وفي غزوة تبوك يتأخر به جمله ثم يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ماشياً فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: يرحم الله أبا ذر يعيش وحده ويموت وحده ويحشر وحده.
من هو الباحث عن الحقيقة؟
إنه الذي يقصده الشاعر المسلم وهو يتكلم عن هذا الرجل الذي سوف أتكلم عنه هذا اليوم وهو يقول:
أركبوني نزلت أركب عزمـي أنزلوني ركبت في الحق نفسا |
أطرد الموت مقدماً فيولي والمنايا أجتاحها وهي نعسى |
قد بكت غربتي الرمال وقالت يا أبا ذر لا تخف وتأسا |
قال لا خوف لم أزل في شباب من يقيني ما مت حتى أدسا |
إذاً هو أبو ذر الغفاري -رضي الله عنه رضواناً يلحق به في جنات النعيم- كان يسكن البادية معه جمله وغنمه، يضرب في صحراء الدهناء وسط جزيرة العرب،لم يقرأ حرفا،ً ولم يقتن كتاباً، ولم يحمل قلما،ً ولكن الله إذا أراد أن يهدي هدى، وإذا أراد أن يضل أضل، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وصرخ عليه الصلاة والسلام بـ"لا إله إلا الله محمد رسول الله" وأبو لهب وأبو طالب عند الصفا لكن ما سمعوا قال تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].
فركب أنيس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، والتقته الدعاية المغرضة وتشويه السمعة على أشراف مكة، قالوا: يا أنيس! هذا كذاب ساحر مفترٍ على الله، مجنون، فرجع وسمع الدعاية الباطلة، والتشويه،وقال لأخيه: لا عليك، رجل كذاب مجنون ساحر كاهن. قال أبو ذر: والله، لأذهبن أنا بنفسي إليه؛ فعليك بأهلي ومالي، وركب ناقته واخترق الحجب ليصل إلى معلم الخير مباشرة ليرى وجهه، وليسمع كلامه، ولتقع نبراته الصادقة في قلب أبي ذر، وليجري كلام محمد عليه الصلاة والسلام في دم أبي ذر قطرة قطرة.
قال أبو ذر: [[أين الرجل الصابئ؟ قال: أتريد محمداً؟ قال: نعم. ولكني جائع -أتى من الصحراء وهو جائع لم يأكل منذ ليالٍ يريد قبل أن يلقى معلم الخير المعصوم أن يأكل أكلاً- قال: تعال إلى أبي بكر الصديق الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:18-21].
فأدخله أبو بكر، وأطعمه من زبيب وخبزٍ، ثم أخذه علي بن أبي طالب قال: يا أبا ذر! كن معي فإذا كنت في الحرم ورأيت الرسول صلى الله عليه وسلم فسأتظاهر بإصلاح نعلي -هذا خوف من المشركين- فإذا رأيتني وقفت فهو الرجل الذي أمامك فنزل، وكان عليه الصلاة والسلام كالقمر ليلة أربعة عشر لا يختفي، ومن رآه أحبه، ومن سمع كلامه صدقه، ومن صاحبه ائتمنه.
يقول ابن رواحة:
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر |
فوقف علي يصلح نعله؛ فعرف أبو ذر وجه المصطفى عليه الصلاة والسلام، واقترب منه ليحييه بتحية الجاهلية فقال: عم صباحاً يا أخا العرب، قال عليه الصلاة والسلام: {إن الله أبدلني تحية خيراً من تحيتك، قل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ورحب به عليه الصلاة السلام وأجلسه}.
الأسئلة الساخنة تبدأ، والحوار الجريء يبدأ، وتطرح بين المعلم والتلميذ وبين الشيخ والطالب قال أبو ذر: من أنت؟ قال: أنا رسول الله، قال: من أرسلك؟ قال: الله الذي إذا كنت في سنة مجدبة فدعوته أمطر عليك، والذي إذا ظلت راحلتك في الصحراء ودعوته، ردها عليك -يكلمه من دفتره، من بيئته: الناقة، السنة المجدبة، الصحراء- قال: بم أرسلك الله؟ قال: أرسلني بالصلاة، والصدق، والعفاف، وصلة الرحم، وبر الوالدين، والنهي عن عبادة الأصنام والأوثان.
قال أبو ذر: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، والله لأقومنّ بها عند الصفا، قال عليه الصلاة والسلام: لا. اذهب إلى أهلك ولا تخبر أحداً، فإذا سمعت أن الله أظهرني وسوف يظهرني، فتعال بأهلك، قال: والله لأقومن عند الصفا، فوقف وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله فانهال عليه سكان الحرم بالحجارة من كل جانب حتى وقع مغمياً عليه يرش ثوبه بالدم، وأتاه عليه الصلاة والسلام فاحتضنه ورشه، وقال: ألم أنهك؟ -ألم أقل لك: لا تقل ذلك؟- وحال العباس بين المشركين وبين أبي ذر}.
وذهب أبو ذر إلى أهله في البادية ووقف أمام زوجته وقال: دمي من دمكِ حرام، وبيتي من بيتكِ حرام حتى تشهدي أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فشهدت. ثم أتى إلى أهله فشهدوا، ثم جمع قبيلته بني غفار فشهدوا فدخلوا في دين الله أفواجاً.
وأتى أبو ذر إلى محمد عليه الصلاة والسلام بعد أن نصره وأظهره الله وأصبح في المدينة، {قال
وأخذ أبو ذر يحب الرسول عليه الصلاة والسلام كل يوم وهو في زيادة، ويقول متبجحاً ومفتخراً ومغتبطاً بزيارة الرسول عليه الصلاة والسلام: { كان عليه الصلاة والسلام يزورني كل يوم في بيتي فزارني مرة فلم يجدني، فقال: أين هو؟ قالوا: خرج يا رسول الله ويأتي، فجلس على فراشي، فلما أتيته احتضنني والتزمني وقبلني، زيارة}.
إنها الذكريات التي لا ينساها أبو ذر أبداً.
أتى أبو ذر يريد أن يعرض نفسه وقال: يا رسول الله! وليت فلاناً وفلاناً ولم تولني الإمرة ألعجزٍ؟ أم لخيانة؟
قال: لا. لكنني أصونك، يا أبا ذر! {إنها لخزي وندامة يوم القيامة، إنك رجل ضعيف وإنها أمانة} فلم يوله الإمرة -فبقي معه- وكان عليه الصلاة السلام ويلحظ فيه قوة الشخصية؛ لأنه صادق لا يحب المجاملة، ولا الرياء ولا النفاق، كان يصدع بالحق.
يقول: {يا رسول الله! إذا متَّ فمن يلينا؟ قال له عليه الصلاة والسلام: كيف بك إذا أدركت قوماً يؤخرون الصلاة تعرف منهم وتنكر فما أنت فاعل؟ قال: آخذ سيفي فأقاتلهم حتى أموت، قال عليه الصلاة والسلام: لا. صلِّ الصلاة في بيتك، فإذا أدركتهم فصل معهم ولا تقل قد صليت، واصبر ولو جلدوا جلدك وأخذوا مالك
هذا هو معنى كلماته عليه الصلاة والسلام، وبالفعل خرج أبو ذر وحده إلى الصحراء، ولكن لا تزال الذكريات.
يقول عليه الصلاة والسلام، وهو يتحدث عن الله عز وجل في حديث إلهي يحفظه أبو ذر.
يقول عليه الصلاة والسلام -وفي بعض الروايات: أنه جثا على ركبتيه عليه الصلاة والسلام- أن الله جل وعلا قال: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا. يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم. يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد - لا إله إلا الله! سبحان من لا يفنى ولا يموت لا تغيره الوقوت ولا يحول ولا يزول! يغير الدول ولا يتغير، يبدل الناس ولا يتبدل. قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
هذا الحديث تاج لـأبي ذر.
تعيش وحدك فلا تتصل بالناس ولا بالدنيا فأنت عالم آخر:
وحيداً من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد |
أو كما قال الآخر:
أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبر |
وأشجع مني كل يومٍ سلامتي وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر |
وتموت وحدك فيحضره الملائكة بعيداً عن الأحباب والأصحاب، ويحشر يوم القيامة أمة لوحده، وفي بعض الآثار يحشر هو وعيسى عليه السلام سوياً.
كان في طريق الصحراء لا يعلم بموته إلا الله، وكان يقول له عليه الصلاة والسلام وهو يضرب على كتفيه: {إن منكم من يموت في خلاء من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين} فغسلته زوجته وكفنته في ثوبه وطيبته -طيب الله ثراه وأنفاسه وأيامه- وأخذته هي وبنتها وجعلته على قارعة الطريق.
علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات |
لعظمك في النفوس تبيت ترعى بحراس وحفاظ تقات |
وتوقد حولك النيران ليلاً كذلك كنت أيام الحياة |
فعرضوه في الطريق وفي الضحى، وإذا بـابن مسعود عالم الصحابة يأتي من العراق معتمراً ومعه أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فيرى جنازة معروضة انتقل صاحبها إلى الله، وذهبت الروح إلى الملأ الأعلى، فقفز من على ناقته وهو يقول: "وا أبا ذراه! "وا حبيباه! "واخليلاه! صدق رسول الله.
فماذا كان يفعل ابن مسعود؟
هل يحفر التراب ويدفن الرجل ويكفي هذا الوداع!! أين الصحبة؟
أين الأيام الجميلة الغالية التي عاشها مع أبي ذر.
أولاً: أتى إلى الكفن ثم حل عقده عن أبي ذر ثم كشف وجهه فكأنه القمر ليلة البدر، ثم أخذ يقبله والدموع تهراق على وجه أبي ذر، ثم مر الصحابة يقبلون ثم صلوا عليه، ثم دفنوه قال الله: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62].
الثاني: التخفف والتقلل من الدنيا.
الثالث: إن من جاهد في الله فلن يضيع الله جهاده قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
الرابع: من أراد الحقيقة فلن يجدها إلا عند محمد عليه الصلاة والسلام، أما غيره فليس عنده حقيقة إلا من حقيقته، ولا نور إلا من نوره، ولا خير إلا من خيره عليه الصلاة والسلام.
سلام على ذاك العلم، وعلى شيخه، وجمعنا الله بهم في دار الكرامة، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس! تتفنن الأمم والشعوب في ذكر عظمائها بالقصة والقصيدة والمسرحية والكتابة وغالبها زيف، ونحن نتفنن في ذكر عظمة عظيمنا عليه الصلاة والسلام، يشهد الله على صدقنا، ثم يشهد التاريخ والدهر وحتى الأعداء.
* أن ذكرى ميلاده هو العمل بسنته، فليس له مولد يحتفل به، ولا لأحد من علماء الإسلام، والاحتفال في سيرته وسنته عليه الصلاة والسلام أن نتبعه وأن نقتدي به، وأن نذب عن منهجه، وأن نحذر من البدع التي تجري على سنته، وأن ننشر مبادئه، وأن نضحي عن قيمه بالنفس والنفيس هذا هو الميلاد الحق.
أحبك لا تسال لماذا لأنني أحبك هذا الحب رأيي ومذهبي |
وقد حذرنا عليه الصلاة والسلام من البدع، ومن أقبح البدع التي انتشرت في العالم الإسلامي بدع المولد، أو مشاركة الكفار في عيد ميلاد المسيح عليه السلام، وهذا لم ينزل الله به سلطاناً، ولم يرسل به رسولاً، ولم يأذن به سبحانه، فالباب دون هذا مغلق.
و قال المعصوم عليه الصلاة والسلام: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} وعندما يكون في التاريخ الميلادي ذكرى ميلاد المسيح، يقوم النصارى في هذا اليوم ويقيمون الدنيا ويقعدونها بإعلامهم وبأقلامهم عن هذا اليوم والحقيقة أنهم يضحكون على أنفسهم، فهم خالفوا عيسى وموسى ومحمداً عليهم الصلاة والسلام، وهم الذين كفروا برسل الله وكتبه، وهم الذين افتروا على الله وعلى مبادئه، وهذا له مجال آخر، لكن الذي يهمنا كمسلمين ألا نشاركهم في أعيادهم ولا نحضر ولائمهم ولا نفرح بفرحهم ولا نميز هذا اليوم عن أيامنا، ولا نجيب دعوتهم، فإنهم في الشركات والمؤسسات والمحلات والجاليات يقيمون ولائم ويهدون زهوراً ويقومون بطقوس، فقد حرم أهل العلم بالإجماع حضور هذه أو دعوتهم أو قبول الهدية أو الإهداء إليهم أو مشاركتهم بأي رسالة أو ببرقية أو بمواساة؛ لأن هذا خدش في الولاء والبراء، ومن أحسن من تحدث في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله في كتابه العظيم اقتضاء الصراط المستقيم بفصول عظيمة بين فيها حكم الله في هذا.
أيضاً: لا يجوز صيام هذا اليوم أعني يوم الميلاد عندهم، لا يصومه مسلم يميزه بهذا العيد عن غيره، فإن فعل فقد ابتدع في دين الله إلا أن يكون صياماً له لا يقصد به المشاركة ولا المداهنة ولا المؤانسة لهم.
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة:78] وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113].
وذكرهم الله باللعنة يوم خالفوا أمره، وأخبر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام، والمعصوم عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح يقول: {والذي نفسي بيده، لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا دخل النار}.
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على منهجه، اللهم ارض عن أصحابه وألحقنا بهم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، ووفقهم لما تحب وترضى، وارزقهم البطانة الصالحة يا رب العالمين، اللهم اهد شباب المسلمين، اللهم وفق من جاهد لإعلاء كلمتك وانصرهم نصراً مؤزراً، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق وألف ذات بينهم، وأصلح قلوبهم وردهم إليك رداً جميلاً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر