ومستخلصاً في نهاية درسه نتفاً من الفوائد المستنبطة من تلك الغزوة.
صلى الله على النعمة المهداة، والعطية المسداة، أفصح من نطق بالضاد، ورفع علم العباد.
صلى الله على باني دولة الإسلام، وهادم دولة الأصنام، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فإننا في هذا الدرس سوف نعرض بإذن الله موقعة أحد، حيث المهُج التي سافرت إلى الله، والأرواح التي هاجرت إلى الحي القيوم، حيث المواقف الخالدة التي لا تنسى أبد الدهر، حيث البيعة المجيدة التي بايع فيها المهاجرون والأنصار ربهم تبارك وتعالى، فما نكصوا وما تأخروا، ويشترك القرآن مع الحديث النبوي في هذه الموقعة لينتقل القرآن بنا إلى معركة أحد، يصور لنا المعركة والقتل في سبيل الله والشهادة والثبات، ثم ثمرة النصر أو الهزيمة.
ولنكن ونستمع إلى الإمام البخاري وهو يصل إلى كتاب الغزوات، ويواصل مسيره في نقل الأحداث بأسانيد كنجوم السماء.
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري |
يقول رحمه الله تعالى في كتاب المغازي: باب غزوة أحد، ثم ساق بسنده إلى البراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه قال: (لما حضرنا معركة أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر على الرماة رجلاً من أصحابه -اسمه عبد الله- قال: فلما بدأنا المعركة فر المشركون، حتى إني لأرى خدم سوق نسائهم يصعدن في الجبل، قال: فلما رأى الرماة هذا الفرار؛ نزلوا إلى الغنائم، وقد خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت الهزيمة، فالتجأنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدناه جالساً ومعه أبو بكر وعمر، وإذا بـأبي سفيان ينادي: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلم يجبه أحد، فقال: أين أبو بكر؟ فلم يجبه أحد، فقال: أين عمر؟ فلم يجبه أحد، قال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم -أو فقدتموهم كما في بعض الروايات- فقام عمر لما آنس هذه الغضبة لله عز وجل في نفسه فقال: لا والله لقد أبقى لك الله ما يسوءك يا عدو الله، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وأنا عمر، فقال أبو سفيان: اعل هبل -وهبل صنم لهم يعبدونه من دون الله- فقال عليه الصلاة والسلام: ردوا عليه، فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم -يعني هناك صنم آخر اسمه العزى وليس لكم عزى- فقال صلى الله عليه وسلم: ردوا عليه، قالوا: وماذا نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم فقالوها، فقال أبو سفيان: يوم بيوم والحرب سجال، فقال صلى الله عليه وسلم -أو قال بعض أصحابه-: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار
والقرآن ينتقل بنا في سورة آل عمران من الآية العشرين والمائة إلى قبل أواخر السورة ليعرض لنا تلك المشاهد الحية، ومعركة أحد تصل إلى روح المؤمن وتلامس قلبه، وتحدث شغاف روحه، وهي معركة حية في ضمير الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها،وفيها صور عجيبة، ومن يقرأ أواخر سورة آل عمران بتدبر؛ يجد العجب العجاب.
يقول الله عز وجل وهو يتحدث عن تلك الأحداث والوقائع للرسول عليه الصلاة والسلام: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:121-122] ثم يقول جل ذكره: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:123-128] وهذه ست آيات من أربعين آية أو ما يقارب الخمسين تتحدث عن معركة أحد.
يأتي أبو سفيان ليعلن المعركة والحرب مرة ثانية على الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، ويتوجه بجيش قوامه ثلاثة آلاف، قلوبهم تغلي من الحقد والمرارة والأسى واللوعة على أقاربهم الذين قتلوا في معركة بدر.
ولم يعلم عليه الصلاة والسلام بالجيش إلا عندما طوق المدينة، ونزل تجاه جبل أحد المعروف، وشاك الجيش برماحه وبسيوفه أطراف المدينة، وأصبح أبو سفيان في مركز قوة يهدد عاصمة الإسلام، عاصمة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، كلما خرجت سارحة من إبل أو بقر أو غنم أخذها أبو سفيان، وكلما خرجت امرأة سباها، وكلما رأى رجلاً من المهاجرين والأنصار آذاه بسب أو شتم أو ضرب، فأصبحت المدينة تعيش في مأساة وفي خوف ورعب.
أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا |
فجرد حسامك من غمده فليس له اليوم أن يغمدا |
وقف عليه الصلاة والسلام وأصحابه أصحاب المهج الحارة والكتائب المنتصرة من الذين بايعوا الله يوم العقبة وقبلها وبعدها، والذين اشترى الله أرواحهم منهم.
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى |
أم من رمى نار المجوس فاطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا |
واستشارهم عليه الصلاة والسلام وهم في المسجد، وليس بينهم وبين أبي سفيان إلا ما يقارب الميل والمعركة حتمية لا بد منها، هل ترون أن نبقى في المدينة عاصمة الإسلام، فتدار رحى الحرب داخل العاصمة؟ أو نخرج إليهم، خارج حدود المدينة فنقاتلهم هناك؟ وما هو الرأي الأحسن؟ ولماذا يشاورهم عليه الصلاة والسلام والله قد آتاه من الرشد والسداد والحكمة ما الله به عليهم؟
إن المشاورة معناها: التواضع،ومعناها: التربية، وذلك درس لكل مسئول أو مدير أو رئيس هيئة بأن يشاور مقربيه وأعضاءه، ليكون أقرب إلى قلوبهم، يقول تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159] فلذلك شاورهم عليه الصلاة والسلام، وإلا فإنه يعلم الرأي السديد، وكان رأيه أن تبقى المعركة داخل مدينته عليه الصلاة والسلام، وأن تدار رحى الموت داخل العاصمة، وأن تبقى السكك مفتوحة للكتائب، ويقوم النساء والأطفال برجم المعتدين داخل شوارع المدينة؛ لأنهم سوف يدخلونها، وهذا هو الرأي السديد في منطق الحق، وقد ذكر ذلك بعض الذين تكلموا في سياسته صلى الله عليه وسلم، وأظنه سعيد حوى وقارن بينه صلى الله عليه وسلم وبين نابليون في الجوانب العسكرية، ولكن أين الثرى من الثريا.
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا |
فقام الكبار والشيوخ من الصحابة، وقالوا: نرى رأيك يا رسول الله! نرى أن تدار المعركة داخل المدينة، فهو الرأي السديد، وقام عبد الله بن أبي رأس الضلالة وعمود الجهالة.. المنافق الشهير.. حربة النفاق، وما أصاب في حياته إلا في هذا الرأي، والمخطئ قد يصيب، والظالم قد يعدل ولو مرة، فقال: يا رسول الله! والله ما اعتدى علينا معتدٍ فبقينا في المدينة إلا هزمناه، فنرى أن تبقى في المدينة حتى يدخلوا، فإنا إذا قاتلناهم هزمناهم بإذن الله، وهذا هو الرأي.
ولكن شباب الصحابة غلت مراجلهم، وتحركت أرواحهم، فخرج من المسجد ما يقارب ثمانين شاباً، أعمارهم بين الثلاثين إلى العشرين، يقودهم حمزة وقد نصب ريش النصر على عمامته، ودخلوا بعد برهة في المسجد وانتظموا في آخر المسجد وقالوا: يا رسول الله! كيف تبقى بنا في المدينة؟ إنه لا يقاتل أحد في أرضه إلا ذل.
وقام أحد بني سالم بن عوف فقال: {يا رسول الله! اخرج بنا إلى الأعداء لا نقاتلهم داخل المدينة، لا تحرمني دخول الجنة، فو الذي لا إله إلا هو لأدخلن الجنة، فتبسم عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر، وقال: بم تدخل الجنة؟ قال: باثنتين: -انظر إلى المؤهلات والشهادات العالية- أولاهما: أني لا أفر يوم الزحف، والثانية: أني أحب الله ورسوله، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: إن تصدق الله يصدقك}.
ثم وقف رجل آخر وقال: يا رسول الله! تسبى ذرارينا، وتؤخذ بهائمنا، ولما نقاتل! اخرج بنا إليهم يا رسول الله!
ورفع أنس بن النضر صوته من آخر المسجد وعليه السلاح، وقد سل سيفه وقال: يا رسول الله! أنا فاتني يوم بدر -أي أنه لم يحضر معركة بدراً - فلا تحرمني قتال الأعداء، فوالذي لا إله إلا هو لئن حضرت ليرين الله ما أصنع.
وتتابع كلام شباب الصحابة من يمين المسجد ويساره، وفي الأخير رأى صلى الله عليه وسلم أن الأغلبية الساحقة مع الذين يرون الخروج، فقال: نخرج إليهم إن شاء الله.
ثم ترك المنبر ودخل إلى بيته واغتسل ولبس الدرع عليه الصلاة والسلام، ثم خرج والسيف مسلول، سيف ذي الفقار -بالتخفيف- وعليه لامة الحرب قد غطت رأسه الشريف عليه الصلاة والسلام، وقال: الرأي أن نخرج.
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها |
فلما رأوا ذلك رجعوا إلى أنفسهم وقالوا: لعلنا أكرهناك يا رسول الله! نرى أن تبقى في المدينة -ولكن الله يقول: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159] - فقال صلى الله عليه وسلم: {لا والله لنخرجن إليهم، ما كان لنبي إذا لبس لامته أن يخلعها حتى يقضي الله أمره}.
وفي الأخير سكتوا، وأعلن صلى الله عليه وسلم أن المعركة سوف تقوم غداً، وأن من بايع الله فعليه أن يثبت على بيعة الله عز وجل؛ لأن الله يقول: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] من أصدق من الله؟ من أوفى بعهده من الله؟ من الذي يثيب بالإخلاص إخلاصاً وبالصدق صدقاً إلا الله.
دخل عليه الصلاة والسلام مزرعته، ودخلت الجيوش بعده من الصحابة، وقوامهم ألف مقاتل، فلما رأى الرجل ذاك قال: يا محمد! -ينادي الرسول صلى الله عليه وسلم- لا تدخل مزرعتي؛ فإني لا أبيح لك ذلك، ثم أخذ حفنة من التراب، وقال: والله لو كنت أعلم أنها لا تصيب إلا وجه الرسول صلى الله عليه وسلم لرميت بها وجهه، فغضب الصحابة وتقدم إليه رجل من الأنصار بقوسه فضربه حتى أدماه، وأراد الآخر أن يقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: اتركوه، هذا رجل أعمى الله قلبه وأعمى بصره.
ووصل صلى الله عليه وسلم إلى جبل الرماة، ولكن في الطريق أتى النفاق العائر، وأتى الفشل والهزيمة في قلوب الذين ما أخلصوا وصدقوا مع الله، والذي لا يصدق في أيام الرخاء لا يصدق في أيام الشدة، فانعزل عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة مقاتل، أي: بثلث الجيش، فقد كانوا ألفاً، فظل يوسوس لهم كالشيطان ويمنيهم، ويقول: خالفوا رأيي وخرجوا من المدينة، والرأي أن نقاتل في المدينة، ولو أطاعوني ما خرجوا، فاستمع له بعض الناس، وقد قال تعالى: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:47].
وكادت فئتان اثنتان هما بني سلمة وقبيلة بني حارثة أن تسمعا وتفشلا، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران:122] همت كتيبتان أن تتراجعا من المعركة: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122] فالله هو الذي عصم وسلم، قال جابر وكان من بني سلمه: نزلت هذه الآية فينا، وما أحب أنها لم تكن نـزلت لأن الله يقول فينا: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122].
كادوا يستمعون لكلام هذا المجرم الآثم، وكادوا يعودون من الطريق إلى المدينة ولكن الله سلَّم وعصم، فتوجهوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ونزل عليه الصلاة والسلام عند جبل الرماة وأسند ظهره، ورأى كفار قريش تمور في وجوههم الضلالة وتغلي قلوبهم بالبغي، وكانوا تعاقدوا وتعاهدوا ألا يفروا في المعركة أبداً.
وأتى أبو سفيان قبل المعركة -وهو قائد نحرير نسأل الله أن يغفر له ذنوبه فقد أسلم- وكانت الراية عند بني عبد الدار، وهم أسرة مجيدة عندهم مفاتيح الكعبة، وعندهم اللواء دائماً، فإذا كانت معركة مع قريش سلموا لهم الراية، فأراد أن يحمسهم على المعركة، ويضريهم على القتال، فقال: يا بني عبد الدار! أعطونا اللواء، قالوا: ولم؟ قال: لأنكم أخذتم اللواء يوم بدر فهزمنا، فاليوم نخاف أن نهزم، فسلموا لنا اللواء، فهموا أن يقتلوه فحال بينهم الناس،وقالوا: كيف نسلم إليك اللواء؟ لأنهم ورثوه كابراً عن كابر.
فوقفوا هناك، ونزل عليه الصلاة والسلام ورأى أن ذاك الرجل الداهية والعسكري الفارِه أبو سفيان قد غلب على المكان، وهو مخطط جهبذ علمته التجارب، فأخذ جبل أحد وهو الجبل الذي يضرب به صلى الله عليه وسلم الأمثال في الحديث، ويقول: مثل جبل أحد، ويقول: {جبل أحد جبل يحبنا ونحبه} فأخذ أبو سفيان الجبل وراء ظهره ليحمي ظهره وظهر الجيش، وسبق إلى المكان، فتلفت صلى الله عليه وسلم فلم يجد إلا الصحراء وراءه، وفي الأخير وجد الجبل الصغير جبل الرماة، فتمركز فيه صلى الله عليه وسلم، واختار خمسين مقاتلاً من أصحابه، وقال: أميركم عبد الله بن جبير، وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل إذا رأيتموهم اقتربوا، ولو رأيتم الطير تتخطفنا فلا تنـزلوا من الجبل أبداً حتى نهاية المعركة، هذا رأيه صلى الله عليه وسلم، وهو من أحسن الآراء.
وأتى عبد الله بن جبير فلبس أكفانه لأنه صدق مع الله، وهو أمير الخمسين ووقف على رأس الجبل، وأتى صلى الله عليه وسلم قبل المعركة فسل سيفاً بيده، وقال: {من يأخذ هذا؟ -هذه جائزة المعركة، وهذه هي المباراة العظيمة التي تمتحن فيها القلوب والأرواح إلى الله عز وجل- فكل الأيادي امتدت إلى أخذ السيف، فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فأحجمت الأيادي لأن الحق صعب، وهم لا يدرون ما تحت هذه الكلمة، فقال
فأخذها ثم أخذ يتبختر ويمشي أمام صفوف القرشيين، وقد آتاه الله بسطة في الجسم، فقد كان كالأسد.
فجرد حسامك من غمده فليس له اليوم أن يغمدا |
ثم أخذ يختال أمام الكفار كأنه يقول: من كان في رأسه حب لم يطحن فسوف أطحنه هذا اليوم، ثم اقترب رضي الله عنه وهو ينشد ويزمجر بنداء الموت ويقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل |
ألا أقوم اليوم في الكيول أضرب بسيف الله والرسول |
يقول: أنا الذي عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أقف في آخر الصفوف، عاهدته بين النخل، وسوف أضرب بسيف الله وسيف الرسول، وسوف ترون ماذا أصنع، قال الزبير بن العوام: فتتبعته أنظر ماذا سوف يفعل؟ فوالله لقد رأيته يضرب بها هام الأعداء فينزلها في الأرض.
فعليه فصل الرءوس وعلى زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يقسم التركة.. يعطي الجدة السدس، ويعطي البنت النصف.
إن على أهل اللواء حقا أن تخضب الصعدة أو تندقا |
فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب، فضرب عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه وصلت إلى سرته فبانت رئته.
قال أحد الأنصار: رأيت حمزة يوم أحد يمور في الناس كالأسد، والله لقد رأيت المشركين يفرون من بين يديه كالمعز.
وكان حمزة قد قتل يوم بدر عتبة بن ربيعة وبعض أقاربه، فجاءت هند امرأة أبي سفيان إلى وحشي وقالت: أعتقك وأسلم لك ما عندي من مال إذا قتلت حمزة بن عبد المطلب.. عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسد الله في أرضه، سيد الشهداء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فأخذ وحشي حربته وكان رجلاً حبشياً يجيد رمي الحراب، فلم يشارك في المعركة، وتخبأ في شجرة في أرض المعركة، وأقبل حمزة يمور في الكتائب ويضرب بسيف الله عز وجل.
يقول وحشي: فخرجت مع الناس، وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالجربة قذف الحبشة قلما أخطئى بها شيئاً، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس هداً ما يقوم له شيء، فوالله إني لأتهيأ له أريده، فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني، إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فلما رآه حمزة قال له: هلم إليَّ يا ابن مقطعة البظور -وكانت أمه ختانة- قال: فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه.
ثم أرسل ووحشي عليه الحربة، فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل على رجليه إلى خلف الشجرة يريد قتل وحشي، فضرب الشجرة بضربة من ضربات الحق والخير، لكن الموت سابقه، فوقع شهيداً على الأرض.
وأتى صلى الله عليه وسلم يدور في القتلى، فوجد حمزة قتيلاً، فتأثر عليه الصلاة والسلام كل التأثر، وأصابته لوعة وحسرة ما بعدها حسرة، حتى يقول: {والذي نفسي بيده، ما وقفت موقفاً أغيظ لي من هذا الموقف، والذي نفسي بيده إن ظفرت منهم لأمثلن منهم بسبعين} لأن حمزة رضي الله عنه قطعت أذناه وأنفه، لكن يلقى الله وهو سليم معافى، ويدخل الجنة كما قيل: ابن ثلاثٍ وثلاثين سنة، وهم جرد مرد حسان الوجوه.
فوقف عليه الصلاة والسلام ورأى بطنه قد بقرت، وأخذ من كبده الشريفة، فلاكتها هند، ولكن لم تمضغها فألقتها، حتى لما سمع عليه الصلاة والسلام قال: {ما كان لشيء من
ثم قال صلى الله عليه وسلم: {من يلتمس لي
فوقف عليه زيد بن ثابت وسلم عليه، وقال: كيف تجدك يا أنس؟ قال يا زيد! بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، وقل له: جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، كأنه رأى مشاهد أو وقفات أو بعض الملامح، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32] فوصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فبلغه السلام، فدعا له عليه الصلاة والسلام.
وهذا أنس بن النضر هو الذي حلف في المسجد: لئن حضرت المعركة ليرين الله ما أصنع، فأرسل درعه وأتى مقبلاً بسيفه إلى الأعداء، فقال له سعد بن معاذ: يا أنس بن النضر! هون عليك، أما ترى كيف انهزم الناس والمشركون أقبلوا، قال: إليك عني يا سعد! إليك عني يا سعد! والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد، هبت نسمات الجنة في أرواح المتقين فبايعوا الله رب العالمين، فأتى فقاتل ولكنه ما قتل لأول وهلة، وقف وسط جيوش المشركين، فاجتمعت عليه السيوف والرماح حتى ضرب أكثر من ثمانين ضربة بعد ما قتل فيهم مقتلة، ووقع على الأرض، قال أنس بن مالك: والله ما عرفته إلا أخته ببنان كفيه، ما عرفت وجهه، ولا رجليه ولا يديه ولا جسمه، وإنما عرفت بنان الكف، حين رفعت كفه فقالت: هذا أخي.
ووقف طلحة بن عبيد الله يقاتل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضرب في كل مكان حتى يقول: والله لقد ضربت في كل مكان يوم أحد حتى في فرجي، وشلت يده اليمنى، وذاك رجل بايع الله، قال أبو بكر رضي الله عنه: [[يوم أحد كله لـطلحة بن عبيد الله]] طلحة ذو الجود رضي الله عنه.
أما الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه من أول المعركة وهو يقاتل في سبيل الله، وقد أثخن بالجراح صلى الله عليه وسلم، وضرب على مغفره حلقتان من حلق المغفر في رأسه، وكسرت رباعيته، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، وأتى عليه الصلاة والسلام حتى ما استطاع أن يعلو على صخرة حتى جلس له طلحة بن عبيد الله فارتفع حتى علا على الصخرة، وقد أنهك عليه الصلاة والسلام من كثرة الضرب وكثرة ما قاتل، وفر الناس في آخر المعركة وما ثبت معه إلا سبعة.
وأما الرماة الذين قال لهم صلى الله عليه وسلم: ابقوا في هذا المكان، فإنهم لما رأوا الغنائم ورأوا كفار قريش قد فروا في أول المعركة ظنوا أن المعركة قد صفيت للرسول صلى الله عليه وسلم، فنزلوا فوقف أمامهم عبد الله بن جبير أميرهم المجاهد رضي الله عنه وقال: أسألكم بالله لا تعصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال: لو رأيتم الطير تتخطفنا فلا تنزلوا، فعصوا أمره ونزلوا، وبقي وحده، فلما نزلوا رأى خالد بن الوليد الصاعقة وسيف الله المسلول، وكان يقود الخيالة في قريش ولم يكن قد أسلم ذاك اليوم، فرأى أن الرماة قد نزلوا من الجبل، فأتى من خلف الجبل وطلع على ظهر الجبل هو والخيالة من قريش، وأخذ عبد الله بن جبير الأمير يدافعهم، فاجتمعوا عليه فقتلوه، والتفت الرماة وإذا مواقعهم قد احتلها خالد بن الوليد والخيالة معه، وأصبح المسلمون شذر مذر، حتى فرَّ كثير منهم ودخلوا المدينة وأصبح صلى الله عليه وسلم مع سبعة يصارعون الأحداث، ويقفون أمام الإعصار في معترك لا يعلمه إلا الله عز وجل.
ثم عاد الناس في آخر المعركة واجتمع الصحابة بعد ما فر بعضهم -غفر الله لهم فرارهم- حول الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ظهر الجرح فيه صلى الله عليه وسلم ودخلت حلقات المغفر في رأسه، فأراد أبو بكر إخراج حلق المغفر، فقال أبو عبيدة لـأبي بكر: أسألك بالله أن تترك ذلك لي، فأخذ الحلقة الأولى بثنيته، فسقطت ثنية أبي عبيدة الأولى، ثم أخذ الحلقة الثانية بنيته الأخرى فسقطت، فما رئني رجل أهتم -أي: ساقط الثنيتين- أجمل من أبي عبيدة؛ لأنها سقطت في سبيل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم جاءوا بماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوا جراحه.
ولما قتل مصعب وكان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصاح ابن قمئة بين الناس أن محمداً قد قتل، فلما سمع بعض الصحابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل سقطت سيوفهم من أيديهم، وجلسوا على الأرض، فمر بهم أحد الصحابة -قيل: أنس بن النضر، وقيل: غيره- وقال: مالكم؟ قالوا: قتل عليه الصلاة والسلام، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قموموا قوموا على ما مات عليه، ثم قاتل حتى قتل.
وقد كانت الشائعة خطأ، فإن مصعباً هو الذي قتل رضي الله عنه.
مصعب الذي دخل في الإسلام وهو أغنى شاب من شباب قريش، فلما أسلم قالت له أمه: إما أن ترجع عن دينك فتبقى في النعيم، وإلا فوالله لأسلبن عنك كل شيء، قال: والله لأسلمن، فسلبت عنه كل شيء حتى ما وجد من اللحاف إلا شملة، ورآه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تغير لونه وتغيرت ملابسه، فلما رآه عليه الصلاة والسلام دمعت عيناه، وقال للصحابة: هل تعلمون شاباً كان أحسن من هذا الشاب وأنعم؟ قالوا: لا. قال: لقد كان يمر في الطريق من طرق مكة، فيجد الناس ريح المسك منه، وترك ذلك كله من أجل الله فعوضه الله خيراً منه، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فلما هاجر كان سفير الإسلام، واستفاقت المدينة على صباح جديد من دعوة مصعب بن عمير سفير الإسلام إلى الأنصار، فهو الذي علم القرآن أبناء الأنصار،وترك بهرج الدنيا وزينتها وأقبل على الله، فقتل يوم أحد، فأشيع في الناس أنه الرسول صلى الله عليه وسلم فخارت قوى كثير من الناس، وألقوا بالسيوف، فأنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] وقال سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146].
وكان من أحسن الكلمات ومن أحر العبارات التي قالها صلى الله عليه وسلم في تلك الموقعة: {قفوا ورائي لأثني على ربي تبارك وتعالى} بعد المعركة، بعد أن ما قتل سبعون من أصحابه صلى الله عليه وسلم ومن أقاربه، يقول: {قفوا ورائي لأثني على ربي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى} فوقف الصحابة فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الله تبارك وتعالى، وحمده بمحامد، وبجله بتبجيلات.
وقبل أن ينتهي صلى الله عليه وسلم من هذا الثناء، إذا بمجرم من المجرمين وبكافر من الكافرين اسمه أبي بن خلف، ما شارك في المعركة، علف فرسه بالحنطة شهراً كاملاً وشحذ سيفه بالسم، وكان يقول: أقتل بهذا السيف محمداً -يعني به الرسول صلى الله عليه وسلم- فلما أتت معركة أحد أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! سمعنا أن أبي بن خلف يقول: إنه سيقتلك، قال: بل أنا أقتله إن شاء الله، وكان أبي بن خلف من أشجع الناس، ومن أقوى الناس قلباً، فلما أتت المعركة لم يشارك فيها وبقي حتى انتهى القتال، وحتى أثخن صلى الله عليه وسلم بالجراح وتعب، فأتى بفرسه عامداً قاصداً للرسول عليه الصلاة والسلام، وكان أبي بن خلف قد لبس درعاً تحت ثيابه إلا موضع درهم عند ترقوته.
وسل سيفه يريد أن يقترب من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقام المهاجرون والأنصار بسيوفهم، فأشار إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن اتركوه، وطلب عليه الصلاة والسلام أن يناولوه حربة، فناولوه حربة فهزها حتى تمكنت من يده، ثم أرسلها وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] فتركت كل مكان في جسمه لأنه مدرع ومصفح، وأتت إلى الترقوة فوقعت فيها فوخزتها وخزة بسيطة كوخز الشوكة، فوقع صريعاً من على ظهر فرسه إلى أقدام فرسه، فأتى الكفار من المشركين يسحبونه ويقولون: ما عليك بأس، ما أصابك بأس، فحلف باللات والعزى لو أن ما به أصاب أهل ذي المجاز لماتوا عن بكرة أبيهم، فسحبوه يجرجروه وهو يخور كالثور، فمات إلى النار، وسوف يلقى غضب الملك الجبار سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكمُ ألمُ |
فوقف صلى الله عليه وسلم وألقى كلمته الخالدة ومنها: {أنا شهيد عليكم يوم القيامة أنكم شهداء} ثم أمر بهم أن يكفنوا في ثيابهم وألا يغسلوا وأن يدفنوا، ولم يصلِّ عليهم صلى الله عليه وسلم، فأتوا يكفنون مصعباً، فما وجدوا إلا نمرة -قطعة قماش ثوب صغير- إذا غطوا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطوا رجليه بدا رأسه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغطوا بها رأسه وأن يجعلوا على رجليه من الإذخر، لكنه سيجلس إن شاء الله على أرائك عند الملك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وعلى فرش من إستبرق، وفي خير عميم عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من نور وحبور.
وأتوا إلى حمزة فوجدوه ممثلاً به، فما وجدوا ما يغطوه إلا شيئاً يسيراً؛ لأنهم تركوا الدنيا وأعرضوا عنها وطلبوا ما عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الإبل قد توجهت بالشهداء إلى المدينة، فنادى: {ردوا الشهداء وادفنوهم في مصارعهم فإنها تشهد لهم} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فنادوا في الجمال وقد أوشكت تدخل المدينة، وعادت محملة والأسى واللوعة يعلو قلوب كثير من الناس، والبكاء يرتفع، والرسول صلى الله عليه وسلم يهدئ من روع الناس، ويدخل السكينة بكلماته الباردة على القلوب، فعادوا فدفنوهم في أماكنهم، ودفنوا حمزة هناك ومعه بقية السبعين.
قال جابر: دفن مع آخر فلم تطب نفسي بذلك، فنقلته بعد ست وأربعين سنة، فوالله ما تغير منه شيء إلا شيئاً في أذنه من طين، من خرم جرح في أذنه من المعركة قال: فحملته وما تغير منه شيء وإن ريحه ريح المسك، بعد ست وأربعين سنة، وأنزلوا في منازلهم رضي الله عنهم.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد عاد متوجهاً إلى المدينة عليه السكينة والوقار؛ قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:165-166] توجه عليه الصلاة والسلام وسمع البكاء في بعض دور الأنصار، ولكنه لم يجد من يبكي على حمزة، فقال: {لكن
وإن أولى الموالي أن تواليه عند السرور الذي واساك في الحزن |
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن |
فأمر سعد بن معاذ نساء بني عبد الأشهل أن يبكين على حمزة.
وسوف نأخذ من هذه الغزوة ومن هذا الدرس فوائد:
ومنها: أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضماً للنفس وكسراً لشموخها وجماحها، لأن النفس إذا أنعم عليها جمحت وشمخت إلا من رحم الله، فلو أن الرسول صلى الله عليه وسلم انتصر في كل معركة، وانتصر في كل موقف هو وأصحابه لدخل بعض الصحابة شيء من العجب والتيه، وشيء من الزهو، لكن أراد الله أن يربيهم بالمعارك، مرة نصر ومرة هزيمة، وفي الخاتمة نصر لا هزيمة بعده للإسلام، لذلك لما أتت في معركة حنين قال بعض الصحابة: لن نغلب اليوم من قلة، فانهزموا في أول المعركة ثم انتصروا بعد أن تلقوا تأديباً، وأنت إذا بقي جسمك معافى بلا أمراض ولا ابتلاءات دخلك من العجب ما الله به عليم، والله عز وجل يعرف النفوس فيداويها.
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل |
ربما يكون في صحة جسمك المرض، وفي صحة قلبك الفقر والابتلاء، فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
الفائدة الرابعة: أن الشهادة من أعظم مراتب الأولياء، وقد ساقها الله إلى كثير من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، لما علم ما في قلوبهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ودرجات الفضل أعلاها النبوة، وبعدها الصديقية التي نالها أبو بكر رضي الله عنه، ثم الشهادة ثم الصلاح.
الفائدة الخامسة: أراد الله إهلاك الكفار، فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وطغيانهم واعتدائهم، والله إذا أراد أن يجر أحداً إلى الهلاك جره إلى المعصية وإلى الاعتداء، فلما أراد الله أن يخزي أولئك، ليدخلهم النار؛ جعل لهم من الأعمال الكسبية التي اكتسبوها بقضاء وقدر ما دخلوا بها النار، واستوجبوا غضب الواحد القهار سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
الفائدة السابعة: أنه لا يجب على المسلمين إذا طرقهم عدوهم في ديارهم الخروج إليه، واستدل بذلك ابن القيم على أنه ليس بواجب أن يخرج المسلمون من دورهم وقصورهم ومدنهم إلى الأعداء إذا طوقوا مدنهم، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم رأى أن يبقى داخل المدينة، ويكون القتال داخل المدينة، فهذا فيه أن المسلمين لهم أن يبقوا في مدنهم ومساكنهم حتى يأتي الأعداء، فيقاتلوهم إذا أحاطوا بهم واقتربوا منهم، وهذا ذكره ابن القيم في زاد المعاد.
الفائدة الثامنة: جواز تصرف الإمام في بعض أملاك رعيته؛ فيجوز للإمام وقت المعركة ووقت الأزمات أن يتصرف ببعض الأملاك وأن يأخذ بعض الأشياء لمصلحة الجهاد، بشرط ألا يتجاوز الحد في ذلك، أو يضر بالناس ضرراً بيناً، وأخذ ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم حين مر في مزرعة ذاك المنافق.
الفائدة التاسعة: لا يؤذن للصبيان غير البالغين في القتال؛ وقيل: حد ذلك خمسة عشر سنة، وقالوا: أكثر أو أقل، وقالوا: باختلاف الأشخاص؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم منع بعض الصبيان وأجاز الذين بلغوا منهم، فالصبيان لا يشاركون في المعركة، والجهاد ليس عليهم بواجب، بل يبقون في دورهم ويتعلمون العلم، وليس مرحلتهم مرحلة الجهاد، لأنهم لا يستطيعون الحضور، فعذرهم صلى الله عليه وسلم.
الفائدة العاشرة: جواز الغزو للنساء؛ فإن النساء شاركن في معركة أحد، وأفضل من شارك في المعركة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء فقد شاركت فاطمة وأتت إلى أبيها صلى الله عليه وسلم فأعطته ماء، وغسلت الجراح عنه، وأحرقت بعض السعف ثم حشته في الجراح.
وحضرت نسيبة الأنصارية وقاتلت حتى يقول عليه الصلاة والسلام: {ما التفت في جهة إلا وجدتها تقاتل عني} فرضي الله عنها.
وكانت النساء يوم أحد يزفرن القرب، ويملأنها للمقاتلين؛ ولذلك حين أتي إلى عمر رضي الله عنه في خلافته بشيء من الذهب والفضة فأعطى أم سليط وترك نساءه، فقلن له رضي الله عنه: تعطي أم سليط وتتركنا؟ قال: إن أم سليط لا أنسى موقفها يوم أحد، كانت تملأ القرب للمسلين، فانظر كيف قدمها رضي الله عنه بهذا وترك نساءه، فرحم الله تلك العظام، وأسكنها فسيح الجنان.
الفائدة الحادية عشرة: قال أهل العلم ومنهم ابن القيم بجواز الاستماتة كما فعل أنس بن النضر، أي: الإقدام على الهلاك والاقتحام في القتل، كما فعل أنس بن النضر، فإنه ألقى درعه وكسر غمد سيفه، واقتحم حتى لقي العدو حاسراُ وفي بعض الآثار: {إن ربك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يضحك للعبد يلقى العدو حاسراً} أي: لا درع عليه حتى يقاتل ويقتل، وليس ذلك من الهلكة.
ولذلك لما حضر أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه بمعركة جهة القسطنطينية في بلاد الروم فألقى أحد المجاهدين بنفسه واستمات في المعركة، فقال بعض الناس المتأخرين في الإسلام: أما يقول الله عز وجل: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] قال: لا. إن التهلكة هي أن يمسك المال أو ألا يقاتل في سبيل الله.
وطلب أبو أيوب من الصحابة أن يدفنوه في آخر بقعة من بقاع المسلمين وأول بقعة من بقاع الكفار، قال: حتى أبعث يوم القيامة من قبري وأنا مسلم بين كفار.
الفائدة الثانية عشرة: أن الإمام إذا أصابته جراحة صلى قاعداً وصلى الناس وراءه قعوداً، وهذه الفائدة أخذها ابن القيم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه في أحد صلى الفريضة إما الظهر وإما العصر قاعداً من كثرة الجراح، وصلى الناس وراءه قعوداً، فإذا كان الإمام الراتب إمام الحي العالم يصلي قاعداً لعذر، فللناس أن يصلوا وراءه قعوداً، وفرَّق بعض أهل العلم فقالوا: إن ابتدأ قاعداً فيبتدئون معه قعوداً، وإن طرأ عليه القعود في أثناء الصلاة فيواصلون قياماً وبسط هذه المسألة في مجال آخر.
الفائدة الثالثة عشرة: جواز دعاء الرجل أن يقتل في سبيل الله عز وجل؛ فإن عبد الله بن جحش دعا أن يقتل في سبيل الله،وليس ذلك من تمني الموت المنهي عنه، بل هو من طلب الشهادة وطلب ما عند الله ورضوان الله عز وجل، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{من سأل الله الشهادة بصدق؛ بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه}.
الفائدة الرابعة عشرة: أنَّ المسلم إذا قتل مسلماً أو قتل نفسه فهو من أهل النار، إذا قتل المسلم نفسه فهو من أهل النار؛ لأن رجلاً اسمه قزمان حضر معركة أحد، وقاتل فلما أصابته جراحة، لم يصبر ولم يحتسب، فأخذ سيفه وسله واتكأ عليه حتى خرج سيفه من ظهره، فأوحى الله عز وجل إلى رسوله أحاديث: {بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة} فحرام على المسلم أن يقتل نفسه مهما أصابته الابتلاءات.
الفائدة الخامسة عشرة: أن السنة ألا يغسَّل ولا يصلى على شهيد المعركة، أما التغسيل فمعروف، وأما الصلاة عليه فإنه ورد في آثار عند الطحاوي والنسائي أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على بعض الشهداء، وورد في حديث صحيح أنه ترك الصلاة على بعضهم، قال ابن القيم في تهذيب السنن: الإمام مخير إن شاء صلى وإن شاء ترك، وفي صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف على شهداء أحد يصلي عليهم كالمودع لهم، قيل: هذا الدعاء، وإلا فإنه لم يصل عليهم في الحال، فالإمام مخير في شهداء المعركة؛ أن يصلي أو يترك، وأكثر أحواله صلى الله عليه وسلم أنه ما صلى على شهداء المعركة، لأن الصلاة تزكية والله قد زكاهم.
ومنها: أن الشهيد إذا كان جنباً غسل قاله ابن القيم، لأن حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه كان مع زوجته فلما سمع داعي الله خرج جنباً وباع نفسه، فقتل في المعركة، فقال عليه الصلاة والسلام: {سلوا أهله ماله؟ قالوا: خرج جنباً ولم يغتسل، قال: والذي نفسي بيده، لقد رأيت الملائكة تغسله بين السماء والأرض في صحاف من ذهب بماء المزن} فاستدل بذلك بعض أهل العلم على أن الجنب إذا عُلم أنه مات جنباً وهو من الشهداء أنه يغسل وقد رجح ذلك ابن القيم.
الفائدة السادسة عشرة: أن السنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم ولا ينقلوا من أماكنهم؛ لأنها شاهدة لهم عند الله، فلا ينقل الشهيد إلى بلده، بل يدفن في أرض المعركة.
ومنها: جواز دفن الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، فلما كثر القتلى في أحد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ابحثوا أيهم المتحابون في الدنيا فادفنوهم كما تحابوا في الدنيا، يعني: الصديق مع صديقه، والحبيب مع حبيبه، فكانوا يدفنونهم وكان يقول: { التمسوا أيهم أكثر أخذاً للقرآن فقدموه تجاه القبلة} فأكثرهم أخذاً للقرآن يقدمونه تجاه القبلة ويدفنون صاحبه وحبيبه معه؛ لأنها روضة.. نسأل لله أن يوسع علينا وعليكم، ولا توسع إلا بعمل صالح، والجار الصالح مطلوب، كما أن الجار الصالح في الأحياء نعمة من النعم، فكذلك عند الموت، فعلى المسلم أن يلتمس المقبرة التي يدفن فيها حبيبه أو ولده أو صفيه ليكون في سعة، ولا يضره إذا دفن مع فساق، إذا كان عمله صالحاً، وإذا مات صاحبك وعليه بعض المعاصي وهو مسلم، فعليك أن تكثر الدعاء له والصدقة، وأن نكثر له الاستغفار فإنها تصل إليه أحوج ما يكون.
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران |
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده |
وإن يكن شراً فما بعد أشد ويل لعبد عن سبيل الله صد |
ومنها: أن من عذره الله في التخلف عن الخروج في المعركة بمرض أو عمى أو عرج، وأبى إلا أن يحضر، فله ذلك وهو مأجور مشكور، لقد عذر الله الأعمى أن يحضر المعركة، ولكن عبد الله بن أم مكتوم قال: لا والله! إن الله يقول: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة:41] وأنا ثقيل والله لأنفرن، فحضر معركة القادسية وهو أعمى وبقي يحمل الراية حتى قتل في سبيل الله.
ومنها: أن المسلمين إذا قتلوا واحداً منهم يظنونه كافراً فعلى الإمام ديته، ولذلك كان أبو حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مسلماً، وظنه المسلمون من المشركين، فاجتمعوا عليه فقطعوه بالسيف، فقال حذيفة: يغفر الله لكم فقال صلى الله عليه وسلم: أدفع ديته لك، قال حذيفة لا. غفر الله لكم، فما زالت بقية الخير في حذيفة حتى لقي الله.
ومنها: استخراج عبودية الله لأوليائه في السراء والضراء، فالله ابتلاهم بالسراء ليشكروا، وابتلاهم بالضراء ليصبروا.
ومنها: أن معركة أحد كانت مقدمة لموته صلى الله عليه وسلم، ودرساً شهيراً، فقد نزل فيها قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144] ثم مات عليه الصلاة والسلام فثبتوا؛ لأن الله أعطاهم في أحد درساً لا ينسونه.
ومن تمام ثبات قلب المؤمن أن ينعس في المعركة، ومشاهير الشجعان في الإسلام كانوا ينعسون وسط المعركة علامة على قوة قلوبهم، وقد ذكر ابن كثير عن شبيب بن يزيد الخارجي البطل الكبير وهو من قوادهم ما سمع بأشجع منه بعد الصحابة، يقول ابن كثير في البداية والنهاية: كان في ستين رجلاً يلقى ثلاثة آلاف فيهزمهم، وكان ينعس قبيل المعركة على بغلته، وهذا من شجاعة قلبه ومن حماسته ينعس والصفوف أمامه، حتى إن زوجته واسمها غزالة، دخلت الكوفة، فأرهبت الكوفة كلها، والحجاج كان أمير الكوفة في عهدها، فلما دخلت من باب الكوفة الشرقي خرج هو من الغربي، فدخلت بعمود في يديها تضرب باب الإمارة وتقول للحجاج: اخرج يا عدو الله، ثم ارتقت المنبر منبر الجامع، فخطبت خطبة، فيقول أحد المسلمين للحجاج: يا ذليل تقتل علماء المسلمين وتقتل ضعفاء المسلمين، ولما أتت غزالة الخارجية هربت منها.
أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر |
هلا برزت إلى غزالة في الوغى أم كان قلبك في جناحي طائر |
ونسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم الهداية، ونسأله أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتولانا في الدارين، وأن يفقهنا في دينه، وأن يسدد خطانا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر