إسلام ويب

يوم من أيام اللهللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحدث الشيخ -حفظه الله- عن غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وهي غزوة حنين, وذكر أسباب هذه الغزوة وما عاناه المسلمون من بداية الهزيمة، بسبب افتخارهم بقوتهم, فأدبهم الله بهذا الأدب ليعلموا أن القوة لله جميعاً وأن النصر من عنده وحده.

    وأوضح الشيخ مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم وثباته وشجاعته في الحروب وأدبه مع الأسرى, وإكرامه وتأليفه لوجهاء القبائل الذين يرجى منهم الإسلام، ثم ختم حديثه بدروس مستفادة من هذه الغزوة.

    1.   

    غزوة حنين

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    ومع يوم من أيام الله الخالدة التي جعلها لرسوله عليه الصلاة والسلام، ومع الإمام محمد بن إسماعيل البخاري وهو ينتقل بنا في صحيحه إلى غزوة من غزوات المصطفى صلى الله عليه وسلم, ينتقل بنا من المدينة المنورة إلى وادي حنين في تهامة بين الطائف ومكة , لينقل لنا مشهداً تاريخياً من المعركة العالمية التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه, وشارك فيها أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار, والتي ذكرها الله في كتابه في سورة التوبة فقال: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:25-27].

    الرسول يواسي الأنصار بعد غزوة حنين

    قال الإمام البخاري رحمه الله: (باب غزوة حنين) حدثنا محمد بن عبد الله -أي المسندي - حدثنا هشام حدثنا معمر عن الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: {أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض العرب الذين شهدوا حنيناً, كلاً منهم مائة ناقة، وترك الأنصار.

    فاجتمع الأنصار وقالوا: غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً وسيوفنا تقطر من دمائهم أفلا يعطينا؟!

    فسمع عليه الصلاة والسلام ذلك, فجمعهم في حظيرة -وفي رواية الزهري في قبة من أدم- ثم أشرف عليهم وقال: يا معشر الأنصار, ما قالة بلغتني عنكم؟

    قالوا: هو ما سمعت يا رسول الله، أما رؤساؤنا وفقهاؤنا فلم يقولوا شيئاً, وأما شبابنا فقالوا: غفر الله لرسول الله, يعطي قريشاً من المال ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقام عليه الصلاة والسلام خطيباً.

    فقال: يا أيها الناس, صدقتموني وقد كذبني الناس، وآويتموني وقد طردني الناس، ونصرتموني وقد خذلني الناس.

    فقالوا: لله المنة ولرسوله، فرفع صوته.

    فقال: ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ قالوا: بلى.

    قال: وأتيتكم فقراء فأغناكم الله بي؟ قالوا: بلى.

    قال: وأتيتكم متخاذلين فألف الله بين قلوبكم بي؟ قالوا: بلى، والمنة لله ولرسوله.

    فرفع صوته وقال: يا معشر الأنصار, أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير, وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فوالله لما تذهبون به إلى رحالكم خير مما يعود به الناس، يا معشر الأنصار, أنتم الشعار والناس الدثار, والله لو سلك الناس شعباً ووادياً لسلكت شعب الأنصار وواديهم، غفر الله للأنصار، ورحم الله الأنصار، ورحم الله أبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار, فارتفع بكاؤهم وقالوا: رضينا بالله رباً وبمحمد نبياً}.

    هذه الرواية جمعها البخاري وبددها وصنفها في كتابه على حسب ما رأى من إخراجه الفني في الصحيح رحمه الله رحمة واسعة.

    وهذا الحديث حدث عالمي هائل، وهو من أرق الأحاديث في السيرة النبوية, وهذا الحديث من أعظم خطبه عليه الصلاة والسلام، رواه الجمع عن الجمع وتناقله الأنصار عن الأنصار, وهو أعظم حديث للأنصار رضوان الله عليهم وأرضاهم، وكانت هذه القصة في معركة حنين الخالدة التي تناقلها أهل التاريخ والسير باستفاضة, وهي معركة مذهلة ذكرها الله عز وجل في كتابه, وجعل قسماً من سورة التوبة في حدث هذه الغزوة.

    أسباب غزوة حنين

    أما سببها: فإن الرسول عليه الصلاة والسلام حين فتح الله عليه مكة وانتهى منها في السنة الثامنة, سمع أن أهل الطائف اجتمعوا على مالك بن عوف النصري وهو شاب ذكي أريب شجاع, عمره يقارب الأربعين سنة، وهو من شباب العرب الشجعان، جمع قبائل هوازن التي هي قبائل الطائف ومنها: عتيبة الآن, وقبائل ثقيف وشيء من قبائل غطفان ونجد ومعهم بعض بني تميم, فجمعهم جميعاً ثم قال: أيها الناس يظن محمد أنه إذا فتح مكة -يعني رسول الهدى صلى الله عليه وسلم- أنه سوف يأتينا في الطائف , ثم حلف باللات والعزى لنقاتلنه قتالاً ما سمعت العرب بمثل هذا القتال، ثم قال: نخرج إليه ونلاقيه واخرجوا معكم بالإبل وبالبقر وبالغنم وبالنساء والأطفال, وأما النساء والأطفال فاجعلوهم صفين خلفكم, واجعلوا الإبل صفاً, والبقر صفاً, والغنم صفاً, حتى يخرج الرجل وهو يعلم أن وراءه أهله وماله فيقاتل عن أهله وماله.

    فخرج بهم, وسمع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل الشجاع العربي قد جمع قبائل العرب، وتوجه يريد ملاقاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قوام جيشه اثنى عشر ألفاً كلهم من أشجع العرب, وهم أرمى العرب على الإطلاق, لا يرمي راميهم بالسهام إلا أصاب, وتوجه بهم في كتائب تتدفق كالسيول.

    الإعداد النبوي للغزوة

    علم بذلك صلى الله عليه وسلم فقام خطيباً في الناس وأعلن الحرب على مالك بن عوف النصري , وعد كتائبه فكانت اثني عشر ألفاً من المقاتلين، فجعلهم عشر كتائب عليها عشرة قواد، ثم ذهب عليه الصلاة والسلام وتمركز في وادي حنين لأن المثل عند العرب: ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا " والرسول صلى الله عليه وسلم يخاف أن يتقدموا إلى مكة أو إلى المدينة فيصعب عليهم مقاتلتهم, فباغتهم عليه الصلاة والسلام فلاقاهم في وادي تهامة في أرض يقال لها حنين.

    وبات عليه الصلاة والسلام في تلك الليلة ومعه اثنا عشر ألفاً, فيهم المؤمن الصادق الإيمان من أمثال أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي؛ الذي يقول أحدهم -من كثرة يقينه وإيمانه-: [[والذي لا إله إلا هو لو كشف الله لي الحجاب ورأيت الجنة والنار ما زاد إيماني ويقيني مثقال ذرة]] وفيهم مسلمو الفتح الذين أسلموا ترغيباً وترهيباً, وأسلموا رجاء الغنائم, ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.

    ثم توقف عليه الصلاة والسلام فقال: من يحرسنا الليلة وله الجنة، فتبرع أصحابه وقاموا أمامه, وقال ابن أبي حدرد: أنا أحرسكم يا رسول الله على الشرط -أي على شرط الجنة- فصعد الجبل ومشى عليه الصلاة والسلام.

    فلما اقترب الفجر قال الرسول صلى الله عليه وسلم لحارسه ابن أبي حدرد: انتبه للقوم فإنا نخاف منهم أن يباغتونا في غسق من الليل -وكان عليه الصلاة والسلام يعرف هذه الأمور والقوم من رماة العرب- وإنا نخاف إذا رمونا أن تفر منا الخيل والإبل فلا يثبت أحد.

    فقال ابن أبي حدرد: لبيك وسعديك يا رسول الله، فقام في رأس الجبل, وكان مالك بن عوف النصري وقبائل العرب المقاتلة في جهة الوادي, والرسول عليه الصلاة والسلام في الجهة الأخرى, وابن أبي حدرد في رأس الجبل.

    نام عليه الصلاة والسلام ونام أصحابه، فلما لمع الفجر وأذن المؤذن، قام صلى الله عليه وسلم فتوضأ وصلى ركعتي الفجر, وإذا بذاك الحارس سهر من أول الليل حتى أقبل الفجر ثم نام، وكان ذلك أمر الله: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب:38] فقام صلى الله عليه وسلم لما سمع المؤذن يؤذن في الناس للصلاة, ولما صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم, وإذا الجبل كأن أعلاه أقبل على أسفله.

    قال ابن أبي حدرد: استيقظت فإذا مالك بن عوف النصري في أول كتيبة كأنها السيل الجرار شاكون في السلاح, قوامها ألف وقد وصل إلى جانبي, ووالله لا يمكنني إلا أن أرفع صوتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فقال مالك بن عوف النصري: احبسوهم بالنبل, وكانوا من رماة العرب, فأخذوا يرمون من رءوس الجبال بالنبل, فصارت كالغمام على رءوس الناس، فطوقت معسكره عليه الصلاة والسلام, وأحدثت ذهولاً عاماً في الناس, وأخذت الخيول والإبل تفر في كل جهة.

    فقام عليه الصلاة والسلام ودعا الناس إلى المعركة وإلى أن يستقبلوا مالك بن عوف النصري؛ أما الجبل فأقبل بعضه على بعض، ونزل الاثنا عشر ألفاً من الجبل جميعاً, ووراءهم الإبل ثم البقر ثم الغنم, وبين الإبل والمقاتلة النساء والأطفال.

    وقد قال دريد بن الصمة لـمالك قبل المعركة وكان حكيماً من حكماء هوازن، وقد كان رجلاً أعشى لا يبصر كثيراً, وهو شاعر مشهور قال: يا مالك! إنني أسمع بكاء الصغير ورغاء البعير وثغاء الشاة, فلماذا جمعت الناس وجمعت هذا الجيش؟ قال: إني أخاف أن يفروا إذا علموا أن أهلهم في ديارهم وأموالهم.

    قال: والله ما هذا بالرأي -ويحلف باللات- لا يرد المنهزم شيء.

    فأراد الناس أن ينخذلوا عن مالك بن عوف النصري , فسل سيفه وهو في الجبل, ثم قال: يا معشر العرب, إما وافقتموني هذا اليوم، وإلا اتكأت على سيفي حتى يخرج من ظهري، فقالوا: وافقناك، فكان لسان حال دريد بن الصمة:

    أمرتهم أمري بمنعرج اللوى      فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ

    وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد

    فنزلوا ووافقوا مالك بن عوف.

    الرسول صلى الله عليه وسلم ينادي أصحابه

    وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فنادى في الناس إلى الجبل, فأقبلت الكتائب, ولكن خانتهم الإبل والخيول ففرت، وفر كثير من الناس, بل الصحيح كما في السيرة لـابن إسحاق وغيره أنه لم يثبت إلا ثمانون, ثم فر الثمانون وثبت ستة, فأخذ صلى الله عليه وسلم ينادي في الناس ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني رسول الله، فلما رأى أنهم فروا من بين يديه وأن الرجل يركب جمله ليأتي يؤم القوم ويأتي للقتال، فيطرد عنه الجمل، فيترك الجمل، ويهوي على أرجله في الأرض، ويأخذ سيفه وقوسه، ويأتي صاحب الفرس على فرسه، فيأبى الفرس أن يعود لأنه جفل, فينادي عليه الصلاة والسلام في الناس فلا يسمعون في الأخير لما رأى أن الدائرة خاف أن تدور على الإسلام وأهله، ومعنى ذلك أن هوازن تصفي حساب هذه الرسالة الخالدة, وسوف ينتهي الإسلام ويقطع دابره من الأرض, فترجل صلى الله عليه وسلم وكان على بغلته, وقال: {أنا ابن العواتك} فلما وصلت أرجله إلى الأرض سل سيفه وقال: { أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب}.

    فانتسب إلى جده عليه الصلاة والسلام, والعرب أمة ذكية إذا رأت المعركة ورأت الجيوش تهدَّرت بالشعر.

    قال أهل السير: الرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى الموقف ورأى السيوف والرماح جاد خاطره بهذا البيت ليشجع نفسه, ويقول: {أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب}

    وحرام عليه أن يفر؛ لأن الله قال: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84].

    ثم قال: يا عباس! يا عم رسول الله؛ إذ كان في الناس وكان معه بجانب بغلته وفي الجانب الآخر أبو سفيان بن الحارث ابن عمه من مسلمة الفتح الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكان العباس بن عبد المطلب جهوري الصوت, وكان كما يقول ابن حجر ينادي غلمانه من على سطح بيته وهم في الغابة فيسمعونه, قال: نادِ في الناس، فقال: يا معشر المهاجرين! يا معشر الأنصار! هلموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستجب أحد, لأن الخيول والإبل أخذتهم, ومسلمة الفتح أتى عليهم هذا الأمر سهلاً وطيباً؛ لأن بعضهم كان يضمر العداء للرسول عليه الصلاة والسلام, وكان منهم أبو سفيان بن حرب؛ لأنه أسلم يوم الفتح في مكة وفي نفسه ما فيها على الإسلام.

    فقال لما رأى كتائب الرسول عليه الصلاة والسلام تفر: ما يردهم اليوم إلا البحر. يعني: البحر الأحمر.

    ويقول صفوان بن أمية: اليوم بطل السحر. يظن أن الرسالة سحر أبطل اليوم, والرسول صلى الله عليه وسلم نادى في الأنصار؛ لأنهم بايعوه يوم العقبة على أن يحموه مما يحموا منه أولادهم وأطفالهم ونساؤهم وأموالهم, فهو يذكرهم ذاك الميثاق والعهد الذي بينه وبينهم عليه الصلاة والسلام, وهو يذكرهم ذاك العقد الذي وقعوه والذي أتى به -كما يقول ابن القيم - أتى به جبريل, وأملاه رب السماوات والأرض, والمشتري الله عز وجل, والسلعة الجنة, والثمن أرواحهم: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111].

    ناد يا أهل الشجر.

    قال: يا من بايع رسول الله تحت الشجرة, يا من تنزلت فيهم سورة البقرة, فلم يجب أحد، قال: ناد بني الخزرج وهم القبيلة الثانية من قبائل الأنصار, لأن الأنصار قبيلتان: الأوس والخزرج، فنادى في الخزرج فلم يجب أحد.

    الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حمي الوطيس

    قال: ناد في بني الحارث، وكانوا عشيرة واحدة, ولحمة واحدة قوامها ثمانون رجلاً من أشجع العرب على الإطلاق, كانوا يشربون الموت كما يشربون الماء، ومدحهم شعراء العرب وقالوا: كانوا إذا حضروا المعركة تحمر أحداقهم حباً للموت، فلما سمعوا: يا بني الحارث تشجعوا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خصهم أمام الناس بهذا الاسم, فتواثبوا من خيولهم وإبلهم, ثم أخذوا أغماد سيوفهم وكسروها على ركبهم، ثم أتوا بالسلاح وهبوا لنجدة الرسول صلى الله عليه وسلم, وقد كان يقاتل من بعد الفجر إلى الضحى وما تأخر خطوة واحدة, بل وقف عليه الصلاة والسلام أمام الجيش , وأوقفهم في منتصف الجبل, فما تقدم منهم جندي واحد.

    ثم أخذ حفنة من التراب ورمى بها وقال: {شاهت الوجوه} قال العباس: والله ما بقيت عين أحد منهم إلا وقعت فيه ذرة, فأخذت تدمع عيونهم.

    فلما رأى بني الحارث أقبلوا على أقدامهم معهم السيوف فتح لهم صلى الله عليه وسلم طريقاً, فتقدموا بينه وبين الكتيبة الوسطى, كتيبة مالك بن عوف النصري، فاقتتلوا معه حتى سُمع شظايا السيوف -أي: كسار السيوف- من على رءوس الناس, فقال عليه الصلاة والسلام: {الآن حمي الوطيس}.

    قال أهل العلم: هو أول من قالها من العرب, وهو مَثَلْ, وحمي أي: اشتد، والوطيس: هو التنور الذي يخبز فيه, ومعناه أن الأمر ضاق, وأنه لا يفرجه إلا رب السماوات والأرض.

    فأخذ بنو حارث يقاتلون حتى تكسرت كثيراً من سيوفهم, فأخذوا يعوضون من المسلمين سيوفاً، وتوارد الناس، والتحمت الكتائب بعده صلى الله عليه وسلم, وأخذ يرد هؤلاء على أعقابهم في أعلى الجبل, فأخذوا يتأخرون، فما أُذن لصلاة الظهر إلا وقد سُلسلوا في السلاسل وقيدوا في الأسلاب.

    وأخذ عليه الصلاة والسلام يقول لـابن أبي حدرد: {خذ إليك السبي} أي: النساء والأطفال, أنت يا فلان عليك بالإبل, وأنت يا فلان عليك بالغنم، وأنت يا فلان عليك بالبقر.

    قال ابن كثير: فجمع صلى الله عليه وسلم من الغنائم ألوفاً مؤلفة لا يعلمها إلا الله.

    وقدر ابن إسحاق الغنم بأربعة وعشرين ألف رأس، والإبل بسبعة آلاف؛ لأنهم أهل بادية وهم أكثر العرب مواشي.

    وتقدم عليه الصلاة والسلام إلى كتيبة مالك بن عوف النصري وهم ألف، وردهم على أعقابهم، فأعلنوا الهزيمة, ثم فروا وتركوا نساءهم وأطفالهم وإبلهم وبقرهم وغنمهم.

    فأخذ عليه الصلاة والسلام يلحق بهم هو والجيش.

    شيبة بن عثمان في غزوة حنين

    وبينما هو يطاردهم بالجبل عليه الصلاة والسلام، وإذا برجل من المسلمين اسمه شيبة بن عثمان، وهو صاحب مفتاح الكعبة, والمفتاح في ذريته وفي نسله إلى اليوم, وقد أسلم يوم الفتح, وكان في قلبه شيء على الرسول عليه الصلاة والسلام.

    قال: فخرجت معه إلى حنين والله ما كان من قصدي أن أنصره أو أقاتل معه, ولكن قصدي إذا سنحت لي فرصة أن أقتله, ومعي خنجر كخافية النسر جعلتها تحت إبطي سممتها بالسم شهراً.

    ثم أخذ يلاحظ الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يقترب منه فيغتاله.

    قال: فاقتربت منه فوجدت عن يمينه العباس بن عبد المطلب فخفت الرجل، قلت: عمه لن يسلمه إليّ, وسوف يقتلني في الحال، فأتيت عن يساره فوجدت ابن عمه أبا سفيان بن الحارث، فقلت: ابن عمه وسوف يقتلني في الحال، فتأخرت وراءه فأمكنتني الفرصة فتقدمت، وإذا شواظ من نار نزل من السماء, رجف له قلبي، فلم أرَ أمام بصري, فرجعت خلفي خطوتين, والله لقد كان يلتمع بصري حتى وضعت يدي على وجهي.

    فالتفت إليّ صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم وقال: يا شيبة، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قلت: يا رسول الله, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

    قال: اللهم اغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ثم أخذه صلى الله عليه وسلم بيده، وما ذكرها لي بقية حياته عليه الصلاة والسلام.

    ثم فرَّ مالك بن عوف النصري إلى حصون الطائف، فانطلق عليه الصلاة والسلام وراءه وقال للناس: عليكم بالسبي من النساء والأطفال أكرموهم، وعليكم بالإبل والبقر والغنم احصروها، وذهب عليه الصلاة والسلام بما معه من المقاتلين ولحقهم في حصون الطائف.

    نهاية غزوة حنين

    حاصر النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه مالكاً في الحصون, فمكثوا في حصونهم وأرسل له مالك بن عوف النصري -وكان رجلاً شهماً ذكياً- قال: يا رسول الله! إن العرب سوف تعيبنا أبد الدهر إذا نزلنا لك بالقوة، لكن اذهب فإذا أصبحت في الجعرانة فإنا سوف نأتيك مسلمين, وكأنا أتيناك نطلب الصلح.

    وكان الرسول عليه الصلاة والسلام لبيباً حليماً آتاه الله حسن الخلق: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وقال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] فعاد صلى الله عليه وسلم وأمر الناس أن يعودوا.

    النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم

    وصل عليه الصلاة والسلام الجعرانة وتأخر بالناس, وأعلن أنه يريد أن يؤدي عمرة, لئلا يتعجل الناس بالذهاب، فتأخر مالك بن عوف النصري قائد القبائل, لأنه سوف يأتي مسلماً فقام صلى الله عليه وسلم يوزع الغنائم, وانظر إلى المتأخرين وقت المغارم ووقت القتال يتقدمون.

    فيأتي حكيم بن حزام وهو سيد من سادات قريش من مسلمة الفتح وهو ليس في الإسلام كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وكان يكسو الكعبة سنة, وقريش جميعها تكسو الكعبة سنة.

    فقال: تقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله! أعطني من مال الله، قال: يا حكيم: أتنظر الغنم التي بين الجبلين من غنم هوازن، قال: نعم، قال: هي لك، فأخذها، وأتى في النهار الثاني، وقال: أعطني يا رسول الله، قال: خذ مائة ناقة، وكان ذلك ليتألفه في الإسلام؛ لأنه إذا أسلم أسلم معه ألوف.

    فأتى في اليوم الثالث وهو يظن أن الدعوة مفتوحة, كل يوم مائة ناقة، فقال: يا رسول الله أعطني فأعطاه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال حِلوٌ خضرٌ، وإن الله مستخلفكم فيه -شارك مسلم البخاري في هذه الرواية-فينظر ماذا تعملون فيه, فإياكم والدنيا، يا حكيم اليد العليا خير من اليد السفلى، اليد العليا هي التي تعطي واليد السفلى هي التي تأخذ، فقال حكيم: والله يا رسول الله, ما أسأل بعدك أحداً ولا أرزأ بعدك أحداً.

    فكان حكيم بن حزام متعففاً من أموال الناس, يسقط سوطه وهو على الفرس، فلا يسأل أحداً من الناس أن يرفعه له, بل ينزل يأخذ السوط، حتى أتى أبو بكر فأعطاه من بيت المال فرفض، وأعطاه عمر فرفض، وقال عمر يوم الجمعة: [[يا معشر المسلمين, أشهدكم على حكيم بن حزام أنني أعطيته عطاءه فأبى، فلا يكون خصمي يوم القيامة]] قال حكيم: إنني قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدته، والله لا أرزأ أحداً بعده من الناس, فلن آخذ من أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً.

    1.   

    توزيع النبي صلى الله عليه وسلم للغنائم

    وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب الذي كان قائداً رهيباً عسكرياً من قواد قريش, أعطاه مائة ناقة ليتألفه للإسلام، وأعطى عيينة بن حصن الفزاري الغطفاني مائة ناقة، وأعطى الأقرع بن حابس التميمي مائة, وأعطى كثيراً من صناديد نجد من مائة ناقة ليتألفهم على الإسلام.

    فلما أعطاهم العطاء, أعطى العباس بن مرداس سيد بني سليم خمسين ناقة ولم يعطه مائة, وكان العباس رجلاً شاعراً، فصنف قصيدة ورفعها للرسول صلى الله عليه وسلم، يقول فيها: كيف تعطيني خمسين ناقة وتعطي أبا سفيان مائة وتعطي الأقرع مائة, وعيينة مائة؟ يقول:

    أتجعل نهبي ونهب العُبيد      بين عيينة والأقرع

    وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع

    وما كنت دون امرئ منهما     ومن تضع اليوم لا يرفع

    يقول: آباؤهم ما كانوا يفوقون أبي, فكيف تفوقهم اليوم علي؟ -في قصيدة طويلة- فوصلت القصيدة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في خيمته, فقال أبو بكر -وكان حفاظة داهية نسابة يحفظ الأشعار والأخبار- قال: يا رسول الله! أتدري ماذا يقول عباس بن مرداس السلمي، قال: لا، قال: إنه يقول:

    أتجعل نهبي ونهب العُبيد      بين عيينة والأقرع

    وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع

    فتبسم عليه الصلاة والسلام وأخذ يقلب شيئاً في يده, والله يقول من فوق سبع سماوات: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69] وكان إذا سمع قصيدة كسر أبياتها؛ لأنه لو كان ألقاها لقال القرشيون أو أهل الوثنية: إن هذا القرآن شعر, وبالفعل قد قالوا: إنه شعر: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:5] فيقول صلى الله عليه وسلم وهو ينشد الأبيات:

    أتجعل نهبي ونهب العُبيد بينالأقرع وعيينة

    فكسر البيت، فتبسم أبو بكر وقال: صدق الله: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69].

    النبي صلى الله عليه وسلم مع الأنصار

    فخرج عليه الصلاة والسلام إلى الناس، وإذا برجل من الأنصار أمام الخيمة, فقال: ما وراءك؟ قال: يا رسول الله الأنصار اجتمعوا وتقاولوا كلاماً وقالوا: غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً وصناديد نجد ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم.

    فقال عليه الصلاة والسلام: كيف أقوال ساداتكم وفقهائكم؟

    قال: ما قالوا فيك شيئاً يا رسول الله. هذا قول سفهائنا, وقيل: شبابنا وفتياننا.

    فقال عليه الصلاة والسلام: اذهب إلى سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي (الإمام الكبير الشهيد الذي قال عنه الذهبي: الجواد الفارة) يجمع لي الأنصار.

    فذهب إليه وأخبر سعد بن عبادة وجمع الأنصار في حظيرة, ثم أتى صلى الله عليه وسلم ودلف عليهم وعليه بردة, فخطبهم تلك الخطبة التي مرت, ولما انتهى صلى الله عليه وسلم وأقنع الأنصار أن الدنيا زائلة: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] وقال تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].

    ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في حنين: {يا أيها الناس -وهم يطاردونه يطلبون الغنائم حتى ألجئوه إلى شجرة فنشب رداؤه في الشجرة وقال: فكوا علي ردائي- والله لو كان لي كجبال تهامة إبلاً وبقراً وغنماً لأنفقتها فيكم, ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذابًا، ثم قال: والله إني لأعطي أناساً منكم لما جعل الله في قلوبهم من الطمع والهلع، وأدع قوماً منكم لما جعل الله في قلوبهم من الإيمان والسكينة منهم عمرو بن تغلب

    قال عمرو بن تغلب -وهو يروي هذا الحديث وكان في حياته كلما رواه بكى-: كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها}.

    ولما صلّى صلى الله عليه وسلم صلاة العصر وقد قسم الغنائم وأخذ أبو سفيان مائة والأقرع مائة وعيينة مائة وأخذوا يستاقونها, وإذا مالك بن عوف النصري ومعه وفد قوامه ثمانية أنفار على خيولهم الشقر, وهم يخوضون في الصحراء حتى وصلوا إليه بعد الصلاة، فوقفوا على رأسه فأنزلهم صلى الله عليه وسلم، فقام مالك بن عوف النصري سيد هوازن وكان شاعراً لبيباً خطيباً وفصيحاً، فقال: [[يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله, وأنك رسول الله, ائذن لي أن أقول أبياتاً قال:

    ما إن رأيت وما سمعت بمثله      في الناس كلهم كمثل محمد

    أعطى وأجزل للنوال إذا اجتدى     ومتى تشأ يخبرك عما في غدِ

    وإذا الكتيبة عردت أنيابها     بالسمهري وضرب كل مهندِ

    فكأنه ليث على أشباله     وسط الهباءة خادر في مرصد
    ]]

    فاستحسنها صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا تريد يا مالك؟ لأن قصيدته هذه مقدمة يريد منها شيئاً, يريد السبي والإبل والبقر والغنم أن تعود.

    ولذلك يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[نعم الرجل يقدم أبياتاً بين يدي حاجته]] لأن هذه الأبيات فيتامين (واو) تسهل للشخص أمره, فمن تعسر عليه أمر من بعض الناس فعليه أن يدعو, وإذا لم يصادف شيئاً فعليه أن يسجل له أربعة أبيات, فسوف يلبي دعاءه إن شاء الله.

    فـمالك بن عوف يعرف العرب أن سوف يستجيبون, فأتى بأربعة أبيات, فعرف صلى الله عليه وسلم أنه يريد شيئاً "إياك أعني واسمعي يا جارة" قال: يا مالك! إن أحب القول إلي أصدقه فماذا تريد؟

    قال: يا رسول الله! أريد السبي وأريد المال، يقول: أريد النساء والأطفال وأريد المال, قال عليه الصلاة والسلام: اختر بين اثنتين إما السبي وإما المال.

    كأنه يقول له: بعدما هزمناك وألحقنا بكم الدائرة نرد لك السبي والمال سالمة مسلمة، في شرع من هذا؟!

    فسكت وقال: ما أعدل بالنساء شيئاً -يقول: كيف تخيرني بين الإبل وبين النساء؟ علي بالأطفال والنساء، فقال عليه الصلاة والسلام: ردوا عليه نساءه وأطفاله، فقال بعض العرب: والله لا نرد عليه نساءه وأطفاله -لأن بعض النساء أصبحوا سبايا- فقال صلى الله عليه وسلم: {لا ندري من طيب منكم ممن لم يطيب ولكن ارفعوا ذلك إلى عرفائكم} فبعضهم وافق وبعضهم أبى.

    فقام عليه الصلاة والسلام خطيباً فيهم وذكرهم بالله وبالسماحة وبالعفو وقال: ردوا عليهم السبي والذي لا يرده منكم إلا بشيء فأنا أعوضه في أول ما يغنمنا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, فردوا له السبي من النساء ومن الأطفال.

    فقاموا يأخذونها.

    وأما الإبل والبقر فراحت في رحمة الله, ورجع مالك بن عوف النصري مسلماً مؤمناً ونزل عليه الصلاة والسلام معتمراً.

    وبقيت أحداث من هذه القصة لأن البخاري روى أول الحديث ثم هالته قصة الحديث, فما استطاع أن يكمل الحديث, لأنه يريد الموعظة والعبرة فسكت وقال: الحديث.

    1.   

    دروس من غزوة حنين

    وفي هذا الحديث أمور وقضايا ودروس وعبر والسيرة مفسرة للقرآن، يقول سيد قطب: "أعظم ما يفسر القرآن سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام, فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يذكر الأحزاب, فالمسلم الذي يعرف معركة الأحزاب يعرف معاني السورة, ويذكر بدراً، فالذي يعرف معالم بدر يعرف ما هو المقصود بـبدر في القرآن, وكذلك حنين , فالسيرة أعظم ما يفسر كتاب الله عز وجل، والسيرة درس عقدي ودرس عملي وفقه وأحكام وأدب وسلوك ورقائق لمن تدبرها وعقلها:

    الدرس الأول: أن القوة لله جميعاً

    لا عبرة بالكثرة فالنصر من عند الله عز وجل، أكبر جيش جمعه الرسول صلى الله عليه وسلم جيش حنين كانوا اثني عشر ألفاً، فلما رآهم أبو بكر الكتيبة تتدفق بعد الكتيبة، قال: [[لا نهزم اليوم من قلة]] والمسلمون بشر أتاهم ضعف واتكلوا على قوتهم المادية, فأراد الله أن يلقنهم درس عقيدة لا ينسونه, وهو أن القوة من عند الله, وأن النصر من عند الواحد الأحد, فيقول الله عز وجل: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ [التوبة:25] يقول: اذكروا كم نصركم الله في مواطن كثيرة:

    إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا     من كان يألفهم في الموطن الخشن

    لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التوبة:25] قال أهل التفسير: قال أبو بكر: [[لن نغلب اليوم من قلة]] فأخبره الله عز وجل بالانهزام في أول المعركة, وأن النصر من عند الله فانهزموا، فدرس للإنسان ألا يغتر بقوته وألا يعتمد على حوله وذكائه وفطنته.

    قال ابن القيم في كلام معناه: فوض الأمر إلى الله عز وجل, وأعلن عجزك, فإن أقرب العباد من الله الذين يعلنون الانكسار بين يديه.

    فأقرب العباد إلى الله أشدهم انكساراً إليه، وأقربهم إلى النصر أشدهم تواضعاً لله, وكلما ذل العبد وتواضع لله رفعه الله, وكلما تكبر، قال الله: اخسأ فلن تعدو قدرك, وعزتي وجلالي لا أرفعك أبداً.

    فكان هذا الدرس في العقيدة: أن القوة من عنده تبارك وتعالى, وأنه هو الذي يهدي وينصر, ويسدد فلا قوة تأتي من غيره مهما أجلبوا بخيل ورجل وقوى واتصلوا بأمور فإنها كبيت العنكبوت: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41].

    الدرس الثاني: إرسال العين لطلب أخبار العدو

    فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أرسل ابن أبي حدرد وقال: اجلس بينهم وخذ أخبارهم وائتني بأعلامهم -هذا قبل المعركة- فجلس بينهم في الليل، فسمع مالك بن عوف النصري يقول: إذا أتينا غداً فصبحوهم واضربوهم ضربة رجل واحد، فأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام، فإرسال العين لصالح المسلمين لا بالإضرار بالمسلمين, لكن لتقصي الحقائق ولنصرة الإسلام, ولتأييد كتاب الله ولرفعة لا إله إلا الله لا بأس به.

    الدرس الثالث : أخذ السلاح من المشرك

    والرسول عليه الصلاة السلام لما أراد حنيناً قال لـصفوان بن أمية وقد كان طلب مهلة أربعة أشهر حتى يفكر في دخول الإسلام- قال: {يا أبا وهب: أتعيرنا مائة درع وسلاحها؟ قال: غصباً يا محمد، قال: بل عارية مضمونة} فأخذها صلى الله عليه وسلم عارية مضمونة، فلا بأس باستعارة السلاح من المشرك, فلو قاتل المسلمين كافر فلا بأس أن يأخذوا من كافر آخر سلاحاً آخر يقاتلون به هذا الكافر, فإن الرسول عليه الصلاة والسلام فعله سواء بشراء, أو عارية, أو على مصالح مشتركة يتبادلها الفريقان فلا بأس بذلك.

    الدرس الرابع: ضمان العارية إذا تلفت

    فإن صفوان { يقول: غصباً يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة} يقول: إذا تلفت هذه الدروع والسلاح نضمنها لك, فلما تلفت بعض السيوف وتكسرت في أيدي الأنصار كما يقول الأول:

    ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم      بهن فلول من قراع الكتائب

    يقول: كلهم ما شاء الله أخلاقاً وسماحاً وجوداً وشجاعةً لكن فيهم عيب واحد وهو يمدحهم قالوا: ما هو؟ قال: سيوفهم مثلمة من كثرة ما قاتلوا الأعداء.

    فالصحابة تثلمت سيوفهم وثلموا سيوف صفوان بن أمية , فأتى يقلب السيوف وهي مثلمة فيقول: للرسول صلى الله عليه وسلم: أهذا سلاحي؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: نضمنها لك، قال: لا لقد أسلمت والإسلام خير لي لا آخذ منها شيئاً، فرزقه الله الإسلام, وهو خير من الدروع والسيوف، وقبل المعركة كان صفوان وراء الزبير بن العوام.

    ويقول أحد عيون الرسول صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم ليكونوا بين مالك بن عوف النصري وقبائل الطائف , يقولون: وقفنا معهم فلما مرت كتائب الرسول عليه الصلاة والسلام، سمعنا مالك بن عوف النصري يقول: أي كتيبة هذه؟ وقد مدوا سيوفهم على آذان خيولهم- قالوا: هؤلاء بنو سليم لا يقتلون أحداً ولا يقتلون، يعني: أنهم عند العرب ليسوا بشجعان.

    قال: والكتيبة الثانية -أناس مروا على الخيل سيوفهم معروضة على أكتافهم- قالوا: هذا الموت الأحمر الأوس والخزرج، قال: ومن مر، قالوا: مر خيال واحد -ذكر هذا ابن كثير - على رأسه عصابة حمراء كأنه صقر على فرسه نحيف، قال: هذا الزبير بن العوام واللات والعزى لا يفارقنكم حتى يخالطكم بسيفه.

    قالوا: فلما اقترب الزبير وراء الكتيبة ووراء الشجر أقدم إليهم ثم خالطهم بسيفه, حتى عمل فيهم معركة.

    وكان صفوان يقول: لما رأيت الزبير دخل في الكتيبة فررت. لأنه من أهل المداخل: أما صفوان فلا يورط نفسه في هذه الورطات، بل ينتظر حتى تأتي مائة ناقة؛ رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ .

    الدرس الخامس: مشابهة هذه الأمة الأمم السابقة

    هذا الحديث علق عليه ابن تيمية في الرسائل والمسائل يقول: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين نزل الناس في الظهيرة ومعهم سيوفهم وسلاحهم -وهذا الحديث عند أبي داود من حديث أبي واقد الليثي - قالوا: يا رسول الله! إن للمشركين ذات أنواط -أي: ذات معاليق يعلقون فيها سلاحهم- فاجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؛ فقال عليه الصلاة والسلام: {الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة}. فيقول ابن تيمية: "سوف يقع في هذه الأمة ما وقع في اليهود والنصارى؛ فإن علماءنا إذا فسدوا كان فيهم شبه من اليهود -نعوذ بالله من ذلك- فإن اليهود تعلموا العلم ولم يعملوا به؛ فختم الله على قلوبهم ولعنهم وغضب عليهم، قال جل ذكره: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [المائدة:13]ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى؛ فإنهم يعبدون الله بلا علم, لا يتفقهون في الدين؛ فلهم صلاة وصيام وذكر لكن على ضلالة: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27].

    يقول ابن تيمية: وسوف يقع في هذه الأمة ما وقع بين اليهود والنصارى لهذا الحديث؛ ولقوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113] قال ابن تيمية: "سوف تأتي طوائف وأحزاب في هذه الأمة تقول: ليست الطائفة الأخرى على شيء ونحن على الحق، وتقول الأخرى: لستم على شيء ونحن على الحق فهي السنن".

    الدرس السادس: النهي عن مشابهة المشركين

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من تشبه بقوم فهو منهم} حتى في الأزياء، قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: "أمرنا أن نتبع السنة، ونهينا عن مشابهة أجناس المشركين والأعاجم إذا خالفوا السنة والحيوانات والبهائم" ثم ذكر أمثلة على ذلك.

    فمشابهة أهل الكتاب من أعظم ما جرنا إلى الخطر وإلى مخالفة السنة، فهي حرام بالإجماع إذا لم يكن في سنتنا مستند.

    مثلاً: يقول بعض الناس: نرى بعض الخواجات يربون لحاهم، وإذا ربينا لحانا ألا يكون ذلك مشابهة لهم؟ يقول أحد العلماء: كذلك إذ دخلوا في الإسلام ألا نخرج نحن حتى نخالفهم؟! نسأل الله العافية والسلامة؛ فمعنى المخالفة أن نقف نحن على الحق الذي معنا الذي أتى به صلى الله عليه وسلم ونخالفهم فيما خالفوا فيه الإسلام, أما ما وافقوا فيه الإسلام فلا نتزحزح نحن إذا دخلوا في الإسلام أو وافقوا بعض السنن التي عندنا.

    الدرس السابع: التكبير عند التعجب والاستغراب

    فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قالوا: اجعل لنا ذات أنواط قال: الله أكبر! وهذه من أحسن الكلمات التي تقال في النوادي والمحافل, فنحن لا نعرف التصفيق وليس في ديننا تصفيق، ولا يصفق إلا اللاهون اللاغون إذا أعجبوا بمقولة أو كلمة.

    فعلى المسلمين أن يكبروا, فإن التصفيق والمكاء والتصدية من علامات الجاهلية ومن شعائر الوثنية , والله ذكر المشركين وطوافهم بالبيت فقال: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال:35] أي: صفيراً وتصفيقاً, فذم التصفيق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقال ابن مسعود: [[كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أعجبهم شيء كبروا]] وربما كبر عليه الصلاة والسلام فكبروا خلفه, ولذلك يقول: {أترضون أن تكونوا ثلث الجنة؟ قالوا: بلى، قال: ألا ترضون أن تكونوا نصف الجنة؟ قالوا: بلى، قال: فإنكم ثلثا أهل الجنة، فكبروا جميعاً}.

    صفوفها عشرون بعد المائة     أما ثمانون فمن ذي الأمة

    فثلثا الجنة، وفي رواية: {نصف الجنة} من أهل السنة والجماعة، فالتكبير مطلوب عند التعجب والاستغراب، أو من حدث أو كلمة حماسية، أو من بيت أو قصة, فسنتنا أن نكبر وألا نتشبه بأهل الكتاب الذين أضلهم الله على علم وطبع على قلوبهم.

    الدرس الثامن: الحراسة في الغزو

    إن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا كان في الأسفار أو الغزو جعل حارساً يحرس الناس، وما كان يعطيه راتباً عليه الصلاة والسلام، بل كان يعدهم بالجنة, جنة عرضها السماوات والأرض, فكانوا يتسارعون إلى هذا، كما فعل حذيفة في الليلة الظلماء عند أهل الأحزاب، وضمن له صلى الله عليه وسلم الجنة.

    وكما حرس بلال بن رباح المسلمين في غزوة من الغزوات فقال له صلى الله عليه وسلم: يا بلال! ارمق لنا فجر هذه الليلة، فقام بلال فرمق من أول الليل, فلما قرب الفجر صلى الليل ما شاء الله، ثم جلس برمحه عند الناقة، فاعتمد عليها فنام، فلما نام جاء الفجر, ثم طلعت الشمس حتى أصاب الناس حر الشمس, فاستيقظ عمر رضي الله عنه أول الناس، فاستحيا عمر أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: قم صل، ومن عمر حتى يوقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وله ذلك فإنها من المصالح والفوائد لكنه استحيا.

    فأتى بجانب أذن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: الله أكبر، الله أكبر، فاستيقظ عليه الصلاة والسلام وقد استيقظ أكثر الناس وأصابهم من الخوف ما الله به عليم, تذكروا أنهم ما صلوا, وأن الشمس قد طلعت وارتفعت, فقال صلى الله عليه وسلم: لا عليكم، ثم أمرهم أن يقوموا، وقال يا بلال: أين رمقك الفجر هذه الليلة، فقال بلال: أخذ بنفسي يا رسول الله ما أخذ بأنفسكم، فتبسم عليه الصلاة والسلام.

    يقول: أنتم وقعتم فيما وقعت أنا فيه, فلماذا تعاتبونني على هذا؟ فصلّى عليه الصلاة والسلام فصلوا، والشاهد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجعل حارساً من الصحابة في الغزو وفي الأسفار لفوائد:

    1- أن يوقظ المصلي والموتر في الليل.

    2- أن يخبر الناس بهجوم طارئ على جيشهم وعلى متاعهم وعلى أهلهم.

    3- تدريب الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه على هذا العمل الجهادي الشاق.

    4- أن يجعل أجوراً لأهل هذه الأعمال ليتباروا في عمل الآخرة وليتقدموا عند الله.

    قال عمار بن ياسر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما أمسينا ذات ليلة، قال: من يحرسنا هذه الليلة؟ فسكتنا، فقال: ليقم رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، قال: فقمت، وقام عباد بن بشر رضي الله عنه وعن عمار , الشاب الصادق الذي قتل يوم صفين ضرب على وجهه حتى سقط لحم وجهه من كثرة السيوف, ولما رآه الصحابة قالوا: نشهد أنك عند الله من الشهداء.

    فبدأ عباد بالحراسة ثم قام يصلي, فبدأ يقرأ في سورة الكهف، فأخذ الأعداء ينظرون إليه وهو حارس يقرأ في الليل, وهم لا يعرفون الصلاة ولا القراءة فأخذوا يرمونه بالسهام, وما أراد أن يقطع القراءة، فأخذ كلما انغمس السهم في جسمه يخرجه وينزله في الأرض, ويستمر في القراءة، وكلما أتى السهم الآخر أخرجه ودماؤه تنصب من جسمه, وأتى السهم الآخر ويخرجه, فلما غلبته الدماء خفف في الصلاة, وقام وزحف إلى عمار، وقال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أقتل فتفتح ثغرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ما ختمت هذه الصلاة حتى أتم سورة الكهف، فقال عمار: رحمك الله، ألا كنت أيقظتني؟! فأخبره، فقام عمار رضي الله عنه وأدركوا هذا, فأيقظوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا يوضح لنا كيفية حراسة الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام وللمسلمين.

    وكان حارسه عليه الصلاة والسلام ربما حرسه عند باب بيته قبل أن ينزل الله تعالى: ((وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)) [المائدة:67] يقول أنس: رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر فلما اقتربنا من المدينة دخل صلى الله عليه وسلم بيتاً له -أي خيمة- قال: فسمعته بالليل يقول: {ليت رجلاً صالحاً يحرسنا هذه الليلة} قال: فأتى سعد بن أبي وقاص فسمع من بعض الناس أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {ليت رجلاً صالحاً يحرسنا هذه الليلة} فتوضأ سعد بن أبي وقاص ولبس سلاحه وأخذ سيفه ووقف عند باب الخيمة من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، فلما عَلِم صلى الله عليه وسلم بـسعد قال: {اللهم اغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر} فكان من الحراس الصادقين.

    أفضل أيام أبي عبيدة:

    قيل لـأبي عبيدة -وقد مر معنا هذا- أي يوم من أيامك أنت عند الله؟ وأي ليالٍ من لياليك أحسن عند الله؟ قال: ليلة واحدة من ليالي اليرموك، قالوا ما هي؟ قال: كنت أمير الجيش فقمت وسط الليل وقد نام الناس جميعاً، وكان ذاك اليوم مطيراً، والناس في نومة ما أحسن للمقاتل والمسافر منها، فأيقظت امرأتي وقلت: أتريدين ليلة من ليالي الجنة؟ قالت: بلى، قلت: قومي معي نحرس الناس، فقام يدور هو وامرأته في المخيم كلما رأوا إنساناً قد خرج لحافه من عليه ردوا اللحاف وألحفوه حتى أصبح الصباح، فهي من الليالي الخالدة التي يتقدم بها أبو عبيدة وكأنه ما عنده من الليالي إلا هذه الليلة، وكل لياليه لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    الدرس التاسع: الالتفات في الصلاة للحاجة

    وقد مر في القصة لكننا أسلفنا هذا الحدث وتركناه, فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أرسل ابن أبي حدرد وقيل أنيس بن أبي مرثد أخذ صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر وهو يلتفت هكذا في الشعب لينظر هل يأتيه الخبر أو لا ويخفف الصلاة.

    قال أهل العلم: للمسلم إذا كانت حاجة أن يلتفت ولكن لا يجعلها عادة, فالرسول عليه الصلاة والسلام فتح الباب وهو في الصلاة، وحمل أمامة بنت زينب في الصلاة، وتناول بعض الأمور وهو في الصلاة، والتفت هنا إلى طليعة القوم للحاجة, وهذا الحديث في سنن أبي داود بسند حسن عن سهل بن الحنظلية، قال: أرسل صلى الله عليه وسلم يوم حنين طليعة القوم، فأخذ يلتفت إليه في الصلاة وينظر إليه بين شقق الشعب أو كما قال.

    الدرس العاشر: الفوز بالجنة للحارس في سبيل الله

    أتى الذي حرس المسلمين تلك الليلة قال له صلى الله عليه وسلم: {متى نمت؟ قال: في صلاة الفجر، قال: اذهب فقد أوجبت، ما عليك ما عملت بعدها} رواه النسائي ويقولابن كثير: ورواه أبو داود.

    وهذا ليس معناه فتح باب الرجاء له ليعمل بالمعاصي؛ لأنه يعلم صلى الله عليه وسلم أن هذا العبد أتقى لله أن يغتر بهذا الكلام, بل جعل له ضماناً وبشارة أن يدخله الله الجنة، قال: {اذهب فقد أوجبت ما عليك ما عملت بعدها} وهذا من باب قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}.

    الدرس الحادي عشر: رفع الصوت للحاجة

    الرسول عليه الصلاة والسلام ذم رفع الصوت لغير الحاجة؛ لأن الله عز وجل يقول: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19] فأما رفع الصوت للحاجة فلا بأس به.

    قال البخاري في كتاب العلم: باب من رفع صوته بالعلم، ثم أتى بحديث ابن عمرو: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام رفع صوته وقال: ويل للأعقاب من النار} فهنا رفع صلى الله عليه وسلم صوته ينادي في الناس، وقال للعباس: ارفع صوتك وناد في الناس، فأخذ يقول: (يا أهل سورة البقرة, يا من بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة) حتى يأتون.

    الدرس الثاني عشر: فضل أبي سفيان بن الحارث رضي الله عنه

    وهو أبو سفيان بن الحارث ليس أبا سفيان بن حرب , فـأبو سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام كان له أعمام عشرة منهم الحارث ابنه أبو سفيان هذا، وما أسلم إلا قبل الفتح بأيام, سمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام سوف يقدم فاتحاً لـمكة , وعلم أنه أساء مع الرسول عليه الصلاة والسلام في المقاتلة وأساء في المهاجاة؛ لأن أبا سفيان كان شاعراً يرسل القصائد يهجو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلما علم أن الرسول عليه الصلاة والسلام سوف يقدم مكة فاتحاً أخذ أطفاله، وكانوا صغاراً كأنهم فراخ الطير من البنات ومن الأبناء, وخرج بهم من مكة ولقيهم علي بن أبي طالب دون مكة بين عسفان ومكة في طريق رحب في شعب من الشعاب.

    فقال علي ابن عمه: إلى أين يا أبا سفيان؟ قال: يا علي قاتلنا محمداً وآذيناه وشتمناه وطردناه وأخرجناه؛ سوف أخرج بأطفالي هؤلاء وأموت جوعاً وعرياً وعطشاً في الصحراء, والله لئن قدر علي ليقطعني بالسيف إرباً إرباً.

    فقال علي بن أبي طالب: أخطأت يا أبا سفيان! إنك لا تعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أحلم الناس وأكرمهم وأرحمهم، فعد إليه وسلم عليه بالنبوة، وقل له كما قال إخوة يوسف ليوسف: قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91] لأنهم إخوان وأبناء عم، فأتى أبو سفيان بأطفاله يقودهم بأيديهم, فلما وقف عند خيمة أم سلمة وكان الرسول صلى الله عليه وسلم داخل الخيمة، قال: ائذنوا لي أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: من في الباب؟ قالوا: يا رسول الله أبو سفيان بن الحارث، قال: لا يدخل علي، لأنه أساء كل الإساءة ما ترك أمراً إلا وكاد به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت أم سلمة تبكي وتقول: يا رسول الله! لا يكون ابن عمك وقريبك أشقى الناس بك، وأخذت تناشده الله عز وجل، قال: أدخلوه علي، فدخل.

    فقال: السلام عليك يا رسول الله، أمَّا بَعْد: لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91] قاتلناك يا رسول الله وآذيناك وأخرجناك والله لا أدع موقفاً قاتلتك فيه إلا قاتلت فيه معك، ولا نفقة أنفقتها في حربك إلا أنفقتها معك، ثم أخذ يعدد، فرفع صلى الله عليه وسلم طرفه وعيناه تنزل الدموع، قال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92] فقال: يا رسول الله! اسمع مني، قال: قل، قال:

    لعمرك إني يوم أحمل راية     لتغلب خيل اللات خيل محمد

    لك المدلج الحيران أظلم ليله      فهذا أواني يوم أهدى وأهتدي

    هداني إلى الرحمن ربي وقادني      إلى الله من طردت كل مطردِ

    فقام عليه الصلاة والسلام فعانقه وضرب على صدره وقال: أنت طردتني كل مطرد، فأخذ يخدم محمداً صلى الله عليه وسلم، لا يرتحل مرتحلاً إلا قام وحزم له متاعه وشد له رحله، وأخذ ببغلته يقودها, فهو قائد البغلة يوم حنين اليوم الأكبر من أيام الله, يوم ثبت رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ونزل يقارع الأبطال وهو يقول: {أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب}.

    الدرس الثالث عشر: تفاوت الناس في الإيمان

    وفي هذا رد على أهل الإرجاء، فإنه لا يستوي من أسلم من قبل الفتح وقاتل وأنفق مع الذين أسلموا من بعد وقاتلوا، لأن الإسلام درجات, فنسأل الله من الإيمان أسعده, ومن العيش أرغده, ومن اليقين أعلاه, ومن الإيمان منتهاه, ولا يزال العبد بين الليلة والليلة يزيد إيمانه بالذكر وبالعمل الصالح وبالطاعة حتى يلقى الله وهو بالدرجات العلية من الإيمان, ولا يزال الإيمان ينقص بالمعاصي وبالمخالفات وبكثرة الهروب عن الله عز وجل حتى يتردى, نسأل الله العافية والسلامة.

    الدرس الرابع عشر: تنفيل السلب للقاتل

    وهذا حديث كذلك قد مر في القصة، يقول أبو قتادة أحد الأنصار: يوم التقينا يوم حنين رأيت رجلاً من المسلمين يتصارع مع رجل من المشركين وقد التزمه، قال: فرفعت سيفي فضربت المشرك، فترك ذاك وأتى إلي واحتضنني حتى وجدت منه برد الموت ثم ألقاني ومات، فقال عليه الصلاة والسلام: لك سلبه.

    وفي هذا الحديث -أيضاً- جواز مقاتلة النساء عند أمر الفتنة مع الرجال في صف المسلمين, وقد أورد ابن كثير بأسانيد صحيحة: أن أم سليم قاتلت مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم حنين.

    وأم سليم هي أم أنس بن مالك التي أهدت ابنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: أنس يخدمك يا رسول الله فادع الله له، فدعا له.

    وأم سليم هي التي يقول عنها صلى الله عليه وسلم: {دخلت الجنة البارحة فرأيت الرميصاء في الجنة}.

    حضرت المعركة وكانت عندها خنجر في وسطها, فأخذ زوجها أبو طلحة يداعبها ويمازحها ويقول: ماذا تفعلين بهذا الخنجر؟ قالت: إذا تقدم مني كافر بعجت بطنه بهذا الخنجر، فسمع صلى الله عليه وسلم مقالتها فتبسم ثم دعا لها.

    فأقر صلى الله عليه وسلم المرأة على أن تشارك في الحرب عند الحاجة, أما إذا كان هناك فتنة أو مغبة اختلاط، فلا ينبغي أن تشارك المرأة إلا إذا احتيج إليها، وشأن المرأة في القتال مداواة الجرحى والقيام على الأسرى وتقريب الماء والخدمات للمقاتلين.

    وفي هذا الحديث: {ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين} يقول أحد المسلمين: لما التقينا يوم حنين رأيت كافراً من هوازن يفتك بالمسلمين فتكاً ويقتل فيهم قتلاً، قلت: لله علي نذر إن أمكنني الله منه أن أقتله، قال: فلما انهزموا وأصبحوا في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدموا يبايعونه على الإسلام, فتقدمت لأسبق هذا الرجل قبل أن يبايع الرسول عليه الصلاة والسلام لأقتله, فسبقني حتى وقف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام, وعلم صلى الله عليه وسلم أني نذرت, فأراد أن يترك لي الفرصة حتى أقتله.

    قال: فانتظر فما فعلت، قال: فأسلم الرجل فولى.

    قلت: يا رسول الله أريد قتله فإني نذرت، قال: أما رأيتني تأخرت عن قبول إسلامه؟ فلماذا لم تومئ لي يا رسول الله بعينك، قال: { ما كان لنبي أن تكون له خائنة أعين} لأن خائنة الأعين أو الغمض من شيم أهل الخيانة والخداع والمكر والنفاق, أما الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه صادق واضح مخلص لا يريد التواءً في عقيدته ولا في سيرته ولا في معاملته للناس عليه الصلاة والسلام.

    الدرس الخامس عشر: ذكر الرجل نفسه عند اللقاء ببعض مناقبه

    عندما يذكر الرجل نفسه ببعض مناقبه عند اللقاء فإن هذا لا ينقص من أجره ولا من مثوبته شيئاً, فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى الكتائب تتدفق عليه مثل الجبال, قال: {أنا ابن العواتك} وقال: {أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب}.

    وانتسب لجده لشهرته في العرب, فهذا لا يثلم في الأجر ولا ينقص في المثوبة، ولذلك يقول أحد الصحابة: التقينا مع الكفار فخرج غلام من الأنصار فرمى كافراً وقال: خذها وأنا الغلام الأنصاري, فأخبروا الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: وما عليه أن يؤجر ويحمد أي: فهو مأجور ومحمود، ولذلك كان كبار الصحابة إذا بارزوا الأبطال أنشدوا فخراً ورفعاً للمعنوية وحماساً وإبداءً للشجاعة.

    قال أهل السير ومنهم ابن كثير وابن هشام، التقى مرحب مع علي فنزل مرحب يقول:

    قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب

    إذا الحروب أقبلت تلهب

    فنزل له علي وقال:

    أنا الذي سمتني أمي حيدره

    كليث غابات كريه المنظره

    أكيلكم بالسيف كيل السندره

    وخرج سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه وهو لابس سلاحه في غزوة من الغزوات من يقول:

    لبث قليلاً يشهد الهيجا جمل     لا بأس بالموت إذا حان الأجل

    وهكذا ابن رواحة أنشد في المعركة رضوان الله عليهم جميعاً، فكان شعارهم أن يتقدموا بهذا، وهي سنة عند العرب، يقول الأحنف بن قيس وقد كان يقاتل في سجستان وهو الذي فتح الطريق إلى كابل قبل الجراح بن عبد الله الحكمي، يقول:

    عهد أبي حفص الذي تبقى

    أن يخضب الصعدة أو تندقا

    الدرس السادس عشر: شجاعته النادرة صلى الله عليه وسلم

    فأشجع الناس وأكرمهم وأحلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم, انظروا إلى شجاعة أبي الحسن علي بن أبي طالب يقول: كنا إذا حمي الوطيس واشتد الهول اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون أقربنا إلى القوم.

    يتقون وهم الشجعان بالرسول صلى الله عليه وسلم من ضرب السيوف ووقع السهام وطعن الرماح, فيكون هو أقربهم إلى القوم، وما فر في المعركة ولا خطوة واحدة.

    الدرس السابع عشر: مناداة الناس بمناقبهم شرف لهم

    يقول أهل السير: إذا خطبت قوماً فاذكر مناقبهم ومحامدهم، وذكرهم بأيام الله, فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {يا بني عبد الله -قبيلة من قبائل العرب- إن الله أحسن اسم أبيكم فأحسنوا سيرتكم} فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر العباس أن يقول: يا معشر الأنصار، ثم قال: يا أصحاب الشجرة، يناديهم بذاك اليوم المشهود، يا من أنزلت عليهم سورة البقرة, يناديهم بهذه المنقبة, فللمسلم أن يتحف إخوانه والقوم الذين يدعوهم بمناقبهم ومآثرهم ليكون أشد إقبالاً لهم, وهذا من ذكر المناقب في مجال الدعوة إلى الله عز وجل.

    الدرس الثامن عشر: ضرب الأمثال

    كان الرسول عليه الصلاة والسلام يضرب الأمثال للناس ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم: {الآن حمي الوطيس} وهو أول من تمثل به كما قال أهل السير، وكان عليه الصلاة والسلام يضرب الأمثال للناس كما ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أمثالاً في القرآن يضربها في العقيدة والعبادة والسلوك.

    {جاء رجل أعرابي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: أعطني من مال الله الذي عندك لا من مال أبيك ولا من مال أمك، فقام الصحابة عليه، فأسكتهم صلى الله عليه وسلم ثم أعطاه، فلما انتهى من إعطائه، قال: هل أحسنت إليك؟ قال: نعم أحسنت وأجملت جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فذهب أمام الصحابة، فقال: هل أحسنت إليك؟ قال: لا، فأرادوا أن يهموا به فعاد صلى الله عليه وسلم فزاده فدعا له الأعرابي، فقال: أخبر أصحابي بهذا ليزول ما في نفوسهم، فقال هذا أمامهم.

    فقال عليه الصلاة والسلام: أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الإعرابي؟

    قالوا: لا، قال: مثلنا كرجل كانت عنده دابة فرت منه فأخذ الناس يلاحقونها فما زادوها إلا فراراً.

    فقال: يا أيها الناس دعوني ودابتي, فأخذ شيئاً من خشاش الأرض -أي: من خضرة الأرض- فلوح لها به فأقبلت إليه حتى قادها، فلو تركتكم وهذا الإعرابي لفر ثم ارتد ثم دخل النار}.

    الدرس التاسع عشر: الإلحاح في الدعاء وقت الأزمات

    يقول جل ذكره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45] قال ابن القيم: "سُئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله لماذا ذكر الله الدعاء والذكر وقت الأزمات ووقت التحام الصفوف؟

    قال ابن تيمية: من عادات العرب والناس ذكر محبوبيهم وقت الأزمات؛ فأراد الله أن يخبرهم أن أحب محبوب عندهم هو الله, فليذكروه في تلك الأزمة أو الضائقة، ثم قال ابن تيمية أما سمعت قول عنترة:

    ولقد ذكرتك والرماح نواهل      مني وبيض الهند تقطر من دمي

    فذكرها في تلك اللحظة، فالمؤمنون ذكَّرهم الله أن يذكروه وقت الأزمات, وأحسن الدعاء ما سر صاحبه إليه, وهو وقت الضائقة التي تحل به لأنه يخلص في الدعاء ويلتجئ إلى الحي القيوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى الكتائب قال: {اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك الذي وعدتني} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

    الدرس العشرون: معجزته صلى الله عليه وسلم في حصبه وجوه الكفار بالتراب

    ومعجزاته كثيرة، منها هذا الأمر قال تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] حفنة من التراب قليلة تغطي اثني عشر ألفاً من المقاتلين، فما يبقى أحد وهم صفوف وراء صفوف وكتائب وراء كتاب إلا تدخل في عينه؛ إنها معجزة من المعجزات التي حفظها التاريخ لرسولنا صلى الله عليه وسلم.

    ومن المعجزات أيضاً: حماية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من القتل؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] يقول بلغ الرسالة ولا تخف من الاغتيال فإنك لن تغتال أبداً، قد تعرض عليه الصلاة والسلام لإحدى عشرة مرة محاولة اغتيال ولكنه ينجو منها بإذن الله, وعلم بأن الله يحميه، ولا يستطيع له أحد من الناس فقد عصمه الله.

    ومنها: عدم فراره صلى الله عليه وسلم: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84].

    ومنها: عفوه وصفحه عليه الصلاة والسلام عن شيبة بن عثمان الذي أراد اغتياله, وعن أبي سفيان , وعن مالك بن عوف النصري , فإنه عفا وصفح، ومن أعظم صفاته صلى الله عليه وسلم العفو والصفح, ولذلك ذكره الله بهذه الصفات وأثنى عليه ومدحه بهذه المنقبات والمكرمات.

    الدرس الحادي والعشرون: آداب في الحروب

    ومنها: النهي عن قتل المرأة والوليد والخادم؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام نادى الأبطال والقواد في كتائبه ومن ضمنهم خالد وقال لهم: {لا تقتلوا امرأة ولا وليداً ولا عسيفاً} والعسيف: الخادم.

    ومنها: قتل دريد بن الصمة الشاعر الذي سلف في أول القصة، وكان كبيراً في السن شيخاً وقال لـمالك النصري: عد بإبلك وبقرك وغنمك، وأمر قومه أن ينزلوا بالسلاح فقط, فعصوه فانهزموا فقال:

    أمرتهم أمري بمنعرج اللوى      فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

    ولما فر مع الناس لحقه رجل سلمي اسمه ربيعة بن رفيع قال: فأدركته فظننته امرأة، فأنزلته من على فرسه فرأيت شيخاً يفهق من كبر السن، فضربته بالسيف.

    قال: ويل لك، ما ولدتك أمك مقاتلاً، خذ هذا السيف ثم اضرب به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإني كنت كذلك أضرب الأبطال.

    قال: فأخذت سيفه فلما أردت قتله، قال: إذا ذهبت فمن أنت؟

    قلت: أنا ربيعة بن رفيع السلمي.

    قال: أخبر أمك باسمي, أنا دريد بن الصمة فكم أعتقت لك من أم، قال: فذبحته فلما أتيت إلى أمي.

    قالت: فضيحة لك بقية اليوم، أعتقني وأعتق عماتك الثلاث, وأطعمنا من جوع فقتلته.

    قال: يذوق نار جهنم لأنه مشرك.

    ومنها: اشتشهاد أبي عامر الأشعري في أوطاس فإنه حضر المعركة رضي الله عنه وأرضاه وضربه مشرك في ركبته بعد أن قتل تسعة من أبطال المشركين, ووقف له العاشر فضربه في ركبته فخرج منها الماء فمات، فقال لابن أخيه أبي موسى: اذهب إلى رسول صلى الله عليه وسلم وبلغه مني السلام وقل له: يدعو لي.

    قال أبو موسى: فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته في غرفة ضيقة قد أثر الحصير في جنبه، فقلت: يا رسول الله! قتل عمي أبو عامر الأشعري وهو يبلغك السلام ويقول: ادع له.

    فقام عليه الصلاة والسلام إلى ماء فتوضأ ثم استقبل القبلة، فقال: اللهم اغفر لعبدك أبي عامر ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم اجعله من ساكني الجنة, وارفعه على كثير ممن خلقت وفضله عليهم تفضيلاً، قال أبو موسى: فلما سمعت هذا الدعاء وقفت بجانبه صلى الله عليه وسلم فقلت: وأنا يا رسول الله، لأنها فرصة لا تتعوض.

    فقال صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم رافعاً يديه إلى القبلة: واغفر لـأبي موسى وأكرم نزله ووسع مدخله. فكان الرسول والمرسل ظافرين بدعاء الرسول عليه الصلاة والسلام.

    ومنها: تأليف الناس بالمال: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ألف هؤلاء لا لحب فيهم ولا لإيمانهم ولا لجهادهم، لكن ليدخلوا في دين الله أفواجاً, فإنهم ما دخلوا إلا بالنوق الحمر وبالمال, فللمسلم أن يتألف بعض الناس بشيء من الهدية إذا دعاه, أو بالمال أو بالوليمة، فإن من عباد الله من لا يدخل الجنة إلا بالولائم.

    الدرس الثاني والعشرون: مع الأنصار

    ومنها: مكانة الأنصار وفضلهم وأنهم من أفضل عباد الله, وأن من علامة الإيمان حب الأنصار, ومن علامة النفاق بغض الأنصار، فحبهم عروة وثقى عند الله، وبغضهم نفاق وريبة وشك نعوذ بالله من بغضهم، ونشهد الله على حبهم, ونسأل الله أن يحشرنا في زمرتهم، وفي ذلك يقول لهم صلى الله عليه وسلم في آخر خطبته: {يا معشر الأنصار إنكم سوف تلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض} معنى الكلام: أن الناس سوف يستأثرون عليكم بالدنيا، فاصبروا على الفقر والخصاصة وعلى الأثرة حتى تلقوني على الحوض المورود, والذي طوله شهر وعرضه شهر وعدد آنيته كنجوم السماء, من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً.

    قال أنس وهو يبكي وهو يقص الحديث: [[قال لنا نصبر فوالله ما صبرنا]].

    وقام معاوية بن أبي سفيان يتكلم في الأنصار رضي الله عنه وأرضاه في الشام فاعترضوا عليه فسكت عنهم فما أجابهم.

    فقال أحدهم: -أظنه أبا سعيد أو عبادة بن الصامت - إن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: إنا نلقى بعده أثرة, قال: فما قال لكم رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: قال لنا: اصبروا, قال معاوية: فاصبروا إذاً، قالوا: نصبر ونستعين بالله أو كما قالوا.

    الدرس الثالث والعشرون: الحذر من الاغترار بالدنيا

    إن الدنيا حلوة خضرة, والمال لا يعطى لفضل الإنسان، وإذا أغدق الله على إنسان مالاً فليس ذلك لعظم منزلته في الإسلام, لكن يبتلي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالغنى والفقر, فكم من تقي لا يملك عشاء ليلة، وكم من فاجر يتمتع بقصور من الذهب والفضة، قال تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32].

    انتهى هذا الحدث التاريخي الذي رواه لنا الإمام البخاري فشكر الله له سعيه، وأجزل مثوبته، وتغمده الله برحمته، وجمعنا الله وإياكم كما اجتمعنا في هذا المكان في مستقر رحمته عند مليك مقتدر: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:8].

    أسأل الله أن ينضر وجوهنا ووجوهكم بسماع حديثه صلى الله عليه وسلم, وأن يتحف قلوبنا بالحكمة, وأن يفقهنا في الدين, وأن يزيدنا علماً وتوفيقاً وفقهاً ورشداً وهداية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767959396