أحيي هذ الوجوه التي لا ترى إلا في الخير, قدَّمكم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وأخَّر غيركم, وأكرمكم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وأهان غيركم, فإن المهان كل الإهانة هو الذي لا يتصل بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى, وهو الذي لا يعفر وجهه ساجداً لله, وهو الذي يصاب بالإهانة كل الإهانة، وهو الذي يفقد قوامه لهذا الدين.
أنتم تصلون وتستمعون آيات الله البينات التي أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم صفوف، وغيركم في المنتزهات والملاهي والمقاهي يستمعون الأغاني الماجنة, ويستمعون العهر, وكل ما يدعو إلى الفاحشة ويبعدهم عن الله عز وجل.
أنتم في روضة من رياض الجنة, وغيركم في مجلس من مجالس الشيطان.. أنتم تظلكم الملائكة، وتحفكم السكينة، وتغشاكم الرحمة، ويذكركم الله فيمن عنده, وغيركم تحفهم الشياطين، ويغشاهم الغضب والسخط؛ لأن كل من ابتعد عن هذا الدين أصابه الله بقارعة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126].
فالمقصود -أيها الأبرار- أن المسلم لا بد له أن يتذكر نعمة الله عز وجل عليه, كثير من الناس في نعمة الله, مستقيم ويحافظ على الصلوات لكنه لا يشعر بهذه النعمة حتى يذوق الضلال ومرارة البعد عن الله عز وجل, ثم يرده الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى إليه.
معنا في درسنا هذا زيد بن حارثة وأسامة بن زيد.. وزيد بن حارثة من سادات الشهداء عند الله عز وجل, وأما أسامة بن زيد فله حديث عندنا هنا في الوضوء.
كان رقيقاً, ليس له قيمة عند قريش, فالجاهلية تدوس الإنسان كما تدوس أنت التراب, الجاهلية لا تعبد إلا القيم, والمناصب, والجاهات, والشارات، والأوسمة, فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم كرم الإنسان وعرف قيمته.
أحد الناس -ولا أريد أن أستشهد بأبياته في مثل هذا الموقف؛ لأنه أعمى القلب والبصر لكن لا بأس, يقول علي رضي الله عنه: [[الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنّى وجدها]] هذا الأعمى هو البردوني شاعر اليمن , أعمى القلب والبصر, كان في شبابه يمدح الإسلام لكنه انتكس, يقول في بعض العصاة الفجرة المردة على الله:
قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا |
مهلاً فديت أبا تمام تسألني كيف احتفت بالعدى حيفا أو النقب |
إلى آخر ما قال.
إنما المقصود أن الذي لا يرفعه الله لا يرتفع أبداً, فـزيد بن حارثة أتى إلى هذا الدين، ووضع كفه في كف محمد صلى الله عليه وسلم؛ فأعطاه صلى الله عليه وسلم درساً من التربية لا ينساه أبداً.
أتى أبوه وعمه إلى محمد صلى الله عليه وسلم يريدونه؛ لأن زيد بن حارثة فارق أهله وهو صغير, سبته قريش في الجاهلية, فأخذته وأدخلته معها في دينها وفي طاغوتها وأصنامها, فلما دعا صلى الله عليه وسلم إلى لا إله إلا الله, كان أول من استجاب له العبيد، والرقيق، والضعفاء، والمساكين.
يقول الأستاذ الشهيد سيد قطب نسأل الله أن يجعله شهيداً، يقول: إن هذا الدين خال من الطلاء -أي: ليس هناك دعايات على الدين- من أراد الدين يأتي للدين لنفس الدين، أي: ينقاد من نفسه, فليس هناك دعايات مغريات كما تفعل الشيوعية أو النصرانية أو اليهودية أو البابية أو البوذية التي تدعو وتضخم وتقول: عندنا وعندنا..!! فإذا أتيت إليها وجدتها هباءً منثوراً, لا تجد منها شيئاً, إنما الإسلام ينصب نفسه، ويقول: من يريدني فليأتِ, سواء أكان الآتي ملكاً أو وزيراً أو غنياً أو فقيراً.
يقول سيد قطب: إن هذا الدين خال من الطلاء, من أراده أتاه لذاته, فأتى زيد بن حارثة، ووضع كفه في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعلمه صلى الله عليه وسلم ورَّباه, وما ظنكم بإنسان كأنه أبوه, كان يدعى زيد بن محمد , ومن لطافته صلى الله عليه وسلم أنه ما أثار ولا خدش ولا جرح شعور إنسان رافقه في الحياة الدنيا ولو بكلمة, حتى أعداؤه من الكفار, ونتحدى أن يأتينا عدو من أعداء الإسلام بكلمة نابية قالها صلى الله عليه وسلم لأعدائه, فهذه كتب الحديث والسيرة والتراجم, تعالوا بكلمة واحدة نابية مؤذية أو جارحة للشعور قالها صلى الله عليه وسلم حتى لأعدى أعدائه, فقد بُصِقَ في وجهه صلى الله عليه وسلم, ونُثر التراب على وجهه, وأُهينت كرامته في الحرم وضربت بناته, وطرد من دياره, وقوتل وأوذي وسُب, وشُهِّر في كل مكان, وما قابل ذلك إلا بالسكوت وبالصمت وبالحكمة وبالأناة وبالحلم، حتى يقول الله من فوق سبع سماوات: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
من يتحمل مثلك هذه الأمم؟ من يستطع مثلك أن يشق طريق الحياة بعزم وتصميم وخلق حسن؟
ويقول سبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
فجاء أبو زيد بن حارثة , وجاء أعمامه, وكانوا يُعلنون عنه في سوق عكاظ: من وجد ابن حارثة؟ -والجريدة التي اسمها عكاظ سميت باسم سوق عكاظ آنذاك- فقال لهم رجل: أنا وجدت غلاماً اسمه زيد يمشي مع الذي ادعى النبوة، دائماً يمشي معه, فأتى أبوه وعمه وإخوانه ودخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأول ما رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم انشجروا، أي: تصوروا أن العرب يعيشون في الصحراء في مكة تحرقهم الشمس فتؤثر في أبدانهم وألوانهم إلا الرسول عليه الصلاة والسلام, فكأنه أتى من السماء, وجهه كالقمر ليلة البدر, حتى من رآه يعرف أنه ليس بكذاب, حتى اليهود قالوا ذلك, فلما رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم خجلوا, كان قصدهم أن يضاربوا ويصارعوا من أخذ ولدهم, لكن لما رأوه صلى الله عليه وسلم وجلوا وخافوا, فقالوا: هذا ابننا, قال صلى الله عليه وسلم: {أهذا أبوك؟ قال: نعم. قال: وهذا عمك؟ قال: نعم. قال: اختر إن شئت أن تذهب إليهم فاذهب، وإن شئت أن تبقى معي فابق معي, فدمعت عينا
فذهب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, واستمرت به الحياة, وطالت به حياته وأيامه التي لا تنسى مع الرسول صلى الله عليه وسلم, ما كان يغضبه أبداً, بل كان -كما في السيرة- ما قام صلى الله عليه وسلم إلا لقلائل من الناس, فما كانت عادته أن يقوم صلى الله عليه وسلم من مجلسه.
يأتي بعض ملوك العرب وفيهم من الكبر والعتو، ويريدون أن يقوم لهم الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يقوم, يسلمون ويجلسون هنا وهنا, فإذا أتى زيد بن حارثة قام صلى الله عليه وسلم، وشق الصفوف، وعانقه وأجلسه بجانبه, لماذا؟ ليخبر الرسول صلى الله عليه وسلم الإنسانية أن هذا الدين دين قيم وأخلاق وتعامل, لا دين مناصب ووظائف وشارات وأوسمة.
وبدأت المعركة، ولبس زيد بن حارثة أكفانه؛ لأنه أراد ألا يعود مرة ثانية, وولّى وجهه شطر الأعداء، وأخذ يقاتل من الصباح إلى قبيل الظهر, حتى كلّت يداه من كثرة الضرب, وفي الأخير ضُرِبَ رضي الله عنه وطعن ووقع شهيداً على الأرض, والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، والمعركة في معان قريب مؤتة في الأردن, والرسول صلى الله عليه وسلم يعيش لحظات المعركة, لحظة بلحظة وحركة حركة, وسكنة سكنة، يطلع عليهم, فلما قتل زيد بن حارثة التفت صلى الله عليه وسلم، وبكى وبجانبه أسامة ولد زيد، فدعاه صلى الله عليه وسلم وقبّله، فقالوا: ما لك يا رسول الله؟ قال: {شوق الحبيب لحبيبه. قالوا: أحدث شيء؟ قال: قتل
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها |
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها |
عليّ إن لاقيتها ضرابها |
ثم أخذ يضارب حتى قرب العصر, ثم قطعت يده اليمنى، ثم أخذ الراية باليسرى, فقطعت اليسرى, فضم الراية, فضرب بالرماح على صدره رضي الله عنه فوقع شهيداً, فقال صلى الله عليه وسلم، وهو يبكي: {وأخذ الراية
وعاد إلى مكانه ليتابع ما تنتهي إليه المعركة, فأخذ الراية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه وكان صائماً, ومع الغروب دعي إلى أن يأخذ الراية فتلكأ, لأنه يريد أن يفطر على شيء, لأنه جائع من الصباح, فناولوه قطعة لحم فأخذ يأكل فما استساغها؛ يرى الرايات تتكسر والسيوف تتحطم, والرماح وشظايا السلاح تتدفق على رءوس الناس.. معركة طاحنة اشتدت قبل صلاة المغرب, وهو القائد المعين من الرسول صلى الله عليه وسلم ليأخذ مكانه, فألقى العظم هذا, ولم يأكل شيئاً, وقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه |
لتنزلن أو لتكرهنه |
إن أقبل الناس وشدوا الرنة |
مالي أراك تكرهين الجنة |
هل أنت إلا نطفة في شنة |
ثم قتل رضي الله عنه وأرضاه, فرفع الله هؤلاء الشهداء, وقام عليه الصلاة والسلام على المنبر، وقال: {لقد ارتفعوا على أسرة من ذهب، ودخلوا الجنة وفي سرير
هذه هي الشهادة, وهذه هي أعظم المنازل بعد منزلة النبوة, وعلى المسلم أن يتشرف لها دائماً، وأن تكون همته عالية, لأن أي حياة ليس فيها طلب شهادة أو طلب استقامة أو طلب تضحية أو طلب فداء فهي حياة بهائم، نسأل الله العافية!
عاش أسامة وكان كأبيه يصلح للقيادة رضي الله عنه, ولاه عليه الصلاة والسلام القيادة وعمره ثمان عشرة سنة, فلما ولاه القيادة أتدرون من الجيش أو من الجنود؟
كان عمر بن الخطاب، الذي تهتز له الدنيا تحت قيادة أسامة بن زيد، ومعه عثمان، وعلي، وخالد بن الوليد والسادات الكبار, فلما ذهبوا أخذوا يتكلمون بينهم ويقولون: يولي علينا صلى الله عليه وسلم هذا الغلام؟!
فأخذ الكلام يدور فيما بينهم حتى وصل الكلام أسامة رضي الله عنه وأرضاه, فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تترقرق دموعه، يقول: {يا رسول الله! نقموني في إمارتي، وقالوا: إني لست أهلاً. فجمعهم صلى الله عليه وسلم، وقال: نقمتم على
واستمر أسامة، ثم توفي رضي الله عنه وأرضاه فيما بعد، وقد رزقه الله المراتب العالية في خدمة هذا الدين, وشَّرفه، ورفع ذكره, وأخفض الله ذكر أعدائه من أبي جهل وأبي لهب، فلا يذكرون أبداً إلا بالخسة والحقارة والمهانة.
وليس معناه: باب فضل الوضوء والغر المحجلون، كان يقول: الغر المحجلين, لكنه قطع الكلمة وجعل فاصلة ثم بدأ (والغر) مبتدأ، وصفته (المحجلون) من آثار الوضوء، أي: ما لهم من الثواب، وخبره محذوف.
قال: عن نعيم المجمر -سمي مجمراً لأنه كان يجمر المسجد في عهد أبي بكر وعمر, أي: كان يبخر المسجد- قال: رقيت مع أبي هريرة رضي الله عنه على ظهر المسجد فتوضأ، فقال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء, فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) في الحديث قضايا:
الميزة الأولى: أن توبتنا في الاستغفار والندم والإقلاع, أي: أننا إذا عصينا الله وأردنا أن نتوب فما علينا إلا أن نندم ونستغفر ونتوب إلى الله عز وجل, أما من كان قبلنا فتوبتهم أن يقتلوا أنفسهم, كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في بني إسرائيل, ولذلك لما عبدوا العجل أوحى الله إلى موسى أن استدع منهم سبعين ليلاقوا الله عز وجل, فاستدعى من خيارهم سبعين, فلما كلمهم الله عز وجل, قال: عودوا وتوبوا وتوبتكم أن تقتلوا أنفسكم. فحضر بنو إسرائيل كلهم جميعاً، وأخذوا السكاكين في أيديهم، وأنزل الله عليهم غماماً من السماء (سحابة) حتى غطت على رءوسهم فلا يرى بعضهم بعضاً، فأصبحوا مثل الليل, فأخذ الإنسان يقتل أخاه وأباه وعمه وخاله وقريبه, وأخذت المرأة تقتل زوجها حتى تقاتلوا جميعاً, قال بعض المفسرين: فقتل منهم سبعون ألفاً.. هذه هي توبتهم.
أما نحن فنتوب ونستغفر الله مهما فعلنا, فمن يذنب في الإسلام فما عليه إلا أن يتوب ويستغفر, ومن يشرب الخمر, ومن يشرك, ومن يفعل الأفاعيل، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
الميزة الثانية: أن أول أمة تحاسب يوم القيامة هي أمة الرسول صلى الله عليه وسلم, يقول صلى الله عليه وسلم: {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة} الآخرون، أي: آخر الأمم، لكن نأتي يوم القيامة سابقين بإذن الله عز وجل, نحاسب قبل الناس وندخل الجنة قبل الناس.
هذه امرأة أعرابية تمتدح جملها, تمشي في آخر القافلة، ولكن إذا وصلوا منازل القرى وصلت قبل الجمال، تقول:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول |
فيقول صلى الله عليه وسلم: {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا}, فأول من يحاسب أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول البوصيري في قصيدته التي لخبط فيها, والبوصيري صوفي أتى بشركيات وبدعيات، لكنه أتى بأبيات جيدة, فما مثله إلا مثل من يأتي بالدر فيجعله في المزبلة ثم يخلطه.. يقول:
بشرى لنا معشر الإسلام أن لنا من العناية ركناً غير منهدم |
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم |
الميزة الثالثة: تفضيلهم بيوم الجمعة, فليس هناك أمة من الأمم لها يوم الجمعة إلا نحن والحمد لله, أضل الله أهل الكتابين عن يوم الجمعة, أرادوا يوم الجمعة فأضلهم الله عنه وأعماهم؛ لأنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا يريد لهم فلاحاً, فأما اليهود فأخذوا يوم السبت، والنصارى أخذوا يوم الأحد.
ومن النكات العجيبة التي سمعنا بها أن بعض المسلمين في أمريكا لما دخلوا الإسلام أرادوا أن يتعاطفوا مع الشعب الأمريكي؛ لأنهم قريباً دخلوا في الإسلام، وليس عندهم فقه في الدين, قالوا: نريد أن تنقلوا لنا صلاة الجمعة إلى يوم الأحد! من أجل أن يكون العيد والعطلة واحداً؛ لأن الأمريكان كلهم يشتغلون في يومي الجمعة والسبت ولا يعطلون إلا يوم الأحد, فقالوا: ما رأي السماحة وأصحاب الفضيلة في نقل صلاة الجمعة إلى يوم الأحد، أفتونا مأجورين؟ هذا فقه عجيب!
يقولون: شريك بن قرة أحد العرب، وكانوا يذكرونه مثل ابن الجوزي وغيره, يقولون: صلّى الجمعة بأعراب في خراسان يوم الإثنين -والعهدة على الراوي- لكن لا ندري أهو صحيح أم لا؟!
فوقف شريك بن قرة على المنبر, يقول ابن الجوزي: وقف على المنبر وكان عامياً لا يعرف شيئاً لا من الكتاب ولا من السنة وهو من أجهل الناس, لكنه غلب أهل خراسان بالسيف، فلما ارتقى إلى المنبر، قال: صدق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:
اعملي أم خالد رب ساع لقاعد |
. فهذا بعض الفقه العصري يصل إلى هذه المرتبة.
الميزة الرابعة: ومن الميز لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: الوسطية، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143] أي: عدولاً، وهو الراجح عند أهل العلم؛ لأن بعض الناس يقول: وسط أي: أفضل؛ لكن ليس هذا هو الوسط, والوسط: هم العدول أو الخيار قَالَ أَوْسَطُهُمْ أي: أعدلهم, وقيل: أخيرهم, وقيل: وسطاً، أي: أنكم متوسطون، وذهب إلى هذا سيد قطب , وأنا أدعوكم إلى مراجعة هذه الآية في ظلال القرآن، فقد أتى بتفسير عجيب ما سمع الناس بمثله, يقول: نحن أمة وسط في الأفكار والشعور, لا نميل مع أهل الخيال بخيالهم، ولا نميل مع أهل الجمود في جمودهم, ونحن أمة وسط في العبادة، لا نميل مع أهل الشهوات كاليهود فنترك العبادة، ولا نميل مع أهل الصوامع والرهبنة كالنصارى فتقتلنا العبادة, ونحن أمة وسط في الجمال والروعة والفن, وفننا وروعتنا الواقعي يوافق الحس والعقل, ولا نميل مع أهل الخيال الجامح الذين يرسمون الخيالات ويظنون أنها أمجادهم, لأن الرسامين في إيطاليا وأسبانيا وغيرها هم عندهم كأنهم ملائكة نزلوا من السماء, أهل رسم وأهل فن؛ لأنه ليس لهم رسالة في الحياة.
قال: ونحن وسط في العقيدة؛ فنعظم الله عز وجل كل التعظيم, ونقدر الرسول صلى الله عليه وسلم ونحترمه, لكن لا نقدسه صلى الله عليه وسلم، ولا نرتقي بمكانته مرتبة النبوة كما فعل النصارى، ولا نذمه صلى الله عليه وسلم، ولا نطرحه، ولا نقتل أنبياءنا كما فعل اليهود.
فالوسط هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول صلى الله عليه وسلم: {إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء} أي: على أثر الوضوء, أو بسبب الوضوء, ثم قال: {فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل} وكأن كلمة (من استطاع أن يطيل غرته فليفعل) من كلام أبي هريرة , قال بعض الحفاظ من المحدثين: كلمة (من استطاع منكم أن يطيل غرته) من كلام أبي هريرة!
أي: ليست من مشكاة النبوة، إنما من كلام أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.
وكان أبو هريرة إذا حدث في بعض الأحاديث وزاد فيها قال: هذه من كيسي, وهكذا ذكرها أهل التراجم مثل صاحب كتاب الدفاع عن أبي هريرة.
فالمقصود من الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يندبنا إلى أن نعتني بالوضوء ونكمله, وأن نحرص على هذه الشعيرة؛ لأن الغرة تأتي على قدر ما في الوجه {محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل}.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل} قيل: أنه يطيل ويبالغ في الغرة أو يوسعها؛ كأن يتوضأ إلى الكعب، وقال بعض أهل العلم: ليست الغرة في الوجه إنما الغرة في اليدين والرجلين، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته في يديه ورجليه, لكن التحجيل في اليدين والرجلين والغرة في الوجه, لكن هذا كأنه من حمل بعض الشيء على بعض, ومقصود أبي هريرة أن من استطاع منكم أن يطيل غرته، أي: يبالغ في الوضوء, ويزيد هنا وهنا, فعليه أن يفعل, وهذه السنة كان يفعلها أبو هريرة رضي الله عنه.
قال نعيم المجمر: رقيت مع أبي هريرة على سطح المسجد، فرأيته يتوضأ فرفع ثيابه حتى بلغ الكتفين، ثم توضأ إلى العضدين, قال: فسألته, فقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن أمتي يدعون يوم القيامة غراًمحجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع أن يطيل غرته فليفعل}.
ما هو موقف أهل العلم من رواية: {من استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل} هل هي معتبرة أم لا؟
الصحيح أن هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفعه عن الكعبين والمرفقين, لكن ما كان يبلغ به الكتفين عليه الصلاة والسلام, وهذا من فعل أبي هريرة, فنحن نأخذ بما رأى، أي: بما نقل إلينا من الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا نأخد بما رآه هو أو بما استنبطه ووجده واستنتجه من النص, لأن كثيراً من الصحابة يروون أحاديث ويفسرونها، فنأخذ بالرواية ولا نأخذ بالتفسير إلا إذا كانت صحيحة.
يقول شاعر الشام يمدح الوضوء وأهل الوضوء:
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا |
وقل لـبلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا |
بلال مات رضي الله عنه, لكن يقول: قل لبلال قلبك إذا توضأت وأنت على الفراش، والنوم على أجفانك، وسنة النوم تداخل في كراك, وأنت تسمع داعي الله على المآذن، والبرد شديد وقارس, والفراش وثير، واللحاف دفيء وتسمع: (الله أكبر) والشيطان يقول: نم, فتريد أن تقوم, فيقول: نم, فتريد أن تقوم, والشيطان يقول: نم, فيقول الشاعر:
وقل لـبلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا |
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا |
الجواب: ليس مسح الرقبة من إطالة التحجيل، إطالة التحجيل في غيرها, أما مسح الرقبة فيذكرنا بقول الشاعر العربي:
أم الحليس لعجوز شهربة ترضى من اللحم بعظم الرقبة |
الشاهد أن الرقبة تطلق في الإنسان وفي غيره.
الجواب: الظاهر أن الذين قبلنا صاموا بل هو الصحيح, لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
وهنا مداخلة للشيخ جبريل جزاه الله خيراً، فمن مثله نستفيد.
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا |
والقضية التي ذكرها قد ذكرها الطبري في تفسيره, عند قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [البقرة:51] السبب أن موسى عليه السلام فيما يذكر ابن عباس: أنه صام ثلاثين يوماً, فلما صام ثلاثين تغير فمه.. هكذا يذكرون, وقصص بني إسرائيل -كما تفضل الشيخ- كالوردة تشم ولا تعك، لا تصدقوهم ولا تكذبوهم, يقول الإمام مالك: أهل العراق مثل بني إسرائيل لا تصدقوهم ولا تكذبوهم.
فالمقصود: أن موسى عليه السلام لما صام ظهرت من فمه رائحة -خلوف فم الصائم- فأخذ سواكاً وتسوك, فلقي الله عز وجل، فأوحى الله إليه: يا موسى! أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك؟ عد فصم عشرة أيام, فعاد وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف:142] فعاد فصام عشرة، فأصبحت أربعين.
لكن السؤال الذي يتوجه: هل اسم رمضان، أو هذا الشهر بالذات كان يصام من قبلنا؟ لا ندري، إنما الأسماء أسماء إسلامية إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً [التوبة:36] أما الأسماء فهي إسلامية بلا شك, والرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم والعرب تصوم من باب أولى، لكن صام صلى الله عليه وسلم ثمان رمضانات، وقد فرض في السنة الثانية.
الجواب: المقصود أن هذا في زمن الإمام مالك, أما الآن ففيهم صالحون، وأولياء، وعلماء، وأخيار، وبررة إن شاء الله, ففيهم مثلما فينا, أي: كل بيت بما فيه.
الجواب: من حيل بني إسرائيل: كلما حرم الله عليهم شيئاً لفوا وأتوا من جانب آخر, فقد حرم عليهم الشحوم كما في صحيح مسلم في حديث جابر فقالوا: إن الله حرم الشحوم أن نبتاعها وأن نذيبها, ولكن ما حرم علينا الحميس هذا, الذائب منه لم يحرمه علينا, فأذابوه على النار، وقالوا: ليس بشحم, إنما هو ذائب وباعوه, وحرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت, فماذا فعلوا؟ حفروا خنادق، فتأتي الحيتان يوم السبت فيغلقون عليها ويصيدونها يوم الأحد.. ما شاء الله!! هذا ذكاء خارق, ولذلك قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة:13].
الجواب: حديث: {لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد} حديث ضعيف رواه ابن عباس , وقد ضعفه أهل العلم, بعض الناس يقول: الحمد لله! فتح الله علينا ضعف الحديث، فيذهب يصلي في البيت، لا. هناك أحاديث تكفي في البخاري ومسلم، منها: حديث التحريق أن الرسول صلى الله عليه وسلم همّ أن يحرق عليهم بيوتهم بالنار لولا ما فيها من الذرية، وجاء من حديث ابن أم مكتوم: {أتسمع النداء؟ قال: نعم, قال: فأجب فإني لا أجد لك رخصة}, وحديث آخر صحيح: {ما من ثلاثة في قرية من قرى لا تقام فيهم الجماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان} نعوذ بالله من الشيطان.
في الختام: نسأل الله عز وجل أن يتولانا وإياكم، وأن يهدينا وإياكم إلى سواء السبيل، وأن يتوب علينا وعليكم، وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه, كما أسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم, وأن يتغمدنا وإياكم برحمته، وأن يجعلنا من عتقاء هذا الشهر إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر