذهب ومنهج أهل السنة والجماعة بعرض عصري مع احتفاظه بروح النص، وجلالة المأخذ من الكتاب والسنة، وأنا أدعوه من هذا المكان إلى المزيد من الكتابات والأطروحات في هذا المنهج الخالد وتوضيحه؛ وإنني لألتمس إليه باسمكم -جميعاً- أن يضع كتاباً في مسائل الدعوة والعمل، والخلاف والافتراق، وما للدعاة من مكانة، وماذا يجب عليهم تحت مظلة أهل السنة والجماعة؟!
أيها الإخوة الكرام! سبق وأن ألقيت محاضرة بعنوان: (كيف يذبح الإسلام؟) وهي طريق إلى هذه المحاضرة التي هي بعنوان (الدعاة والورقة الرابحة) وسوف ألخصها في دقائق، عرض هناك كيف ذبح ديننا بسكاكين إسلامية، أي: أن الإسلام ذبح على الطريقة الإسلامية! ونحن نقول هذا مضطرين دفاعاً عن دين الله عز وجل.
ذكر الإمام الذهبي أن أحد المحدثين أتته سكرات الموت، وهذا المحدِّث طوال حياته يسمع حدثنا، حدثنا.... ويعيش معها، ويحبها، ويعشقها، ويتلذذ بها، فلمَّا سمع (حدثنا) وهو في سكرات الموت استفاق وجلس. قالوا: تجلس وأنت في سكرات الموت! قال:
سقوني وقالوا لا تغنِّ ولو سقوا جبال سليمى ما سقيت لغنَّتِ |
والبيت لـمجنون ليلى، ومعناه: أنه سقي الخمر - مجنون ليلى - فلما سكر غنى، قالوا: لا تغنِّ، الغناء حرام، قال: تسقوني الخمر ولا أغني؟!
فالدعاة مضطرون إلى أن ينفاحوا ويكافحوا، وأنتم كذلك -جزاكم الله خيراً- يوم كثرتم السواد وحضرتم، منكم من هو أفضل من المتكلم وأعلم وأتقى وأنبل وأجل، ولكن حضر ليكثر السواد، وليراغم أهل الردة والنفاق، وليحضر بكيانه ليقف في جبهة التوحيد، ولينصر مسيرة أهل السنة والجماعة؛ فحضر أولئك ليكثروا السواد، ومنكم من هو على أبواب الامتحان، لكن أتى ليرابط على الثغر في مسجد فاضل، يسمع قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام.
وانظروا الأعجوبة! إننا أبناء العرب أنا وأنت، وليست العروبة التي نتفاخر بها لكن اللغة العربية الخالدة، أنا وأنت أبناء قحطان وتغلب ومضر وربيعة ومذحج والأزد؛ أصبحنا ندرس في المساجد بأساتذة من العجم، فأصبح أساتذتنا -والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه- من باكستان وأفغانستان، وليس هذا تهويناً بهم ولا ازدراء، فإن الله يقول: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89].
وذبح الإسلام في السنة، فطعن في رواتها، وفي أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي مصداقيتها، وآخر من طعن حاكم ليبيا الخسيس الحقير معمر القذافي، وهو يعرض في مذكراته وخطبه أن السنة ليست مصدر تشريع، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام صلح لفترة بدوية قديمة ولا يصلح الآن، وكأنه المقصود بقوله عليه الصلاة والسلام في السنن: {رُبَّ شبعان ريان متكئ على أريكة يأتيه الأمر من أمري، فيقول: حسبكم ما في القرآن، ما وجدتم من حلال فأحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه، ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه} والله أعلم.
وممن طعن في السنة من الكتبة المعاصرين أبو ريه -لا أرواه الله من الحوض المورود- وقد صلمه محمد أحمد الراشد في كتاب دفاع عن أبي هريرة، ولو كان هناك كتاب يرشح لهذا القرن كان هذا الكتاب المجيد، فأثابه الله.
وذبح الإسلام بالطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم؛ في شخصه الكريم، في عصمته، في عرضه، وآخر من فعل ذلك المجرم اللعين/ سليمان رشدي.
ثم انظر إلى أهل البدعة ماذا فعلوا؟
تحركوا في خطب الجمعة باستنفار عجيب، وألقت إذاعاتهم وصحفهم، وحكموا على هذا المجرم بالإعدام غيابياً ولم يتحرك من أهل السنة أحد، والعجيب أنهم كما قال عليه الصلاة والسلام: {كل له بواك إلا
وطُعِن الإسلام في العلماء والدعاة لتسقط عدالتهم، وجاء سماحة الشيخ الوالد/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز يدافع عن الدعاة، ويصفهم أنهم من أهل السنة والجماعة، وأنا أدعو الذين لم يفهموا الخطاب أن يفهموه وأن يعيدوا قراءته، وأن يتمعنوه وأن يردوه إلى أهل العلم وأهل الاستنباط.
وطعن الإسلام في أن حول العامة إلى المعيشة فحسب، لا نصرة للإسلام؛ فيشتغل الواحد منهم بمكسبه ومطعمه من الصباح إلى المساء.
وطعن الإسلام في أن وجه الناشئة إلى المسائل الخلافية والجدل العقيم، والغرور والعجب، وعدم الوثوق بالعلماء.
ركب الرسول صلى الله عليه وسلم الحمار ورديفه معاذ، وانطلق بهم الحمار، فعثر فسقط الرسول صلى الله عليه وسلم من على الحمار، وسقط معاذ، قال: {فذكرت من نفسي أسفاً} يقول معاذ: تأسفت على سيد البشر صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس زعيماً ولا مفكراً ولا أديباً ولا عالماً، وإنما سيد البشر، وخير من خلق الله!
قال: { فذكرت من نفسي أسفاً، وقام صلى الله عليه وسلم يضحك -هكذا رواية
ولذلك توج الإمام الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (هذا الحديث في كتاب التوحيد بباب التوحيد وما يكفر من الذنوب). ثم أتى بهذا الحديث، فهي بشرى أزفها بين يديكم من محمد عليه الصلاة والسلام.
أيها الإخوة الكرام! في غضون هذا الحديث، هناك مطالبات يطالب بها الداعية إخوانه وطلابه وأحبابه في هذه الفترة الحرجة من فترات التاريخ؛ التي كثرت فيها الردود والأهواء؛ وتشعبت فيها الأفكار، وتفرقت فيها الكلمة، ما هي العصمة يا عباد الله؟
كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، والالتجاء بعد الله إلى العلماء، إلى أهل الفقه في الدين، إلى علماء أهل السنة والجماعة، ومنهم: كبار العلماء في بلادنا، فإن لهم من الحسنات ما الله به عليم، وإن أخطئوا في بعض المسائل فهم مجتهدون، وكما قال الأول:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع |
فلهم من العقيدة الصافية، ولهم من كثرة الاطلاع، ومن الفقه في الدين، ومن حب الله ورسوله ما يشفع لهم أخطاءهم التي لا يسلم منها البشر، فالرجاء الاحترام لهم، والالتفاف حولهم، وزيارتهم ومعرفة قدرهم، فإنها من الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله تعالى.
أيضاً عدم الاستقلالية بالفكر والفتوى والرأي، فإنه قد ينشأ الناشئ ويحصل على شيء قليل من العلم فيظن بنفسه الظنون، ويذهب بنفسه كل مذهب ويظن أنه بلغ رتبة الاجهاد، وحنانيك لا تطر حتى تريش، إذا أصبح للعبد ريش فليطر، ولا يستقل برأيه؛ فإن علياً -كما في البخاري - قال: [[رأي الاثنين أحب من رأي الواحد]].
وقال أهل العلم: ورأي الثلاثة أحب من رأي الاثنين.
وكان عمر رضي الله عنه إذا وقعت به معضلة جمع أهل بدر يسألهم ويستفتيهم، وفي بعض الآثار: {أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار} فالواجب على طالب العلم ألاَّ يستقل برأيه، وأن يشاور أهل العلم والفضل، وأن يعود إلى العلماء والدعاة ولا تعجبه نفسه؛ فإن العجب مهلكة، وهو من كبائر الذنوب، حتى تجد شيخ الإسلام ابن تيمية كما في المجلد العاشر والحادي عشر من الفتاوى ينبه على الكبائر التي في القلوب وتناساها الناس، نحن نتحدث الآن عن الكبائر الظاهرة، مثل: شرب الخمر والزنا والسرقة؛ ولكن هناك كبائر قد تكون أعظم من هذه الكبائر؛ كالعجب والحسد والكبر والغرور والعياذ بالله، وقد توصل العبد إلى درجة من الطاغوتية والنمرودية والتجبر على عباد الله، وعلى غمط الحق ودحره ما لا يعلمه إلا الله، حتى إنك تجد الناسك يقوم الليل ويصوم الإثنين والخميس، ويقرأ القرآن وهو يرد الحق، ويعجب برأيه، ويتفلت على أهل العلم، وينكر ويدحض الحجج.
وكان بعض السلف يرافقون ابن مسعود فالتفت إليهم، وقال: [[عودوا إلى بيوتكم، والله لو علمتم من أنا، لحثيتم التراب على رأسي]].
وكان إبراهيم النخعي إذا جلس على سارية جلس إليه اثنان، فإذا زادوا قام وتركهم، وكانوا يندسون خوف الشهرة والظهور، فنسأل الله أن يخرجنا منها مخرجاً حسناً، وأن يرزقنا وإياكم الصدق والإخلاص والتوفيق.
وإن من المطلوب في مثل هذه الفتن أن نلتم حول علمائنا وأن نستفيد منهم، وإذا كان هناك ما يوجب التنبيه نبهنا، فإنه قد يستفيد الفاضل من المفضول، فهذا هو واجب أهل السنة في وقت الفتن وتشعب الآراء والأهواء.
تشفي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم دراً غير أصداف |
فهو يوجه هذه المسيرة، وينافح ويكافح عنها ويرد عن دعاتها رد الله عن وجهه النار يوم القيامة.
قرأت أن بعض المستشرقين أراد أن يسلم وقد تعلم العربية وكان سبب إسلامه أن عرض عليه المصحف فابتدأ بسورة البقرة (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:1-2] قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
قال له أحد الناس: ولم؟
قال: كل كاتب إذا كتب كتابه، بدأ في المقدمة يعتذر من النقص والتقصير إلا الله، فإنه بدأ متحدياً أن يوجد في كتابه نقص أو تقصير!!
انظر إلى الكتبة! انظر إلى رسائل الماجستير والدكتوراه وكل كاتب في أي علم يقول: معذرة، وإن أتى سهو أو خطأ فمن نفسي، والشيطان، ومن وجد عيباً فليصلحه أو يتصل بي، لكن الله عز وجل يقول: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:1-2] يقول: ليس فيه شك ولا نقص ولا تقصير ولا تردد ولا ريبة، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن كتابه: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82].
آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جمال العتق والقدم |
أتى على سفر التوراة فانهدمت فلم يفدها زمان السبق والقدم |
ولم تقم منه للإنجيل قائمة كأنه الطيف زار الجفن في الحلم |
لا إله إلا الله! سبحان من أنزله وأحكمه! فـأهل السنة يؤمنون بهذا الدليل أنه وحي إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] ورسوله عليه الصلاة والسلام هو الذي قال: {ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه} قال تعالى فيه: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:4-5].
فمدرستنا مدرسة أهل السنة والجماعة ليس فيها معصوم غير الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى تجد بعض الناس يبالغ في حب بعض المنظرين، أو الدعاة المشهورين أو العلماء، حتى يصير كلامهم صحيحاً لا يقبل الخطأ، وكلام غيرهم خطأ لا يقبل التصحيح، وهذا خطأ.
وأنتم تعرفون فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية حين سئل عمن قال: إنه يجب أن يتبع إمام من الأئمة ولا يخالف قوله؟
قال: يستتاب من قال هذا القول؛ فإن تاب وإلا قتل.
وكان الإمام أحمد -كما روي عنه في السير- يقول: خذ من حيث أخذ مالك والثوري وابن المبارك ومقصوده: من بلغ درجة الاجتهاد وأصبح لديه الملكة والآلة وقال ابن عبد البر: "أجمع أهل العلم على أن المقلد ليس من أهل العلم".
ومقصودي أيها الإخوة الكرام! أن ميزة مدرسة أهل السنة والجماعة أنها تتبع الدليل؛ وهو قول الله وقول رسوله الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول أحد الفضلاء في بعض كتبه: على طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل من المعصوم عليه الصلاة والسلام، فالعلم إنما هو مسألة محققة بدليلها، والدليل مطلوب حتى نبه الله عليه في القرآن، فقال: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [الأنعام:148] فالعلم: هو الدليل.
وقال سبحانه: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111] وجاء في حديث رواه ابن خيثمة ولكن في سنده نظر كما ذكره ابن حجر: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس، فقال للرجل: أترى هذه؟ قال: نعم. قال: على مثلها فاشهد} دل على ذلك قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (َ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86].
وهو أن تعتصم في كل مسألة بدليل من المعصوم عليه الصلاة والسلام ينقذك بإذن الله ويحميك، وهو البصيرة قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] قال مجاهد -: البصيرة: العلم. وصدق، فإن أصحابه عليه الصلاة والسلام لا يتعاملون بأهواء ولا عواطف ولا كلام فكري، سمعت بعض الناس في شريط أو شريطين ما يقارب ثلاث ساعات يتكلم في الدعوة ولم يأتِ بآية ولا حديث، فكلها مركزية الدعوة والمنهجية والأُطر، وهذا مجرد كلام، وإلا فالعلم آية وحديث، فهذا مَعْلَم بارز من معالم مدرسة أهل السنة والجماعة.
يقول ابن تيمية: إن الله لا يغفل عن المأمون؛ لأنه ترجم كتب الفلاسفة.
ومن يوم بزغ علينا فجر المأمون وجد علم الكلام في العقيدة الصحيحة السلفية؛ عقيدة أهل السنة والجماعة.
أُتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ كما في السنن من حديث معاوية بن الحكم السلمي بجارية، فقال لها: {أين الله؟ فأشارت إلى السماء، فقال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة}. ما أحسن العقيدة! ما أسهل العرض!
أتاه ضمام بن ثعلبة؛ كما في الصحيحين فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الآيات البينات؛ فأخبره صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص، أنا ضمام بن ثعلبة ثم ولى، أليس هذا تيسير؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: {من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا}.
وفي مسند أحمد بسند جيد أن أبا جُريَّ الهجيمي وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم من البادية، وانظر إليه صلى الله عليه وسلم يتكلم له بحالة البادية، وببيئة البادية، وبوضعه الاجتماعي، يقول البدوي: {من أنت؟ قال صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله! قال: من أرسلك؟ قال: الله. قال: من هو الله؟}. أسئلة جادة حارة ساخنة! والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأتِ بتعريف الفلاسفة، المعقد؛ يقول ابن سينا: العقل الفعال. وغيره يقول: المؤثر، عرف الله عز وجل نفسه لموسى حين كلمه كفاحاً، فقال له: يا موسى! إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:14] وأعظم تعريف لله عند أهل السنة والجماعة أنه: لا إله إلا الله، وفي سورة محمد قال للرسول عليه الصلاة والسلام: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] أي: قبل أن تدعو، وقبل أن تعمل أو توجه أو تربي، وقبل أن ترشد: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] قال: أنت رسول من؟ قال: رسول الله. قال: من هو الله؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم يجيبه، لكن اسمع الإجابة الحارة المؤمنة الصادقة، قال: {أنا رسول من إذا أصابك قحط وأنت في الصحراء فدعوته كشف عنك، وأنا رسول من إذا ضلت عليك راحلتك وأنت في البادية فدعوته ردها عليك} فأسلم الأعرابي.
هذه عقيدة ميسرة يدعو إليها أهل السنة والجماعة، فهم يقدمون ميثاق التوحيد، ويدعون الناس إليه بصدق وإخلاص حتى يقوم الناس على منهج رباني.
فمن معالم هذه المدرسة: أنها ميسرة، قال تعالى: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:1-2] ما فيها تقعر ولا تنطع ولا تعمق، تلقي العلم بسيطاً سهلاً حتى يفهمه الناس.
ومنهجه عليه الصلاة والسلام: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7] وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157] بعث عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين.
يقول عليه الصلاة والسلام: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} وأول خطبة للصديق على المنبر: إنما أنا متبع ولست بمبتدع. فهو يخبر الناس، فيقول: أنا تلميذ، الشيخ مات، وأنا خليفته في المدرسة، فأنا متبع ولست مبتدعاً، لا أقنن لكم ولا أخترع، ولا أصنف، إنما أنا متبع للرسول عليه الصلاة والسلام.
وقد كتب عمر بن عبد العزيز كتاباً كما في سنن أبي داود في السنة أنصح بقراءته وتأمله فهو من أحسن الكتب، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية وذكره كثير من أهل العلم، وذهب عمر بن عبد العزيز إلى أبعد من ذلك، فقال: وما بعد السنة إلا التعمق والتنطع... أو كما قال.
قال ابن تيمية: بل هي قسمان. ثم ذهب بعد ثلاثة أسطر وقال: وإذا اختلطت ثياب طاهرة بنجسة صلى في كل ثوب صلاة وزاد صلاة. وهذا من الآصار والأغلال، بل يتحرى ويصلي صلاة واحدة. وما مقصودي أن أنقد الكتاب هنا، لكن مقصودي هو ألا نجعل هذه المتون كأنها من كلام المعصوم عليه الصلاة والسلام، ثم لا نهاجمها، بل نتأدب مع العلماء، وأحسن من عرض لهذه الفكر هو ابن تيمية في أول كتاب الاستقامة بعرض جيد، فأنا أنصح طلبة العلم بقراءته.
وخالفهم الخوارج فوقفوا في الطرف المقابل، وقالوا: صاحب الكبيرة كافر خارج عن الملة، وهذا خطأ.
وتوسط أهل السنة فقالوا: الإيمان يزيد وينقص، وصاحب الكبيرة فاسق بكبيرته ما لم يستحلها؛ فإن استحلها كفر، وإلا فهو مسلم، لكنه ناقص الإيمان كما ذكروا ذلك، وهذا هو الوسط.
وسط بين الرافضة والنواصب، الرافضة غالوا في آل البيت حتى ألهوا علياً رضي الله عنه وأرضاه، أتى ابن سبأ بفكرة لعينة إلحادية في عهد علي وقال: هو الإله.
فلما سمع علي رضي الله عنه ذاك؛ ضاق ذرعه وقام وأوقد النار في أخاديد، وأخذ مولاه قنبر وهو نشيط قوي وقال له: عليَّ بهم. فكان يجرهم قنبر ويضعهم في النار ويحرقهم ويقول علي:
لما رأيت الأمر أمراً منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا |
يقول: لما رأيت أن هؤلاء خرجوا عن الملة أحرقتهم.
فهذا موقف علي من الرافضة السبئية وهو موقف حازم يشكر عليه، أثابه الله عن الإسلام والمسلمين.
أيضاً النواصب وقفوا في المقابل فسبوا أهل البيت، ووقف أهل السنة وسطاً، فعرفوا حقوق أهل البيت، بمقابل الرسول عليه الصلاة والسلام: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23].
وأنت تجد كثيراً من الناس يفترضون افتراضات في أسئلتهم، وبعضهم يدخل في استشكالات واستفسارات لا تخصه، كبعض الناس يسمع أن رجلاً في الحارة طلق زوجته؛ فيذهب هو ويتبرع إلى العلماء، ويقول: رجل طلق زوجته وهو مغضب، ما حكم ذلك؟ فقيل له: أنت طلقت زوجتك؟
قال: لا.
فقيل: من؟
قال: رجل في الحارة. وما دخلك برجل في الحارة؟!
وكثير من الناس يتحمل أسئلة الناس وهمومهم!
أيضاً: من المسائل الافتراضية التي كثر فيها الرد ما يُكتب في الصحف كثيراً، وأنا رأيت اثنين ممن يعدون أنفسهم في القمة الفكرية، ويسمون النخبة المثقفة، يتكاتبون في مسألة جدة، هل هي جِدة أو جَدة أو جُدة؟!
يا أخي جِدة وإلا جَدة فهذا سواء، ولا يسألنا الله يوم القيامة عن الفتح والكسر والضم في جدة. وجازان أو جيزان وسوق عكاظ كم يبعد عن مجنة ثلاثة كيلو أو أربعة كيلو؟
فألفوا مجلداً أن سوق عكاظ ثابت في الجزيرة العربية أثابهم الله؛ لأنهم لو لم يفعلوا ذلك ظن الناس أن سوق عكاظ في الأرجنتين أو في البرازيل. وأخبرونا أيضاً أن أبرهة الأشرم قدم من جبال السروات ومر؛ لكن اختلفوا هل أتى من تهامة أو أتى من السراة.
ولا يزالون يؤلفون ويكتبون وسوف يرسمون لنا خطاً للفيل..!
يا هذا! أهلك الله الفيل وأهلك أبرهة والعبرة: أن الكفر اندحر والتوحيد انتصر، لا تشغل الأمة ولا تشغلنا، الكفرة يصنعون صاروخ أرض جو، وجو أرض، وأرض أرض، وجو جو، وأنت تخبرنا عن الفيل من أين أتى!
أيضاً مما وقع فيه كثير من الغثائيين وأنا أحترم المفسرين؛ لكن وجد في بعض كتب التفسير: أتوا إلى كلب أهل الكهف، ذكر الله في القرآن أنه كلب وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف:18] ولو كان هناك فائدة من ذكر لونه لذكره الله، قالوا: مبرقش على عينيه نقطتان حمراوان.. لله درهم!
وقال آخر: لا، بل هو أسود، وقال الثالث: خطأ بل هو أبيض. أبيض أو أسود المهم أنه كلب.
وفي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [البقرة:260] أربعة من الطير، العبرة أنه يقتل طيراً ويحييه الله تعالى وهو على كل شيء قدير.
قالوا: معناه: خذ بطاً وإوزاً -هذا في زاد المسير عودوا إليه وفي غيره من الكتب- وحماماً ودجاجاً، قال الآخر: لا. الدجاج لم يذكر وإنما هو غيره، لم يذكر الله هذه ولسنا في حديقة حيوانات، فلا نشغل الأمة بهذه المسائل.
أيضاً يوجد كتيبات عن أدنى الأرض هل غور الأردن أو جزيرة العرب؟
يا أخي! عندنا مسائل عظمى من توجيه الجيل وتربية النشء وطرد الشرك والسحر والوثنية، وإقامة الأمة على ملة سمحاء، وتحرير الإنسان من رق العبودية لغير الله.
بعثنا هداة مبشرين، ننقذ الإنسان ونخرجه من الظلمات إلى النور، هذا هو المطلوب في هذه المدرسة، فهي لا تجمح إلى الخيال.
عمر رضي الله عنه سائل: قال عمر: هل وقعت المسألة؟
قال: لا. قال: دعها حتى تقع، فإذا وقعت تجشمنا جوابها.
وذكر الدارمي بسنده: أن صبيغ بن عسل تعلم سوراً من القرآن ثم ذهب إلى الصحابة في المجالس، وفي الجيش يقول: كيف يقول الله عز وجل: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً [المرسلات:1] ويقول: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً [الذاريات:1] ويقول: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً [النازعات:1] اجمعوا لي بين هذا الكلام، وكأن الرجل يريد أن يشكك، قالوا: لا نستطيع؟ الذي يجمع لك هذا هو عمر بن الخطاب، وهو الذي سيجمع أضلاعه لا يجمع له الأقوال، فأتوا به إلى عمر، فقال عمر: عليَّ بجريد النخل؛ لأن هذا دواء لا يخرج إلا من صيدلية الفاروق، فأتوا بجريد النخل الأخضر فرشَّه بالماء، ثم أمر به، فلما رآه، قال: والله لا يحول بيني وبينه أحد فبطحه.
كل بطاح من الناس له شهم بطوح |
فضربه حتى فقد وعيه! فاستفاق الرجل، وقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد شفائي فقد برئت -والحمد لله- وإن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً.
الآن برئ وعرف السنة، وعرف المنهج الرباني، تخرج من مدرسة أهل السنة والجماعة بتقدير ممتاز!! وبعض الناس يحتاج إلى مثل هذا التأديب؛ لأن الحجة -أصلاً- لا تنفعه، حجة الله بالغة لكن لا تنفعه؛ لأن في قلبه هوى.
سبحان الله! العالم الآن يسعى إلى وفاق الدول وإخاء الإنسان، وتصبح أوروبا في دولة واحدة، وتتجمع الدول إلا هذا العالم الإسلامي كل يوم تنقسم الدولة إلى دولتين وإلى ثلاث!!
مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتضد فيها ومعتمد |
ألقاب مملكة في غير موطنها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد |
فالتبديد والتشتيت ليس من منهج الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي أنزله على رسوله، بل الجمع وتوحيد الكلمة؛ لكن على المنهج الرباني منهج أهل السنة والجماعة.
أما أن تتآخى معي وأتآخى معك، وتغض عن خطئي في العقيدة وأغض عن خطئك، وهذا لي وهذا لك فلا، ولابد من هذا المنهج؛ فمن وافقنا فهو أخونا وحبيبنا وفي مسيرتنا.
فمدرسة أهل السنة والجماعة تنهى عن الشتات، ولا يشتت ولا يفرق إلا أهل البدع، وهم خطباء فتنة، حتى تجد الآن بعض الناس من الكتبة لا يتكلم في اللين، أو في الرخاء، أو في السعة، أو في حاجات الأمة، أو ما يحتاج إليه الناس من علم الدين والدنيا، إنما يبقى في مباته الشتوي، فإذا سمع ثائرة فتنة قام يتكلم..! كما فُعِلَ بخطاب سماحة الشيخ.
بعض الناس أظنه لا يحضر صلاة الفجر مع الناس! ويوم تكلم الشيخ أتوا يُعنونون، تقول إحدى الصحف: سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز يُحذِّر الدعاة من التكفير والتبديع والتفسيق.
وهل الشيخ يتهم طلابه وتلاميذه أنهم يكفرون الناس وهي مدرسته؟!
أنا ممن سماحته أنالت وممن دربت تلك الأيادي |
وما سافرت في الآفاق إلا ومن جدواه راحلتي وزادي |
ويأتي هذا الذي لا يعرف ولا يفهم نواقض الوضوء، يخبرنا أن الشيخ يُحذِّر، وبعضهم كتب في صحيفة الندوة يقول: وأنا كنت منذ زمن أعترض على هؤلاء وأحذر منهم حتى وافقني سماحة الشيخ.
ومن أنت حتى يوافقك سماحة الشيخ؟! أنت يوافقك سماحة الشيخ؟! [[رأى
ذهبوا يرون المدح ذكراً ثانياً ومضوا يعدون الثناء خلودا |
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا |
فهذه ربانية المدرسة، ولذلك لا نحتاج إلى أفكار أخرى ترد علينا، قال الشاعر:
وما استعرت تعاليماً ملفقة من صرح واشنطن أو رأس شيطان |
وما مددت يدي إلا لخالقها وما نصبت لغير الحق ميزاني |
أما أهل السنة والجماعة فمنهجهم واحد، تلقاه اليوم وبعد سنة؛ لأنه يحمل قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود:88] لا يسعى إلى مطمع دنيوي إنما يسعى إلى إقامة شريعة الله، وإلى تصحيح عقائد الناس، وإلى توضيح المنهج الرباني، وإلى النهي عن الشرك والخرافات والخزعبلات، وإلى رد الناس إلى الصراط المستقيم.. هذا هو الملخص؛ فلذلك لا يكذبون، ولا يحتاجون إلى الكذب، وأعرف أن بعض الناس يسأل، وقد سأل بعضهم يقول: أخي يتخلف عن صلاة الجماعة فاختلقت عليه قصة عله أن يصلي في المسجد، فقلت له: رأيت في المنام أنك تعذب فسألتك لماذا تعذب؟
فقلت لي: إني لا أصلي في المسجد، فهل يجوز أن أقول مثل هذا أو أختلق أحلاماً وهي لم تقع حتى أخيف أهلي وحتى يعودوا إلى الله؟
والجواب: لا، لا يدعى إلى الله بحرام، وسبل الله وإقامة الحجة أوضح بكثير من هذه الطرق الملتوية، والغاية لا تبرر الوسيلة، فحجة الله بالغة، أقم عليه الحجة، حذره وأنذره، أما أن تكذب لتدعوه إلى صلاح فلا يجوز لك هذا، وفي كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم غنية عن الكذب، فهم لا يكذبون، بخلاف أهل الأهواء فهم أكذب الناس، يختلقون الأفاعيل، وبعضهم يقسم حتى على المصحف ولا عليه؛ لأن الإيمان انتزع من قلبه انتزاعاً.
يقول ابن القيم في أعلام الموقعين: والصحابة -بحمد الله- لم يختلفوا في مسألة عقدية أبداً.
فالعلماء لهم أعذار إذا اختلفوا في الفرعيات منها:
أن يبلغك الحديث ولا يبلغني، ويكون عندك صحيحاً وعندي ضعيفاً، أو عندي ثابت وعندك منسوخ، أو أفهم فيه غير ما تفهم أنت.. هذه أعذار فلا نشنع على أهل العلم أنهم اختلفوا فيما يسع فيه الخلاف، ولذلك تجد بعض العامة يتشدق على العلماء يقول: هذا يحرم التصوير الفوتوغرافي وهذا يحلله؛ هذه فوضى. لا، هم اجتهدوا وأرادوا الخير والرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وقد ذكر الله الفكر والذكر في آية واحدة، والفكر تفرد به الفلاسفة ففكروا في غير النصوص، والذكر تفرد به الصوفية فذكروا الله بغير الذكر الشرعي، فأخبر الله في القرآن بالفكر الشرعي لـأهل السنة والجماعة وبالذكر الشرعي لـأهل السنة والجماعة فقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191].
ومن معالم هذه المدرسة: أنها تقول الحق لا تخشى في الله لومة لائم، قال تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب:39] فهي تبلغ بقوة؛ لأنها تحمل الميثاق ولا ترهب إلا من الله، ولا يجمع أهل السنة والجماعة على السكوت على منكر أو باطل فقد عصمهم الله، كما سوف يأتي ذكر ذلك؛ لكن المقصد أنهم يحملون ميثاقاً ويبلغونه الناس وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160] فـأهل السنة والجماعة يبينون، وانظر إلى أعظم البيان فيما فعله الإمام أحمد في فتنة القول بخلق القرآن، قامت الدولة والجيش والسلطة والعامة في كفة وقام أحمد بن حنبل في كفة وحده:
كأنه وهو فرد من جلالته في موكب حين تلقاه وفي حشم |
واستمر يدافع ويبين الحجة حتى نصره الله.
وهذا ابن تيمية قامت المحسوبية والكيان الموجود في عصره في كفة؛ فقام وحده يعارض في كفة أخرى، وتعرض للحبس والجلد، وتعرض لأنواع الإساءة والإدانة ومع ذلك ثبت منهجه، وكلكم يسمع بـابن تيمية ويعرف كتبه، ولكن الذين عذبوا ابن تيمية وسجنوه وآذوه، لا نعرف أسماءهم وليس لهم عندنا مكانة، قال تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17].
في مؤتمر مدريد يسافر شامير إلى القدس حتى يحضر اليوم المقدس عندهم يوم السبت، وكثير من الوفود لا يصلون صلاة الجمعة، ويقولون: أتينا نمثل المسلمين!!
انظر إلى هؤلاء النصارى كيف يذهبون إلى المؤسسات والمستشفيات والشركات ليبثوا سمومهم للناس؛ حتى يحرفونهم عن الدين الصحيح إلى الدين المنحرف؛ أفلا يكون للمؤمن غيرة؟
ألا يكون له حماس؟
ألا يكون له توقد إيماني؟
ألا يكون له إبداع في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ على قواعد أهل السنة والجماعة وأدبهم وحكمتهم وضوابطهم؟
ثم يذكر لك صورة أخرى أن واعظ الشافعية قام ليعظ الناس فقام عليه الحنابلة فبطحوه أرضاً وضربوه، أهذه صورة تقدم؟! لأنه حنفي وأنا مالكي وهو شافعي وأنا حنبلي!!
لابد أن نعرف أن هؤلاء المجتهدين يريدون الحق -أقصد أهل المذاهب- لكن أن نجعل بين الأمة قواسم مذهبية فهذا خطأ خطير، والواجب على أهل السنة والجماعة -الآن- أن يسعوا إلى إنزال هذه اللّافتات والشعارات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإلى توحيد الكلمة وجمع الصف.
برمجة العبد في مسار ضيق وفي دائرة محدودة حتى يحب ويوالي من هذه النظرة الصغيرة الضيقة فلا يفهم إلا بهذا المنظار، ولا يقرأ إلا بهذا المنظار، ولا يسمع إلا في هذا المنظار، ولا يحب إلا من وافقه في هذا المسار ويكره من خالفه ولو كان فاضلاً!!
هذه ليست من الإسلام، وليس في القرآن إلا حزبان: حزب الله عز وجل وحزب الشيطان، فاجعل نفسك مع حزب الله عز وجل؛ فكل من والى في الله وقام بفرائض الله، وانتهى عن المحرمات التي حرم الله فهو أخوك، أما تمزيق الأمة إلى حزبيات ضيقة مغلقة متخلفة فهذه لا يريدها الإسلام وهي مدانة بحكم الشرع.
يقول ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه وهو يسأل عن مسألة فأفتى فيها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: لكن أبا بكر وعمر قالا: كذا وكذا.
قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول: قال الله وقال رسوله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!! وهما هذان الشيخان الجليلان العظيمان، فكيف بغيرهم من الناس؟.
وهذه المدرسة تدعو إلى جمع الكلمة ونبذ الفرقة كما ذكرت سالفاً، وإلى مناصحة من ولاَّه الله الأمر بالحكمة والكلمة اللينة، فإن هذه فريضة على الرعية للراعي، والدعاء له بالصلاح في ظهر الغيب.
وهي مدرسة ليس عندها معصوم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، بعض الناس عندهم اثنا عشر معصوماً، أما نحن فليس عندنا إلا معصوم واحد، حتى لا يؤخذ كلام العلماء على أنه مسلم، بل يحتاج إلى عرض على الكتاب والسنة؛ ولذلك يقول بعض العلماء: كل يحتج لقوله إلا الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يحتج بقوله. فـمالك وأحمد والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم يحتاج قوله أن يحتج له بقول المعصوم عليه الصلاة والسلام أو بقول الله تبارك وتعالى.
أما كلمة ابن تيمية في مختصر الفتاوي: الإجماع حجة قاطعة والاختلاف رحمة واسعة. فيقصد في الفرعيات، وبعض العلماء له ملاحظة على هذه الكلمة، وعموماً نجري على ابن تيمية القاعدة الأولى أنه ليس معصوماً، وأن علينا أن نحتج لقوله ولا نحتج بقوله، فيحتاج إلى حجة إلا إذا وافق الدليل.
ويرى ابن عبد البر أن من حمل العلم فهو عدل، العدل عندنا من حمل العلم، ولذلك لا يقبل فيه الجرح إلا مفسراً، فحمل طالب العلم للعلم يزكيه، ويعدله ويعتبر مقبولاً عند أهل السنة والجماعة، وهذا رأي لـابن عبد البر ووافقه بعض أهل العلم وخالفه آخرون.
وذكر الله علماء بني إسرائيل، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في موطن آخر: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63] فهناك من العلماء أشرار ومردة وخونة، والعلماء هنا بررة مخلصون صادقون، أقل وأضعف عالم عندنا أنه يحب الله ورسوله، وأنه -إن شاء الله- لا يمكن أن يرضى في دماء الأمة المعصومة ولا في أعراضها، ولا في سمعتها أو منهجها، ولكنهم ليسوا بمعصومين.
ونرى الدعوة لهم وجمع الشمل ومناصحتهم، ولا نعتبر أن مناصحة ولاة الأمر فتنة، ولا نرى أنه من سوء نية، لكنه من حسن نية، ومما أعطى الله أهل العلم من الميثاق، ورزقهم من البصيرة، أن يناصحوا بالحكمة، والتي هي أحسن، واللين حتى يصلح حال الأمة.
.
والملاحظ في بعض الملتزمين من المقصرين من أمثالنا: أن الواحد منهم إذا التزم، لا يزال يستمر في صحبة كثير من الأشرار والمنحرفين عن السنة، ممن يستمعون الغناء -مثلاً- أو يتخلف عن الصلوات، أو يتمرد على السنة، تجده أكيله وشريبه دون أن يدعوه، فإذا قلت له: لماذا لا تنفصل؟
أو لماذا لا يكون لك انفصال عنه وهجر حتى يعود؟
قال: أنا أرتاح له، فدل على أنه لا يحمل الولاء والبراء.
أيضاً: وجد ثلم في الولاء والبراء في بعض الشركات والمؤسسات، أن يستقدم النصراني واليهودي والبوذي والسيخ، فتجدهم يؤاكلون ويشاربون ويلاطفون، ويزارون ويحترمون.. وهذا نقض للولاء والبراء.
كتب أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه وأرضاه- كتاباً إلى عمر يستشيره في كاتب عنده هل يستكتبه، فقال عمر: [[ لا. فقال: إنه فطن يا أمير المؤمنين! قال
فهذه المدرسة تعنى بالظاهر أن يكون سلوكك ومظهرك وشخصيتك على السنة، وتعنى بالباطن فتجرد الروح من الذنوب والخطايا؛ من الكبر والحقد، والحسد والغل، والعجب والغرور ونحو ذلك، هذه هي المدرسة الربانية الرائدة التي تعتني بالظاهر والباطن، وبعض المناهج يعتنون بالباطن أكثر من الظاهر وبعضهم بالعكس، فيخالفون السنة في هذا وهذا والكمال جمع الأمرين.
والمدرسة هذه توقر الصحابة وتحترمهم وتكف عما شجر بينهم، ورد بين الصحابة خلاف، وسئل عامر الشعبي عن أهل صفين، فقال: ما لهم؟
تقاتلوا ولم يفر بعضهم من بعض؛ لأن علياً رضي الله عنه لقي معاوية رضي الله عنه بمائة ألف ومعاوية لقيه بمائة ألف فاقتتلوا في صفين.
قال عامر الشعبي لما سئل عن جيش علي ومعاوية قال: أهل الجنة التقوا فاستحى بعضهم أن يفر من بعض. وقال عمر بن عبد العزيز وقد سئل عن تلك الفتن والدماء قال: دماء سلم الله منها سيوفنا فلماذا لا نسلم منها ألسنتنا؟
وهذا هو الواجب على المؤمن، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
وإذا رأيت الإنسان يبحث عن ذنوب الصحابة، ويضخم خطاياهم، ويبحث عن الإشكالات والفتن التي حدثت، فاتهمه على الإسلام، واعرف أن في قلبه مرضاً أو هوى -والعياذ بالله- فهم يكفون ويقولون: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134] ونعلم أنهم أفضل منا، وأن عندهم أعمالاً صالحة كالجبال، وكما قال صلى الله عليه وسلم: {ولو أنفق أحدكم مثل أحد ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه}.
سبحان الله!! أتباع دين محمد يفهمون الدين بالمقلوب! الذين قرأوا المنهج الرباني، وتبحروا في علم الكتاب والسنة يفهمون الدين بالمقلوب! فمن إذاً يفهم الدين فهماً صحيحاً راشداً؟!
من هو إذاً الذي يقود الأمة ويوجهها؟ ويخرجها من الظلمات إلى النور؟
من يرفع علم التوحيد إلا علماء الأمة ودعاتها، ولكنَّ مقصدهم من ذلك -وهم يعرفون أنهم جهلة بهذا الشرع- أن يبطلوا ثقة الناس بالعلم والدعاة والعلماء.
أيها الإخوة! هذه نصيحة أقولها سراً ولا تخبروا بها أحداً!! والمجالس بالأمانات وليكن كلامنا بيننا أثابكم الله: على طالب العلم والداعية أن يكسب ثقة الناس؛ فإذا كسب ثقة الناس فقد كسب الحب والرشد والقبول، ويُكسب ذلك بالعمل وبالعلم، وباتباع مدرسة أهل السنة والجماعة، واحترام أهل العلم، وجمع الكلمة؛ فإذا حصل هذا فليقل ما شاء.
ويستطيع ذلك حين لا يكون فظاً غليظاً، فإنه إذا كان فظاً غليظاً لا يرافقه أحد، قال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] قال ابن المبارك:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا عفاف وحياء وكرم |
قوله للشيء لا إن قلت لا وإذا قلت نعم قال نعم |
الموافقة في الخير، واللين، وهي مدرسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، هل رأيت ألطف منه عبارة؟! هل سمعت أحسن منه إشارة؟! هل سمعت أنه قدح أو نال أو جرح؟
لا.. هو على الباطل سيف مصلت، لكن مع إخوانه وطلابه، ومع الدعاة هو المدرسة الربانية، والتوجيه والرشد، واللطافة والحكمة والهدوء؛ تتمثل في هذه المدرسة التي هو إمامها، أثابه الله وحفظه ذخراً للإسلام والمسلمين.
ومنهم من يصرفها لكن في غير مصارفها الصحيحة الشرعية، فقد تجده يصرفها في مصارف قد تصل إلى بعض الكفرة بأنواعهم كالنصارى والبوذيين، أو في مشاريع ليست من مصارف الزكاة الثمانية، إلى غير ذلك من الوجوه.
فالواجب أن تصرف في مصرفها الشرعي الذي أمر به صلى الله عليه وسلم، ودل عليه القرآن.
تصوروا أن بعض العمال يتقاضى راتباً لا يبلغ الثلاثمائة ريال، وتصوروا أن العشرة إلى أكثر يجمعون في غرفة واحدة ويعاملونهم كالحيوانات!
تصوروا أن الواحد منهم يأخذ عرق هذا وجوعه، وكده وتعبه مالاً في دخله، ويأكل من دخل هذا العامل الضعيف؛ الذي يكدح على عشرة أطفال في بلاده.
وتصوروا أن بعضهم يؤخر الراتب عن هذا العامل أشهراً طويلة حتى يشكوه، ثم يقيم هذا الحجة عليه، ويتكلم عليه، ويدمغه بالبرهان، وبذاك من ضعف الغربة، وضعف اللهجة مابه، حتى يأخذ حقه عليه..!
ثم نقول بعد هذا كله: لِمَ لَمْ ينـزل القطر من السماء؟!
إنها ذنوب تراكمت فتأخر عنا الغيث، ولكننا لا نزال نطمع في رحمة الله عز وجل.
هذه أفكار أردت أن أطرحها هذه الليلة بين أيديكم، وأسأل الله أن يحفظنا وإياكم بحفظه، وأن يتولانا وإياكم في الدارين.
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني |
بـالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـالرقمتين وبـالفسطاط جيراني |
وفي ربى مكة تاريخ ملحمة على ثراها بنينا العالم الفاني |
دفنت في طيبة روحي ويا ولهي في روضة المصطفى عمري ورضواني |
النيل مائي ومن عمَّان تذكرتي وفي الجزائر آمالي وتطوان |
دمي تصبب في كابول منسكباً ودمعتي سفحت في سفح لبنان |
فأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني |
والوحي مدرستي الكبرى وغار حرا ميلاد فجري وتوحيدي وإيماني |
وثيقتي كتبت في اللوح وانهمرت آياتها فاسألوا يا قوم قرآني |
جبريل يغدو على قومي بأجنحة من دوحة الطهر في نجواه عرفاني |
بدر أنا وسيوف الله راعفة كم حطمت من عنيد مارد جاني |
كتبت تاريخ أيامي مرتلةً في القادسية لا تاريخ شروان |
وما استعرت تعاليماً ملفقةً من صرح واشنطن أو رأس شيطان |
وما سجدت لغير الله في دعة وما دعوت مع معبودنا ثاني |
وما مددت يدي إلا لخالقها وما نصبت لغير الحق ميزاني |
فقبلتي الكعبة الغراء يعشقها روحي وأنوارها في عمق أجفاني |
وليس لي مطلب غير الذي سجدت لوجهه كائنات الإنس والجان |
لا أجمع المال مالي كل أمنية طموحة تصطلي بركان وجداني |
وكل فدم جبان لا يصاحبني على الشجاعة هذا الدين رباني |
ليت المنايا تناجيني لأخبرها أن المنايا أنا لا لونها القاني |
ليرم بي كل هول في مخالبه ما ضرني وعيون الله ترعاني |
ممزق الثوب كاسي العرض ملتهباً أنعى المخاطر في الدنيا وتنعاني |
مريض جسم صحيح الروح في خلدي حب لأحمد من نجواه عرفاني |
بلال صوتي هتاف كله حسن أذانه في المعالي رجع آذاني |
وعزم عمار في دنيا فتوته أسقي شبابي به من نهره الداني |
عصا الكليم بكفي كي أهش بها على تلاميذ فرعون وهامان |
ونار نمرود أطفئها بغادية من الخليل فلا النيران تصلاني |
في حسن يوسف تاريخي وملحمتي من صنع خالد لا من صنع ريجان |
داود ينسج درعي والوغى حمم لا يخلع الدرع إلا كف أكفاني |
دعني ألقن قوماً ما لهم همم إلا على العزف من دان ومن دان |
قوم مخازنهم نهب ومطعمهم سلب وموكبهم من صف فئران |
هم في الرؤى نقطة سوداء إن لمعوا يا للرجال وهذا العالم الداني |
يا جيل يا كل شهم يا أخا ثقة يا بن العقيدة من سعد وسلمان |
يا طارق يا صلاح الدين يـابن جلا يا عين جالوت يا يرموك فرقان |
يا بائع الأنفس الشماء في شهب من الرماح على دنيا سجستان |
يا من بنوا المجد من أغلى جماجمهم في شقحب النصر أو في أرض أفغان |
يا من سقوا دوحة الإسلام من دمهم من كل أروع يوم الروع ظمآن |
يا صوت عكرمة المبحوح يقطعه قصف العوالي من سمر ومران |
هيا إلى الله بيعوا كل ثانية فصوت رضوان ناداكم وناداني |
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر