ثم ذكر الحديث وشرح ألفاظه ومعانيه، وأبان ما فيه من مسائل وأحكام وفوائد عجيبة وهامة يحتاجها كل مسلم وبالأخص طالب العلم.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،،
وإنها لمسيرة طيبة مع الإمام البخاري، وإنه لسفرٌ سعيد إن شاء الله تعالى مع هذا الإمام الحبر الذي نفع الله به الأمة، ورفع كتابه، وجعله من أعظم كتب أهل الإسلام بعد كتاب الله عز وجل، ولا زلنا في كتاب الجمعة من صحيحه، وقبل أن نتكلم عن أبواب هذا الدرس، أو عن القضايا الواردة فيه، يجمل أن نتكلم عن يسر بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا في هذه الليلة، معاوية بن أبي سفيان خال المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه، وما اختير معاوية إلا لأن مبغضيه كثيرون في الأمة، وهم الرافضة من الشيعة، فهم يلعنونه على منابرهم، وفي محاريبهم، وليس هذا بمعتقد أهل السنة والجماعة، فإن معتقد أهل السنة والجماعة أن نترضى عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه منهاج السنة: إن الرافضة ليس لهم حظٌ في الفيء لأن الله ذكر أهل الفيء فقال: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10] فمن أراد الله والدار الآخرة، فليعتقد اعتقاد أهل السنة والجماعة.
سُئل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن أهل صفين، وهم جيش علي وجيش معاوية رضي الله عنهما، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[تلك دماءٌ صان الله منها سيوفنا فنصون منها ألسنتنا]] فعلم من ذلك كما يقول ابن تيمية في الواسطية أن معتقدنا في الصحابة أن نترضى عنهم جميعاً، ونعتقد أن بعضهم أفضل من بعض، وأن نكف عما شجر بينهم، ونظن فيهم كل الخير، فهم أعمق الأمة إيماناً، وأبرها قلوباً، وأصدقها لهجة، وأخلصها لله، وأزهدها في الدنيا، وأورعها عن محارم الله وأعلمها بالله، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
سئل عامر الشعبي رضي الله عنه وأرضاه عن أهل صفين، كيف يلتقون وهم مسلمون؟ وكيف ما فر بعضهم من بعض؟
قال: أهل الجنة التقوا فاستحى بعضهم أن يفر من بعض، ونزل علي رضي الله عنه يوم الجمل، وقد قتل طلحة وهو من الفريق المقابل فنزل وترجل من على فرسه وهو يبكي ويقول: يعز عليَّ يا أبا محمد -يقصد طلحة بن عبيد الله - يعز عليَّ يا أبا محمد أن أراك مجندلاً على التراب، وأخذ يزيل التراب من على لحية طلحة بن عبيد الله ذي الجود، أحد العشرة المبشرين بالجنة، ويقول: أسأل الله أن يجعلني وإياك ممن قال فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47].
فمعنا الليلة المتهم وهو بريء، ومعنا المتنقص وهو كامل، ومعنا المسبوب وهو ممدوح، معاوية رضي الله عنه وأرضاه.
يقول ابن عباس قال صلى الله عليه وسلم: {ادع لي
قال ابن كثير هذا منقبة وليست مثلبة كما تقول الرافضة، بل هي منقبة كبرى، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال من على المنبر: {اللهم ما من عبدٍ مسلمٍ سببته، أو شتمته، أو ضربته فاجعلها كفارة له ورحمةً عندك} فهي له رحمة وكفارة عند الله عز وجل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا عليه، وبالفعل وقع ما دعا عليه صلى الله عليه وسلم فكان لا يشبع أبداً، يقول: إني أجزم لنفسي أنني آكل ولا أشبع، ولكنني أعلل نفسي حتى يأتي الموت.
سافر مع الرسول صلى الله عليه وسلم -وكان من دهاة العرب ودهاة العرب في كتب التاريخ أربعة: معاوية، وزياد ابن أبيه، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة - فلما سافر مع الرسول عليه الصلاة والسلام، طلب صلى الله عليه وسلم منه مقراضاً يقرض ويقلم أظفاره صلى الله عليه وسلم، فقلم أظفار رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقصٍ عنده، فكان له الشرف أن يقلم أظفار الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهذه في سير أعلام النبلاء وفي كتب التواريخ، فلما انتهى من تقليم أظافر المصطفى صلى الله عليه وسلم جمعها وحفظها، وجعلها في مكانٍ عنده طيلة حياته، فلما تولى الخلافة أغلق عليها في صندوقٍ محكم، ولما أتته الوفاة واليقين نزل من على سرير الملك رضي الله عنه وأرضاه، وبكى طويلاً، وقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه، ثم قال لمن اقترب منه من وزرائه: ما عندي كلمة أحاج لنفسي بها عند الله إلا: لا إله إلا الله، فإذا أنا مت فعليكم بهذا الديوان فافتحوه وخذوا أظفار رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعوها في أنفي وفي عيني لعل الله يرحمني بها، وبالفعل -وهذا من محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وضعوها في أنفه وعينيه.
يقول ضرار بن الحارث الصدائي أحد أهل العراق من جيش علي بن أبي طالب: دخلت على معاوية وهو خليفة بعدما قتل أبو الحسن رضي الله عنه وأرضاه، فعرف إني من جيش علي فقال: يا ضرار! حدثني عن علي بن أبي طالب، قال: فتحرجت أن أحدثه لأنهما تقاتلا، فقلت: اعفني يا أمير المؤمنين! قال: عزمت عليك إلا حدثتني عن علي فإني أحب الحديث عنه، قال ضرار: أما إن سألتني يا أمير المؤمنين فوالله! لقد صاحبت علياً فوجدته عابداً عالماً زاهداً، والله لقد رأيته في الليل الدامس -أي المظلم- يقبض على لحيته بيديه وهو يقول: يا دنيا يا دنية طلقتك ثلاثاً، زادك حقير، وعمرك قصير، وسفرك طويل، آه من قلة الزادِ وبعد السفر ولقاء الموت، فبكى معاوية حتى تغير على جلسائه وسالت بالدموع لحيته، ثم قال: رحم الله أبا الحسن، ثم قال: صدق الله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].
وقال شفيٌ الأصبحي: {دخلت على
ومن مدائحه في السنة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له كما صح في ذلك الحديث: {اللهم علمه الحساب وقه العذاب} فهو مدعوٌ له بأن يقيه ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عذابه يوم يبعث الله الأولين والآخرين.
أيضاً جاء في حديث أم حرام بنت ملحان أن الجيش الذين يركبون ثبج البحر مغفور لهم، وكان هو قائد هذا الجيش، قالت أم حرام بنت ملحان هي امرأة واسمها أم حرام وهذا الحديث في المغازي كما في صحيح البخاري، قالت: {دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهي عجوز والرسول صلى الله عليه وسلم كان يزور العجائز والأطفال والمساكين- فدخل عليها صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام قالت: فلما جلس صلى الله عليه وسلم نام على فراشٍ عندي، قال: فأخذ صلى الله عليه وسلم عرقه يتصبب من جبينه الطاهر، وكان إذا نام صلى الله عليه وسلم أخذ عرقه يتدفق -وهذه من خصائصه أن عرقه في الشتاء وفي الصيف يتدفق بكثرة كأنه الدر أو كأنه الجمان، أو كأنه اللؤلؤ المنظوم- قالت: فأخذت قارورة وأخذت أسلت عرقه وأضعه في هذه القارورة، فوالله إنه لأحسن رائحة من المسك الأذفر، ووالله لقد بقي في بيتنا -تقول
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره كما المسك ما كررته يتضوع |
رقاق النعال طيباً حجزاتهم يحيون بالريحان يوم السباسب |
هو في المدينة معه ثلة من الناس والدين لم ينتشر ففرح صلى الله عليه وسلم أن يرى الأمة المكبرة، المهللة، الموحدة وهي تفتح بلاد الله، ويراهم يعبرون البحار، ينشرون لا إله إلا الله في أصقاع الأرض، فقالت أم حرام: {يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنتِ منهم، ثم نام صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك ثانيةً، فقالت: قلت: يا رسول الله! ما يضحكك؟ أضحك الله سنك! قال: رأيت قوماً من أمتي غزاةً في سبيل الله، قالت: ادع الله أن يجعلني منهم -تريد هذا كذلك- فقال: أنتِ من الأولين} لأنها سوف تستشهد أو تموت فلا يمكن أن تتكرر، وقد وقع هذا، فكان معاوية بن أبي سفيان قائد هذا الجيش وهذه الكتائب التي عبرت على موج البحر تؤدي رسالة الله في الأرض.
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا |
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا |
فلما خرجت مع معاوية رضي الله عنه وعنها وكانت هي زوجة عبادة بن الصامت، فخرجت مع الجيش لغزو القسطنطينية ثم عادوا، فتوفيت وهي في السفينة، ودفنت هناك.
ففرح صلى الله عليه وسلم بالمنام الذي قائده معاوية رضي الله عنه وأرضاه.
ومع أنه كان داهيةً من دهاة الناس، لكنه ضرب أروع الأمثلة في الأناه والحلم، وكان يصفح ويكظم غيظه، ولا يؤاخذ بالزلة، بل يعفو ويتجاوز، تولى أمر الأمة رضي الله عنه وأرضاه فكان سديد الرأي، طيب السيرة، دخل عليه الأحنف بن قيس التميمي، سيد بني تميم فلما دخل عليه قال له معاوية: أنسيت يا أحنف! يوم الجمل ويوم صفين -يعني مع علي - فقال الأحنف وكان رجلاً شجاعاً: يا معاوية! إن السيوف التي قاتلناك بها في أغمادها في بيوتنا، وإن القلوب التي أبغضناك بها في صدورنا فإن عدت عدنا، فاحمر وجهه وسكت، فلما دخل إيوانه قالت ابنته: يا أبتاه! من هذا الأعرابي الجلف الذي يكلمك بهذا الكلام الغليظ وأنت لا ترد عليه؟ قال: هذا الأحنف بن قيس، هذا الذي إذا غضب غضب معه عشرة ألف سيف من بني تميم، لا يسألونه فيما غضب، وإنما يقولون: غضبت زبراء، وزبراء جارية للأحنف، فيسمون الأحنف زبراء، فيقول: لو أنني أغضبته سوف يغضب معه عشرة ألف سيف.
والأحنف بن قيس كان من أجود وأحلم العرب، مع أنه كان هزيلاً أحنفاً يمشي على رجلٍ واحدة مهلهل الشعر، لكن كله عقلٌ وحكمة وذكاء ودهاء، فـمعاوية صفح عنه وكظم غيظه.
في يوم من الأيام، قال وهو يتمازح مع عمرو بن العاص: أيُّنا الأدهى أنا أم أنت؟ فقال عمرو بن العاص: أنا أدهى منك، قال: ولمَ؟ قال: أخرج من عندك في المجلس، فقال معاوية: اخرجوا، فخرجوا، فقال عمرو: ادنُ مني أحدثك، فاقترب منه معاوية، فقال عمرو: وهل معنا أحد حتى تدنو مني!
وهذه القصة مذكورة في عيون الأخبار وفي غيره.
والجواب: المناسبة أنه ما دام قارن صلى الله عليه وسلم بين التبكير وبين الفضل المالي الذي يدفعه العبد ويتقرب به إلى الله، فما قارن صلى الله عليه وسلم بين هذا وهذا إلا لفضل يوم الجمعة وساعاته، فاقتضى أن يوم الجمعة فاضل، فهذه مناسبة الباب للحديث، أنه لما قارن صلى الله عليه وسلم بين التبكير وساعات التبكير والعمل المالي الذي يدفعه المسلم كالبدنة والبقرة اقتضى فضل يوم الجمعة، فأتى به صلى الله عليه وسلم.
فيه جوابان: الأول أن المعنى: من اغتسل كغسل الجنابة على أنه حذف كاف التشبيه، وهذا رأيٌ لبعض المحدثين، كما يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88] أي تمر مراً كمر السحاب.
والقول الثاني وهو الأصوب أن معناه: من أتى أهله ثم اغتسل لرفع الجنابة عنه، وهذا القول هو الأظهر، والخلاصة أنه إذا كانت على التشبيه معناه: من اغتسل غسلاً كغسل الجنابة لا أنه اغتسل غسل الجنابة، فهذا مأجور ومشكور، يعني أن يتوضأ ثم يغتسل فيصبح غسله للجمعة كغسل الجنابة.
والرأي الثاني: من اغتسل غسلاً للجنابة، وجعله للجمعة، يعني أنه يأتي أهله يوم الجمعة ثم يغتسل للجنابة، ودليل هذا: ما جاء في السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من غسل واغتسل} قال الإمام أحمد: أي أن الرجل يأتي أهله يوم الجمعة فيغسل نفسه ويغسلها، أي يضطرهم ويحوجهم إلى الغسل وذلك أغض لطرفه وأسكن لنفسه، وأقبل لروحه إلى ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وكلا المعنيين صحيح عند أهل العلم، ولا تعارض بينهما والحمد لله.
والجواب على هذا الإشكال أن معنى (راح) هنا: معناها سار، فإنها تستخدم بالتضاد لكلمة يغدو، يقول: الصلتان السعدي كما في كتاب الحيوان للجاحظ:
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي |
أي: نذهب ونأتي، فليس معنى أننا نروح في آخر النهار، ومعنى نغدو أي نغدو في الصباح أي:
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي |
وهناك في السنة حديث يؤيد هذا الكلام أن الرواح بمعنى الذهاب والمجيئ وهو حديث في فضائل المحافظة على الصلوات الخمس، وفيه: {أعد الله له نزلاً كلما غدا أو راح} أي: كل ما ذهب وأتى، لا بمعنى كل ما مشى في الصباح، لأن الصلوات خمس، ولا بمعنى أنه أتى في آخر النهار، فمعنى غدا أو راح هنا، أي أنه ذهب وأتى، ولذلك سوف يأتي تقسيم الساعات عند الغزالي من الشافعية، وعند الإمام مالك من المالكية، وعند الجمهور.
البدنة في لغة العرب تطلق على الناقة من الإبل خاصة، وتطلق على البقرة تجوزاً، لكن ما هو المقصود بها في الحديث هنا؟ الذي ينصرف إليه لفظ بدنة في الحديث هو إلى الناقة، لماذا؟ لأنه ذكر بعدها البقرة، ويقولون: وقسيم الشيء غير الشيء، وهذا عند الأصوليين أن قسيم الشيء غير الشيء، إذا قال: بدنة وسكت احتمل أن تدخل فيه البقرة، وإذا قال: بدنة ثم قال بقرة خرج القسيم وهو البقرة، وقسيم الشيء غير الشيء.
تقول: جاءني رجلان، أو تقول: جاءني محمد وزيدٌ، أو جاءني رجلان فيهم محمد، اقتضى أن الآخر اسمه يختلف عن اسم محمد، أو أنه مسكوت عنه.
يقول عليه الصلاة والسلام {فإذا دخل الإمام} أي رقى المنبر طوت الصحفَ الملائكةُ وجلسوا يستمعون الذكر، فهل هم الحفظة أم غير الحفظة؟
قال ابن حجر: وليسوا بالحفظة؛ لأنهم لو كانوا حفظة ما طووا صحفهم، لأن الحفظة يسجلون الأجر، أجر استماع الخطبة، وأجر الإنصات، والدنو من الإمام، وأجر صلاة الجمعة ويكتبون الخطايا التي تحدث ومن لغا، فيقتضي هذا أنهم غير الحفظة، فهؤلاء مهمتهم التبكير فحسب، مهمتهم أن يسجلوا المبكرين، فإذا انتهوا من هذا الأمر، طووا الصحف وجلسوا يستمعون إلى الخطيب، وهل هناك من الملائكة غير الكتبة يرافق العبد؟
في القرآن له ملائكة غير الكتبة يرافقونه يقول تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] ما هي المعقبات؟ قيل: هي التي تحفظ العبد من قدر الله، أي له معقبات يحفظونه من أمر الله، وهنا (من) بمعنى بأمر الله، أي أن الله قدر عليهم أن يحفظوا هذا العبد بأمره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا أتى القضاء، وحل القدر تخلوا عنه، كأن يقدر على الشخص الهلاك في اصطدام سيارة أو في تحطم فيحمونه حتى يأتي القضاء والقدر، فإذا أتى تخلوا عنه، فهذا معنى له معقبات من بين يديه ومن خلفه.
أما بالنسبة لأقلامهم: فقد روى أبو نعيم في الحلية أن الملائكة الذين يسجلون يوم الجمعة، أقلامهم من نور، وصحفهم من نور.
وسوف يمر معنا أن من لم يستطع الغسل فعليه بالوضوء.
الجواب: أن ذلك تعظيم للكبش؛ لأنه أشرف، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا ضحى يضحي بكبشٍ أقرن، وهو عند العرب أفخر وأفضل الكباش، ثم قال: { ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة} فهل بين الدجاجة والكبش نوع آخر من الحيوانات؟
عند النسائي في سننه من رواية الزهري أن بين الدجاجة وبين الكبش بطة، وعند النسائي كذلك بين الدجاجة وبين البيضة فكأنما قرب عصفوراً، ولكن رواية البخاري على خمس ساعات لئلا تزدحم الساعات ولو كانت عنده على شرطه، لما توانى في إيراد الحديث، ونحن سوف نشرح الحديث الذي على شرط البخاري والذي فيه تقسيم الساعات إلى خمس ساعات.
والإمام مالك ما خالف الحديث متعمداً، لكنه مجتهد أخطأ في هذه المسألة فله أجر واحد، وقال ابن حجر: وتجاسر الغزالي، (ومعنى تجاسر أي: تشجع واقتحم الموقف) وقال: أما الساعة الأولى فهي من بعد صلاة الفجر، ولذلك يقول في كتابه إحياء علوم الدين: إذا صلى العبد صلاة الفجر فليذهب إلى المصلى مباشرة، وكان السلف يأخذون السرج في الطريق يستضيئون به إلى الجمعة، فقال له أهل العلم: من أين لك هذا الاستدلال؟ إنما هذا من كيسك، والغزالي يريد تربية وشحذ همم الأمة، لكن أهل العلم كـالذهبي، وابن تيمية، وابن القيم وغيرهم يقولون: إنه ضعيف في الرواية والنقل رحمه الله.
فأتى الغزالي بهذه المسألة، فقال: الساعة الأولى: من بعد الفجر إلى أن تطلع الشمس، والساعة الثانية: من طلوع الشمس إلى أن ترتفع، والساعة الثالثة: من ارتفاعها إلى أن تبسط في الجو، والساعة الرابعة: إلى أن ترمض الأقدام (من الرمضاء) والساعة الخامسة من رمض الأقدام إلى قدوم الخطيب.
فقال له أهل العلم: من أين لك هذا حتى تجاسرت على تحديدها بذلك؟!
والصحيح الذي قاله الجمهور أنها ساعاتٍ زمنية معلومة الله أعلم بها، لكن ترتب كالساعات المعروفة عندنا فترتب خمس ساعات من قبل دخول الخطيب، وعليكم بترتيبها، والخطيب يدخل في الثانية عشرة فاحسبوا من قبلها خمس ساعات تنازلياً، فهذا ما ذهب إليه الجمهور، وأخذ منها المالكية جواز التاريخ الإسلامي أن يوضع التاريخ ويحسب من معرفة الساعات، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {نحن أمةٌ أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا} أي: تسعة وعشرين يوماً، أو ثلاثين يوماً فالنبي صلى الله عليه وسلم ما كتب رقماً، وإنما قال: {نحن أمةٌ أمية} يعني على الجبلة والفطرة، لكنها أمة ذكية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، قال الجمهور: فلا يرد التاريخ، قال المالكية: بل يرد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة} فهو صلى الله عليه وسلم أتى بالرقم التسلسلي التنازلي إذا حسب من دخول الخطيب، من جاء في الساعة الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة.
ومن الأدلة أيضاً التي استدل بها الإمام مالك على أن الرواح بعد الزوال قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] لكنه لا يقتضي أن يكون السعي بعد النداء، لأن الله عز وجل في آياتٍ كثيرة قدم الطلب على العمل،كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] وليس معنى الآية أنه إذا قرأ خمس آيات فإنه يختمها بـأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال أهل العلم: المعنى إذا أردت أن تقرأ فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فحمل الجمهور الآية أي تعالوا واقبلوا حتى تسمعوا نداء الله عز وجل، أو تبقى الآية على عمومها، ولكن معناها ألا تشتغلوا بتجارة إذا سمعتم نداءها وهذا للمتخلفين، أي: هذا هو الحد الأدنى، وهو خاص بالمنشغلين أما أن يبقى الناس إلى الساعة الأخيرة ثم يقول لهم إذا سمعتم النداء فتعالوا فليس كذلك.
ثم العمل يفسر النص، فإن الصحابة كانوا يبادرون من الساعة الأولى، وما كانوا ينتظرون النداء، بل قال ابن القيم في زاد المعاد: إن الناس كانوا يجتمعون في عهده صلى الله عليه وسلم، فإذا دخل عليه الصلاة والسلام أذن بلال.
والمقصود أنه يؤذن وهم موجودون، أما أن يبقوا ثم يأتوا بعد الأذان فهذا ليس بمعروف، والإمام مالك استدل بهذه الآية كما بينا، لكن أكثر استدلاله باللغة (من راح).
وهذه مسألة شائكة، كما يقول فيها بعض أهل العلم: تساقطت فيها عمائم الأبطال وتكسرت فيها النصال على النصال، وأول من أثارها الإمام ابن حزم في المحلى قال: الغسل ليوم الجمعة ليس للجمعة، وفائدة الخلاف إن كان الغسل ليوم الجمعة فيجوز لك أن تغتسل بعد صلاة العصر من يوم الجمعة أو قبل المغرب، لأنك اغتسلت لليوم، وإن كان للصلاة فلا يجوز لك أن تغتسل بعد الصلاة، بل لا بد أن تغتسل قبل الصلاة، ومن أدلة ابن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من اغتسل يوم الجمعة} ولم يقل للصلاة، فقال له الجمهور: وأين أنت من بقية الحديث؟ من اغتسل يوم الجمعة ثم راح، فهل يروح بعد صلاة العصر؟! فردوا عليه بهذا الرد، ومنهم صاحب المغني وابن حجر في الفتح، وقد أورد ابن حزم هذه المسألة في المحلى وهي جيدة، وإيرادها في هذا المكان مناسب.
أورد ابن القيم هذا في زاد المعاد، والقائلين بأنه للتنظيف أي من لم يجد وسخاً في جسمه فإن الغسل غير واجب عليه، وإن كان تعبيداً فإن عليه أن يغتسل سواءً وجد وسخاً أو درناً أو لم يجد، وفائدة هذا أنه ورد في حديث عائشة الصحيح أن الصحابة كانوا يأتون من أعمالهم وعليهم الصوف فتنبعث منهم الروائح، يعني كانوا يشتغلون في مهن أنفسهم، يشتغلون في الزراعة وغيرها، حتى إن من أسباب ترك بعضهم الرواية وحفظ كثير من الأحاديث الانشغال بالمعيشة، فهم كانوا يعيشون على الفطرة هكذا، وكانوا يلبسون الصوف لأنهم فقراء، فإذا لبسوا الصوف مع الحر الشديد انبعثت منهم روائح كريهة، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسلوا.
فمفهوم المخالفة هنا أنه إن كان الغسل من أجل التنظف فإن من وجد وسخاً فليغتسل، وإن كان الأمر تعبدياً فعليه أن يغتسل مطلقاً، والأقرب في هذه المسألة أن الأمر هنا تعبدي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل} وقال هنا: {من اغتسل يوم الجمعة} ولم يذكر هنا صلى الله عليه وسلم تنظفاً أو غيره.
في الحديث الصحيح عن جابر بن سمرة، وعن ابن عمر مرفوعاً: {غسل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلم} لكن لفظ واجب هنا كما يقول ابن حجر: لا تعرَّف كما يعرفها أهل الأصول أنه بمعنى الأمر، أي بمعنى الحتم الذي عرف عند الأصوليين، لا. بل هو بمعنى أمرٌ مؤكد، فقال صلى الله عليه وسلم: {غسل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلم} لأنه يروح إلى الجمعة والظاهر من ألفاظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم: أن من أتى إلى الجمعة سواءً من أهل الوجوب أو من غيرهم فعليهم أن يغتسلوا، لماذا؟ لحديث: {من اغتسل يوم الجمعة ثم راح}.. {ومن أتى الجمعة فليغتسل} رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أتى الجمعة فليغتسل} فلم يحدد عليه الصلاة والسلام.
وللفائدة أنه قد مر معنا أن المسافر في حديث الطبراني حديث: {ليس على مسافرٍ جمعة} لكنه حديث ضعيف، فيه عمر بن عبد العزيز وليس هو الخليفة رضي الله عنه، لكن رجلٌ ضعيف لا يصح حديثه، لكن ابن تيمية كما يذكر البليهي في السلسبيل حاشية زاد المستقنع، قال: من كان مسافراً وحضر بلداً تنعقد فيه الجمعة فعليه أن يحضرها وجوباً؛ لأنه سمع النداء، كأن يذهب إنسان لنـزهة أو رحلة فينـزل في مكان وهو مسافر فيسمع نداء يوم الجمعة فعليه أن يحضرها وجوباً، فالغسل ليس للوجوب.
وقد ذكر ابن حجر أنه ثبت أن النهار اثنتا عشرة ساعة، والحديث الذي رُوي وفيه أن النهار اثنتا عشرة ساعة رواه أبو داود ورواه الحاكم في المستدرك وقد وضعت الساعات الموجودة عندنا على هذه الساعات، فإن النهار اثنتا عشرة ساعة، واستشهد كذا بعض المالكية وقالوا: كيف بساعات الصيف وساعات الشتاء فإنها تختلف؟ قالوا: تقدر خمس ساعات، هذا ما ورد.
ومن الإشكالات -أيضاً- في موضوع حكم غسل الجمعة إنكار عمر على عثمان عدم اغتساله، فإن عثمان جلس ولم يغتسل، فجلس والصحابة كلهم في المسجد، وهذا يدل أنهم أجمعوا إجماعاً سكوتياً أن الغسل غير واجب، ولو علموا أن الغسل واجب لأنكروا على عثمان ولقالوا: أخطأت، كيف ينكر عليك أمير المؤمنين ثم تجلس، ولو علم عثمان رضي الله عنه أنه واجب لما جلس رضي الله عنه وأرضاه.
ثم الرد الثاني: أن قوله صلى الله عليه وسلم: {من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل} لكن ابن حزم يرى أن الغسل واجب في المحلى، ويستدل بأدلة قوية من ذكائه وفطنته حتى يقول ابن تيمية لما تعرض لمسألة من مسائله: والله إني أعجب من هذا الرجل -يعني ابن حزم - من ذكائه وفطنته ومن شواذه وغرائبه، وليس معصوماً إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فـابن حزم يقول: الغسل واجب، وأما حديث عثمان فلم يذهب للاغتسال إما لأن الوقت ما أسعفه، فكيف يذهب يغتسل وعمر على المنبر؟! هذا الأمر الأول.
والأمر الثاني: أن استماع الخطبة أوجب عنده من الغسل والغسل واجب.
والأمر الثالث: أن سكوت الناس ليس فيه دليل، فقد يكون عند أحدهم علم، لكن كيف يتكلم وعمر يخطب.
فهذه مجمل ردود ابن حزم.
لكن الصحيح أن الغسل ليس بواجب، ولو أن بعض أهل العلم أوجبوه.
وهنا سؤال قبل الدخول في هذه القضية، وهو هل يدخل الناس الجنة بأعمالهم أم برحمة الله؟ فالله عز وجل يقول: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72] فكيف نوفق بين هذه الآية وبين قوله صلى الله عليه وسلم: {لن يدخل الجنة أحدٌ بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتداركني الله برحمته} فكيف يجمع بين الآية والحديث.
والجواب: أن بعض العلماء ذهب إلى أن الباء هنا سببية، ليست بباء العوض، فباء العوض كأن تقول: أعطاني القلم بريال. فيكون المعنى: أي أن من الأسباب التي أدخلتكم الجنة أعمالكم، وهذا رأي لبعض أهل العلم، وهو رأي قوي، لكن ذهب ابن القيم إلى قول وسط وهو أنهم يدخلون الجنة برحمة الله وتتوزع عليهم الدرجات والمنازل بأعمالهم، وهذا رأي أحسن من القول الأول.
بالله لفظك هذا سال من عسلٍ أم قد صببت على أفواهنا العسلا |
لأنه لو حملناها على السببية لقلنا: الناس كلهم يدخلون ويبقون في درجة واحدة، فلماذا يرتفع هذا مائة درجة وهذا خمسين درجة، فاقتضى أن ابن القيم يحمل هذا الحمل الممتاز، وهذا الرأي الصحيح الفصيح الذي ما سمع بمثله، فيدخلون الجنة برحمة علام الغيوب أرحم الراحمين، ولكنه يوزعهم في الدرجات بأعمالهم.
وهذه المسألة هنا المسألة الثانية عشرة: فضل الناس بأعمالهم، وجه الاستدلال من الحديث هو أنه من أتى في الساعة الأولى، ليس كمن أتى في الساعة الخامسة، فليس فضل الناس بمناصبهم أبداً، كأن يأتي المسئول قبل دخول الإمام بلحظات، فهذا ليس له أجر المبكر، فالتفاضل عند الله عز وجل بالأعمال لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عمم على الناس، وما جعلها على الصفات، كأن يقول: من جاء من العلماء أو من الصلحاء أو من الدعاة، أو من الأغنياء أو من الفقراء، وإنما قال من جاء أو من راح، فعممها صلى الله عليه وسلم، فاقتضى أن التفاضل بالأعمال.
نقول: اشتركت هذه في العطف، ولا يقتضي أن توافقها في الصفات، كما يقول اللغوي الشاعر العربي: "متقلداً سيفاً ورمحاً"، فليس المعنى أنه وضع رمحه كما وضع سيفه على عنقه بل المعنى وحاملاً رمحاً، وكما يقول الآخر: "فزججنَ الحواجب والعيونا" أي وكحلن العيون وليس المعنى وكحلن الحواجب، وهكذا. ولكن الصحيح أنه لا يلزم أن يكون من الهدي.
والمعنى من الحديث أنه تقرب إلى الله عز وجل سواءً في صدقةٍ أو في هديٍ أو في نافلةٍ أو في إطعامٍ أو في منفعة، أي أنه تقرب إلى الله بأي تقرب.
أقول: هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، وذكرها الصنعاني صاحب سبل السلام، فقال: وضحى أبو هريرة بديك، ولكن الصحيح أنه لا يضحى بالدجاج، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم توقف إلى حد الغنم، ولم يذكر الدجاج، وإنما الذي رجح جواز الدجاجة أخذ ذلك من هذا الأثر، ولكن لو قلنا ووافقناه، قلنا كذلك: تجوز الأضحية بالبيض، فتصبح المسألة فيها شيء من السخف، لكن الصحيح أنه يوقف عند الغنم.
ومن الفوائد هنا ما يدل على فقه الإمام أحمد وفطنته وذكائه رحمه الله أنه سئل: هل تنحر البقر أو تذبح؟ والبخاري عقد باباً في كتاب الحج، باب: هل تنحر البقر، لماذا قال: هل تنحر البقر؟ لأن هنا إشكال هل تذبح أو تنحر؟ فسئل الإمام أحمد هل تنحر البقر أو تذبح؟ قال: تذبح، قالوا: وما الدليل؟ قال: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] فأخذها من قصة بني إسرائيل وأتى بها في هذا الموضع، وهل الفقه إلا هذا.
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا |
ذكر ابن حجر فيها ثلاثة وأربعين قولاً، والصحيح أنها في آخر ساعة من يوم الجمعة.
ولكن كيف نرد على الحديث الذي جاء عن أبي موسى في صحيح مسلم أنه سئل عن ساعة الجمعة، فقال: يقول صلى الله عليه وسلم: {هي من جلوس الخطيب إلى أن تقضى الصلاة} فما هو الرد؟
من الأقوال التي حكاها ابن حجر، أنها تكون متنقلة، مرة تأتي في الساعة الأولى، ومرة في الثانية، ومرة في الثالثة، ومرة عند جلوس الخطيب، ومرة في آخر ساعة، ولكن هذا جواب فيه احتمال لا يرتضى، لأنه لابد من جزم، ولا بد أن ينقل لنا عن المعصوم أنها متنقلة.
ومن الردود أن هذا الحديث ضعيف، فقد ضعفه شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثامن عشر من الفتاوى، قال: ثلاثة أحاديث في صحيح مسلم ضعيفة، ثم أتى بهذا الحديث، فقال: إن هذا الحديث ضعيف، فيه انقطاع بين أبي بردة، وبين الراوي عنه، وممن سبقه من الحفاظ أبو الحسن الدارقطني حافظ الدنيا، فقال: هذا الحديث ضعيف، وذكره ابن حجر في بلوغ المرام، والصحيح -والله أعلم- أنه ليس بضعيف، فقد سألت عنه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز فقال: ليس في صحيح مسلم حديثٌ ضعيف.
وأما قول ابن تيمية فمسبوقٌ إليه، سبقه الدارقطني، والدارقطني مردودٌ عليه، والأمة تلقت الصحيحين بالصحة والقبول، فالقول بأن الحديث ضعيف يكون فيه نقض للإجماع، فالمعلوم أنه حديث صحيح، وأن الانقطاع الذي فيه ظهر أنه متصل عند مسلم أيضاً، وأن هذا من الحديث الذي أدرك على الدارقطني.
لكن كيف يفهم الحديث؟
هذا الحديث شائك، إن قلنا بصحته فإنه لابد من جمعٍ لهذه الأقوال وإن قلنا ضعيف أرحنا أنفسنا كما فعل ابن تيمية، وأخذنا بحديث أبي هريرة، وهذا لا نستطيع تفصيله هنا.
إذا أتى في الساعة الأولى ثم نام في المسجد فإنه قد قرب بدنة -إن شاء الله- ولا يلام على النوم إذا أتاه، لكن عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يحافظ على حضور قلبه وخشوعه في المسجد.
وعلى ذكر النوم فإن من دواعي النوم يوم الجمعة: الاحتباء، كأن يحتبي الإنسان، أو يجلس جلسة النائم الذي يريد النوم، لكن يكتب له الأجر، سواءً نام أو لم ينم.
من الفوائد أيضاً أنه يؤخذ من هذا الحديث أن الساعات الغروبية تقدم على الساعات الزوالية، وهذا مما ادعاه أهل العلم، وقاله المالكية، قالوا: التوقيت عندنا يبدأ من الصباح، ولا يبدأ من الظهر.
وهنا مسألة للفائدة: من أتى في الساعة الأولى فهل يأخذ أجر البدنة والبقرة والكبش والدجاجة والبيضة، لأنه أدرك الساعة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة؟
الظاهر أنه لا يأخذها لأنه قسمها، والتقسيم لا يقتضي أخذها كلها، يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قسمها لأشخاص، فالشخص الذي أتى أول مرة يأخذ بدنة، لكنه لو كان يأخذها جميعاً لقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فمن أتى في الساعة الأولى أخذ هذه الأجور، فيكفيه بدنة ويحمد الله عز وجل على البدنة.
وهنا سؤال: هل للخطيب أجر التبكير؟
نقول: نعم. له من الأجر ما الله به عليم، يكفي أنه يحضِّر الخطبة ويتعب في تخريج الأحاديث، وفي مراجعة الكتب.
وأيضاً هنا مسألة يستشكلها كثير من الناس، وهي: من متى يبدأ غسل الجمعة؟
أقول: غسل يوم الجمعة يبدأ من الفجر، لأن أهل العلم استشكلوا من اغتسل لجنابة في الليل قبل الفجر، ونوى أنه للجمعة هل يحتسب للجمعة؟ قالوا: لا. وقالوا: إنما يكون غسل الجنابة بعد أن يطلع الفجر لأن الحديث واضح: {من اغتسل يوم الجمعة} واليوم إنما يطلق بعد أن يطلع فجر اليوم.
فمعنى ذلك أنه إذا انتظر صلاة المغرب وكان يدعو فهو في صلاة، لكن من دخل بعد صلاة العصر، من يوم الجمعة وكان قصده الدعاء والاستغفار فله أن يصلي ركعتين تحية المسجد لحديث أبي قتادة في الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام: {من دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} فهذا عامٌ وهي من ذوات الأسباب التي تصلى في أوقات النهي فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، ولكن إن دخل بقصد التنفل فلا يصلي، لأنه يقول صلى الله عليه وسلم: {لا تتحروا طلوع الشمس ولا غروبها بصلاة} فهذا كأنه متحرٍ؛ لأنه دخل ليصلي، لكن دخل يدعو الله، ويستغفر ويقرأ القرآن، أو دخل ينتظر صلاة المغرب فعليه أن يصلي ركعتين، وينتظر صلاة المغرب وذلك مع تحية المسجد التي هي من ذوات الأسباب، وهذا كله إذا كان في المسجد، أما في بيته فلا يصلي شيئاً، لأن الحديث علق صلاة الركعتين بدخول المسجد والجلوس فيه، فهو خاص به.
وأما بالنسبة لساعة الإجابة فإنها ليست خاصة بمن في المسجد، بل أجرها يكون حتى لمن كان في البيت أو في أي مكان.
ولتوضيح هذه المسألة أكثر، أقول: جاء في حديث أبي هريرة الصحيح قال: قال صلى الله عليه وسلم: {لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس} وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: {شهد عندي رجالٌ مرضيون، وأرضاهم عندي
ولذلك كثير من المالكية كما قال القاضي عياض لا يصلي بعد العصر ولا يصلي بعد الفجر سواءً دخل المسجد أم لم يدخل، والصحيح الذي عليه المحققون من أهل العلم أن عليه أن يصلي ركعتين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالركعتين، وقال: من دخل المسجد، وهذا عام ولم يستثنِ وقتاً من الأوقات، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، ثم إن هناك دليلاً آخر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخطب الناس يوم الجمعة، والناس يستمعون لخطبته فدخل: سليك الغطفاني وجلس، لأن استماع الخطبة واجب، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {أصليت؟ -فقطع الخطبة، والخطبة لا تقطع إلا لأمرٍ مهم وما يقيمه إلا لواجب- قال: أصليت ركعتين؟ قال: لا. قال: فقم فصلِّ ركعتين وأوجز فيهما} فاقتضى أن ركعتي تحية المسجد تجب على الداخل، ولا يجلس حتى يصلي ركعتين.
ولعل البعض قد يشكل عليه أمر، وهو أن الأمر هل يدل على الوجوب أم على الندب؟
أقول: إن أمره صلى الله عليه وسلم أول ما ينصرف إلى الوجوب، لكن قد تأتي قرائن في الأمر تصرفه إلى غير الوجوب، كقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31] فليس معناه وجوب الأكل والشرب، فهذا أمر، فقد ينصرف بالقرائن وسياق الكلام إلى الندب، لكن الأمر المجرد أول ما يطلق على الصحيح، فإنه يتجه إلى الوجوب، ولكن هناك سياقات مثل قوله صلى الله عليه وسلم: {استاكوا ولا تبقوا قلحاً} فهذا أمر، والذي صرفه عن الوجوب حديث: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء} إذاً مخافة المشقة لم يأمرهم صلى الله عليه وسلم، فليس كل أمر يطلق يدل على الوجوب، فقد يكون للندب.
وبمناسبة الكلام عن ساعة الاستجابة ليوم الجمعة، هناك أيضاً ساعة الاستجابة في الليل، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {ينـزل ربنا في الثلث الأخير من الليل} وفي لفظٍ آخر: {حين يبقى من الليل ثلثه، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له، هل من مستغفرٍ فأغفر له، هل من سائل فأعطيه} قال أهل العلم: الثلث الأخير أي: يقسم الليل إلى ثلاثة أثلاث، وكأن مدته ساعة أو ساعتين قبل الفجر، فإذا أتى ثلث الليل الآخر نزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى نزولاً يليق بجلاله، ولا نكيفه ولا نمثله، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق؛ أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر