إسلام ويب

الشهادة في سبيل اللهللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان زيد بن حارثة مولى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر أحد من الصحابة في القرآن إلا زيد بن حارثة، وقد سبته إحدى القبائل في الجاهلية، ثم أسلم على يد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم وقدمه على أبيه وأعمامه. وفي الإسلام كان له مشاركة عظيمة، ففي مؤتة كان قائداً للمعركة وقتل شهيداً فيها. ثم جاء بعده ابنه أسامة، فكانت منزلته عند الرسول كمنزلة أبيه. ثم تطرق في حديثه إلى امتنان الله على هذه الأمة، فجعل لها خصائص تختص بها عن جميع الأمم.
    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم.

    أحيي هذ الوجوه التي لا ترى إلا في الخير, قدَّمكم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وأخَّر غيركم, وأكرمكم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وأهان غيركم, فإن المهان كل الإهانة هو الذي لا يتصل بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى, وهو الذي لا يعفر وجهه ساجداً لله, وهو الذي يصاب بالإهانة كل الإهانة، وهو الذي يفقد قوامه لهذا الدين.

    أنتم تصلون وتستمعون آيات الله البينات التي أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم صفوف، وغيركم في المنتزهات والملاهي والمقاهي يستمعون الأغاني الماجنة, ويستمعون العهر, وكل ما يدعو إلى الفاحشة ويبعدهم عن الله عز وجل.

    أنتم في روضة من رياض الجنة, وغيركم في مجلس من مجالس الشيطان.. أنتم تظلكم الملائكة، وتحفكم السكينة، وتغشاكم الرحمة، ويذكركم الله فيمن عنده, وغيركم تحفهم الشياطين، ويغشاهم الغضب والسخط؛ لأن كل من ابتعد عن هذا الدين أصابه الله بقارعة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126].

    فالمقصود -أيها الأبرار- أن المسلم لا بد له أن يتذكر نعمة الله عز وجل عليه, كثير من الناس في نعمة الله, مستقيم ويحافظ على الصلوات لكنه لا يشعر بهذه النعمة حتى يذوق الضلال ومرارة البعد عن الله عز وجل, ثم يرده الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى إليه.

    معنا في درسنا هذا زيد بن حارثة وأسامة بن زيد.. وزيد بن حارثة من سادات الشهداء عند الله عز وجل, وأما أسامة بن زيد فله حديث عندنا هنا في الوضوء.

    الدين يرفع زيد بن حارثة

    زيد بن حارثة هو مولى للرسول صلى الله عليه وسلم, لم يذكر أحد من المسلمين في القرآن باسمه إلا زيد بن حارثة، فَلَمْ يُذكر في القرآن أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا خالد، وإنما ذكر في كتاب الله زيد بن حارثة يتلى إلى قيام الساعة.

    كان رقيقاً, ليس له قيمة عند قريش, فالجاهلية تدوس الإنسان كما تدوس أنت التراب, الجاهلية لا تعبد إلا القيم, والمناصب, والجاهات, والشارات، والأوسمة, فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم كرم الإنسان وعرف قيمته.

    أحد الناس -ولا أريد أن أستشهد بأبياته في مثل هذا الموقف؛ لأنه أعمى القلب والبصر لكن لا بأس, يقول علي رضي الله عنه: [[الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنّى وجدها]] هذا الأعمى هو البردوني شاعر اليمن , أعمى القلب والبصر, كان في شبابه يمدح الإسلام لكنه انتكس, يقول في بعض العصاة الفجرة المردة على الله:

    قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا     شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا

    مهلاً فديت أبا تمام تسألني      كيف احتفت بالعدى حيفا أو النقب

    إلى آخر ما قال.

    إنما المقصود أن الذي لا يرفعه الله لا يرتفع أبداً, فـزيد بن حارثة أتى إلى هذا الدين، ووضع كفه في كف محمد صلى الله عليه وسلم؛ فأعطاه صلى الله عليه وسلم درساً من التربية لا ينساه أبداً.

    أتى أبوه وعمه إلى محمد صلى الله عليه وسلم يريدونه؛ لأن زيد بن حارثة فارق أهله وهو صغير, سبته قريش في الجاهلية, فأخذته وأدخلته معها في دينها وفي طاغوتها وأصنامها, فلما دعا صلى الله عليه وسلم إلى لا إله إلا الله, كان أول من استجاب له العبيد، والرقيق، والضعفاء، والمساكين.

    يقول الأستاذ الشهيد سيد قطب نسأل الله أن يجعله شهيداً، يقول: إن هذا الدين خال من الطلاء -أي: ليس هناك دعايات على الدين- من أراد الدين يأتي للدين لنفس الدين، أي: ينقاد من نفسه, فليس هناك دعايات مغريات كما تفعل الشيوعية أو النصرانية أو اليهودية أو البابية أو البوذية التي تدعو وتضخم وتقول: عندنا وعندنا..!! فإذا أتيت إليها وجدتها هباءً منثوراً, لا تجد منها شيئاً, إنما الإسلام ينصب نفسه، ويقول: من يريدني فليأتِ, سواء أكان الآتي ملكاً أو وزيراً أو غنياً أو فقيراً.

    يقول سيد قطب: إن هذا الدين خال من الطلاء, من أراده أتاه لذاته, فأتى زيد بن حارثة، ووضع كفه في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعلمه صلى الله عليه وسلم ورَّباه, وما ظنكم بإنسان كأنه أبوه, كان يدعى زيد بن محمد , ومن لطافته صلى الله عليه وسلم أنه ما أثار ولا خدش ولا جرح شعور إنسان رافقه في الحياة الدنيا ولو بكلمة, حتى أعداؤه من الكفار, ونتحدى أن يأتينا عدو من أعداء الإسلام بكلمة نابية قالها صلى الله عليه وسلم لأعدائه, فهذه كتب الحديث والسيرة والتراجم, تعالوا بكلمة واحدة نابية مؤذية أو جارحة للشعور قالها صلى الله عليه وسلم حتى لأعدى أعدائه, فقد بُصِقَ في وجهه صلى الله عليه وسلم, ونُثر التراب على وجهه, وأُهينت كرامته في الحرم وضربت بناته, وطرد من دياره, وقوتل وأوذي وسُب, وشُهِّر في كل مكان, وما قابل ذلك إلا بالسكوت وبالصمت وبالحكمة وبالأناة وبالحلم، حتى يقول الله من فوق سبع سماوات: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

    من يتحمل مثلك هذه الأمم؟ من يستطع مثلك أن يشق طريق الحياة بعزم وتصميم وخلق حسن؟

    ويقول سبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

    فجاء أبو زيد بن حارثة , وجاء أعمامه, وكانوا يُعلنون عنه في سوق عكاظ: من وجد ابن حارثة؟ -والجريدة التي اسمها عكاظ سميت باسم سوق عكاظ آنذاك- فقال لهم رجل: أنا وجدت غلاماً اسمه زيد يمشي مع الذي ادعى النبوة، دائماً يمشي معه, فأتى أبوه وعمه وإخوانه ودخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأول ما رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم انشجروا، أي: تصوروا أن العرب يعيشون في الصحراء في مكة تحرقهم الشمس فتؤثر في أبدانهم وألوانهم إلا الرسول عليه الصلاة والسلام, فكأنه أتى من السماء, وجهه كالقمر ليلة البدر, حتى من رآه يعرف أنه ليس بكذاب, حتى اليهود قالوا ذلك, فلما رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم خجلوا, كان قصدهم أن يضاربوا ويصارعوا من أخذ ولدهم, لكن لما رأوه صلى الله عليه وسلم وجلوا وخافوا, فقالوا: هذا ابننا, قال صلى الله عليه وسلم: {أهذا أبوك؟ قال: نعم. قال: وهذا عمك؟ قال: نعم. قال: اختر إن شئت أن تذهب إليهم فاذهب، وإن شئت أن تبقى معي فابق معي, فدمعت عينا زيد, وقال: يا رسول الله! أتتركني؟ قال: أنت بالخيار، إن تردني فأنت معي, قال: والله لا أريد إلا أنت في الدنيا وفي الآخرة. فبكى صلى الله عليه وسلم, وقال: أنت معي, قال أبوه: أنا أبوك, وقال عمه: أنا عمك, وقال إخوانه: نحن إخوانك، كيف تتركنا وتذهب إلى محمد؟ قال صلى الله عليه وسلم: قد قلت لكم: إن أرادكم فليذهب معكم، وإن أرادني فليبق معي, قال: لا أريد إلا أنت يا رسول الله}.

    فذهب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, واستمرت به الحياة, وطالت به حياته وأيامه التي لا تنسى مع الرسول صلى الله عليه وسلم, ما كان يغضبه أبداً, بل كان -كما في السيرة- ما قام صلى الله عليه وسلم إلا لقلائل من الناس, فما كانت عادته أن يقوم صلى الله عليه وسلم من مجلسه.

    يأتي بعض ملوك العرب وفيهم من الكبر والعتو، ويريدون أن يقوم لهم الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يقوم, يسلمون ويجلسون هنا وهنا, فإذا أتى زيد بن حارثة قام صلى الله عليه وسلم، وشق الصفوف، وعانقه وأجلسه بجانبه, لماذا؟ ليخبر الرسول صلى الله عليه وسلم الإنسانية أن هذا الدين دين قيم وأخلاق وتعامل, لا دين مناصب ووظائف وشارات وأوسمة.

    استشهاد زيد بن حارثة في معركة مؤتة

    أتت معركة مؤتة التي في الأردن في معان -وسوف أسوق لكم هذا لأجل الشهادة التي تليت، نسأل الله تعالى أن يشرفنا بالشهادة، وأن يتوجنا بتاجها, فإن من سأل الشهادة أعطيها ولو لم تصبه, إذا سألتها بصدق ولو لم تمت شهيداً أعطاك الله الشهادة ولو مت على فراشك- فأتت معركة مؤتة، وحضر الصحابة رضوان الله عليهم, بنو هاشم وبنو عبد شمس, أعظم أسر في الدنيا وفي الكرة الأرضية, ما خلق الله في المعمورة، لا في آسيا ولا في أفريقيا ولا في استراليا ولا في أوروبا ولا الأمريكتين أعظم من بني هاشم وبني عبد شمس, فأتوا لأنهم يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يجهز جيشاً، فيريدون أن يكونوا قواداً, ليشرفهم صلى الله عليه وسلم بأن يعطيهم الراية, فخطب صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن الروم أصبحوا في بلد معان في الأردن , وأن عدد الروم ما يقارب مائة وثمانين ألفاً, فاختار ثلاثة آلاف من الصحابة.. إننا نقاتل بالحفنات لكن معنا لا إله إلا الله والأعمال الصالحات، نحن لا نقاتل الناس ببشر، ولا بكثرة معدات وإنما نقاتلهم بلا إله إلا الله مع الإعداد, فلما جهز صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف, قال: {من نولي عليكم؟} كلٌ رفع رأسه, الإمارة محبوبة وطعم، وهي أشهر من هاروت وماروت, ولذلك فإنك تجد حتى الأطفال في البيت وهم صغار يحبون الإمارة وهم في الصغر, إذا قلت: من يفتح الباب؟ يتقافزون على فتح الباب, لأن الإنسان يريد الناموس, فسكت بعضهم وبعضهم استشرف, فقال: {قم يا زيد بن حارثة} -والرسول صلى الله عليه وسلم مما علمه الله أن زيد بن حارثة سوف يقتل- قال: {فإذا قتلت فليتول بعدك جعفر بن أبي طالب. فقام جعفر , قال صلى الله عليه وسلم: وأنت يا جعفر إذا قتلت فليتول بعدك عبد الله بن رواحة} وذهب الجيش، وودعوا الرسول صلى الله عليه وسلم.

    وبدأت المعركة، ولبس زيد بن حارثة أكفانه؛ لأنه أراد ألا يعود مرة ثانية, وولّى وجهه شطر الأعداء، وأخذ يقاتل من الصباح إلى قبيل الظهر, حتى كلّت يداه من كثرة الضرب, وفي الأخير ضُرِبَ رضي الله عنه وطعن ووقع شهيداً على الأرض, والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، والمعركة في معان قريب مؤتة في الأردن, والرسول صلى الله عليه وسلم يعيش لحظات المعركة, لحظة بلحظة وحركة حركة, وسكنة سكنة، يطلع عليهم, فلما قتل زيد بن حارثة التفت صلى الله عليه وسلم، وبكى وبجانبه أسامة ولد زيد، فدعاه صلى الله عليه وسلم وقبّله، فقالوا: ما لك يا رسول الله؟ قال: {شوق الحبيب لحبيبه. قالوا: أحدث شيء؟ قال: قتل زيد بن حارثة}. وأخذ الراية جعفر رضي الله عنه، أأخذها ليستميت؟ لا. تناول السيف وأخذ الراية رضي الله عنه، وهو يقول:

    يا حبذا الجنة واقترابها     طيبة وبارد شرابها

    والروم روم قد دنا عذابها     كافرة بعيدة أنسابها

    عليّ إن لاقيتها ضرابها

    ثم أخذ يضارب حتى قرب العصر, ثم قطعت يده اليمنى، ثم أخذ الراية باليسرى, فقطعت اليسرى, فضم الراية, فضرب بالرماح على صدره رضي الله عنه فوقع شهيداً, فقال صلى الله عليه وسلم، وهو يبكي: {وأخذ الراية جعفر فقتل وأبدله الله مكان يديه جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء} ثم قام من مجلسه صلى الله عليه وسلم, وأتى إلى أبناء جعفر في بيتهم مع أمهم أسماء بنت عميس الخثعمية , فقال صلى الله عليه وسلم: {أين أبناء أخي جعفر؟ وهو يبكي, فأخذت تولول وتبكي، عرفت أن في الأمر شيئاً, فقالت: يا رسول الله! قتل جعفر؟ قال: نعم, قالت: من أبونا إذاً؟ قال: أنا أبوكم بعد أبيكم، أنا وليكم في الدنيا والآخرة} ثم أخذ صلى الله عليه وسلم أطفاله، وأخذ يضمهم ويقبلهم عليه الصلاة والسلام.

    وعاد إلى مكانه ليتابع ما تنتهي إليه المعركة, فأخذ الراية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه وكان صائماً, ومع الغروب دعي إلى أن يأخذ الراية فتلكأ, لأنه يريد أن يفطر على شيء, لأنه جائع من الصباح, فناولوه قطعة لحم فأخذ يأكل فما استساغها؛ يرى الرايات تتكسر والسيوف تتحطم, والرماح وشظايا السلاح تتدفق على رءوس الناس.. معركة طاحنة اشتدت قبل صلاة المغرب, وهو القائد المعين من الرسول صلى الله عليه وسلم ليأخذ مكانه, فألقى العظم هذا, ولم يأكل شيئاً, وقال:

    أقسمت يا نفس لتنزلنه

    لتنزلن أو لتكرهنه

    إن أقبل الناس وشدوا الرنة

    مالي أراك تكرهين الجنة

    هل أنت إلا نطفة في شنة

    ثم قتل رضي الله عنه وأرضاه, فرفع الله هؤلاء الشهداء, وقام عليه الصلاة والسلام على المنبر، وقال: {لقد ارتفعوا على أسرة من ذهب، ودخلوا الجنة وفي سرير ابن رواحة ازورار} رضي الله عنهم وأرضاهم.

    هذه هي الشهادة, وهذه هي أعظم المنازل بعد منزلة النبوة, وعلى المسلم أن يتشرف لها دائماً، وأن تكون همته عالية, لأن أي حياة ليس فيها طلب شهادة أو طلب استقامة أو طلب تضحية أو طلب فداء فهي حياة بهائم، نسأل الله العافية!

    أسامة بن زيد يتولى قيادة جيش المسلمين

    أما ابنه أسامة رضي الله عنه وأرضاه فقد عاش مع الرسول صلى الله عليه وسلم مدللاً, حتى كان صلى الله عليه وسلم يمسح على رأسه ويلاعبه، ويقول له: {لو أن أسامة جارية لحليته بالذهب}

    عاش أسامة وكان كأبيه يصلح للقيادة رضي الله عنه, ولاه عليه الصلاة والسلام القيادة وعمره ثمان عشرة سنة, فلما ولاه القيادة أتدرون من الجيش أو من الجنود؟

    كان عمر بن الخطاب، الذي تهتز له الدنيا تحت قيادة أسامة بن زيد، ومعه عثمان، وعلي، وخالد بن الوليد والسادات الكبار, فلما ذهبوا أخذوا يتكلمون بينهم ويقولون: يولي علينا صلى الله عليه وسلم هذا الغلام؟!

    فأخذ الكلام يدور فيما بينهم حتى وصل الكلام أسامة رضي الله عنه وأرضاه, فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تترقرق دموعه، يقول: {يا رسول الله! نقموني في إمارتي، وقالوا: إني لست أهلاً. فجمعهم صلى الله عليه وسلم، وقال: نقمتم على أسامة إمارته، والله لقد كان خليقاً بالإمارة، وإن أباه قبله خليقاً بالإمارة} أي: أنه أهل لها وكفء.

    أسامة بن زيد يشفع للناس عند الرسول

    عاش رضي الله عنه وأرضاه حتى كان الناس يتشفعون به في حوائجهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, فقد كان يقبل منه لأنه كان قريباً منه, ومن ضمن الشفاعات التي شفع فيها أسامة بن زيد: القصة التي في الصحيحين عن عائشة في قصة المخزومية التي سرقت، وهي امرأة من بني مخزوم, وبنو مخزوم أسرة أبي جهل وخالد بن الوليد، كان الناس يمشون على الأرض وهم يمشون في الهواء من الكبر, حتى يقول معاوية رضي الله عنه: [[لا تجدوا مخزومياً إلا متكبراً إلا من أصلحه الله بالإسلام كـخالد]] أما هم في الجاهلية فما كانوا ينظرون إلى الناس, أسرة قوية كانوا يكسون الكعبة سنة, وقريش كلها تكسوها السنة الأخرى, كان الذهب عندهم يقسم بالفئوس, فلما أتى الإسلام أتت امرأة منهم كانت ذكية، تستعير الحلي من جارتها من ذهبها وفضتها، فإذا مكثت عندها شهراً جحدت، وقالت: ما استعرت منك شيئاً, فطال الأمر وانتشر الخبر بين الناس, وفي الأخير شكوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, فأتي بها، فأقرت واعترفت أنها كانت تستعير الحلي وتجحده، فقال صلى الله عليه وسلم: {لا بد من قطع يدها} فسمع بنو مخزوم فقامت قيامتهم, قامت الحرب العالمية الثالثة!! قالوا: كيف يقطع يد امرأة منا؟ كيف نخرج عند العرب بعدها؟ وكيف نجالس؟ ومن الذي سوف يرفع لنا ذكرنا بعدها؟ فأرادوا التوسط في القضية, فقالوا: لا نرى إلا أسامة بن زيد ذاك الشاب الحبيب عند الرسول صلى الله عليه وسلم, فورطوا أسامة رضي الله عنه وأرضاه, فتورط وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: {يا رسول الله! أرى أن تسامح وتعفو عن المخزومية، فقال صلى الله عليه وسلم: ماذا تقول؟ قال: أرى أن تعفو عن المخزومية، قال: التي تجحد العارية؟ قال: نعم. قال: أتشفع في حدٍ من حدود الله؟ ثم تغير وجهه صلى الله عليه وسلم، وأخذ يرفع صوته على أسامة, ثم جمع الناس وارتقى المنبر، وقال: أيها الناس: إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد -وحاشاها أن تسرق- سرقت لقطعت يدها} ثم قام صلى الله عليه وسلم فنفذ فيها الحكم.

    واستمر أسامة، ثم توفي رضي الله عنه وأرضاه فيما بعد، وقد رزقه الله المراتب العالية في خدمة هذا الدين, وشَّرفه، ورفع ذكره, وأخفض الله ذكر أعدائه من أبي جهل وأبي لهب، فلا يذكرون أبداً إلا بالخسة والحقارة والمهانة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086787295

    عدد مرات الحفظ

    768925529