وأوضح الشيخ مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم وثباته وشجاعته في الحروب وأدبه مع الأسرى, وإكرامه وتأليفه لوجهاء القبائل الذين يرجى منهم الإسلام، ثم ختم حديثه بدروس مستفادة من هذه الغزوة.
أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ومع يوم من أيام الله الخالدة التي جعلها لرسوله عليه الصلاة والسلام، ومع الإمام محمد بن إسماعيل البخاري وهو ينتقل بنا في صحيحه إلى غزوة من غزوات المصطفى صلى الله عليه وسلم, ينتقل بنا من المدينة المنورة إلى وادي حنين في تهامة بين الطائف ومكة , لينقل لنا مشهداً تاريخياً من المعركة العالمية التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه, وشارك فيها أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار, والتي ذكرها الله في كتابه في سورة التوبة فقال: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:25-27].
فاجتمع الأنصار وقالوا: غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً وسيوفنا تقطر من دمائهم أفلا يعطينا؟!
فسمع عليه الصلاة والسلام ذلك, فجمعهم في حظيرة -وفي رواية الزهري في قبة من أدم- ثم أشرف عليهم وقال: يا معشر الأنصار, ما قالة بلغتني عنكم؟
قالوا: هو ما سمعت يا رسول الله، أما رؤساؤنا وفقهاؤنا فلم يقولوا شيئاً, وأما شبابنا فقالوا: غفر الله لرسول الله, يعطي قريشاً من المال ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقام عليه الصلاة والسلام خطيباً.
فقال: يا أيها الناس, صدقتموني وقد كذبني الناس، وآويتموني وقد طردني الناس، ونصرتموني وقد خذلني الناس.
فقالوا: لله المنة ولرسوله، فرفع صوته.
فقال: ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ قالوا: بلى.
قال: وأتيتكم فقراء فأغناكم الله بي؟ قالوا: بلى.
قال: وأتيتكم متخاذلين فألف الله بين قلوبكم بي؟ قالوا: بلى، والمنة لله ولرسوله.
فرفع صوته وقال: يا معشر الأنصار, أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير, وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فوالله لما تذهبون به إلى رحالكم خير مما يعود به الناس، يا معشر الأنصار, أنتم الشعار والناس الدثار, والله لو سلك الناس شعباً ووادياً لسلكت شعب الأنصار وواديهم، غفر الله للأنصار، ورحم الله الأنصار، ورحم الله أبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار, فارتفع بكاؤهم وقالوا: رضينا بالله رباً وبمحمد نبياً
}.هذه الرواية جمعها البخاري وبددها وصنفها في كتابه على حسب ما رأى من إخراجه الفني في الصحيح رحمه الله رحمة واسعة.
وهذا الحديث حدث عالمي هائل، وهو من أرق الأحاديث في السيرة النبوية, وهذا الحديث من أعظم خطبه عليه الصلاة والسلام، رواه الجمع عن الجمع وتناقله الأنصار عن الأنصار, وهو أعظم حديث للأنصار رضوان الله عليهم وأرضاهم، وكانت هذه القصة في معركة حنين الخالدة التي تناقلها أهل التاريخ والسير باستفاضة, وهي معركة مذهلة ذكرها الله عز وجل في كتابه, وجعل قسماً من سورة التوبة في حدث هذه الغزوة.
فخرج بهم, وسمع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل الشجاع العربي قد جمع قبائل العرب، وتوجه يريد ملاقاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قوام جيشه اثنى عشر ألفاً كلهم من أشجع العرب, وهم أرمى العرب على الإطلاق, لا يرمي راميهم بالسهام إلا أصاب, وتوجه بهم في كتائب تتدفق كالسيول.
وبات عليه الصلاة والسلام في تلك الليلة ومعه اثنا عشر ألفاً, فيهم المؤمن الصادق الإيمان من أمثال أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي؛ الذي يقول أحدهم -من كثرة يقينه وإيمانه-: [[والذي لا إله إلا هو لو كشف الله لي الحجاب ورأيت الجنة والنار ما زاد إيماني ويقيني مثقال ذرة]] وفيهم مسلمو الفتح الذين أسلموا ترغيباً وترهيباً, وأسلموا رجاء الغنائم, ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.
ثم توقف عليه الصلاة والسلام فقال: من يحرسنا الليلة وله الجنة، فتبرع أصحابه وقاموا أمامه, وقال ابن أبي حدرد: أنا أحرسكم يا رسول الله على الشرط -أي على شرط الجنة- فصعد الجبل ومشى عليه الصلاة والسلام.
فلما اقترب الفجر قال الرسول صلى الله عليه وسلم لحارسه ابن أبي حدرد: انتبه للقوم فإنا نخاف منهم أن يباغتونا في غسق من الليل -وكان عليه الصلاة والسلام يعرف هذه الأمور والقوم من رماة العرب- وإنا نخاف إذا رمونا أن تفر منا الخيل والإبل فلا يثبت أحد.
فقال ابن أبي حدرد: لبيك وسعديك يا رسول الله، فقام في رأس الجبل, وكان مالك بن عوف النصري وقبائل العرب المقاتلة في جهة الوادي, والرسول عليه الصلاة والسلام في الجهة الأخرى, وابن أبي حدرد في رأس الجبل.
نام عليه الصلاة والسلام ونام أصحابه، فلما لمع الفجر وأذن المؤذن، قام صلى الله عليه وسلم فتوضأ وصلى ركعتي الفجر, وإذا بذاك الحارس سهر من أول الليل حتى أقبل الفجر ثم نام، وكان ذلك أمر الله: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب:38] فقام صلى الله عليه وسلم لما سمع المؤذن يؤذن في الناس للصلاة, ولما صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم, وإذا الجبل كأن أعلاه أقبل على أسفله.
قال ابن أبي حدرد: استيقظت فإذا مالك بن عوف النصري في أول كتيبة كأنها السيل الجرار شاكون في السلاح, قوامها ألف وقد وصل إلى جانبي, ووالله لا يمكنني إلا أن أرفع صوتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال مالك بن عوف النصري: احبسوهم بالنبل, وكانوا من رماة العرب, فأخذوا يرمون من رءوس الجبال بالنبل, فصارت كالغمام على رءوس الناس، فطوقت معسكره عليه الصلاة والسلام, وأحدثت ذهولاً عاماً في الناس, وأخذت الخيول والإبل تفر في كل جهة.
فقام عليه الصلاة والسلام ودعا الناس إلى المعركة وإلى أن يستقبلوا مالك بن عوف النصري؛ أما الجبل فأقبل بعضه على بعض، ونزل الاثنا عشر ألفاً من الجبل جميعاً, ووراءهم الإبل ثم البقر ثم الغنم, وبين الإبل والمقاتلة النساء والأطفال.
وقد قال دريد بن الصمة لـمالك قبل المعركة وكان حكيماً من حكماء هوازن، وقد كان رجلاً أعشى لا يبصر كثيراً, وهو شاعر مشهور قال: يا مالك! إنني أسمع بكاء الصغير ورغاء البعير وثغاء الشاة, فلماذا جمعت الناس وجمعت هذا الجيش؟ قال: إني أخاف أن يفروا إذا علموا أن أهلهم في ديارهم وأموالهم.
قال: والله ما هذا بالرأي -ويحلف باللات- لا يرد المنهزم شيء.
فأراد الناس أن ينخذلوا عن مالك بن عوف النصري , فسل سيفه وهو في الجبل, ثم قال: يا معشر العرب, إما وافقتموني هذا اليوم، وإلا اتكأت على سيفي حتى يخرج من ظهري، فقالوا: وافقناك، فكان لسان حال دريد بن الصمة:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ |
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد |
فنزلوا ووافقوا مالك بن عوف.
فانتسب إلى جده عليه الصلاة والسلام, والعرب أمة ذكية إذا رأت المعركة ورأت الجيوش تهدَّرت بالشعر.
قال أهل السير: الرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى الموقف ورأى السيوف والرماح جاد خاطره بهذا البيت ليشجع نفسه, ويقول: {أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب}
وحرام عليه أن يفر؛ لأن الله قال: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84].
ثم قال: يا عباس! يا عم رسول الله؛ إذ كان في الناس وكان معه بجانب بغلته وفي الجانب الآخر أبو سفيان بن الحارث ابن عمه من مسلمة الفتح الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكان العباس بن عبد المطلب جهوري الصوت, وكان كما يقول ابن حجر ينادي غلمانه من على سطح بيته وهم في الغابة فيسمعونه, قال: نادِ في الناس، فقال: يا معشر المهاجرين! يا معشر الأنصار! هلموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستجب أحد, لأن الخيول والإبل أخذتهم, ومسلمة الفتح أتى عليهم هذا الأمر سهلاً وطيباً؛ لأن بعضهم كان يضمر العداء للرسول عليه الصلاة والسلام, وكان منهم أبو سفيان بن حرب؛ لأنه أسلم يوم الفتح في مكة وفي نفسه ما فيها على الإسلام.
فقال لما رأى كتائب الرسول عليه الصلاة والسلام تفر: ما يردهم اليوم إلا البحر. يعني: البحر الأحمر.
ويقول صفوان بن أمية: اليوم بطل السحر. يظن أن الرسالة سحر أبطل اليوم, والرسول صلى الله عليه وسلم نادى في الأنصار؛ لأنهم بايعوه يوم العقبة على أن يحموه مما يحموا منه أولادهم وأطفالهم ونساؤهم وأموالهم, فهو يذكرهم ذاك الميثاق والعهد الذي بينه وبينهم عليه الصلاة والسلام, وهو يذكرهم ذاك العقد الذي وقعوه والذي أتى به -كما يقول ابن القيم - أتى به جبريل, وأملاه رب السماوات والأرض, والمشتري الله عز وجل, والسلعة الجنة, والثمن أرواحهم: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111].
ناد يا أهل الشجر.
قال: يا من بايع رسول الله تحت الشجرة, يا من تنزلت فيهم سورة البقرة, فلم يجب أحد، قال: ناد بني الخزرج وهم القبيلة الثانية من قبائل الأنصار, لأن الأنصار قبيلتان: الأوس والخزرج، فنادى في الخزرج فلم يجب أحد.
ثم أخذ حفنة من التراب ورمى بها وقال: {شاهت الوجوه} قال العباس: والله ما بقيت عين أحد منهم إلا وقعت فيه ذرة, فأخذت تدمع عيونهم.
فلما رأى بني الحارث أقبلوا على أقدامهم معهم السيوف فتح لهم صلى الله عليه وسلم طريقاً, فتقدموا بينه وبين الكتيبة الوسطى, كتيبة مالك بن عوف النصري، فاقتتلوا معه حتى سُمع شظايا السيوف -أي: كسار السيوف- من على رءوس الناس, فقال عليه الصلاة والسلام: {الآن حمي الوطيس}.
قال أهل العلم: هو أول من قالها من العرب, وهو مَثَلْ, وحمي أي: اشتد، والوطيس: هو التنور الذي يخبز فيه, ومعناه أن الأمر ضاق, وأنه لا يفرجه إلا رب السماوات والأرض.
فأخذ بنو حارث يقاتلون حتى تكسرت كثيراً من سيوفهم, فأخذوا يعوضون من المسلمين سيوفاً، وتوارد الناس، والتحمت الكتائب بعده صلى الله عليه وسلم, وأخذ يرد هؤلاء على أعقابهم في أعلى الجبل, فأخذوا يتأخرون، فما أُذن لصلاة الظهر إلا وقد سُلسلوا في السلاسل وقيدوا في الأسلاب.
وأخذ عليه الصلاة والسلام يقول لـابن أبي حدرد: {خذ إليك السبي} أي: النساء والأطفال, أنت يا فلان عليك بالإبل, وأنت يا فلان عليك بالغنم، وأنت يا فلان عليك بالبقر.
قال ابن كثير: فجمع صلى الله عليه وسلم من الغنائم ألوفاً مؤلفة لا يعلمها إلا الله.
وقدر ابن إسحاق الغنم بأربعة وعشرين ألف رأس، والإبل بسبعة آلاف؛ لأنهم أهل بادية وهم أكثر العرب مواشي.
وتقدم عليه الصلاة والسلام إلى كتيبة مالك بن عوف النصري وهم ألف، وردهم على أعقابهم، فأعلنوا الهزيمة, ثم فروا وتركوا نساءهم وأطفالهم وإبلهم وبقرهم وغنمهم.
فأخذ عليه الصلاة والسلام يلحق بهم هو والجيش.
قال: فخرجت معه إلى حنين والله ما كان من قصدي أن أنصره أو أقاتل معه, ولكن قصدي إذا سنحت لي فرصة أن أقتله, ومعي خنجر كخافية النسر جعلتها تحت إبطي سممتها بالسم شهراً.
ثم أخذ يلاحظ الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يقترب منه فيغتاله.
قال: فاقتربت منه فوجدت عن يمينه العباس بن عبد المطلب فخفت الرجل، قلت: عمه لن يسلمه إليّ, وسوف يقتلني في الحال، فأتيت عن يساره فوجدت ابن عمه أبا سفيان بن الحارث، فقلت: ابن عمه وسوف يقتلني في الحال، فتأخرت وراءه فأمكنتني الفرصة فتقدمت، وإذا شواظ من نار نزل من السماء, رجف له قلبي، فلم أرَ أمام بصري, فرجعت خلفي خطوتين, والله لقد كان يلتمع بصري حتى وضعت يدي على وجهي.
فالتفت إليّ صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم وقال: يا شيبة، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قلت: يا رسول الله, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
قال: اللهم اغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ثم أخذه صلى الله عليه وسلم بيده، وما ذكرها لي بقية حياته عليه الصلاة والسلام.
ثم فرَّ مالك بن عوف النصري إلى حصون الطائف، فانطلق عليه الصلاة والسلام وراءه وقال للناس: عليكم بالسبي من النساء والأطفال أكرموهم، وعليكم بالإبل والبقر والغنم احصروها، وذهب عليه الصلاة والسلام بما معه من المقاتلين ولحقهم في حصون الطائف.
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام لبيباً حليماً آتاه الله حسن الخلق: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وقال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] فعاد صلى الله عليه وسلم وأمر الناس أن يعودوا.
فيأتي حكيم بن حزام وهو سيد من سادات قريش من مسلمة الفتح وهو ليس في الإسلام كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وكان يكسو الكعبة سنة, وقريش جميعها تكسو الكعبة سنة.
فقال: تقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله! أعطني من مال الله، قال: يا حكيم: أتنظر الغنم التي بين الجبلين من غنم هوازن، قال: نعم، قال: هي لك، فأخذها، وأتى في النهار الثاني، وقال: أعطني يا رسول الله، قال: خذ مائة ناقة، وكان ذلك ليتألفه في الإسلام؛ لأنه إذا أسلم أسلم معه ألوف.
فأتى في اليوم الثالث وهو يظن أن الدعوة مفتوحة, كل يوم مائة ناقة، فقال: يا رسول الله أعطني فأعطاه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال حِلوٌ خضرٌ، وإن الله مستخلفكم فيه -شارك مسلم البخاري في هذه الرواية-فينظر ماذا تعملون فيه, فإياكم والدنيا، يا حكيم اليد العليا خير من اليد السفلى، اليد العليا هي التي تعطي واليد السفلى هي التي تأخذ، فقال حكيم: والله يا رسول الله, ما أسأل بعدك أحداً ولا أرزأ بعدك أحداً.
فكان حكيم بن حزام متعففاً من أموال الناس, يسقط سوطه وهو على الفرس، فلا يسأل أحداً من الناس أن يرفعه له, بل ينزل يأخذ السوط، حتى أتى أبو بكر فأعطاه من بيت المال فرفض، وأعطاه عمر فرفض، وقال عمر يوم الجمعة: [[يا معشر المسلمين, أشهدكم على
فلما أعطاهم العطاء, أعطى العباس بن مرداس سيد بني سليم خمسين ناقة ولم يعطه مائة, وكان العباس رجلاً شاعراً، فصنف قصيدة ورفعها للرسول صلى الله عليه وسلم، يقول فيها: كيف تعطيني خمسين ناقة وتعطي أبا سفيان مائة وتعطي الأقرع مائة, وعيينة مائة؟ يقول:
أتجعل نهبي ونهب العُبيد بين عيينة والأقرع |
وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع |
وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع |
يقول: آباؤهم ما كانوا يفوقون أبي, فكيف تفوقهم اليوم علي؟ -في قصيدة طويلة- فوصلت القصيدة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في خيمته, فقال أبو بكر -وكان حفاظة داهية نسابة يحفظ الأشعار والأخبار- قال: يا رسول الله! أتدري ماذا يقول عباس بن مرداس السلمي، قال: لا، قال: إنه يقول:
أتجعل نهبي ونهب العُبيد بين عيينة والأقرع |
وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع |
فتبسم عليه الصلاة والسلام وأخذ يقلب شيئاً في يده, والله يقول من فوق سبع سماوات: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69] وكان إذا سمع قصيدة كسر أبياتها؛ لأنه لو كان ألقاها لقال القرشيون أو أهل الوثنية: إن هذا القرآن شعر, وبالفعل قد قالوا: إنه شعر: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:5] فيقول صلى الله عليه وسلم وهو ينشد الأبيات:
أتجعل نهبي ونهب العُبيد بينالأقرع وعيينة
فكسر البيت، فتبسم أبو بكر وقال: صدق الله: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69].
فقال عليه الصلاة والسلام: كيف أقوال ساداتكم وفقهائكم؟
قال: ما قالوا فيك شيئاً يا رسول الله. هذا قول سفهائنا, وقيل: شبابنا وفتياننا.
فقال عليه الصلاة والسلام: اذهب إلى سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي (الإمام الكبير الشهيد الذي قال عنه الذهبي: الجواد الفارة) يجمع لي الأنصار.
فذهب إليه وأخبر سعد بن عبادة وجمع الأنصار في حظيرة, ثم أتى صلى الله عليه وسلم ودلف عليهم وعليه بردة, فخطبهم تلك الخطبة التي مرت, ولما انتهى صلى الله عليه وسلم وأقنع الأنصار أن الدنيا زائلة: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] وقال تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في حنين: {يا أيها الناس -وهم يطاردونه يطلبون الغنائم حتى ألجئوه إلى شجرة فنشب رداؤه في الشجرة وقال: فكوا علي ردائي- والله لو كان لي كجبال تهامة إبلاً وبقراً وغنماً لأنفقتها فيكم, ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذابًا، ثم قال: والله إني لأعطي أناساً منكم لما جعل الله في قلوبهم من الطمع والهلع، وأدع قوماً منكم لما جعل الله في قلوبهم من الإيمان والسكينة منهم عمرو بن تغلب قال عمرو بن تغلب -وهو يروي هذا الحديث وكان في حياته كلما رواه بكى-: كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها
ولما صلّى صلى الله عليه وسلم صلاة العصر وقد قسم الغنائم وأخذ أبو سفيان مائة والأقرع مائة وعيينة مائة وأخذوا يستاقونها, وإذا مالك بن عوف النصري ومعه وفد قوامه ثمانية أنفار على خيولهم الشقر, وهم يخوضون في الصحراء حتى وصلوا إليه بعد الصلاة، فوقفوا على رأسه فأنزلهم صلى الله عليه وسلم، فقام مالك بن عوف النصري سيد هوازن وكان شاعراً لبيباً خطيباً وفصيحاً، فقال: [[يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله, وأنك رسول الله, ائذن لي أن أقول أبياتاً قال:
ما إن رأيت وما سمعت بمثله في الناس كلهم كمثل محمد |
أعطى وأجزل للنوال إذا اجتدى ومتى تشأ يخبرك عما في غدِ |
وإذا الكتيبة عردت أنيابها بالسمهري وضرب كل مهندِ |
فكأنه ليث على أشباله وسط الهباءة خادر في مرصد |
فاستحسنها صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا تريد يا مالك؟ لأن قصيدته هذه مقدمة يريد منها شيئاً, يريد السبي والإبل والبقر والغنم أن تعود.
ولذلك يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[نعم الرجل يقدم أبياتاً بين يدي حاجته]] لأن هذه الأبيات فيتامين (واو) تسهل للشخص أمره, فمن تعسر عليه أمر من بعض الناس فعليه أن يدعو, وإذا لم يصادف شيئاً فعليه أن يسجل له أربعة أبيات, فسوف يلبي دعاءه إن شاء الله.
فـمالك بن عوف يعرف العرب أن سوف يستجيبون, فأتى بأربعة أبيات, فعرف صلى الله عليه وسلم أنه يريد شيئاً "إياك أعني واسمعي يا جارة" قال: يا مالك! إن أحب القول إلي أصدقه فماذا تريد؟
قال: يا رسول الله! أريد السبي وأريد المال، يقول: أريد النساء والأطفال وأريد المال, قال عليه الصلاة والسلام: اختر بين اثنتين إما السبي وإما المال.
كأنه يقول له: بعدما هزمناك وألحقنا بكم الدائرة نرد لك السبي والمال سالمة مسلمة، في شرع من هذا؟!
فسكت وقال: ما أعدل بالنساء شيئاً -يقول: كيف تخيرني بين الإبل وبين النساء؟ علي بالأطفال والنساء، فقال عليه الصلاة والسلام: ردوا عليه نساءه وأطفاله، فقال بعض العرب: والله لا نرد عليه نساءه وأطفاله -لأن بعض النساء أصبحوا سبايا- فقال صلى الله عليه وسلم: {لا ندري من طيب منكم ممن لم يطيب ولكن ارفعوا ذلك إلى عرفائكم} فبعضهم وافق وبعضهم أبى.
فقام عليه الصلاة والسلام خطيباً فيهم وذكرهم بالله وبالسماحة وبالعفو وقال: ردوا عليهم السبي والذي لا يرده منكم إلا بشيء فأنا أعوضه في أول ما يغنمنا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, فردوا له السبي من النساء ومن الأطفال.
فقاموا يأخذونها.
وأما الإبل والبقر فراحت في رحمة الله, ورجع مالك بن عوف النصري مسلماً مؤمناً ونزل عليه الصلاة والسلام معتمراً.
وبقيت أحداث من هذه القصة لأن البخاري روى أول الحديث ثم هالته قصة الحديث, فما استطاع أن يكمل الحديث, لأنه يريد الموعظة والعبرة فسكت وقال: الحديث.
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن |
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التوبة:25] قال أهل التفسير: قال أبو بكر: [[لن نغلب اليوم من قلة]] فأخبره الله عز وجل بالانهزام في أول المعركة, وأن النصر من عند الله فانهزموا، فدرس للإنسان ألا يغتر بقوته وألا يعتمد على حوله وذكائه وفطنته.
قال ابن القيم في كلام معناه: فوض الأمر إلى الله عز وجل, وأعلن عجزك, فإن أقرب العباد من الله الذين يعلنون الانكسار بين يديه.
فأقرب العباد إلى الله أشدهم انكساراً إليه، وأقربهم إلى النصر أشدهم تواضعاً لله, وكلما ذل العبد وتواضع لله رفعه الله, وكلما تكبر، قال الله: اخسأ فلن تعدو قدرك, وعزتي وجلالي لا أرفعك أبداً.
فكان هذا الدرس في العقيدة: أن القوة من عنده تبارك وتعالى, وأنه هو الذي يهدي وينصر, ويسدد فلا قوة تأتي من غيره مهما أجلبوا بخيل ورجل وقوى واتصلوا بأمور فإنها كبيت العنكبوت: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41].
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب |
يقول: كلهم ما شاء الله أخلاقاً وسماحاً وجوداً وشجاعةً لكن فيهم عيب واحد وهو يمدحهم قالوا: ما هو؟ قال: سيوفهم مثلمة من كثرة ما قاتلوا الأعداء.
فالصحابة تثلمت سيوفهم وثلموا سيوف صفوان بن أمية , فأتى يقلب السيوف وهي مثلمة فيقول: للرسول صلى الله عليه وسلم: أهذا سلاحي؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: نضمنها لك، قال: لا لقد أسلمت والإسلام خير لي لا آخذ منها شيئاً، فرزقه الله الإسلام, وهو خير من الدروع والسيوف، وقبل المعركة كان صفوان وراء الزبير بن العوام.
ويقول أحد عيون الرسول صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم ليكونوا بين مالك بن عوف النصري وقبائل الطائف , يقولون: وقفنا معهم فلما مرت كتائب الرسول عليه الصلاة والسلام، سمعنا مالك بن عوف النصري يقول: أي كتيبة هذه؟ وقد مدوا سيوفهم على آذان خيولهم- قالوا: هؤلاء بنو سليم لا يقتلون أحداً ولا يقتلون، يعني: أنهم عند العرب ليسوا بشجعان.
قال: والكتيبة الثانية -أناس مروا على الخيل سيوفهم معروضة على أكتافهم- قالوا: هذا الموت الأحمر الأوس والخزرج، قال: ومن مر، قالوا: مر خيال واحد -ذكر هذا ابن كثير - على رأسه عصابة حمراء كأنه صقر على فرسه نحيف، قال: هذا الزبير بن العوام واللات والعزى لا يفارقنكم حتى يخالطكم بسيفه.
قالوا: فلما اقترب الزبير وراء الكتيبة ووراء الشجر أقدم إليهم ثم خالطهم بسيفه, حتى عمل فيهم معركة.
وكان صفوان يقول: لما رأيت الزبير دخل في الكتيبة فررت. لأنه من أهل المداخل: أما صفوان فلا يورط نفسه في هذه الورطات، بل ينتظر حتى تأتي مائة ناقة؛ رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ .
يقول ابن تيمية: وسوف يقع في هذه الأمة ما وقع بين اليهود والنصارى لهذا الحديث؛ ولقوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113] قال ابن تيمية: "سوف تأتي طوائف وأحزاب في هذه الأمة تقول: ليست الطائفة الأخرى على شيء ونحن على الحق، وتقول الأخرى: لستم على شيء ونحن على الحق فهي السنن".
فمشابهة أهل الكتاب من أعظم ما جرنا إلى الخطر وإلى مخالفة السنة، فهي حرام بالإجماع إذا لم يكن في سنتنا مستند.
مثلاً: يقول بعض الناس: نرى بعض الخواجات يربون لحاهم، وإذا ربينا لحانا ألا يكون ذلك مشابهة لهم؟ يقول أحد العلماء: كذلك إذ دخلوا في الإسلام ألا نخرج نحن حتى نخالفهم؟! نسأل الله العافية والسلامة؛ فمعنى المخالفة أن نقف نحن على الحق الذي معنا الذي أتى به صلى الله عليه وسلم ونخالفهم فيما خالفوا فيه الإسلام, أما ما وافقوا فيه الإسلام فلا نتزحزح نحن إذا دخلوا في الإسلام أو وافقوا بعض السنن التي عندنا.
فعلى المسلمين أن يكبروا, فإن التصفيق والمكاء والتصدية من علامات الجاهلية ومن شعائر الوثنية , والله ذكر المشركين وطوافهم بالبيت فقال: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال:35] أي: صفيراً وتصفيقاً, فذم التصفيق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقال ابن مسعود: [[كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أعجبهم شيء كبروا]] وربما كبر عليه الصلاة والسلام فكبروا خلفه, ولذلك يقول: {أترضون أن تكونوا ثلث الجنة؟ قالوا: بلى، قال: ألا ترضون أن تكونوا نصف الجنة؟ قالوا: بلى، قال: فإنكم ثلثا أهل الجنة، فكبروا جميعاً}.
صفوفها عشرون بعد المائة أما ثمانون فمن ذي الأمة |
فثلثا الجنة، وفي رواية: {نصف الجنة} من أهل السنة والجماعة، فالتكبير مطلوب عند التعجب والاستغراب، أو من حدث أو كلمة حماسية، أو من بيت أو قصة, فسنتنا أن نكبر وألا نتشبه بأهل الكتاب الذين أضلهم الله على علم وطبع على قلوبهم.
وكما حرس بلال بن رباح المسلمين في غزوة من الغزوات فقال له صلى الله عليه وسلم: يا بلال! ارمق لنا فجر هذه الليلة، فقام بلال فرمق من أول الليل, فلما قرب الفجر صلى الليل ما شاء الله، ثم جلس برمحه عند الناقة، فاعتمد عليها فنام، فلما نام جاء الفجر, ثم طلعت الشمس حتى أصاب الناس حر الشمس, فاستيقظ عمر رضي الله عنه أول الناس، فاستحيا عمر أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: قم صل، ومن عمر حتى يوقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وله ذلك فإنها من المصالح والفوائد لكنه استحيا.
فأتى بجانب أذن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: الله أكبر، الله أكبر، فاستيقظ عليه الصلاة والسلام وقد استيقظ أكثر الناس وأصابهم من الخوف ما الله به عليم, تذكروا أنهم ما صلوا, وأن الشمس قد طلعت وارتفعت, فقال صلى الله عليه وسلم: لا عليكم، ثم أمرهم أن يقوموا، وقال يا بلال: أين رمقك الفجر هذه الليلة، فقال بلال: أخذ بنفسي يا رسول الله ما أخذ بأنفسكم، فتبسم عليه الصلاة والسلام.
يقول: أنتم وقعتم فيما وقعت أنا فيه, فلماذا تعاتبونني على هذا؟ فصلّى عليه الصلاة والسلام فصلوا، والشاهد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجعل حارساً من الصحابة في الغزو وفي الأسفار لفوائد:
1- أن يوقظ المصلي والموتر في الليل.
2- أن يخبر الناس بهجوم طارئ على جيشهم وعلى متاعهم وعلى أهلهم.
3- تدريب الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه على هذا العمل الجهادي الشاق.
4- أن يجعل أجوراً لأهل هذه الأعمال ليتباروا في عمل الآخرة وليتقدموا عند الله.
قال عمار بن ياسر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما أمسينا ذات ليلة، قال: من يحرسنا هذه الليلة؟ فسكتنا، فقال: ليقم رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، قال: فقمت، وقام عباد بن بشر رضي الله عنه وعن عمار , الشاب الصادق الذي قتل يوم صفين ضرب على وجهه حتى سقط لحم وجهه من كثرة السيوف, ولما رآه الصحابة قالوا: نشهد أنك عند الله من الشهداء.
فبدأ عباد بالحراسة ثم قام يصلي, فبدأ يقرأ في سورة الكهف، فأخذ الأعداء ينظرون إليه وهو حارس يقرأ في الليل, وهم لا يعرفون الصلاة ولا القراءة فأخذوا يرمونه بالسهام, وما أراد أن يقطع القراءة، فأخذ كلما انغمس السهم في جسمه يخرجه وينزله في الأرض, ويستمر في القراءة، وكلما أتى السهم الآخر أخرجه ودماؤه تنصب من جسمه, وأتى السهم الآخر ويخرجه, فلما غلبته الدماء خفف في الصلاة, وقام وزحف إلى عمار، وقال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أقتل فتفتح ثغرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ما ختمت هذه الصلاة حتى أتم سورة الكهف، فقال عمار: رحمك الله، ألا كنت أيقظتني؟! فأخبره، فقام عمار رضي الله عنه وأدركوا هذا, فأيقظوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا يوضح لنا كيفية حراسة الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام وللمسلمين.
وكان حارسه عليه الصلاة والسلام ربما حرسه عند باب بيته قبل أن ينزل الله تعالى: ((وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)) [المائدة:67] يقول أنس: رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر فلما اقتربنا من المدينة دخل صلى الله عليه وسلم بيتاً له -أي خيمة- قال: فسمعته بالليل يقول: {ليت رجلاً صالحاً يحرسنا هذه الليلة} قال: فأتى سعد بن أبي وقاص فسمع من بعض الناس أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {ليت رجلاً صالحاً يحرسنا هذه الليلة} فتوضأ سعد بن أبي وقاص ولبس سلاحه وأخذ سيفه ووقف عند باب الخيمة من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، فلما عَلِم صلى الله عليه وسلم بـسعد قال: {اللهم اغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر} فكان من الحراس الصادقين.
أفضل أيام أبي عبيدة:
قيل لـأبي عبيدة -وقد مر معنا هذا- أي يوم من أيامك أنت عند الله؟ وأي ليالٍ من لياليك أحسن عند الله؟ قال: ليلة واحدة من ليالي اليرموك، قالوا ما هي؟ قال: كنت أمير الجيش فقمت وسط الليل وقد نام الناس جميعاً، وكان ذاك اليوم مطيراً، والناس في نومة ما أحسن للمقاتل والمسافر منها، فأيقظت امرأتي وقلت: أتريدين ليلة من ليالي الجنة؟ قالت: بلى، قلت: قومي معي نحرس الناس، فقام يدور هو وامرأته في المخيم كلما رأوا إنساناً قد خرج لحافه من عليه ردوا اللحاف وألحفوه حتى أصبح الصباح، فهي من الليالي الخالدة التي يتقدم بها أبو عبيدة وكأنه ما عنده من الليالي إلا هذه الليلة، وكل لياليه لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
قال أهل العلم: للمسلم إذا كانت حاجة أن يلتفت ولكن لا يجعلها عادة, فالرسول عليه الصلاة والسلام فتح الباب وهو في الصلاة، وحمل أمامة بنت زينب في الصلاة، وتناول بعض الأمور وهو في الصلاة، والتفت هنا إلى طليعة القوم للحاجة, وهذا الحديث في سنن أبي داود بسند حسن عن سهل بن الحنظلية، قال: أرسل صلى الله عليه وسلم يوم حنين طليعة القوم، فأخذ يلتفت إليه في الصلاة وينظر إليه بين شقق الشعب أو كما قال.
وهذا ليس معناه فتح باب الرجاء له ليعمل بالمعاصي؛ لأنه يعلم صلى الله عليه وسلم أن هذا العبد أتقى لله أن يغتر بهذا الكلام, بل جعل له ضماناً وبشارة أن يدخله الله الجنة، قال: {اذهب فقد أوجبت ما عليك ما عملت بعدها} وهذا من باب قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}.
قال البخاري في كتاب العلم: باب من رفع صوته بالعلم، ثم أتى بحديث ابن عمرو: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام رفع صوته وقال: ويل للأعقاب من النار} فهنا رفع صلى الله عليه وسلم صوته ينادي في الناس، وقال للعباس: ارفع صوتك وناد في الناس، فأخذ يقول: (يا أهل سورة البقرة, يا من بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة) حتى يأتون.
فقال علي ابن عمه: إلى أين يا أبا سفيان؟ قال: يا علي قاتلنا محمداً وآذيناه وشتمناه وطردناه وأخرجناه؛ سوف أخرج بأطفالي هؤلاء وأموت جوعاً وعرياً وعطشاً في الصحراء, والله لئن قدر علي ليقطعني بالسيف إرباً إرباً.
فقال علي بن أبي طالب: أخطأت يا أبا سفيان! إنك لا تعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أحلم الناس وأكرمهم وأرحمهم، فعد إليه وسلم عليه بالنبوة، وقل له كما قال إخوة يوسف ليوسف: قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91] لأنهم إخوان وأبناء عم، فأتى أبو سفيان بأطفاله يقودهم بأيديهم, فلما وقف عند خيمة أم سلمة وكان الرسول صلى الله عليه وسلم داخل الخيمة، قال: ائذنوا لي أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: من في الباب؟ قالوا: يا رسول الله أبو سفيان بن الحارث، قال: لا يدخل علي، لأنه أساء كل الإساءة ما ترك أمراً إلا وكاد به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت أم سلمة تبكي وتقول: يا رسول الله! لا يكون ابن عمك وقريبك أشقى الناس بك، وأخذت تناشده الله عز وجل، قال: أدخلوه علي، فدخل.
فقال: السلام عليك يا رسول الله، أمَّا بَعْد: لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91] قاتلناك يا رسول الله وآذيناك وأخرجناك والله لا أدع موقفاً قاتلتك فيه إلا قاتلت فيه معك، ولا نفقة أنفقتها في حربك إلا أنفقتها معك، ثم أخذ يعدد، فرفع صلى الله عليه وسلم طرفه وعيناه تنزل الدموع، قال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92] فقال: يا رسول الله! اسمع مني، قال: قل، قال:
لعمرك إني يوم أحمل راية لتغلب خيل اللات خيل محمد |
لك المدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني يوم أهدى وأهتدي |
هداني إلى الرحمن ربي وقادني إلى الله من طردت كل مطردِ |
فقام عليه الصلاة والسلام فعانقه وضرب على صدره وقال: أنت طردتني كل مطرد، فأخذ يخدم محمداً صلى الله عليه وسلم، لا يرتحل مرتحلاً إلا قام وحزم له متاعه وشد له رحله، وأخذ ببغلته يقودها, فهو قائد البغلة يوم حنين اليوم الأكبر من أيام الله, يوم ثبت رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ونزل يقارع الأبطال وهو يقول: {أنا النبي لا كذب, أنا ابن
وفي هذا الحديث -أيضاً- جواز مقاتلة النساء عند أمر الفتنة مع الرجال في صف المسلمين, وقد أورد ابن كثير بأسانيد صحيحة: أن أم سليم قاتلت مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم حنين.
وأم سليم هي أم أنس بن مالك التي أهدت ابنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: أنس يخدمك يا رسول الله فادع الله له، فدعا له.
وأم سليم هي التي يقول عنها صلى الله عليه وسلم: {دخلت الجنة البارحة فرأيت
حضرت المعركة وكانت عندها خنجر في وسطها, فأخذ زوجها أبو طلحة يداعبها ويمازحها ويقول: ماذا تفعلين بهذا الخنجر؟ قالت: إذا تقدم مني كافر بعجت بطنه بهذا الخنجر، فسمع صلى الله عليه وسلم مقالتها فتبسم ثم دعا لها.
فأقر صلى الله عليه وسلم المرأة على أن تشارك في الحرب عند الحاجة, أما إذا كان هناك فتنة أو مغبة اختلاط، فلا ينبغي أن تشارك المرأة إلا إذا احتيج إليها، وشأن المرأة في القتال مداواة الجرحى والقيام على الأسرى وتقريب الماء والخدمات للمقاتلين.
وفي هذا الحديث: {ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين} يقول أحد المسلمين: لما التقينا يوم حنين رأيت كافراً من هوازن يفتك بالمسلمين فتكاً ويقتل فيهم قتلاً، قلت: لله علي نذر إن أمكنني الله منه أن أقتله، قال: فلما انهزموا وأصبحوا في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدموا يبايعونه على الإسلام, فتقدمت لأسبق هذا الرجل قبل أن يبايع الرسول عليه الصلاة والسلام لأقتله, فسبقني حتى وقف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام, وعلم صلى الله عليه وسلم أني نذرت, فأراد أن يترك لي الفرصة حتى أقتله.
قال: فانتظر فما فعلت، قال: فأسلم الرجل فولى.
قلت: يا رسول الله أريد قتله فإني نذرت، قال: أما رأيتني تأخرت عن قبول إسلامه؟ فلماذا لم تومئ لي يا رسول الله بعينك، قال: { ما كان لنبي أن تكون له خائنة أعين} لأن خائنة الأعين أو الغمض من شيم أهل الخيانة والخداع والمكر والنفاق, أما الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه صادق واضح مخلص لا يريد التواءً في عقيدته ولا في سيرته ولا في معاملته للناس عليه الصلاة والسلام.
وانتسب لجده لشهرته في العرب, فهذا لا يثلم في الأجر ولا ينقص في المثوبة، ولذلك يقول أحد الصحابة: التقينا مع الكفار فخرج غلام من الأنصار فرمى كافراً وقال: خذها وأنا الغلام الأنصاري, فأخبروا الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: وما عليه أن يؤجر ويحمد أي: فهو مأجور ومحمود، ولذلك كان كبار الصحابة إذا بارزوا الأبطال أنشدوا فخراً ورفعاً للمعنوية وحماساً وإبداءً للشجاعة.
قال أهل السير ومنهم ابن كثير وابن هشام، التقى مرحب مع علي فنزل مرحب يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب |
إذا الحروب أقبلت تلهب |
فنزل له علي وقال:
أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظره أكيلكم بالسيف كيل السندره |
وخرج سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه وهو لابس سلاحه في غزوة من الغزوات من يقول:
لبث قليلاً يشهد الهيجا جمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل |
وهكذا ابن رواحة أنشد في المعركة رضوان الله عليهم جميعاً، فكان شعارهم أن يتقدموا بهذا، وهي سنة عند العرب، يقول الأحنف بن قيس وقد كان يقاتل في سجستان وهو الذي فتح الطريق إلى كابل قبل الجراح بن عبد الله الحكمي، يقول:
عهد أبي حفص الذي تبقى |
أن يخضب الصعدة أو تندقا |
يتقون وهم الشجعان بالرسول صلى الله عليه وسلم من ضرب السيوف ووقع السهام وطعن الرماح, فيكون هو أقربهم إلى القوم، وما فر في المعركة ولا خطوة واحدة.
قال ابن تيمية: من عادات العرب والناس ذكر محبوبيهم وقت الأزمات؛ فأراد الله أن يخبرهم أن أحب محبوب عندهم هو الله, فليذكروه في تلك الأزمة أو الضائقة، ثم قال ابن تيمية أما سمعت قول عنترة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي |
فذكرها في تلك اللحظة، فالمؤمنون ذكَّرهم الله أن يذكروه وقت الأزمات, وأحسن الدعاء ما سر صاحبه إليه, وهو وقت الضائقة التي تحل به لأنه يخلص في الدعاء ويلتجئ إلى الحي القيوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى الكتائب قال: {اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك الذي وعدتني} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ومن المعجزات أيضاً: حماية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من القتل؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] يقول بلغ الرسالة ولا تخف من الاغتيال فإنك لن تغتال أبداً، قد تعرض عليه الصلاة والسلام لإحدى عشرة مرة محاولة اغتيال ولكنه ينجو منها بإذن الله, وعلم بأن الله يحميه، ولا يستطيع له أحد من الناس فقد عصمه الله.
ومنها: عدم فراره صلى الله عليه وسلم: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84].
ومنها: عفوه وصفحه عليه الصلاة والسلام عن شيبة بن عثمان الذي أراد اغتياله, وعن أبي سفيان , وعن مالك بن عوف النصري , فإنه عفا وصفح، ومن أعظم صفاته صلى الله عليه وسلم العفو والصفح, ولذلك ذكره الله بهذه الصفات وأثنى عليه ومدحه بهذه المنقبات والمكرمات.
ومنها: قتل دريد بن الصمة الشاعر الذي سلف في أول القصة، وكان كبيراً في السن شيخاً وقال لـمالك النصري: عد بإبلك وبقرك وغنمك، وأمر قومه أن ينزلوا بالسلاح فقط, فعصوه فانهزموا فقال:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد |
ولما فر مع الناس لحقه رجل سلمي اسمه ربيعة بن رفيع قال: فأدركته فظننته امرأة، فأنزلته من على فرسه فرأيت شيخاً يفهق من كبر السن، فضربته بالسيف.
قال: ويل لك، ما ولدتك أمك مقاتلاً، خذ هذا السيف ثم اضرب به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإني كنت كذلك أضرب الأبطال.
قال: فأخذت سيفه فلما أردت قتله، قال: إذا ذهبت فمن أنت؟
قلت: أنا ربيعة بن رفيع السلمي.
قال: أخبر أمك باسمي, أنا دريد بن الصمة فكم أعتقت لك من أم، قال: فذبحته فلما أتيت إلى أمي.
قالت: فضيحة لك بقية اليوم، أعتقني وأعتق عماتك الثلاث, وأطعمنا من جوع فقتلته.
قال: يذوق نار جهنم لأنه مشرك.
ومنها: اشتشهاد أبي عامر الأشعري في أوطاس فإنه حضر المعركة رضي الله عنه وأرضاه وضربه مشرك في ركبته بعد أن قتل تسعة من أبطال المشركين, ووقف له العاشر فضربه في ركبته فخرج منها الماء فمات، فقال لابن أخيه أبي موسى: اذهب إلى رسول صلى الله عليه وسلم وبلغه مني السلام وقل له: يدعو لي.
قال أبو موسى: فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته في غرفة ضيقة قد أثر الحصير في جنبه، فقلت: يا رسول الله! قتل عمي أبو عامر الأشعري وهو يبلغك السلام ويقول: ادع له.
فقام عليه الصلاة والسلام إلى ماء فتوضأ ثم استقبل القبلة، فقال: اللهم اغفر لعبدك أبي عامر ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم اجعله من ساكني الجنة, وارفعه على كثير ممن خلقت وفضله عليهم تفضيلاً، قال أبو موسى: فلما سمعت هذا الدعاء وقفت بجانبه صلى الله عليه وسلم فقلت: وأنا يا رسول الله، لأنها فرصة لا تتعوض.
فقال صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم رافعاً يديه إلى القبلة: واغفر لـأبي موسى وأكرم نزله ووسع مدخله. فكان الرسول والمرسل ظافرين بدعاء الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومنها: تأليف الناس بالمال: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ألف هؤلاء لا لحب فيهم ولا لإيمانهم ولا لجهادهم، لكن ليدخلوا في دين الله أفواجاً, فإنهم ما دخلوا إلا بالنوق الحمر وبالمال, فللمسلم أن يتألف بعض الناس بشيء من الهدية إذا دعاه, أو بالمال أو بالوليمة، فإن من عباد الله من لا يدخل الجنة إلا بالولائم.
قال أنس وهو يبكي وهو يقص الحديث: [[قال لنا نصبر فوالله ما صبرنا]].
وقام معاوية بن أبي سفيان يتكلم في الأنصار رضي الله عنه وأرضاه في الشام فاعترضوا عليه فسكت عنهم فما أجابهم.
فقال أحدهم: -أظنه أبا سعيد أو عبادة بن الصامت - إن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: إنا نلقى بعده أثرة, قال: فما قال لكم رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: قال لنا: اصبروا, قال معاوية: فاصبروا إذاً، قالوا: نصبر ونستعين بالله أو كما قالوا.
انتهى هذا الحدث التاريخي الذي رواه لنا الإمام البخاري فشكر الله له سعيه، وأجزل مثوبته، وتغمده الله برحمته، وجمعنا الله وإياكم كما اجتمعنا في هذا المكان في مستقر رحمته عند مليك مقتدر: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:8].
أسأل الله أن ينضر وجوهنا ووجوهكم بسماع حديثه صلى الله عليه وسلم, وأن يتحف قلوبنا بالحكمة, وأن يفقهنا في الدين, وأن يزيدنا علماً وتوفيقاً وفقهاً ورشداً وهداية.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر