كما تطرق إلى أسباب تقصير أهل السنة في دعوتهم، وقضايا اجتماعية كظاهرة العنوسة، واسترسل الشيخ في قضية الجهاد, وما هو فقه المرحلة فيه متمثلاً في الجهاد الأفغاني والبوسنة والهرسك والصومال, وختم هذا اللقاء برأي الشيخ في بعض الشخصيات... إلى آخر ما ذكر في ثنايا هذه المادة .
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسال الله عز وجل أن يوفقنا جميعاً إلى كل خير، وأن يرزقنا جميعاً الإخلاص في القول والعمل، إنه سميع مجيب.
أيها الأحبة: إن طريق الدعوة إلى الله طويل، وإن الأمة الإسلامية على مدى تاريخها العريق تنتج لنا في كل عصر دعاة إلى الله، يحسنون التعامل مع الكلمة الطيبة التي صورها لنا القرآن الكريم التصوير الذي نعرفه جميعاً، وشبهها لنا بتلك الشجرة العريقة التي تسافر جذورها وجذوعها في الأرض، وتشمخ أغصانها في السماء.
وقد كنا نقرأ عن بعض وعاظ المسلمين في تاريخنا، كـابن الجوزي رحمه الله تعالى، ونستغرب أحياناً ما يقال من كثرة من يحضر مجالس وعظهم، حتى إذا هيأ الله لنا في هذا الزمن عدداً من الإخوة الكرام، من شيوخ الشباب ووعاظهم الذين فتح الله تعالى عليهم، فأحسنوا التعامل مع الكلمة، وأحسنوا توظفيها في طريق الدعوة؛ فرأينا مجالس وعظهم ودعوتهم ودروسهم تضج وتعج بآلاف المستمعين المتابعين والمتعطشين؛ أدركنا أن ما روى لنا التاريخ عن مجالس ابن الجوزي ليس غريباً ولا عجيباً.
ونحن في هذا اللقاء الطيب الذي نرجو أن ينفعنا الله به جميعاً، وأن يجعل مجلسنا من مجالس الذكر التي تحفها الملائكة وتغشاها الرحمة.
نحن في هذا اللقاء المبارك نلتقي مع داعية مبارك من دعاة عصرنا، مع شاب شيخ, فهو شاب لأن سني عمره تقول لنا ذلك، وشيخ لأن ما تلقاه من العلم وما بذله في سبيل الدعوة يؤهله أن يحمل هذا اللقب، وأنتم تعلمون أن لقب الشيخ في هذا الزمن قد اتخذ معنىً آخر غير المعنى الذي كان يقصد به من قبل، ولعل شيخنا وداعيتنا وأخانا الكريم، الشيخ عائض بن عبد الله القرني يعذرنا عندما نطلق عليه هذا اللقب، فهو ليس من باب قول الشاعر:
زعمتني شيخاً ولست بشيخ إنما الشيخ من يدب دبيبا |
نرحب في بداية هذا اللقاء بـأبي عبد الله ونقول: أهلاً وسهلاً بك يا شيخ عائض!
القرني: حياك الله وبياك، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية.
أخي الكريم: تعود الناس في مثل هذه اللقاءات على سؤال تقليدي معروف؛ ألا وهو أن يقدم من نلتقي به نفسه لإخوانه، وكان من المفروض أن نقدمك نحن، لكن نرجو أن تقدم أنت نفسك جزاك الله خيراً؟
في البداية: أحمد المولى تبارك وتعالى على أن جمعنا في هذا المكان الطيب العطر بوجودكم، وأسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وهو رب جبريل وميكائيل وإسرافيل, فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، وهو الذي يحكم بين عباده أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه, إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وأشكر تسجيلات السرة بـالكويت على إجراء هذا اللقاء، علَّ الله أن ينفع به، وأن يجعله في ميزان الحسنات، ثم أشكر فضيلة الدكتور والأديب الشاعر عبد الرحمن بن صالح العشماوي على أن التقى بي وأسمع إخوانه وأحبابه صوته من خلال هذا اللقاء.
وتقديم النفس وارد شرعاً ومطلوب عقلاً وممنوح طبعاً، وقد قدم الله نفسه للعالمين، كما قال أحد الفضلاء في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لموسى في أول لقاء إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا [طه:14].
وكان عليه الصلاة والسلام يقدم الوفود بأسمائهم،وعند الترمذي بسند فيه نظر: (إذا عرف أحدكم أخاه فليسأله عن اسمه وعن نسبه، فإنه أصل المودة) وعند مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من القوم؟ قالوا: ربيعة، قال: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى) وكما في شريف أدبكم يقول العزي:
أحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب |
فلا بد من تقديم ولو أنه مكرر، ولكن لعل أن يكون فيه شيء من الفائدة:
أخوكم في الله: عائض بن عبد الله القرني، من مواليد عام (1379هـ) في بلادي بالقرن، ودرست في الابتدائية بمدرسة آل سليمان، ثم المعهد العلمي بـالرياض وأبها، ثم كلية أصول الدين،ثم حضرت الماجستير في البدعة وأثرها في الدراية والرواية بجامعة الإمام، وها أنا على مشارف إنهائي -إن شاء الله- لرسالة الدكتوراه، والتي هي تحقيق لكتاب المفهم بشرح صحيح مسلم للقرطبي.
فضيلة الشيخ: نريد قبل أن نبدأ في النقاط الأخرى أن نسأل عن رسالة الماجستير: هل طبعت في كتاب أم لم تطبع؟
الجواب: نعم. طبعت رسالتي للماجستير في كتاب، وقام بطبعها دار الطرفين بـالطائف ضمن مجموعة، وخرج منها الجزء الأول، وهي الآن في متناول الأيدي.
وحاولنا أن نأخذ منها ما يصلح للمتخصصين فانتقيناه وجمعناه في جزء واحد.
الجواب: لعله من المفيد أن يطالع العبد بعينين، بعين إلى القضاء والقدر، وعين إلى الأسباب المعلومة، فيعلم أن ما قضاه الله وقدره، وهو الخير كل الخير للعبد، سواء كرهه أو أحبه، والله يقرر ذلك ويقول: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19] وعند أحمد في المسند عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للعبد قضاءً إلا كان خيراً له) قيل لـابن تيمية: حتى في المعصية؟ قال: نعم. بشرطه من الانكسار والندم والتوبة والاستغفار، فالمقصود: أن العبد لا يكره من أمر الله شيئاً، ورب ضارة نافعة.
والنظر الآخر إلى الأسباب، فإنه كما يقول الغربيون في مثلهم: اجعل من الليمون شراباً حلواً, فإن أهل الإسلام يقولون: ليس الذكي الفطن الذي يزيد من مكاسبه أو مرابحه، ولكن الذكي الفطن الذي يحول الخسائر إلى أرباح.. وهذا يعلمه المسلم من حياته، فإنه ليس هناك أبواب مغلقة إذا كان باب الله مفتوحاً، وليس هناك حبال مصرمة إذا كان حبل الله ممدوداً، فالمجال واسع أمام الداعية مهما أوقف من بعض المجالات، أو أغلق أمامه بعض الأبواب، لأن عدد الطرق إلى الله كعدد الأنفاس، من الكلمة، أو اللقاء، أو التأليف، أو اتصال القلب بالله عز وجل، أو تجديد التوبة، أو العمل الصالح، أو اصطفاء الأخوة، أو المجالس المصغرة، أو الكلمات والقصائد، أو غير ذلك، وهي أسباب كثيرة يعلمها من ينهج هذا المنهج.
فلعل من حلم الله ورحمته أن يقدر على العباد أقداراً هي في صالحهم، وأُدرك من الأسرار أن اختيار الله عز وجل للعباد أحسن من اختيار العباد لأنفسهم، فمثلاً: عن تجربتي الشخصية الضيقة القليلة؛ وجدت أن في هذا خيراً كثيراً، فمن ذلك: العودة إلى التأمل والتدبر والتفكر، ومدارسة ما سبق إن كان هناك أخطاء في الطرح، والتزود في العلم, فإنا لا زلنا -كما تفضلتم في اللقاء- في مقتبل العمر، وهذا يحتاج إلى طلب، وكثرة نصوص، ورحابة في المعرفة.
ومنها: أن يسلم الإنسان لقضاء الله وقدره، فيذعن وينال درجة العبودية في الاستسلام لقضاء الله عز وجل.
ومنها: أن يتأمل إخوانه من الدعاة والوعاظ فيجلس مستمعاً بعد أن كان متكلماً، ومنصتاً بعد أن كان متحدثاً.
ومنها: أن يراجع ما كتب وما قرأ بالتمحيص والتشذيب والتهذيب.
وأما عن هذه الفترة فقد رأيت فيها مكاسب، منها: ما قد سبق ذكره.
ومنها: أن هناك ما أنجز كرسالة الدكتوراه والحمد لله، فقد أشرفت على الانتهاء منها، ولو لم يكن هذا الإيقاف لأخذت الرسالة عمراً مديداً طويلاً يبلغ الأربع السنوات.
ومنها: خطب الجمعة المسك والعنبر، وقد انتهيت من مجلدين اثنين بتصحيح وتنقيح أرضاه والحمد لله، ولو أنه في عمل العبد قصور.
ومنها: ديوان قدم له الدكتور عبد الرحمن بعنوان (أبو ذر في القرن الخامس عشر).
ومنها: ثمان رسائل منها: الترياق والأشواق، وإعادة البناء، وفن الخطابة، وأمراض الوعاظ... وغير ذلك من الرسائل.
ثم كان في قراءة متسعة في كثير من الكتب، خاصة مع وجودي في الرياض، فإني أدركت أن هذا البلد رحب, وأكثر معرفة وثقافة, وأنه رافد من مرافد الخير، وقد أدركت ذلك لما طالعت فيه كثيراً من المكتبات، ورأيت كثيراً من العناوين, وأدخلت كثيراً من الكتب، فرأيت كل المصلحة فيما حدث، وما على العبد إلا أن يذعن ويسلم، ولله الخيرة ولرسوله وليس للناس.
من رياحين الجبال الخضراء.. إلى خزامى الصحراء انتقل الشيخ عائض بعد الإيقاف، فيطرأ سؤال أحياناً على ذهن المتأمل والمتابع لك.. لماذا اختار الشيخ الرياض بدلاً من أبها في هذه الفترة؟
الجواب: على كل حال يمكن أن أجيب بمقطع بيت:
ما زال الهوى نجداً وإن زار الحجاز وأتهما |
وإذا عوقب العبد -أحياناً- بحرارة تهامة، أو بصلافة الجبال؛ فإنه ينتقل إلى الصحراء حيث الرحب والخزامى والأفخوان والهواء والنسيم العليل.
والحقيقة أن هناك أسباباً منها:
أولاً: أن أهل الرياض أو من يسكن نجداً عموماً لهم في قلبي منزلة خاصة، فهم أهل وعي قديم، وتوحيد أصيل، وغيرة واتجاه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.. وهذا بحد ذاته قاسم مشترك بيننا وبينهم.
ثانياً: أن هذا البلد فيه من العلماء والأساتذة الفضلاء والمفكرين والأدباء ما يمكن أن يجعلها الإنسان فرصة في أن يتحدث وأن يزور ويزار، ويلتقي بهذه العقول النيرة، فيكتسب إلى عمره أعماراً، وإلى عقله عقولاً.
ثالثاً: وجود الجامعة، حيث أن لي بها صلة بسبب الرسالة، ثم المكتبات العامة الرافدة، ثم الدروس العلمية المتخصصة، كدرس أحضره في مسند أحمد عند سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وبعض الدروس الفقهية التي أحضرها لبعض العلماء.. من هذا ومن غيره أحببت أن أقيم في الرياض حيث أني أرى أن أكبر منطقة أو مدينة يظهر فيها الوعي والدعوة والصحوة هي الرياض فحسب.
والحقيقة دائماً أن المدن الكبيرة التي يقطن فيها العلماء تحظى بعناية كبيرة.
يعز على الإنسان مسقط رأسه ولو كان قسراً لا يرد به قدى |
من هذا المنطلق: ماذا تعني مدينة أبها بالنسبة لـأبي عبد الله؟
الجواب: على كل حال في أبها، أو في الجنوب خاصة مراتع الصبى، وملاعب الطفولة، وميادين الشباب، ولا يمكن أن يفارقها الإنسان أو يمحوها من ذاكرته؛ لأن هذا صعب، وسوف يعيش هذا في مخيلته ما دام يشعر بالحياة ويمشي على الأرض، ولها شيء خاص في الذهن؛ فإن هناك والدي وإخوتي وبقية الأهل والعشيرة، وأنا أتوق إليها بين زمن وآخر.
والحقيقة أني أحب الأدب؛ ولذلك فإنني لما مررت ببعض الأحداث الصغيرة التي هي عندي قد تكون كبيرة، لكن على كل حال سمعت منكم وأنتم تقولون:
قالوا قدمت إلى الرياض فمرحباً أهلاً وبورك منك ذاك المقدما |
ثم قلتم:
ما زال الهوى نجداً وإن زار الحجاز وأتهما |
وسمعت شاعراً آخر من تلك الجبال وهو يلاطفكم القول:
ولكن في السراة لكم حمى |
فالحقيقة أنه في السراة هناك أشجان، ودموع لا تمحى وذكريات لا تنسى، ولكن على كل حال الزيارة واردة، وأنا لست بالجافي إن شاء الله.
الجواب: كتبت ما يقارب خمس أو ست قصائد، بعضها أرضى عنه بذوقي، وبعضها قد يلاحظ عليها، منها قصيدة بعنوان: ولنا ألف شاهد.. وهي من آخر ما كتبت، وهي موجودة في الديوان الذي سيصدر قريباً إن شاء الله، منها:
العيون المراض بعض العذاب وسكار الهوى رصيف الرضاب |
وعيون من الجوى رانيات وجفون من الهوى كالجواب |
مهج في الغرام تقتل عمداً من لحاظ سهامها في صواب |
همم الحق تنطح العزم نطحاً من يقين لا ناطحات سحاب |
إلى آخر ما قلت.
الجواب: هذه الرسالة أكملت، وهي في ما يقارب خمسين صفحة، واستفدتها من التجربة والاستقراء والصبر، لأنني عشت فترة غير واعظ، ومكثت برهة من الزمن غير متحدث، فرصدت وأخذت أراقب عن كثب ما يقوله إخواني وزملائي من الوعاظ؛ فأدركت بعض الملاحظات الكبيرة التي قد تصل إلى أربعين أو واحد وأربعين ملاحظة، واختصرت بعض الأشياء، والحقيقة أن الذي يتكلم ويباشر ويتحدث إلى الناس قد لا يدرك الخطأ الذي يقع فيه، ولكن المتفرج والمراقب يدرك من الأشياء والنقد والعوار -أحياناً- ما يحتاج إلى أن يبثه إلى إخوانه.
وأنا لست في مكان المستعلي على إخوانه وزملائه، لكني -إن شاء الله- في مكان الناصح المسدد الذي يعرض المسألة بدون ذكر أسماء، وقد أدركت -مثلاً- أن كثيراً من الوعاظ عنده شهية في الحديث والكلام، فهو يريد أن يتكلم بأي شيء، وقلبه ينازعه بأن يتحدث بكل مسألة، وفي كل مكان ومجلس، وهذا عيب يحتاج إلى أن يسدد ويصفى؛ لأن السلف كانوا يكرهون كثرة الكلام، وكانوا يتخولون الناس بالموعظة.
وأدركت أن بعضهم يلقي الكلام على عواهنه، دون تحضير مسبق، ويدعي أن الله سوف يفتح عليه، ويبدأ في الكلام، ثم يجمع كشكولاً أو قاموساً من الأحاديث والموضوعات دون رتابة، وهذا إلغاء وعدم احترام لعقول الجمهور.
أيضاً: الأحاديث الموضوعة يتساهل كثير من الوعاظ فيها، حتى أني كنت أسمع في مجلس رجلاً يعظ الناس في حديث علقمة وحديث ثعلبة، وأحاديث ما أنزل الله بها من سلطان، ولا توجد في كتب أهل العلم، ويترك الصحيحين والمسانيد والمعاجم.
ومنها أيضاً: العلو الذي يقع فيه بعض الناس، وهو استعلاء وإسقاط للآخرين، فيقول: كنت.. وقلت.. وكتبت.. ورأيت.. ولي كتاب في ذلك.. وسبق أن تحدثت.. ولي ردود.. وهذه ترجمة للنفس، والحقيقة أن هناك ملاحظات كثيرة، لكن أقول: لعل من الجدير أخي الواعظ أن تقرأ هذا الكتاب حتى تعلم، وقد قرأه بعض الفضلاء ووصلتني منهم بعض الملاحظات؛ علها أن تكون مفيدة، فإن كان فيها سداد فمن الواحد الأحد، وإن كان فيها خطأ فمن نفسي والشيطان, والله بريء من ذلك، ورسوله معصوم, والرسالة تحت الطبع إن شاء الله.
العشماوي: ومثل هذ أرى أنه من النقد الذاتي المطلوب، وهو خطوة طيبة جداً، ونحن بحاجة إلى أن ننقد خطواتنا، فحبذا لو نزل الكتاب حتى ولو كان فيه بعض الأخطاء، أو بعض التجاوز، والإنسان من طبعه النقص, ونتمنى أن نجدها مطبوعة إن شاء الله قريباً.
الجواب سجل شريط بعنوان: (هموم داعية) سجلته تسجيلات الشرقية ونزل إلى الأسواق، وهناك (أمراض الوعاظ) وهو نفس الكتاب ملخص في شريط سجل بتسجيلات في الرياض.
الجواب: في الذهن أشياء، ولكن كما يقولون: العين بصيرة واليد قصيرة.. ولكنه لا يزال العبد في خير ما دامت همته تحدوه، وكان عنده طموح, سواء حصل هذا أو لم يحصل وكما قال الإمام أحمد لابنه عبد الله: انوِ الخير وإن لم تفعله، وفي حديث يحسنه كثير من العلماء: (نية المرء خير من عمله) فهناك أشياء منها: جمع شرح للمسند، وهي في أشرطة سبق أن شرحت في أبها وهي ما يقارب مائة وثلاثة أشرطة، والآن هي في أربعة مجلدات في دار في الرياض، تهذب وتنقى وتصفى لتخرج.
ومنها: شرح لـمختصر البخاري للزبيدي، أقوم به في البيت، وفكرت مع بعض الإخوة من طلبة الحديث أن نقوم بتلخيص واختصار مفيد ومحقق لـفتح الباري، وقد بُدئ في ذلك خطوات، لأني أرى أن فتح الباري كتاب لا تستغني عنه المكتبة، وهو يحتاج إلى شيء من التقريب؛ لأن العصر عصر معقد، وهو عصر سرعة يحتاج إلى أن يكون في متناول اليد.
ومنها: بعض الأمور الخاصة التي قد تكون شبه ذاتية، كمراجعة بعض المتون،وحفظها عند بعض المشايخ، وحفظ بعض الأحاديث بكثرة، وحفظ القصائد المختارة في الحماسة لـأبي تمام , وبعض الكتيبات, أو أختار شيئاً من ذلك حتى ينمي الإنسان ذاكرته.
الجواب: على كل حال! الخلاف وارد، والاختلاف مذموم، والله عز وجل قد ذكر الخلاف وأقره، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم, والناس يحصل بينهم خلاف لاختلاف طبائعهم ومشاربهم, وفهومهم وأذواقهم، وما يتطلعون إليه.. لكن الاختلاف مذموم؛ لأن فيه فرقة وشقاقاً، وضعفاً للأمة، فالذي نشكوه نحن هو الاختلاف؛ وأن تكون النية الحادية للمخالف أو للمعترض أو للراد لغير وجه الله عز وجل، أو لا يريد الإصلاح، وإنما يريد بها التشفي، خاصة أن السلف الصالح حذروا من الأقران، ومن داء المعاصرة، ومن الحسد الذي وقعت فيه الأمم، فرأينا وشممنا أن بعض الناس يريد بنقده إسقاط الآخرين؛ لأنه -أحياناً- يتعرض لذنوبهم الشخصية، وعيوبهم وصفاتهم التي لا تعلق لها بالمسألة، ولا تعلق لها بالقضايا المطروحة.. فيعلم من ذلك ويفهم أن هذا لا يريد الإصلاح، وهناك مسائل نعرضها هنا منها:
أولاً: لماذا يطالب في النصح أن يكون سراً -وهذا هو المطلوب- لفئة، ولكن الفئة الأخرى تعلن عيوبها وذنوبها على المنابر؟! فنطلب السواء في هذا بأن تكون النصيحة سراً، إذا كان هو الأصلح والأنجح سواء للدعاة أو غيرهم.
ولماذا يسلط كشاف النقد ومجهر الجرح على الدعاة فقط، وعلى ما يمكن أن يغلطوا فيه، وهم لا يسلمون من الغلط، فهم ليسوا من المعصومين، ثم تترك فئات وشرائح من الناس هم أكثر ضرراً، وأكثر محاربة لله ولرسوله وللمؤمنين، كالباطنيين الإسماعيليين الذين يوجدون في جزيرة العرب، ولهم أطروحات كافرة ملحدة على طريقة ابن سينا والفتوى وغيرهما، أيضاً الصوفية الذين شوهوا صورة الإسلام، ولهم أطروحات، ولهم زوايا وقصائد، ومقاصير ومجامع، وأيضاً الرافضة ومشربهم المنحرف عن منهج الله، وأيضاً العلمنة وهي إطراح الدين، وإزواؤه في المسجد، ونبذه من الحياة، وهم يوجدون بثقلهم ووسائلهم وأطروحاتهم.
ومنها: الشهوانيون والفجرة وأهل المنكرات.. وكذلك أهل الحداثة فلماذا يسلم هؤلاء جميعاً ويبقى الدعاة هم أهل الاعتراض عليهم، والردود والجرح وتسجيل الأشرطة ضدهم، وتنغيصهم في مسيرتهم؟!
ثانياً: هل جُلس مع هؤلاء الدعاة، وعُرف ما عندهم، أو تلتمس له عذراً فما أعلم أنه جُلس معهم، واستمع رأيهم والتمس لهم العذر؟ فإن السلف يقولون: لا تبدأ أخاك حتى تعلم ما عنده، بل يفاجأ الواحد منهم بنزول مجموعة من الأشرطة والكتيبات والمنشورات ضده، وهذا محرم شرعاً،ومذموم طبعاً.
ثالثاً: لماذا لا تعد حسنات هؤلاء الأخيار الأبرار؟!
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا |
والله قد طالب المسلم أن يكون عادلاً حتى مع خصومه من الكفار، قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] فكيف بالمسلم الموحد؟ بل بالداعية؟ بل بالعالم الذي قصده الحق؟! لماذا لا تذكر محاسنهم مع العلم أن محاسنهم كالجبال، وغلطهم بسيط سهل ينغمر في بحار حسناتهم، ولذلك يقول الأول:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع |
هذا هو المطلوب، وأنا أقول لإخواني الذين يتابعون هذه الردود: أن عليهم أن يشتغلوا بأنفسهم، وبتربية أرواحهم، وبالاشتغال بما يصلح الأمة، كطلب العلم الشرعي، وحفظ المتون، والاشتغال بتربية العامة ووعظهم، وفتح مدارس تحفيظ القرآن، وإهداء الشريط الإسلامي.. وأقول للذين يريدون أشرطة في فن الردود وحسب: أين الأشرطة في العقيدة، والآداب، والسلوك والسير والعبادة والمعاملة؟ إن هذا فيه وقفة ونظر، وإنه ينبئ عن مقصد الله أعلم به.
السؤال: ننتقل إلى سؤال آخر، يبدو أنه يبتعد بنا قليلاً، لكن نريد أن نأخذ رأيك في هذا الأمر، ونحن نعيشه جميعاً، وهو ما يجري في العالم الإسلامي، حيث كثر القيل والقال والاختلاف حول دخول المجالس النيابية والبرلمانية في بعض أنحاء العالم الإسلامي، وذلك عن طريق الانتخابات.. فماذا ترون في هذا الأمر؟
الجواب: إن المسائل النظرية والاجتهادية التي لم ترد فيها نصوص قاطعة يجوز للعقل أن يجول فيها، ويجوز للإنسان أن يتحدث عنها، وأن يجتهد؛ لأنه لا يخالف إجماعاً، ولا يعارض نصاً، ودخول المجالس النيابية والانتخابات والبرلمانات مما تكلم فيه العلماء، فمنهم من حرم ذلك، ومنهم من أجازه، ولبعضهم أشرطة وكتب في هذا، وآخر من سمعت سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في مجلة الإصلاح، تكلم فيها عن هذه القضية، وقبله الأستاذ عبد المجيد الزنداني له في ذلك شريط، والشيخ عبد المجيد الريمي، وكثير وكثير كالشيخ القرضاوي، وغيرهم من المشايخ والمفكرين والدعاة، ولذلك إن قلت قولاً في هذه المسألة فما أتيت بجديد، سواء كان خطأ أو صواباً؛ لأني مسبوق إلى هذه المسألة.
ولكن هناك بعض الضوابط: أولاً: أن العبد ينظر للأصلح، كما قيل:
إن اللبيب إذا شكا من جسمه مرضين مختلفين داوى الأخطرا |
فينظر إلى المصلحة المتحققة من دخوله، أو من رفضه، فإن كان في دخوله هذا المجلس مصلحة للدعوة وللإسلام بقصد الاجتهاد ومشاورة الإخوان فلا يتوقف في ذلك، لأنه الأصلح بأن يكون له ثقل وميدان وقدم في العمل الإسلامي.
ثانياً: ألا تعمم هذه القضية على الجواز أو التحريم، فإن البلدان تختلف، وقد وجد في بعض البلدان والشعوب أنه لو لم يدخل الدعاة في المجالس والبرلمانات، لضربت الدعوة وسحقت تماماً، لأن الأنظمة قد تكون دكتاتورية ظالمة غاشمة بطاشة، فلو لم يدخل الدعاة بأسماء ومقاعد ليكون لهم ثقل ووزن وصوت وإلا فالدعوة سوف تجتاح، وقد رأينا ذلك وسمعناه وعرفناه، فمثل هؤلاء لا يتوقفون لأن في ذلك نصراً للإسلام وخيراً.
ثالثاً: هذه المسألة تختلف باختلاف الأشخاص الذين يمثلون الأمة.. أمانة وصدقاً وعلماً واطلاعاً، فالواجب أن يختار أحسن الناس.
رابعاً: أن ينتبه لمسألة ألا يتنازل عن شيء من دين الله عز وجل، الذي هو واجب، ولا أقصد المباحات أو الأمور التي يختلف فيها الناس، أو أمراً مستحباً في تركه مصلحة محققة, وإنما أقصد الواجبات أو الفرائض التي فرضها الله على عباده، أو عدم تحليل ما حرم الله عز وجل, فأرى أنه لا يتنازل بأي حجة كانت سواء لمسايرة أو ملاينة فإن هذا مداهنة محرمة بلا شك.
وعموماً فإن البلدان التي لا يحصل فيها صوت للإسلام إلا من خلال المجلس النيابي أو البرلمان أو الانتخاب؛ فإن للمسلم أن يدخل في ذلك، وهذا أمر مباح إن شاء الله، وقد قاله كثير من العلماء والفضلاء، وهو الأصلح للدعوة والدعاة في تلك البلدان، ولا يشترط لإعلاء كلمة الله أن يكون بعد قتال وجراح, وبعد أن تسيل الدماء، بل قد يكون هناك انتصار بالطرق السلمية التي ترتفع فيها راية الله، لأن المقصد أصلاً من الدعوة ومن المنهج الرباني أن تكون كلمة الله هي العليا، وليس المقصد أن يكون هناك جماعة ومؤسسة ووزراء ونواب ومقاعد، إنما المقصد أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، فإذا حصل هذا بالطرق السلمية فهو أحسن وأوفر للمسلمين، وأقل خسائر، وأعظم فائدة، وهذا هو المرجو.
وبعض الناس من الخطوط الأخرى يطالبون بالجهاد، ويقولون: لا ندخل صناديق الاقتراع، ولا نريد البرلمانات.. يؤدي إلى أن تفصل الجماجم والرءوس، وأن تسيل الدماء، وأن تمتلئ المستشفيات بالجرحى، وبعدها يأتي النصر ويعتقد أن هذا هو الطريق.
ونقول: لا. الطريق الأحسن هو الأسهل، والأقل خسائر، وهذا هو الأنجح إن شاء الله.
وقد يكون ذلك الطريق ضرورياً في بعض الأحيان.
الجواب: على كل حال، الشيخ في مجلة الإصلاح يقول: لا حرج من دخول العلماء للمجالس النيابية، ولكن بشروط، فيظهر أن الأصل عند الشيخ أنه يجوز ذلك، لكن بشروط، ولعل من الشروط بعض التي ذكرتها، لكن الشيخ لا يمنع منعاً قاطعاً، بمعنى أنه لا يحرم تحريماً باتاً كما يفعل بعض الناس، فإن بعضهم يقول: لا تبحث في المسألة ولا تناقش فيها لأنها محرمة، ولأنه ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة.
وسبق أن كان معي بعض الإخوة من الدعاة في أفغانستان، وجلسنا مع أحد القادة الكبار، فقال: لا يجوز الدخول في البرلمان -لأن حكمتيار كان يطلب الانتخابات- وكان ذلك القائد وزيراً في الحكومة فقلنا: لماذا؟ قال: لأن البرلمانات والانتخابات لم توجد في كتاب الله عز وجل. قلنا: وأنت وزير من الوزراء وليس في الكتاب والسنة لا رئيس وزراء ولا وزير خارجية! قال: هذه من المصالح المرسلة!! قلنا: وتلك من المصالح المرسلة.. فالأحاديث والنصوص تقبلها -والحمد لله- في عمومها.
الجواب: الحقيقة أن الكلمة هذه فظيعة ومخيفة، وقد وددت لو أني تركتها من الأصل، لأنه أحياناً قد يكون للإنسان مقولة، ثم يتكلف بأن يرد عنها ويعتذر حتى يثبت في المقولة، وإلا فإن المسلم لا يستنكف أن يقبل الحق أو يعود عن الباطل إذا تبين له ذلك، كما قال عمر: [[لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فبان لك الحق في خلافه أن تعود عنه]] وأنا قلت هذا، وسبق أن جلست مع بعض المشايخ في هذه المسألة واتصل بي بعض الإخوة، وبينت في بعض الأشرطة، لكن الذي يظهر أنه ما بان إلى الآن.
فأنا على أحد أمرين:
الأول: إما أن أوضحه ويقبل الناس توضيحي له، وإن كان أحدث لبساً فإنني أنسحب عن هذه الكلمة، ولم يحصل شيء والحمد لله، فإن انسحبت عن هذه الكلمة فلن تنسخ آية من القرآن، ولن يلغى حديث من أحاديثه عليه الصلاة والسلام؛ فإن من قضاة الإسلام من كان يقضي في المجلس ثم يسمع الدليل، فيعود فينثر القضية من أولها إلى آخرها.
فأقول: قصدي بذلك الذي يوجب على المسلم أن يكون منتمياً إلى فئة من هذه الفئات، أو جماعة من هذه الجماعات، ويجعله وجوباً عليه بحيث أنه لو ترك هذا الانتماء كان آثماً, هذا الذي أقصده, فإنه مخالف لمنهج الله عز وجل، ومثل هذا يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وأنا قلت هذا لأن ابن تيمية يقول في الفتاوى -والناس يعلمون ذلك- من أوجب على الناس أن يكون أحدهم حنبلياً أو مالكياً أو شافعياً أو حنفياً فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وهذه ثابتة عن ابن تيمية، وبعض العلماء عذرني وقال: هذه كهذه؛ لأن الأصل ألا يشرع الإنسان إلا شرع الله عز وجل: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116].
لكن المسألة التي نوقشت فيها مسألة: من الذي أوجب على الناس هذا؟
قلت: لم يوجبه أحد, ولا يلزم من إلقاء الحكم أن يكون له أصل في الواقع، فإنه قد يلقى الحكم أحياناً وقد لا يوجد في واقع الناس مكان لتطبيق الحكم فيه، وأنا أضرب مثلاً من كتاب الله عز وجل: فقد جعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى من شروط الرجم على الثيب الزاني أن يشهد عليه أربعة، قال بعض العلماء: لم يرد في تاريخ الإسلام؛ أنه وجدت قضية نقلت للناس أن أربعة شهدوا الفاحشة في الزنا ونقلوها للعلماء، ولم يوجد أبداً منذ أن بعث عليه الصلاة والسلام إلى الآن.. فالحكم ما زال في كتاب الله، ولكن تطبيقه على واقع الناس لم يوجد بعد.
فأقول: لو قال أحد هذا مرضاً وهو لم يحصل، فإنه يفعل به هكذا، وإن كانت الكلمة خشنة وأحدثت لبساً فإني أقول: العودة عنها أسلم، وأنا الآن أعلن أنه إذا كان فيها خطأ وغلط فإني أتوب إلى الله وأستغفره، وما أنا إلا مصدر من مصادر النقص التي تحتاج إلى تسديد من الله تعالى.
السؤال: لا شك أن لكل مرحلة من مراحل الدعوة فقهاً دعوياً إذا صحت العبارة، فيا ترى ما هو فقه هذه المرحلة من مراحل الدعوة، فيما يتعلق بالواقع؟
الجواب: أحب أن أشير إلى مسألة وهي: ألا نندم على ما مضى، فقد ينهج الداعية نهجاً في طرحه وأسلوبه، ثم يظهر له أن أسلوبه كان خطأ، أو يوحى إليه أن الذي سلكه ليس بصحيح، وهذا فيه نظر، لأنه قد يكون هو الصحيح، وعين الحكمة هو الذي فعله من قبل، إذا ناسبت المرحلة التي سبقت هذا النوع أو الثوب الذي طرحه من ثياب الدعوة.
وأحياناً قد يفعل الإنسان هذا ثم ينقص جهده، وهذا كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً [النحل:92] فلا يصح للإنسان أن يعود على مسيرته، وجهده وجهد إخوانه من الدعاة بالخطأ, لأن هذا ليس بالصحيح لأمور:
أولاً: لأنه قضاء الله وقدره.
ثانياً: لأن الذي حدث قد يكون عين المصلحة, فإن لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى له الحكمة المطلقة.
فعليه ألا يزري بمنهجه ومنهج إخوانه إلا في بعض الجزئيات من جزئيات الخطأ والغلط التي لا يسلم منها أحد، ثم إن الحياة مراحل للدعوة كما فعل عليه الصلاة والسلام، فإنه كان له طرح معين في مكة، فقد كان يدعو إلى المعتقد، ويحارب أهل الوثن، فلما وصل إلى المدينة لينشئ دولته الإسلامية الرائدة الخالدة، كان له أسلوب وطرح آخر.. معالجة لقضايا الأحكام، والآداب، والسلوك، وأسس فقه الفتوح والجهاد، وكلها مستوحاة من كتاب الله عز وجل، ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمرحلة التي نعيشها الآن من وجهة نظري، وقد يكون هذا صواباً أو خطأ، لكني أرى بالاستقراء والإلمام من كلام بعض العلماء أن هذه المرحلة تحتاج إلى تعميق للتربية، وتأصيل للعلم، بأن نعمق تربية الكتاب والسنة في قلوب الناس وعقولهم، ونشربهم روح الدين؛ بحيث لا نتباطأ لهم في توضيح الإسلام وقضاياه, لأن كثيراً من الدعاة وقع في خطأ وهو تلغيز في الإسلام، أو وصفة سحرية للدين، أي أنهم جعلوا الدين أحاجي وألغازاً وصعبوه.. وهذه طريقة علماء أهل الكلام وأهل المنطق كما يقول ابن تيمية، وإلا فالدين سهل بسيط، وقد طالب الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي في كتابه (طبيعة الإسلام) بهذا، وسبق أن جلست معه أنا وبعض الفضلاء منهم: الأخ عبد الوهاب الطريري، والأخ سلمان العودة، وبعض الإخوة فقال: إن من المسائل التي يسعى هو لتوضيحها للدعاة وللناس: أن يبسطوا دين الله لخلقه، وأن ييسروه، ويسهلوه، بأن يكون معلوماً للكبير والصغير، للأعرابي وللحاضر، للأمي وللقارئ، وهي طريقة القرآن، فإن القرآن يوم يسمع ويتلى لأول وهلة يفهم منه كل بحسبه؛ لكن ليس هناك آية لا يستطيع أحد أن يفهم منها شيئاً.
تعميق التربية، وتأصيل العلم، وجمع الكلمة تحت مظلة أهل السنة والجماعة، وإيجاد جيل يحمل المبدأ، ويغار لدين الله عز وجل، ويغضب للدين من انتهاك الأعراض والوقوع في المحرمات ويأسى لإخوانه في العالم الإسلامي.. يعيش قضية عالمية ربانية وهي قضية الإسلام.. هذا هو فقه المرحلة التي أراها وقد تحتاج إلى شيء من البسط، لكن لعجالة اللقاء ذكرتها في نقاط.
فالجانب التربوي وتأصيل العلم الشرعي؛ بأن نكون طلبة علم، نتربى على الخوف من الله عز وجل، وعلى حبه وحب رسوله، ولا يكون عندنا جفاف فكري؛ أن يكون فكراً نيراً, فاهماً، ولكن مع قلب جاف.
الجواب: هي -كما تفضلتم- الازدواجية وهي اسم عصري، وقد سماها السلف: المدافعة، وكتب عن سنة المدافعة بعض الناس من الفضلاء والعلماء الكبار، وهي أنه لا بد من صراع بين الحق والباطل، على مستوى الجماعات والدول, والشعوب والأفراد، وهذه أرادها الله قدراً، وجعلها الله تعالى سبباً، وأنزلها واقعاً، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة:251] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31] هذا على الأفراد.
وأما على المجتمعات فقد قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الحج:40] وفي المخلوقات سنة المضادة والمدافعة: الليل والنهار، الحار والبارد، الحلو والحامض، وهكذا.
فأولاً: لا بد أن يعترف الداعية بأن هذا لا بد أن يوجد، وأن يقع، وأن يكون.
وثانياً: لابد أن أهل الأرض أكثرهم عصاة ومنحرفون، وهذه سنة الله, فقد قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116] وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] فدلت النصوص والواقع على أن أكثر أهل الأرض كفار، وأن القليل من المسلمين سنيون، والقليل من السنين مخلصون، وهده سنة من سنن الواحد الأحد.
أما ما ذكرت فهذا هو الصحيح، وهي أكبر مأساة يعيشها الدعاة، لأن الواحد منهم يجدد ويحاول أن يصلح وأن يضع لبنة، فإذا بمن يهدم أكثر من الذي يبني.. الصحيفة، والشاشة، والمذياع، والشارع، والمرأة العارية، والكأس، وجلسات اللهو، والليالي الحمراء، والشبه التي تطرح، وهي شبه إلحادية تخرج الناس عن الملة والدين، وكلها تحارب الدعوة.. فما الحل إذاً؟
الحل: أن يعلم أن عليه أن يؤدي الكلمة والأمانة التي عنده، سواء استمع الناس إليه أو لم يستمعوا، فإن الأنبياء أعظم منه وأخلص، ومع ذلك لم يهتد على أيدي بعضهم ولو واحداً، قال الله: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:48] إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ [الرعد:7] لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22] وغيرها آيات كثيرة.
ثالثاً: أن يعلم الداعية أن جهده هذا لن يضيع عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فإن أجره محسوب.. ثم لا ييأس فإن الثمرة قد لا تتأتى الآن, وكم من كلمة تقال أو موعظة أو خطبة ولا يستمع لها مستمع، ثم ينتبه لها العقل بعد فترة، فيهتدي بسببها، ولو أن المجال يتسع لذكرت بعض النماذج من الكلمات التي ألقيت في بعض المناسبات من بعض الدعاة والعلماء، وانتبه لها بعض السامعين بعد سنوات واهتدوا بها بإذن الله، لأن الكلمات تنفذ، وهي مؤثرة، وقد لا تؤتي أكلها إلا بعد حين.
ثم نقول: ليس واجباً على المسلم أن يدفع الشر كله حتماً، لكنه يقلص ويحد ويقلل منه إذا لم يستطع دمغه كله, وهذا تحقيق للمصلحة العظمى بارتكاب الضرر الأصغر.
الجواب: لقد وجد فعلاً ما يسمى بالاتفاق العقدي، وقد كتب بعضهم كتابات وسماها: (الأخوة الإنسانية) وذكره بعض المفكرين في كتاب تراثنا العقلي بين الفكر والشرع ودعوا إلى أخوة إنسانية للناس جميعاً، بل بعض المفتين الكبار أجريت معهم مقابلة في لندن , وقال أحدهم وهو مفتٍ في تلك البلاد: إن الأديان لا خلاف بينها، وإن الإسلام يحترم الأديان، وكلها ديانات سماوية محترمة.. وهذا عوار مكشوف، والدين عند الله الإسلام, قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] فهذا باطل بالإجماع أصلاً، ولا يجوز أن يقال مثل هذا الكلام في توحيد الأديان، وأن الأديان كلها سماوية محترمة، فهذا ليس بصحيح، بل هو باطل ومنكر من القول وزور.
بقيت مسألة وهي: إن أهل الإسلام طبقات ومذاهب، ولكن المسيرة الحقة الصحيحة التي يدعى إليها هي مذهب أهل السنة والجماعة، وهي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والأئمة، ولكن المخالفين درجات، فمنهم القريب من أهل السنة، ومنهم البعيد عنهم، ولا يجوز أن يصنفوا تصنيفاً واحداً.
فمثلاً: الأشاعرة بالنسبة لـأهل السنة مبتدعة، عند ذكر السنة والبدعة، ولكن إذا ذكر أهل السنة والرافضة فـالأشاعرة من أهل السنة، وهذا من كلام ابن تيمية، وأنا مسئول عنه، بل ذكر عن ابن تيمية -وهذا محقق- أنه قال: والبلد الذي ليس فيه إلا أشاعرة فهم أهل السنة والجماعة في ذلك البلد.. ولا يعني ذلك أني أدافع عن الأشاعرة والماتريدية، ولكني أقول: إنهم لا يصنفون في حجم وخطأ الرافضة، وأنا استفدت ذلك لأن رسالتي في الماجستير البدعة وأثرها في الرواية والدراية واكتشفت من كلام السلف وأخبارهم ومقولاتهم أنهم يصنفون البدعة إلى مكفرة ومفسقة، وإلى غليظة وخفيفة، وإلى كبرى وصغرى، وإلى بدعة المعتقد والعمل، والعبادة والسلوك، وهكذا.
فأنا أنصح الذين يتسرعون في كل من هو مشتبه ويصنفونه من أهل البدع، وأحياناً يكفرونه بالبدعة، وأن يكون حكمهم تفصيلياً جزئياً، يقع على أشخاص الناس.. أنصحهم بالمذهب الذي عليه أهل السنة والجماعة وهو الصحيح بلا شك، وهو ما كان عليه السلف الصالح، المذهب السلفي الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا يجوز أن يدعى إلى مذهب آخر، ثم نبين لأهل البدع أخطاءهم في موقفهم من أهل السنة.
فمثلاً: المعتزلة خطؤهم أعظم من خطأ الأشاعرة، والرافضة أخطر من المعتزلة، والباطنية الإسماعيلية أخطر من كثير من الرافضة، فعموماً لا بد أن يفهم الناس والناشئة هذا، وهذا ما أريد أن أبينه.
فلا يصح أن يقال مثلاً: نجتمع على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه. ولو كان صاحبها يقصد خيراً، لكن الكلمة -أحياناً- قد يفهم منها بعض الناس أن يجمع الناس جميعاً بطوائفهم وفرقهم ويقال: لا فُرقة، ولا تذكر السنة، ولا مذهب السلف لأنه يفرق، فتأتي مثلاً بالسلفي والمعتزلي والجبري والقدري والأشعري والماتريدي، وتقول: كلهم مسلمون، وهم يصلون، ويجمعون بينهم.. هذا ليس بصحيح، فإن ابن تيمية بيّن ذلك، وبيّن أن المنهج الصحيح هو منهج أهل السنة والجماعة منهج السلف الصالح الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو الصفاء العقدي الذي لا بد أن يدعى إليه.
السؤال: الغربة كلمة لها دلالتها ولها إيحاءاتها، بل لعلها أدبياً وشعرياً تعطي ظلالاً بعيداً جداً، وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم غربة المسلم في آخر الزمن، وفي هذا الزمن يشعر المسلم الملتزم أنه يعيش غربة بلا شك، فعندما يلتفت يميناً وشمالاً ويبحث عن مذهب أهل السنة والجماعة والإسلام المتكامل السليم الصحيح يجد أنه يعيش غربة، خاصة عندما يحرص المسلم على اتباع السنة المطهرة.. فماذا يقول الشيخ عائض بن عبد الله القرني لهؤلاء الغرباء؟
الجواب: كما تفضلت، فإن الاسم الشرعي لهذه المسألة: الغربة، وقد سماها الرسول صلى الله عليه وسلم الغربة، فقال لـابن عمر في الصحيح: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وقال فيما صح عنه: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود الإسلام غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) ويسميها بعض المعاصرين: (العزلة الشعورية) والاسم الشرعي أحسن ظلالاً, وأندى لغة, وأقرب للمعاني التي يعيشها الناس.
وهؤلاء الغرباء متفرقون في الأرض -كما قال الإمام النووي - يوجدون في العلماء، والأمراء، والسلاطين، والعامة، وفي الفلاحين، والجنود، وبمجموعهم تتحقق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، فإنها لا بد أن تكون كاملة، ولا تنقطع في أي فترة من الفترات، بل إنها مستمرة كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي الله بأمره) وهذه لا بد من ظهورها، سواء وجدت دولة إسلامية قوية أو لم توجد، انتصر المسلمون أو لم ينتصروا، فهذه الطائفة متحققة، لأنها تحمل الملة والدين.
وهؤلاء الغرباء عليهم أمور:
أولاً: أن يحمدوا الله عز وجل على التفرد، وهو كما قال الهروي: لا تخاف من وحشة التفرد، فإنها دليل على العظمة. فالانفراد دائماً دليل على عظمة الإنسان إذا كان في الحق، كما يقول المتنبي:
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال |
ثانياً: أن يعلموا أن قدوتهم في هذه الغربة محمد عليه الصلاة والسلام، فإنه يوم ألقى بنوره في الأرض، وبدا صلى الله عليه وسلم وسطع سطوع الفجر على الناس، كان هو الغريب الوحيد الذي يقول للناس: قولوا: لا إله إلا الله.. ثم تبعه الغرباء.
ثالثاً: أن يعلموا أن هذه نعمة من الله واصطفاء واجتباء بجعلهم من هؤلاء الغرباء، ولم يجعلهم من هؤلاء الهمل الذين يعيشون بغير مبادئ، وليس عندهم طموحات لإنقاذ النفس والناس، وإنما همُّ أحدهم فرجه وبطنه, قال تعالى عنهم: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].
رابعاً: على الواحد منهم أن يلبس لباس الغرباء، فقد قال عنهم ابن القيم: اسمهم السنة، لا يعرفون إلا بها، وبيوتهم المساجد، وعكازهم لا حول ولا قوة إلا بالله، ونداؤهم الزهد، ومطيتهم التوكل، وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم ويريدون وجهه: (دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها).
فهؤلاء هم الغرباء الذين يتبعون محمداً صلى الله عليه وسلم، والواحد منهم يصلح الله به فئاماً من الناس، لأنه صاحب حق، والناس أهل باطل.. والحقيقة أن الغربة مجزَّأة كما ذكرها ابن القيم في مدارج السالكين:
فهناك غربة في المعتقد؛ فصاحب العقيدة الحقة غريب بين المتلوثين عقدياً، والمعاقين عقلاً وفطرة، فتجده موحداً صادقاً، وتجد غيره مخلطاً علمانياً، أو حداثياً، أو يسارياً ملحداً، أو نصرانياً، أو يهودياً.. وهو موحد يعرف الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويعتقد عقيدة الإسلام.
وهو غريب في صلاته، لحسنها وسوء صلاة الناس، وغريب في تعامله؛ لأنه صادق، وغيره خونة وغشاشون ومرابون.. وغريب في علمه، وغريب في ثيابه وهندامه، وفي كلامه... إلى غير ذلك من أنواع الغربة التي ذكرها.
وبالمناسبة أطلب من الدكتور عبد الرحمن قصيدة في الغربة، ولعله سبق أن قال شيئاً، ولكن هذا الموضوع حي ونافذ، وله أنداء أدبية، وله وقع في النفوس، وجلال في القلوب، فأحب أن تكون هناك قصيدة تصاغ بهذا المبدأ وتهدى للغرباء.
السؤال: شيخ عائض! الوسائل الدعوية كثيرة، وقد توقف البعض في استخدام بعض الوسائل والأساليب بحجة أنها لم تكن موجودة على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فماذا ترون في هذه المسألة؟
الجواب: والحلال والحرام يؤخذ من الكتاب والسنة، ولا يجوز لأحد -كما أسلفت- أن يحلل أو يحرم من عند ذاته، وكل أحد يحتج لقوله إلا الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يحتج بقوله على الناس، فمن أتى إلى وسيلة وقال: هذه محرمة؛ لأنها لم توجد عند الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لم يصب؛ لأنه وجدت وسائل جعلها السلف من لوازم الطريق، واستخدموها واستغلوها فيما يرضي الله عز وجل.. كالكتابة فإنها أتت متأخرة، وبعضهم كان يخالف في كتابة العلم، وتدوين الدواوين، وتجنيد الجنود، وترجمة الكتب، وبناء القناطر، وفتح الطرق، وتوسيع الجوامع كما في العهد الأموي، إلى غير ذلك مما جد ولم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أجازه العلماء لأن فيه مصلحة؛ والمصلحة حدها: أن تكون حلالاً في شرع الله، وكثير من الوسائل مباحة، ولو استغلت استغلالاً جميلاً لكان فيها نصرة للإسلام وتوسيع لدائرته في الأرض.
والوسائل بحد ذاتها -كالوسائل الإعلامية- ليست محرمة لذاتها، فإنها من حديد وخشب ومواد فلا تحلَّل ولا تحرم، إنما يناط الحكم بما يلقى فيها ويطرح، فهي كالآنية فحسب, يحكم عليها بما يوضع فيها، فالإناء لا يحرم لأنه إناء من زجاج أو غيره، ولكن يحرم إذا وضع فيه شيء من المسكر، ويحل إذا وضع فيه شيء من الماء، وهكذا.
فهذه الوسائل الناس فيها طرفان:
منهم من حرمها؛ لأنهم رأوا أنه يبث فيها الفاحشة والمنكر والمعصية، فأجروا عليها التحريم.
ومنهم من يرى أنها حلال؛ لأنها تستغل في نشر الدين، وتوعية الناس.
وأقول: إنها لو وجهت توجيهاً سليماً لكان الأحسن أن تستغل وأن يدخل فيها، وتزاول الدعوة فيها، وهو الأحسن، ولو لم توجد في عصر الصحابة.
ذكر صاحب المذكرات في المجلد الثاني، أن استالين قال: أعطوني شاشة أغير بها وجه العالم.. وهذا أمر صحيح، وأتعجب من المسلمين! المليار لا يملكون شاشة إسلامية صافية نقية توجه الناس والأجيال، ولا يملكون إذاعة أخاذة، ولا يملكون صحيفة يومية يتكلمون فيها بالحق، بدين محمد صلى الله عليه وسلم، بتراثه، بخلوده، بنوره، هذا هو العجب!! وما نزال نطالب المسلمين أن تكون لهم إذاعة وتلفاز، وقنوات من الفكر، وأن تكون لهم مجلات تعبر القارات، وصحف يومية يقرؤها الناس جميعاً، كبيرهم وصغيرهم.
أما من يطالبنا بأن نبقى على الوسائل القديمة كالدعوة في خطبة، أو موعظة، أو كلمة في منتدى، فنقول له: رأيك هذا غير مقبول، وليست المصلحة فيه فحسب، ويبقى هذا رأيك الخاص.
فأقول: هذا نموذج ناجح موجود، والبرامج تخرج بدون أي محاذير شرعية، فلو يسر الله وعممت لكان لها فضل كبير.
القرني: أنا بالمناسبة ذكرت مسألة، وهي: أنه يوجد في بعض البلدان الأوروبية مثل ألبانيا قنوات استؤجرت ساعةً بأربعمائة دولار في الإذاعة العامة للشعب الألباني، وبث منها، وفي فرنسا قنوات تؤجر، فوصيتي لمن يسكن هناك من الإخوة طلاب العلم المبعوثين أن يسلكوا هذه المسالك، فما الذي يمنع أن يجتمع مجموعة فيكون لهم قناة أو إذاعة أو يشتروا ساعات على سبيل المثال؟! وقد رأيت كثيراً من الأدباء والذين يطرحون بعض الأفكار في إذاعة لندن يأخذون ربع ساعة في الأسبوع بالأجرة، ويبثون ما يريدون.
فلو أنه تصدى مفكر، أو عالم، أو أديب، أو داعية فأخذ من هذه الإذاعة جزءاً للبث الإسلامي وتوجه أفكاره النيرة الحقة للعالمين، فيسمعوا دين النبي صلى الله عليه وسلم في أكبر الإذاعات انتشاراً في العالم لكان هذا خيراً عظيماً.
السؤال: فضيلة الشيخ! يقولون: إن الأمة الإسلامية أمة كم لا أمة كيف، وقد تحققت فيها الغثائية التي أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن من يقولون هذا القول يريدون أن يثبتوا أنها مسألة واقعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بها، فما دامت واقعة فلماذا نحاول أن نصلح؟ فهل توافقون صاحب هذا القول؟
الجواب: فرق بين الموافقة وبين الإنقاذ، الموافقة في الحكم ونتيجة الحكم، فأرى رأيه في أن هناك غثائية في هذه الأمة، والغثائية متحققة في مسائل وصور ونماذج.. والعدد الهائل من طنجة إلى نيودلهي عدد يصل إلى مليار ومائتي مليون كلهم يدعون الإسلام، ولا يؤثر هذا العدد في صنع القرار السياسي والاقتصادي والإعلامي في العالم.
بل إذا نظرنا إلى رءوس الشياطين ورءوس الطواغيت الخمسة الذين يديرون فيتو النقض في مجلس الأمن، ليس فيهم ولو دولة مسلمة لها حق الإبرام والنقض.
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستشهدون وهم شهود |
سياسة العالم الاقتصادية تسير كلها بالربا، وليس هناك من مسيرة ولا قرار لهذه الدول ذات الملايين المملينة أو تأثير في إطفاء نار الربا.
والطرح الإعلامي الهش على هؤلاء الملايين الذي يمارس عليهم صباح مساء وليس لهم تأثير.. والمآسي التي يعيشونها دون أن يوجد من بعضهم لبعض نصرة، والبوسنة والهرسك، والصومال، وأفغانستان، وألبانيا , والجمهوريات الإسلامية، كل هذه الدول تعيش مآسي، وبعضهم يصرخ من الظلم، ولكن لا يجد نصيراً له، وهذه هي المسألة الغثائية.
وأذكر أن أحدهم يقول:
عدد الحصى والرمل في تعدادهم فإذا حسبت وجدتهم أصفاراً |
من كل مفتون على قيثارة كل وجدت بفمه بيقاراً |
أو كاذباً خدع الشعور بدجلة عاش السنين بعلمه ثرثاراً |
أو عالم لو مالقوه بدرهم رد النصوص وكذب الأخبارا |
فأقول: الجماعة التي كانت في عهده صلى الله عليه وسلم كانت قليلة بالنسبة لأمم الأرض، ولكن سرى هذا التأثير إلى أن دوخت إمبراطوريتين كبيرتين عظيمتين وأزالتهما من الأرض، ودخل دينه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أرباع الكرة الأرضية.
وأنا أوافق أن في الأمة غثائية.. في الفكر والمعتقد والسلوك والأخلاق وفي العدد، ولكن لا أوافق على النتيجة؛ لأنها توحي بالإحباط واليأس وهي محرمة، بل جعلها صاحب الطحاوية كفراً. فقال: واليأس من روح الله كفر، والله تعالى يقول: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87].
وعلى كل حال لا ييأس العبد من روح الله أو من انتصار الإسلام، أو من العاقبة، وليعلم أن العاقبة للمتقين، وسوف يظهر دينه على الأديان، والفجر المشرق إن شاء الله لأوليائه مهما احلولك الظلام، فالفجر قريب، وقد قالت العرب: إذا اشتد الحبل انقطع. قال تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:6] وسوف يكون البديل والأطروحة الحقة هو دين الله، وقد رأينا ذلك في أمور، منها: انسحاق الشيوعية بمطرقة لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لأنها خالفت الفطرة, قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ [الروم:30] وقال أحد العلماء في كتيب له بعنوان: (قراءة في سقوط الشيوعية) تحقق فيهم قول المولى تبارك وتعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110].
- اتساع رقعة الإسلام، فإنه في هذا القرن أكثر بكثير من ذي قبل، فإن المصائب والكوارث سبب للسؤال عن الإسلام والتحدث عنه، حتى كتب في جريدة الرياض كاتب أمريكي اسمه: جوزيف سيسكو وقال: إننا فهمنا من الأحداث التي وقعت: ما هو الإسلام الذي يدعو إليه محمد عليه الصلاة والسلام، فـالبوسنة والهرسك جعلت الناس يتساءلون عن هذا الحدث والأطروحة، وعن مسألة الإسلام ما هي، وقضية أفغانستان , وهذا فيه نصر بإذن الله، ولو أن ظاهره أنه مصيبة وكارثة على المسلمين.
الجواب: ليعلم أن الإسلام لا يعترف بالدروشة، والتصوف الهندوسي الذي ألقي على المسلمين، كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره، وهذا سبق إليه كثير من أهل العلم القدامى والمعاصرين.. والذين نقلوا إلى الناس الأحاديث الموضوعة في الزهد والانقطاع إلى الله، والتبتل الذي لم يرد في الإسلام: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27] ليس لذلك أصل في الإسلام، فإنه لو طالع الكتاب والسنة فإن القرآن يقول: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] وفي السنة ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحث على طلب المال الحلال، وصرفه فيما ينفعه ويرضي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وكذلك واقع السلف يشهد, فـأبو بكر يدخل الجنة بماله، وعثمان رضي الله عنه يكفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (ما ضر
إذا أردنا أن نبني مسجداً في بلادنا أو في بلاد العالم الإسلامي عموماً فإنه تقال المحاضرات والكلمات ثم يصطف الشباب بكراتينهم عند أبواب المساجد، يجمعون التبرعات، ثم بكينا عند الموعظة وصحنا، ودعونا لهم بكل دعوة، ودعونا الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفق من تبرع، فلا زلنا نجمع ونجمع الأيام الطويلة لكي نبني مسجداً واحداً، ثم خذ مثلاً على ذلك مشروع الكتب، أو مراكز إسلامية، أو أشرطة، أو دعماً لمشروع خيري، أو غير ذلك، فوجدنا أنفسنا بعد حين أننا نعيش مأساة اقتصادية مالية نحن الذين أخطأنا فيها.
ولو وجدت شركة إسلامية صافية بالمسمى الشرعي، ينتظم فيها أعضاء، أو جمعية كبرى للدعاة والأخيار وطلبة العلم، ومن أهل الصحوة، ومن أهل المبادئ الحقة؛ لما احتجنا لأحد.. وسيكون لدينا مؤسسات يمكن أن تقوم ببناء عشرات المساجد والمراكز ونحو ذلك.
لكن في الجانب الآخر نجد أن العلمانيين وكثيراً من العصاة المنحرفين يسير الواحد منهم المليار كما نسير نحن الريال الواحد، ويمكن أن يشتري ضمائر وأقلاماً وصحفاً ومجلات في لحظة واحدة.
فأنا أتساءل من أين أتوا بهذا الفقه؟! إن علينا أن ننقذ أنفسنا، والحقيقة أن الإخوة أرادوا في الأخير أن يبدءوا مشاريع تجارية لكنهم سلكوا مسالك ليست هي المطلوبة، لأنها بدائية جداً، فبعضهم الآن يركز على مسألة التجارة بالتمر، ويظل ست سنوات لا يبيع إلا في التمر السكري والمكسجي وغيره، فكل ما ربحه في عشر صفقات خسره في صفقة واحدة، وبعضهم يتاجر بطيب الورد والصندل، فيظنون أن الحلال فقط في هذا.
وأنا قصدي أن توجد مشاريع كبيرة جبارة، كتكوين شركة مساهمة يدخل فيها ألف عضو، وهذه الشركة في كل العالم، في البلاد الأوروبية والشرقية, في اليابان وقبرص، فتكون مشاريع جبارة كما يفعل كثير من التجار، وعسى أن يكون هذا قريباً.
ملاحظة أخرى لها اتصال بهذا: أن الإسلام لا يعترف بالدروشة في المظهر والبيت والمركب: (إن الله جميل يحب الجمال) وإظهار الدين في قوة وعنفوان هو المطلوب، وكان مالك يلبس بردة جميلة فيقال له في ذلك؟ فيقول: إني أحب أن أعز الدين.. وكان ابن عباس يلبس بردة بألف دينار إكراماً لدين الله.. فعلى العبد أن ينتبه لمثل هذا، لأنه وجد في بعض من اهتدى أنه ترك زيه وهندامه وشكله وشخصيته بحجة أن هذا من التقشف ومن الزهد والبذاذة، وهذا شيء والبذاذة والزهد شيء آخر!!
الجواب: مما يشكى إلى الله فيه البطالة والعطالة التي تعيشها هذه الأمة بغالب أعدادها، ومنها -كما ذكرت الفضول في المجالس- والحقيقة أنه ليس عندنا جدول مسبق لمجالسنا كما يفعل الغربيون والشرقيون، فإنهم يجتمعون على جدول أعمال، لكن تجد مجالسنا مفاجئة بغير رتابة، فنأتي في الماجريات -يسميها ابن تيمية ماجريات وهو ما جرى- فتجد أحدهم يتحدث عما جرى في المجتمع من طلاق وزواج، ومن حوادث مرورية وسيارات وأمطار وأخبار, والصيدليات المناوبة ودرجات الحرارة، ويأتي بهذا الكشكول المكتمل من الأخبار حتى يبقى الإنسان في هوس، وتتحول إلى كوابيس في الليل، ولو رشد هذا المجلس وطرحت فيه قضية إسلامية يناقشها الحضور، أو آية يتحدث في تفسيرها، أو حديث نبوي، أو ترجمة عالم من علماء الأمة، أو مسألة، أو مشروع، أو دراسة شيء ينفع؛ لحفظنا مجالسنا، وأنتجنا ما ينفعنا.
لكن يتكرر الخطأ ويبقى الفضول نعيشه في حياتنا, حتى في حياة الدعاة وطلبة العلم، ثم يصل إلى درجة الحرام في الغيبة والتشفي بأعراض الناس, والجرح في الآخرين، وهذا هو عقوبة ومغبة الجدل، وما أعرض قوم عن كتاب الله تعالى إلا أوتوا الجدل.
نحتاج -يا أيها الإخوة- إلى مجالس بعنوان: (اجلس بنا نؤمن ساعة) كما قالها معاذ وكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحتاج إلى شيء يقربنا من الله عز وجل ومن رضوانه؛ فنحن بحاجة إلى هذه المجالس التي تقربنا من الواحد الأحد.
السؤال: يطرح بعض الناس كلاماً حول الوعظ والموعظة، ويرى أن الوعظ ليس له فائدة في هذا الزمن، وأنه كما يقول بعضهم: إن الوعظ قد أصبح بضاعة مزجاة، ثم نسمع -أيضاً- البعض يتساءل عن وجود الوعظ عند الصحابة رضي الله عنهم، أو في صدر الإسلام، فهل يمكن أن تجلي لنا هذه النقطة جزاك الله خيراً؟
الجواب: الوعظ كان من أخص خصائصه عليه الصلاة والسلام، والله تعالى طالبه بقوله: وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً [النساء:63] وقالوا له: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ [الشعراء:136] وهو أوعظ الناس، وأكثرهم تأثيراً في الناس على تاريخ المسيرة وتاريخ الأمة عليه الصلاة والسلام، كما يقول أحمد شوقي:
وإذا خطبت فللمنابر هزة يعرو الندي وللقلوب بكاء |
فأكثر من كان يؤثر بالكلمة ويوصلها إلى أعماق الأعماق هو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وكان ذلك عن طريق الموعظة، وكان له عليه الصلاة والسلام أسلوبان في الطرح:
-أسلوب الفتيا والتعليم والإرشاد والتربية.
-وأسلوب الوعظ الزاجر الذي تكاد الصخور أن تقوم له.
حتى يقول النعمان بن بشير: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظ على المنبر حتى سقطت خميصته من عليه) وقال أنس: (وعظنا صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، فوالذي نفسي بيده، لقد التفت إلى المسجد وقد وضع كل رأسه على ركبتيه وللمسجد خنين من البكاء) فلا بد أن نحيي هذا الأسلوب، ولا يأتِ أناس ويقللون من شأنه، وأنه بضاعة مزجاة، وأنها شأن القصاص والمهرجين.. فليس هذا بصحيح، بل هو فن مستقل وإنما لابد أن ينقى ويؤصل, ولا بد أن يخرج فيه كتب حتى يعرف ما هو الوعظ الأصيل.
وإن أكثر من أثر في عامة الناس وفي أهل الانحراف هم الوعاظ, فقد كان ابن الجوزي يعظ فيحضر مجلسه أكثر من مائة وعشرين ألفاً، وربما سقط بعض الوزراء والسلاطين في مجلس وعظه تأثراً من كلامه؛ لأنه كان يضرب القلوب بسياط وعظه، حتى أن أحدهم كان يلتفت إلى جدار المسجد -من المبالغة- فيقول: هل تبكي معنا أم لا؟ وقد ورد أن ابن النجيد وعظ نور الدين زنكي حتى أسقطه من على كرسي خشب، في قصيدة مطلعها:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور |
إن قيل نور الدين جاء مسلماً فاحذر بأن تأتي ومالك نور |
حرمت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور |
وهي قصيدة مؤثرة.
أمر آخر: من مواهب بعض الدعاة والعلماء الوعظ، فبعضهم لا يصلح للفتيا، أو للدراسة الرتيبة والتربية، ولكن تجده واعظاً وخطيباً مصقعاً، فليس بصحيح أن تشطب على جهده وتلغي هذه الموهبة, فإن الناس مواهب، بل حيه وافرح به، وقد قرأت كتاباً لـأحمد نور بعنوان: (خطباء صنعوا التاريخ) ذكر منهم: نيرابو الفرنسي، ومنهم: فيليب جريت البريطاني، وذكر سعد زغلول المصري، ومصطفى كمال وغيرهم، وأقول: إن في الإسلام خطباء أكثر من هؤلاء عدداً وتأثيراً في الأمة، وسيدهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم, فليست الدراسات تخرج الخطباء الواعظين المؤثرين في الناس.
الجواب: أصل التخصص والتصنيف وارد من عصر الصحابة رضي الله عنهم، ورسولنا صلى الله عليه وسلم كان يصنف الناس حسب مواهبهم، فـأبو بكر رضي الله عنه جعله صلى الله عليه وسلم الخليفة من بعده، ومعاذ بن جبل أخبره بتخصصه وفنه وموهبته، وقال: (أعلم أمتي بالحلال والحرام
والذي يتجاهل بعض التخصصات في عصرنا ليس بمصيب بل هو مخطئ، وهؤلاء الناس الذين أعطاهم الله عز وجل من المواهب ومن العطاء لا بد أن يعبدوا الله بمواهبهم، وينصروا الإسلام بها، فالمفتي في فتواه كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وسماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين , فهؤلاء الطائفة المباركة نشروا الإسلام بالفتيا والتعليم.. وكذلك عالم الخطابة, فكثير من الخطباء الفضلاء جندوا أنفسهم للتأثير في هذا المجال كالشيخ عبد الوهاب الطريري وأمثاله من الخطباء المؤثرين في الساحة، وهم كثير في العالم الإسلامي، وأهل الأدب كفضيلة الدكتور عبد الرحمن -هو من الواجهة في هذا- وهم من أهل القصائد النيرة، وهم على منهج حسان في نصرة الإسلام، وهم الذين غطوا هذا الفراغ.. وأهل الإعجاز العلمي كالشيخ عبد المجيد الزنداني والدكتور زغلول النجار.. وأهل الفكر النير كالشيخ محمد قطب وأمثاله ممن بحث ذلك.. وأهل الطرح العلمي الأصيل ككثير من الدعاة كالشيخ سفر الحوالي والشيخ سلمان بن فهد العودة والشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وكثير من العلماء.. وأهل الحديث وأهل الجرح والتعديل كسماحة الشيخ الألباني، وكثير من المشايخ المتواجدين في العالم الإسلامي.
فيجب ألا يطغى جانب على جانب، وألا يحتقر أحد منا جهد أخيه المسلم، بل يسدده ويشد على كتفيه، ويسأل الله له التوفيق، لأنه ملك موهبة وذاك لم يملكها, قال تعالى: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60] وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148].
السؤال: شيخ عائض! هنالك ظاهرة يمكن أن نسميها ظاهرة مرضية، فالمتتبع لما يجري في العالم اليوم يجد نشاطاً ملموساً ومنظماً، وله ثماره عند كثير من طوائف المبتدعة في العالم الإسلامي في دعوتها إلى منهجها، فهي دءوبة في نشر تعاليمها ومنهجها، ولها تأثيرها في العالم وكلنا ندركه ونعرفه.
والظاهرة التي تؤلمنا هي تقصير أهل السنة , أصحاب المذهب والمنهج الصحيح، حيث لا يصلون بجهدهم إلى جهد أولئك ولا إلى نشاطهم.. فيا ترى ما السبب في ذلك إذا كان لديكم أسباب تعرفونها في هذا الموضوع؟ ثم ما العلاج لهذه الظاهرة؟
الجواب: أنا أذكر كلمة لـعمر رضي الله عنه وهو يقول: [[اللهم إني أعوذ بك من عجز الثقة وجلد الفاجر]] أن يكون الثقة صاحب الحق عاجزاً كسولاً خمولاً، وأن يكون الفاجر صلداً صبوراً جلداً، فهذه معضلة في حد ذاتها، فإنك تجد بعض طوائف المبتدعة المنحرفين عن منهج الله عز وجل من أكثر الناس صبراً وجلداً في التأثير على الناس، وفي تصدير أفكارهم، ونشر مبادئهم.. يسهرون ويدأبون ويخططون وينتجون ويقولون ويخطبون، وهذا موجود في بعض البلدان في الخارج، وقد كنا في بعض المراكز الإسلامية في الخارج وإذا بعضهم يخطب ويتكلم كأنه سيل، وإذا هو مبتدع، والناس يلتفون حوله من عامة الناس، وما يلبث في فترة من الفترات إلا أن يخلب عقولهم بسيل وعظه، ويتجهون معه فإذا هو مبتدع.
وآخرون يبنون المراكز ويسمونها مراكز إسلامية، وهم حقيقة من المبتدعة، والمال يسح في أيديهم سحاً، وعندهم الجهد والطاقة والإنتاج، ثم إذا نظرت إلى أهل السنة وجدتهم:
1- في حصار، وفي قلة، فمواردهم المالية ضيقة، وهذه -كما قلت- نشكو إلى الله منها، ومن عدم فقههم في هذه المسألة, فبعض دعاتهم لا يدعون حسبةً، إنما يدعون لأمور أو لأشياء أو لتكليف أو لرسميات أو لانتداب، وإذا ذهب شكا من ألم السير، وكأنه يفعل ذلك لنفسه، ولم يعلم أنه يفعل ذلك لربه تبارك وتعالى.
2- عدم الاتفاق؛ فإن أهل السنة يكثر فيهم الخلاف، ويكثر فيهم النقد للآخرين واشتغال بعضهم ببعض، ولا يعرفون أنهم يصفون أمام عدو متربص.
3- يوجد عند بعضهم فقه مظلم، يسميه ابن تيمية: الورع البارد السامج.. فتجده يترك الساحة والتأثير بحجة الانزواء والخمول والعزلة، وأن هذا عصر الفتن، والأفضل للمسلم أن يأخذ غنمه في شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن، فيقبل على صلاة الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولا يعلم أن هداية رجل واحد خير له من عبادة سبعين سنة نافلة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
فنحن بحاجة إلى أن نقف وقفة تأمل أمام فقهنا في هذه المرحلة.. فقه الانزواء والخمول وعدم التأثير والكسل، والبلادة وعدم الاختراع في الطرق واكتشاف كثير من المسارات التي يجب أن نسلكها حتى نوصل دين الله إلى الناس أجمعين.
الجواب: لا بدمن ضوابط لهذه المسألة، وأنا قلت ذلك لأني قرأت كلمة للأستاذ حمد الجاسر، وهو يعتب على طلاب كثير سافروا من سنوات عدة إلى الغرب، ولم يعملوا وينقلوا إلينا أفكار الغربيين؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها، لكن ليس هذا على الإطلاق، فإن الكتب الهدامة، كتب أهل الإلحاد والكفر البواح، وكتب الجنس الخبيث يحرم ترجمتها ووصولها إلى بلاد الإسلام، لكن نقصد أفكار وكتب أهل العبقرية والتأثير وأهل الفكر والتأصيل في علوم الدنيا؛ لأن الله تعالى يقول: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] وقد علم الشيطان أبا هريرة آية الكرسي، وقال له صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب) فحق على الإنسان أنه يطلب المعارف ويأخذها ولو من غيره، ولو من الكفار؛ بشرط ألا تتصادم مع الكتاب والسنة، أو مع الوحي السماوي الذي عندنا.
والكتب المترجمة التي لدينا بالنسبة لما عند الآخرين قليلة، وقد بحثت عن كتاب في تاريخ أمريكا فلم أجده إلا بعد سنة ونصف وهو كتاب هنري ماجرو، وإذا في داخل هذا الكتاب مئات الكتب عن تاريخ أمريكا وكلها غير مترجمة، وقد ترجم لثلاثة كتب بعد شق الأنفس، وهي ليست متوفرة، وهي من أكثر الكتب التي شقت العالم طولاً وعرضاً تأثيراً، حتى يقال: إن كتب دايل كارنيجي بعد القرآن والإنجيل والتوراة أكثر الكتب انتشاراً.. فن الخطابة وكيف تكتسب الأصدقاء ودع القلق وابدأ الحياة وكيف تغسل الدماء لـكريسي موريسون، وغيرها من الكتب، واكتشفنا أنها لا توجد في المكتبات، وأنها نادرة الوجود، وأن كثيراً من الكتب المؤهلة عندهم والعميقة لم تترجم.
أقول: الألوف المؤلفة من الشباب الذين في الولايات المتحدة أو في بريطانيا أو فرنسا أو في غيرها من البلدان، لماذا لا يترجمون لنا مجموعة من الكتب ولو كتاباً واحداً في السنة؟ لأدبائهم وعلمائهم ومفكريهم ومخترعيهم؛ حتى نضيف إلى ثقافتنا ثقافات، وقد كان الصحابة طموحين إلى مثل هذا، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: (طلب من
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه |
ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه |
والله يقول: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].
السؤال: التوازن في حياة المسلم مطلب شرعي، وقد حصل الاضطراب عند كثير من المسلمين في هذا الباب، فما التأصيل الشرعي لهذا التوازن، حتى يكون المسلم على بصيرة من أمره؟
الجواب: الدليل الملخص لهذا التوازن: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) فعلم من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم يطالب المسلم أن يكون متزناً فيما يعيشه وفيما يزاوله, وأن يكون مؤدياً للحقوق، منضبطاً في أموره كلها، لأننا نجد انحرافاً في مناهج بعض الناس وحياتهم، فتجد بعضهم يغلب جانب الدعوة حتى يهمل أهله تماماً فيعيشون في حالة مريرة من البؤس، بحجة أنه يدعو ويهدي الناس، وقد ترك من الواجبات ما هو أعظم.
وبعضهم ينصرف إلى أهله تماماً وإلى ذاته، ويترك الدعوة والأمة.. وآخر ينصرف إلى العبادة، فيستغرق وقته في العبادة، حتى يترك الأمر والنهي، ويترك التعلم والتفقه في الدين، وزيارة الأقارب، والوقوف مع المنكوبين من المسلمين.. والبعض الآخر يشتغل بالتأليف على حساب تعليم الناس، أو تفقيه أهله، أو على حساب القيام بالنفس.
وآخر يهتم بنفسه وجسمه، فهو ينعمها -صراحة مع الاحترام- كما تنعم الدابة، ويلغي عقله، ولا يشتغل بروحه، والمعلوم أن القوت:
وقوت الروح أرواح المعاني وليس أكلت ولا شربتا |
فالإسلام يطالب المسلم أن يكون متزناً، وأن يجعل لكل شيء وقتاً، ولكل مقام مقالاً.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى |
وأضرب أمثلة من حياة الدعاة: لماذا لا يكون الداعية عالمياً، وربانياً؟ ساعة يمارس شيئاً من الأذكار والأدعية بعد أداء الفرائض، وساعة للاطلاع في الكتب والاستزادة من المعرفة، وساعة للجلوس مع الأهل، وإعطائهم حقهم، وزيارة الأقارب والمرضى وأهل البؤس، ومشاركة الإخوان في الخير؛ حتى يكون يومه كله حافلاً بالبركات، ويدخل الجنة من أبوابها الثمانية كما فعل أبو بكر، وما دخل منها جميعاً إلا لأنه سلك جميع المسالك، ثم يقول ابن القيم: له في كل غنيمة سهم.. فهو في باب الجهاد أول المجاهدين، وعند الصلاة في الصف الأول، وفي الذاكرين أولهم، وفي الصائمين رافدهم وقائدهم، فهو في المقدمة دائماً.
الجواب: نعم. نمى إلى علمي وإلى علم كثير أن أحد الناس من الحمقى أقدم على فعلة شنعاء ولا تفسير لها إلا أنها أحمقٌ، إلا إذا كان القلم قد رفع عنه في تلك الفترة، لأن القلم يرفع أحياناً عن بعض الناس وتسمى الغيبوبة، وأقدم على هذا الكتاب الضخم بفوائده فأحرقه بالنار، ويظن هو بفعله هذا أنه فعل خيراً للإسلام والسنة، لأنه يقصد أن فتح الباري يحتوي على بعض البدع، والانحرافات في بعض الأسماء والصفات التي فسرها ابن حجر على منهج الأشاعرة والماتريدية والمفوضة وهذا صحيح.
ولكنه فعل هذا والفعل لا يفسر أبداً إلا أنه حمق، وأنا أرى في مثل هذا أن يؤدب تأديباً بالغاً يردعه وأمثاله، ولا يوجد كتاب في التنقيح والتحقيق وحصر المسائل كـفتح الباري إلا أنه لا يكون مثل المغني أو فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، وأرى أن المكتبة التي ليس فيها فتح الباري أنها مكتبة ناقصة على كل حال، وهذا الكتاب من أجمل ما كتب، لأنه عُمْر عالم، فقد فرغ سبعاً وعشرين سنة في هذا الكتاب، وخمس سنوات للمقدمة، وقيل: سبع للمقدمة، وخمس وعشرون سنة لهذا الكتاب الضخم.
فأسأل من الله أن يهديه وأن يرد إليه عقله، وقد أشار فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين إلى هذه المسألة، وأفتى فيها، وذكر أن هذا حمق، وأن فعله لا يفسر إلا بالحمق.
الجواب: لا أعلم إلا أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز علق على كثير من هذه المسائل، وأظن أن سماحته مستمر في التعليق على هذه المسائل التي هي قليلة بالنسبة لدلالة الكتاب، وما فيه من العلم، وما فيه من نقولات، حتى أن الدكتور محمد بن سعيد القحطاني عد ابن حجر من علماء السنة الكبار المدافعين عنها، وهو من أحسن الجهود التي شرح بها الأحاديث، حتى قال الشوكاني: لا هجرة بعد الفتح. ولي رسالة في ثلاثين صفحة اسمها: مدح الفتح، ذكرت الجوانب التي أجاد فيها ابن حجر.. الجوانب العلمية، والنقولات، والتوثيق، والتأصيل، والعمق العلمي، والعبارة الأدبية، والبعد عن المذهبية الضيقة، وتتبع الدليل، والإشراقة في النقد، إلى غير ذلك من الجوانب.
الجواب: الرسالة كتبت، لكنها لم تطبع، الآن هي عند بعض كبار المشايخ يقرءوها من باب الاستفادة.
لا شك أن من الأشياء الملاحظة عندنا في المجتمع الإسلامي بشكل عام فشو ظاهرة العنوسة، وبشكل يلفت النظر، وهي مأساة اجتماعية كما تعلم، وكثير من الفتيات وصلن إلى سن العنوسة وبعضهن قد تجاوزنه، وهنالك أطروحات اجتماعية وأطروحات نفسية كثيرة.. ولكن نريد أن نعرف تعليقكم على هذه القضية؟
الجواب: مسألة العنوسة أصبحت ظاهرة اجتماعية يعيشها الناس، وأصبحت حديث المجالس والركبان؛ من كثرة الفتيات اللواتي لم يتزوجن وبقين إلى هذه السن، والحقيقة أنه سن ذبول وإدبار بالنسبة للمرأة، وهناك عدة أسباب لهذا الأمر:
منها: مسألة مواصلة التعلم والتلقي والدراسة؛ وهذا ليس حاجزاً يمنع المرأة أن تتزوج, بل قد يكون معيناً أحياناً، فأنا أدعو أختي في الله ألا تتأخر إذا تقدم الكفء الديِّن، فإن صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، وإن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).
ومنها: أن بعض الآباء لجهلهم وسفههم يعارضون زواج الفتاة، فيكون دائماً في موقف المعارض، وأعرف عن بعض الفتيات أن العشرات من الشباب تقدموا لها وهي في الثلاثين من عمرها، ولا يزال الأب معارضاً.. وكم يسمع ويقرأ الإنسان مثل هذه المآسي من الآباء الذين ليس عندهم من الخوف من الله عز وجل شيء، ولا من الوعي الديني ما يحملهم على تزويج بناتهم.
ومنها: أن المرأة -أحياناً- بطبيعتها لا تقبل كثيراً من الخطاب، وهي تصرخ وتمتنع بغير غرض سائغ، ولو لم يرفض والدها، لكن هي باقتناعها ولفلسفتها الخاصة بها، فمنهن من لا تقبل التعدد، والتعدد فيه حل إسلامي رائد لمثل هذه المشكلة التي يعيشها أهل العصر، حتى كتب بعض الكتاب من الشرق والغرب مؤيدين لأطروحة الإسلام في هذا، وهو الحل الوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي السماوي.
والحل أن يبادر الآباء بتزويج بناتهم في السن المعروف، ولتعلم الفتاة أنها ستخسر شبابها وأبناءها وبيتها وعشرتها الزوجية إذا خسرت مقتبل العمر الأول، أو زهرة الشباب، وإذا تجاوزت الثلاثين أو الأربعين فإنها تصبح عمة، ثم إذا بلغت الخمسين تصبح جدة، فنسأل الله لها حسن الخاتمة إذا تأخرت عن هذا السن، وأن يعوضها الله في الآخرة زوجاً في جنات ونهر.
الجواب: صدقت. هذه من العقبات الكبار، لا سيما المبالغة في المهر، حتى أصبحت المرأة تباع كما تباع السلعة، وأصبح أبوها يراوج بها في سوق المزاودة، وهذا خطأ ارتكبه الآباء الرأسماليون والإقطاعيون، وما حل ذلك إلا أن يقوم أهل العلم بتفقيه هؤلاء، وإخبارهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بارك الله في أقلهن مهراً) وليعلمن أن أشرف بنات العالمين فاطمة، ولم يكن مهرها سوى درع حطمية لا تساوي أربعة دراهم، ومع ذلك بقي ذكرها وخلودها عبر الأيام -رضي الله عنها وأرضاها- وأم سليم تزوجت بلا إله إلا الله من أبي طلحة، فلماذا لا نكرر هذه النماذج الخالدة، ونعود إلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ففيها كفاية؟!
والحفلات -كما ذكرت- والإسراف في الولائم مسائل هامة كذلك، ويدخل ضمن ذلك ما يعرف بكسوة القريبات والأقارب، والأعراف الجاهلية التي تحمل الإنسان فوق طاقته من الحلي، وأمثال ذلك من البذخ في المفروشات والملبوسات والمأكولات، كل تلك تجعل الشاب يحجم عن أن يقدم على الزواج ويعده مصيبة.
الجواب: أريد أن أذكر مسألة، وهي جديرة بأن يهتم بها وتعرض على الناس خاصة المطلعين والمؤثرين، وهي: متى يكون الجهاد جهاداً؟ ومتى تحتاج الأمة للجهاد؟
وعلى كل حال فالإعداد وارد، والله تعالى يقول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى في المنافقين: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46].
أما ما نعيشه اليوم في واقعنا الإسلامي فإنه قد تجوِّز كثيراً في استخدام الجهاد، أو في القيام بالجهاد، وأنا لي وجهة نظر -قد تكون مصيبة أو خاطئة- وهي أن هناك أناساً من الدعاة والفضلاء الذين يقومون على كثير من الجمعيات والجماعات والطوائف الإسلامية يقومون بالجهاد وهم ما أخذوا عدته، ويواجهون قوى كبرى، وأنظمة باطشة، ولا نسبة ولا تناسب بين القوى؛ لأن الله سبحانه جعل في كتابه نسبة لا بد أن يصل إليها المسلم، فإنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى يقول: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:66] قال أهل العلم: الضعف بالضعفين، أو الواحد بالاثنين، أما أن يأتي مائة إلى خمسة آلاف وإلى عشرة آلاف فهذا ليس بصحيح، إنما هي مهلكة وسحق للجهود؛ أن تأتي جماعة تحمل الجهاد، وتحمل السلاح البدائي من البنادق والرشاشات والرصاص والمؤنة القليلة، ثم تواجه نظاماً يقوم على جيش مدجج بالأسلحة والطائرات والدبابات، وعنده فرق وكتائب، ويقول هؤلاء: نحن متوكلون على الله عز وجل والجهاد طريقنا.. هذا ليس بصحيح، وهذه إنما هي مهلكة، وقد رأيت ذلك في بعض البلدان، ووافقني على ذلك بعض الفضلاء في بعض الأشرطة والأطروحات؛ لأن هذا الأمر لا يصلح، ولا بد أن يصل المسلمون في الإعداد إلى نسبة تكون مكافئة للنسبة التي ذكرها الله تعالى.
ولذلك لما قامت بعض الحركات الإسلامية بمجابهة بعض الأنظمة سُحقت تماماً، وأدخل من أدخل السجون، وسجن الكبار، ويتم الأطفال، وعذبت النساء، فصارت مأساة حقيقة لعدم دراسة القرار، وفي كشمير شيء من هذا، ولو أن الجهاد هناك جهاد إسلامي وهو دفاع عن النفس، لكن أحياناً تأتي تجاوزات، كأن يقوم بعض الدعاة بالدعوة إلى الجهاد، وليس عنده إلا جماعة بسيطة، ثم يجابه جيشاً ضخماً فيضرب تماماً، يواجه هذا الهند، وحكومات أخرى تعاونها، وهي جيوش جرارة لا تقابلها جماعات متقطعة، فهذا عين الخطأ.
وفي الصومال أراد بعضهم أن يقوم بالجهاد ضد الحكومة، ضد علي المهدي ومن معه من العلمانية، فإن دستورهم إيطالي كما تعرفون, ويحكم عليه علماء الصومال بأنه كافر.. فقاموا، ولكن نصحهم العلماء في العالم الإسلامي بأنه ما أصبحتم في درجة تخولكم في رفع راية الجهاد.. جماعة بسيطة قوامها ثلاثمائة أو أربعمائة تواجه جيشاً عددهم مائة ألف مدججاً بالأسلحة الشرقية والغربية، ليس هذا بصحيح!
وقد طرحت الملاحظة هذه؛ لأنه يفاجأ بعض الناس الذين يأتون يطلبون مؤناً ليستعدوا للجهاد, بأن نقول: لا. ربوا الناس وتوجهوا إلى تأصيل العلم فيهم، وادخلوا في أوساطهم، ودعوا القتال الآن.
أما ما يجري في العالم الإسلامي؛ فالحقيقة أن العالم الإسلامي في موطن دفاع الآن، وهو في مأساة لا يعلمها إلا الله عز وجل، أمثال ما يجري في البوسنة والهرسك وكشمير والصومال، وهذه لها حديث آخر.
الجواب: نعم. كلامك صحيح، وهذا شيء حصل في أفغانستان، ولكني أقصد سنن الله تعالى الموجودة في القرآن وفي الكون، من أنه لا بد من وجود نسبة معينة يصل إليها المسلمون, قال تعالى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:66] وقد قال أهل العلم: أن يكون الواحد يقابل الاثنين، والاثنين يقابلون الأربعة،والأربعة يقابلون الثمانية، وهكذا.
الجواب: الذي أعلم أنهم يرونه هكذا، لكن هناك مسألة الهجوم والقتال، ومسألة الدفاع عن النفس، والذي حدث في أفغانستان أمور:
منها: أنهم يدافعون عن أنفسهم. ومنها: أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى منَّ عليهم بكرامة من كرامات الأولياء التي ينصر بها أولياءه ولو كان الواحد يقابل ألفاً، فهذه قد تخرج عن القاعدة التي ذكرتها مثلما حدث لـسعد رضي الله عنه بالجيش، وللعلاء بن الحضرمي، وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم.
لكن هذه هي القاعدة الشرعية التي يفتى بها, ولو سئل عالم أو داعية في فئة عددهم ألف يقابلون مائة ألف جندي، فسيقول لهم: لا. لأنهم لم يتمكنوا بعد.
أما أفغانستان فهناك أمور منها: أنهم دوهموا في بلادهم، والجهاد كان شعبياً، واستنفرت أفغانستان ضد الزحف الشيوعي، ومنها: أن الاحتلال كان بشعاً، حتى استنفر جميع الطاقات، لأن الإلحاد يريد أن يدخل في بلاد عرفت الإسلام من قديم، والإلحاد يرفع راية لا إله والحياة مادة.
ومنها أيضاً: أن العالم الإسلامي وقف برمته معهم، لأنه في البداية سحق الأفغان سحقاً ليس بالسهل وضربوا ضرباً هائلاً، ولكن العالم الإسلامي تضامن، ولا أعلم في هذا العصر أن العالم الإسلامي تضامن مع دولة أو فئة كما تضامن مع الأفغان، فلعل هذه تجعل للجهاد الأفغاني ميزة وخصيصة عن غيره.
الوضع في أفغانستان , ما هو تعليقكم عليه؟
الجواب: خلاصة ما جرى وما يجري في أفغانستان واتفاق في الضراء، واختلاف في السراء، وفيها درس أن الابتلاء بالسراء قد يكون أفضع بكثير من الابتلاء بالضراء، ولذلك قال ابن عوف رضي الله عنه وقال عمر قبله: [[ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر]] وقد مر قيس بن زهير بديار غطفان فرأى أنعاماً كثيرة وإبلاً وغنماً وبقراً فغضب، فقال له الناس: مالك؟ وكان الناس مقفرين ممحلين فلما أنعم الله عليهم ضقت وغضبت! قال: إن مع النعمة الحسد والاختلاف والتباغض، ومع القلة التساعد والتناصر والتعاون.
وهذا أمر معلوم، فقد رأينا الأفغان والواحد منهم يقدم دمه عن أخيه فداء وتضحية، فلما انتصروا رأينا أن الشيطان بدأ يلعب لعبته في السراء.. وأرى ألا نضيع الجهود والمكاسب التي مرت في الجهاد، لغلط وقع؛ لأن الموازين لابد أن تبقى مستقرة، ونرى أنه استغل في الإساءة والتغرير بهم من تصريحات بعضهم ضد بعض، أو أن الآخرين من أعدائهم كبروا أخطاءهم وأغلاطهم.
ولابد من الاعتراف بسنة الله عز وجل في الأنفس، فإنه لابد من الاختلاف، ولو عصم أناس من الاختلاف لعصم أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، فإنهم تقاتلوا، وقال الله في الأخير: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] وأذكر بيتاً للبحتري حيث يقول:
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها |
كل ذلك يدل على أن المسألة فيها نظر، وأن قضية الجهاد في هذا العصر يجب أن ينظر إليها نظرة عصرية جديدة، فإذا نحن استسلمنا لمثل هذه الأطروحات ربما يكون لها أثر عكسي سيء، هذا جانب فضيلة الشيخ!
الجانب الآخر: قضية ما يجري في أفغانستان في تصوري أنا -وأنا أريد أن تبين هذه النقطة- ألا ننسى خطط الأعداء، فهم يخططون لأن النتائج اقتربت وقطف الثمار اقترب، ولا أتصور أن الغرب ولا الشرق سيسكت ويدع حتى ولو سهماً في كنانته دون أن يرمي بها إلى الجهاد.. هذه الجوانب مجتمعة، ألا ترى أنها قد تكون هي وراء الوضع الأخير في أفغانستان، بالرغم من أنه في الأيام الأخيرة بدأت بوادر اتفاق بين المجاهدين، فنريد تعليقك جزاك الله خيراً على هذا الموضوع؟
الجواب: أنا ضد من ذكرت في المسألة الأولى، ومخالف لمن يصغرون من شأن الجهاد، ويعرضونه في معرض السخرية والمهزلة، وهؤلاء نحن نعرف مواقفهم من ذي قبل، وليسوا بجديدين في طرحهم وأسلوبهم، ولكني أسألهم أسئلة يمكن أنها لا توضع على كافر فكيف بالمسلم، فأقول: إن من مكاسب الجهاد سقوط الشيوعية كما قال بعض أهل الإسلام، وكنت أظن أن الجهاد الأفغاني ليس سبباً رئيسياً وجوهرياً، وقد قلته لبعض الناس، حتى أني قرأت في مجلة الوسط قبل أشهر، وإذا برئيس الاستخبارات السوفيتي المخلوع يتكلم عن هذه المسألة ويقول: إن أكثر ما قصم ظهر الشيوعية هو الجهاد؛ فإنه استنزفها استنزافاً عجيباً، حتى أن القذيفة كانت تخرج برقمها في يومها، وتطلق مع الغروب في أفغانستان، وهذا دليل على أن الأسلحة في المخازن انتهت، وأنها ضربت في تلك الجبال، وقد رأيت في جبال أفغانستان في جاور وخوست بعض الجبال قد احترقت تماماً من كثرة ما ضرب من القذائف والصواريخ والقنابل عليها.. فكانت قصمة للشيوعية وهذا مكسب.
الأمر الثاني: نشر فكرة الجهاد وإحياؤه في العالم الإسلامي، حتى أصبحت في ذهن كل مسلم، في الشرق والغرب، وما البوسنة والهرسك إلا نتيجة من نتائج ذلك.
الأمر الثالث: تعاطف الأمة, فقد أصبحت جسداً واحداً، حتى كانت أخبار أفغانستان مع العجائز والكبار والصغار، ورأينا الدموع والدعاء والابتهال والمناجاة.
الأمر الرابع: وجدنا موقفاً فريداً من المواساة لا يوجد إلا عند السلف الصالح في بدر وأحد وفي الخندق، فتجد الأموال ترسل بعد كل خطاب، والناس من كل حدب وصوب ينسلون, ويتركون أهلهم وذويهم وعشائرهم وقبائلهم، فيذبحون هناك وكأنهم يسكنون جنات ونهر، وهم -إن شاء الله- في جنات ونهر.
أيضاً: إيقاظ الشعب الأفغاني، ورده إلى دين الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فقد كان هناك طوائف منحرفة، ووجد شيوعيون قدماء، فمنهم من اهتدى، ومنهم من أبصر الحق، ومنهم من قتل.. فهذا ما ظهر لنا, أما الأسرار التي قدرها الله عز وجل وقضاها، فلا يحيط بها إلا هو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأنا أقول: صحيح أن هناك أيادي وأصابع، لكن معنى ذلك ألا نبرئ أنفسنا دائماً؛ فإنه أخذ علينا أننا نلقي باللائمة على غيرنا، وسوط المؤامرة على الآخرين، ونجعل أمريكا شماعة، فكلما وقع شيء قلنا: هذه خيوط أمريكا، وهذه إشاعة أمريكا.. وأنا أعرف أنها الشيطان الأكبر، ولكن مع ذلك يجب علينا أن ننقذ أنفسنا، فإن الله يقول للصحابة في أحد: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] فهو باختلافهم، وأقر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنهم اختلفوا.. فلابد أن نقول: نعم. اختلفوا, وقد جلست مع بعض الفضلاء من القادة، وسمعت أن هناك خلافاً، وأن هناك من يسعى لتأجيجه، وأن هناك أشياء وهوى في النفوس، ولا زلنا نقول عبر هذا اللقاء لقادة المجاهدين: اتقوا الله في الأمة، واتقوا الله في مكاسب الجهاد، وخافوا من الله, وقد سمعت من سماحة الشيخ أنه أرسل بعض البرقيات لـرباني ولـحكمتيار ولـسياف يناديهم بهذا، ونشر بعضها, فلا بد أن نكون صريحين في ذكر أخطائنا ونقد أنفسنا؛ لئلا ينقدنا غيرنا.
الجواب: البوسنة والهرسك نموذج لما وصل إليه العالم الإسلامي من الذلة والقلة والعيلة، وهذا مقياس لضعف الأمة، وقد ظهرت في أفغانستان وفي البوسنة والهرسك مسائل منها:
فتاة تنثر شعرها وتصيح عبر الأثير فيمن ينجدها، فلا تجد معتصماً واحداً يلبي طلبها.
ويوجد هناك آلاف من الشباب ينادون: وا إسلاماه! وا إسلاماه! وإذا الإسلام هذا الذي جعلوه مظلة لمئات الدول وملايين البشر لا يصلح إلا في أوقات محددة وهي أوقات العافية، أو أوقات التشدق به، والادعاء والانتماء إليه!!
ليس هناك أحرار تغلي في عروقهم دماء الغيرة والحماسة والغضب، وإلا يقول: أين الغيرة الإيمانية ونحن نشاهد في شهر واحد ثلاثين ألف فتاة تنتهك أعراضهن؟! أين الغيرة والكتاب الكريم يداس بأحذية جنود الصرب، والمساجد تحطم وتهدم؟!
هذه تنبي عن أن العالم الإسلامي لا يزال ميتاً وأنه لا حراك فيه.. صحيح أن هناك من دفع أموالاً، وأرسل معونات، ولكن هذه وحدها لا تكفي.
ثم إن هناك مسألة أخرى: وهي الانتقائية والازدواجية في تطبيق القرارات، وهذه عرفناها، وهي التطفيف في قرارات مجلس الأمن، فلا تنطبق قراراته إلا على البلدان الضعيفة الإسلامية.. الصومال، وليبيا، أما إسرائيل والصرب فأبت أن تركب, قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين:1-2].
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدناني |
وليس هذا ببعيد، فإن بطرس غالي لا يمكن أن يقدم أهل الإسلام وحملة لا إله إلا الله على أصحابه وإخوانه وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15].
والعالم الإسلامي فقد مسألة هامة في البوسنة والهرسك، وهي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [الأنفال:72] وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] فليت العالم الإسلامي هب، وليتهم رفعوا هذا العار الذي خيب الأمة، ولطخ شرفها وكرامتها، وأصبح بعض الناس العاديين يتلهفون، ولكنهم لا يملكون حولاً ولا قوة.
الجواب: على كل حال في الصومال نعود إلى مسألة تنفيذ القرار بحماس، فـعيديد لما خالف في مسألة في يوم واحد في تاريخ: 24/9 ضرب ضربة قوية بقرار من مجلس الأمن اتخذته أمريكا، وحال البوسنة والهرسك أنهم ظلوا سنتين في البكاء والدماء والأشلاء والجماجم التي تطرح، ومع ذلك لا عدل ولا إنصاف بل ظلم واضح وصارخ في العالم.
فأين حقوق الإنسان المدعاة, التي يدعيها هؤلاء أعداء الإنسان وقتلته؟!!
الأمر الثاني: أن المسلمين لا يكونون سذجاً، فليس القتال مع علي مهدي ولا عيديد؛ لأن هناك مبدأ وضعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مبدأ الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. والشعوب هذه مسكينة، كقطيع الأنعام في سياج من القطيع، تساق مرة يمنة، ومرة يسرة.. يؤخذ الشباب مع زياد بري، ليلغي منهج الله في الأرض، ثم يقاتل بهم أعداءه من جيرانه، ثم يذهب ويأتي عيديد فيقاتل أعداءه بهم ثم يسلمهم لـ علي مهدي فيقاتلون بهم من شاءوا، فأصبحوا لا يملكون حولاً ولا قوة، والعبد وما ملك لسيده.
وقصدي: إنهاض هؤلاء وتعليمهم، وأنهم لا يقاتلون إلا مع الحق، وأنه يطلب منهم أن يكون جهادهم لأن تكون كلمة الله هي العليا، إلى متى كلما ظهر ظالم بطاش مجرم انقادت معه هذه الشعوب يمنة ويسرة؟!
الأمر الثالث: أن هناك من يدعو إلى المال والكساء والغذاء، وهذا أمر مطلوب، لكنه مع الغذاء لا بد من تعليم وتوجيه، ولا بد من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأن نربيهم على التعاليم السماوية التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كانت المسألة مسألة غذاء وكساء لسبقنا إليها المبشرون من النصارى.. بل قد سبقونا إليهم مع نشرهم لمبادئهم.
الحواب: محمد أيوب وأستمع إلى الشيخ عبد الرحمن السديس.
الجواب: من القدماء: المتنبي كفن وأدب، وحسان: كمنهج، ومن المعاصرين الدكتور: عبد الرحمن العشماوي، ولعلك تعرفه!!
الجواب: أقرأ على قلة فيما يكتب زين العابدين الركابي، وآنس بما يكتب، وإنما أقصد أنه كاتب صحفي.
الجواب: فتح الباري، فهو رفيقي ليل نهار إلى الآن.
الجواب: الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري، وأنا مهتم في سماعي له؛ لأني أحبه كثيراً.
الجواب: الشيخ محمد قطب.
الجواب: أقرؤها مضطراً، من باب إلا ما اضطررتم إليه، فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً، وهي: جريدة الحياة.
الجواب: أنا أقرؤها لأنها أقل الصحف كذباً، فالأصل أن المادة موجودة، لكنها تقلل.
والأمر الثاني: أنها تستقصي بعض الأخبار، والذين يكتبون فيها لهم قدرة على الكتابة، ولو أني أعتب على الكاتب جهاد الخازن فيما يلفه ويعممه من التطرف والإرهاب على الدعاة في العالم الإسلامي، والواجب أن يقرأ قراءة متأنية للدعوات في العالم الإسلامي، وأن يتريث ويجلس مع كثير من الدعاة والعلماء، وأن يتقي الله فيما يكتب، لأن العلماء والصلحاء وأهل الوعي والريادة والمؤثرين موجودون, ولكن إذا أراد أن يسلك هذا فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حسيبه.
الجواب: هناك عدة مجلات، ولي ملاحظات -من باب نقد النفس- لأنه -والحمد لله- قد أصبحت عندي قناعة في ذهني، وهي أن نبدأ بنقد أنفسنا قبل الناس، ولا بد أن نهدم هذا السور الذي بنيناه على أنفسنا، وهو ألا ننقد أنفسنا، وأن كل ما نفعله جميل وحسن.
أطالع مجلة المجتمع، ومجلة الفرقان، ومجلة الإصلاح، ومجلة الدعوة، ولي ملاحظات مع أنني قد قابلت مع هؤلاء، أو شاركت أو قرأت.
أما مجلة المجتمع: فليتها تعتني بالتأصيل العلمي، ولهم فيها أخبار وغيرها، ولكنها لا تعتني بالموضوعات الدسمة القوية, وهذه المجلة أرى أنها لا تتميز باتجاه حتى تعرف، لأنها تكون للجميع، فعندما تطرقت لمشكلة الجزائر فقط: قال النحناح، وصرح, وقابل، ورأى.. مع العلم أن المد القوي كله للإنقاذ، والتأثير والوقوف, والعالم كله يساند الإنقاذ، والإذاعات العالمية ووكالات الأنباء تسلك هذا المسلك، فأقول: لا. لا بد أن تكون للجميع، وقد جعل الله لكل شيء قدراً.
وأما مجلة الفرقان: فإنها تعجبني، ولكني أريد منها أن تعتني أكثر بالمستجد من الأخبار ومتابعة الجديد فالجديد؛ وأن تواصل مسيرتها الأولى التي بدأتها في مقابلة كثير من الشخصيات، ولا بأس أن تعيد المقابلة مع العلماء، والأدباء، والمفكرين، ولو أربع مرات أو خمس مع الواحد؛ لتستفيد في القضايا المهمة، ويكون لها دعاية أكبر حتى تصل إلى الأقطار.
أما مجلة الإصلاح: فإن في آخر عدد لها -وهذه ملاحظة مهمة- وهو العدد الذي كتب فيه سماحة الشيخ ابن باز , عرضت على غلافها الخارجي صورة وزيرة الخارجية الأمريكية، وهي مجلة إسلامية، فلي وجهة نظرعليهم، فإن حركة نصف كم ليست عند أهل السنة، فلو أخرت هذه الصورة، أو أخفتها أو صغرتها لكان أفضل إذ لم يكن لها داعٍ، أو من باب الذوق والمنهج الإسلامي واللباس عموماً.
أما مجلة الدعوة: فإنها قد سبق أن كُتبت لهم رسالة من بعض الفضلاء، وتُكُلم في بعض المناسبات، وأظن أنه لا يطبع منها فيما أعلم إلا خمسة آلاف نسخة، والحقيقة أن مدها قليل، سواء كان مضموناً أو قلباً وقالباً.. فنحن نطالبها بموضوعات دسمة، وبأقلام رائدة معروفة عند الناس، وبمقابلات وبتجديد الأخبار، وأن تنتشر في العالم الإسلامي بقدر الاستطاعة، إن كانت تريد أن تكون رائدة، وإلا فسوف تظل في مكانها دون حراك.
الجواب: إذا أردت أن أستمع فإذاعة القرآن الكريم -هذا محلياً- أما للأخبار فإذاعة لندن على تحفظ بها، وعموماً فإذاعة لندن إذاعة عالمية، وتلاحق الأخبار تباعاً.
علي بن أبي طالب ماذا تعرف عنه؟
الجواب: هو بطل مواجهة، وفي قصته كما يقول بعضهم: سلوى للمحرومين، وعزاء للمظلومين، وإنساء للمنكوبين، وأنا قد طالبتك أمس بقصيدة لـعلي بالذات، لأن علياً قد أحبه قوم حتى غالوا في حبه فدخلوا النار، وأبغضه قوم حتى غالوا في بغضه فدخلوا النار، وتوسط أهل السنة في حبه، وفي الولاء له رضي الله عنه.. ويطير إلى ذهني الآن بيت ألقته عجوز كانت تنوح به على علي لما مات بـالعراق، تقول:
يا ليتها إذا فدت عمراً بـخارجة فدت علياً بمن شاءت من البشر |
لأن الخوارج لما أرسلوا في قتل عمرو بن العاص تأخر تلك الليلة فأرسل رئيس الشرطة رجلاً اسمه خارجة، فقتله هذا الخارجي، فتقول هذه العجوز:
يا ليتها إذا فدت عمراً بـخارجة فدت علياً بمن شاءت من البشر |
يا ليت الناس قتلوا وبقي علي.
وعلي يتميز بثلاثة أمور: الزهد المتناهي والفصاحة المتناهية والشجاعة المتناهية.
الجواب: صلاح الدين الأيوبي بطل الإنقاذ، ومجدد الجهاد في سبيل الله عز وجل، وفي سيرته سر، فدين الله ليس حجراً على العرب, قال تعالى: فإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89] وهوية الإنسان لا إله إلا الله، فهو كردي، ومع ذلك لما مال العرب إلى الترف والوتر والسهر، رفع السيف وقال: باسم الله عز وجل، وانتصر ورفع علم الجهاد.
الجواب: عمر رضي الله عنه مجدد القرن الأول، قال عنه الإمام أحمد: ليس أحد من التابعين قوله حجة إلا عمر بن عبد العزيز.. وفي سيرة عمر رضي الله عنه مسائل:
منها: أن هذا الشاب استطاع أن يعيد الأمة إلى الله بقضها وقضيضها.
ومنها: أن الفترة الزمنية المباركة أحب إلى الله من القرون التي يعيشها بعض الناس، فقد تولى عمر ثلاثين شهراً، قالوا: هي أحب للأمة من ثلاثين قرناً، حتى يقول أحدهم:
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر |
الجواب: هو داعية التجديد، ومعيد الأمة إلى التوحيد، ورأيت أن الله بارك في دعوته بركة لا نهاية لها، بسبب أنه تجرد لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وظهر الإخلاص في طريقه، وهو من التلاميذ البررة الذين ما رأوا شيوخهم، فهو التلميذ البار لـابن تيمية، حتى يقول جولد زيهر: وضع ابن تيمية ألغاماًُ في الأرض فجر بعضها محمد بن عبد الوهاب، وبقي بعضها لم يفجر حتى الآن فوصلت شظايا دعوته النيرة المباركة إلى أفريقيا وآسيا وأوروبا.
الجواب: هو المنهجية الوسط، والعدل، والداعية الإنسان، وقد جمع الله فيه مناقب ما انتثرت أو ما تشتت وتفرقت في كثير من الفضلاء، فهو يجمع إلى العلم، الصبر, والحلم، والكرم, والأناة، وسلامة الصدر: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4].
الجواب: محمد عابد الجابري كنت أقرأ كتبه الأخيرة، وأتساءل: أما عرف هذا الأستاذ أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو المصيب، وهو صاحب المنهج الرباني؟! ولماذا يمزج هذه الأفكار في مثل أزمة وخطاب العقل العربي، أو خطابنا الآن، أو فيما يطرح؟ فوجدت أنه يريد أن يوجد ثقافة عربية منفصلة، وبغض النظر هل هي مخطئة أم مصيبة، فهذا من وجهة نظري، فمثلاً: يأتي بثقافة أو طرح ابن خلدون والشاطبي، وطرح الرافضة والإسماعيلية الباطنية، والمعتزلة، ثم يجعل الفكر العربي هو الفكر السائد والمحكم.. وهذا ما أشبهه بـالمعتزلة، فإنهم جعلوا العقل محكماً على الشرع، فما استحسنه فهو الحسن، وما استقبحه فهو القبيح!
فأنصحه أن يعود للوحي، وأن يحكم عقله فيما يكتب، بعد أن يعود إلى قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا في مسألة طلب الدليل: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [الأنعام:148].
الأمر الثاني: أن المسألة ليست مكاثرة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور} فإن الذي يتكاثر بما عنده من ثقافة وأنه نقل أو قرأ متشبع بما لم يعط, والمطلوب من المفكر هو الصفاء، وليس المطلوب الخلط والمزج، فإنه أحياناً يخرج بأشياء مبثوثة وهو لا يعلم ماذا يريد أن يقول للناس، وله أتباع كانوا يكرمون مقالاته، وأنا لم أقل فيه هذا إلا لأنه مؤثر, وكتاباته متتابعة، وله إنتاج كثيف وضخم.
وأطالبه أن يتقي الله في الأمة، وأن يعود فيؤصل، وأرى أن يقرأ لاثنين: لشيخ الإسلام ابن تيمية وللشاطبي، وقد مدح الشاطبي لكنه عاد فقرن ثقافات أخرى من الباطنية والمعتزلة كما قلت، حتى نقل عن بعض الزنادقة.
العشماوي: مشكلة هؤلاء يا شيخ عائض! وأنت تدري بهذا الموضوع: أنهم يعتمدون على الثقافة الغربية، فركيزة ثقافة محمد عابد الجابري غربية، ويرجع إلى التراث وإلى بعض الشخصيات كـالشاطبي وغيره؛ يرجع للاستشهاد فقط ولأخذ الأدلة، وحبذا لو نصح من هذا الجانب؛ فلو اعتمد على تراثه ثم عاد إلى ما عند الآخرين ليستفيد منهم لكان هذا هو الصواب، ولما وقع في هذا الخلط العجيب الذي وقع فيه الآن.
لكن المشكلة أن هؤلاء يعتمدون الثقافات الغربية أصلاً، ثم يعودون للاستشهاد بالثقافات الإسلامية، كما يصنع مع أدونيس في مجال الأدب, عندما يعتمد الحداثة منهجاً ثم إذا أراد أن يستشهد رجع إلى التراث، فأخذ منه ما يناسبه.
الجواب: فهمي هويدي في الحقيقة هو أخف الضررين ممن يكتب، وقد قرأت له فيما قبل بعض المقالات كالتي يلاحظها مثلي على مثله، وإنصافاً معه نقول: هو من أكثر الناس تسديداً بالنسبة لغيره ممن يكتب، حتى رأيت له مقالات وهي ما يقارب العشر في التطرف والإرهاب وقد أعجبتني كثيراً، له مقالة في مجلة الوسط: الإرهاب ممن؟! وغيرها, ذكر فيها مسائل ملفتة للنظر، وكثير من الدعاة استأنسوا بما طرح، لأنه الآن يجنح إلى أهمية أن يسمع الآراء وأن يجلس مع الدعاة، وقد جلس مع كثير منهم، فأصبح يجدد في طرحه وأسلوبه.
وهنا أذكر أمثلة أعجبتني ثم أذكر بعض الملاحظات، يقول في مسألة التطرف والإرهاب: لماذا يعلق فقط الإرهاب قميص عثمان هذا المدعى على أهل الخير وأهل الصحوة والدعوة، مع العلم أنه وجدت تجاوزات في القتل والإبادة والسجن والتعسف والظلم ولم يطلق على مرتكبيها مصطلح الإرهاب والتطرف، كالضباط الأحرار في عهد عبد الناصر، فإنهم قتلوا البشر قتلاً ذريعاً لا يوجد في التاريخ قتل مثله، مثل استالين ولينين وأتباعهما، ومثل محاكم التفتيش، ومثل ثورة الألمان مع هتلر وغيره.
فهو يقول: إنما القصد التجني وافتعال التهم، وإلصاقها بالأبرياء، ويظل يشكو من التعميم الذي نشكو منه، تعميم الأخطاء التي يقع فيها بعض الأفراد، بأن تعمم على جماعة المسلمين الجمعاء، ومنها: مصادرة الجهود، وأن هؤلاء قوم لا فكر لهم، ولا رأي، ولا ثبات من استعداء السلطة عليهم، والإعلام، واستعداء الحكومات الغربية، إلى غير ذلك من الأشياء.
وهنا أطالبه بمسائل:
المسألة الأولى: لماذا لا يثري ثقافته بعلم الكتاب والسنة، بالآيات وبالأحاديث وبالنصوص، كما يفعل بعض الكتبة؟
المسألة الثانية: الصفاء فيما يكتب، فإنه ينقل أحياناً عن بعض الناس الغربيين كلاماً لا يوثق به.
المسألة الثالثة: تأييده في كتابه الأخير لبعض الكتبة الذين يتجنون ويفتعلون بعض المسائل ضد الإسلام.
هذه مسائل مما ألاحظها عليه، ولعله فيما يقبل من الزمن أصلح إن شاء الله، لأني أرى منه أنه أحسن من ذي قبل.
الجواب: تركي الحمد أرى أنه تلميذ بار لـمحمد عابد الجابري، وكأنه يتتبع خطاه، ولم أكن أظن أنه بهذه الدرجة، حتى قرأت له مقالة في مجلة اليمامة قبل أشهر وهو يتحدث عن الإيديولوجية المطروحة، وكأن الرجل يريد أنه لا مشاحة في الفكر الديني الذي يحمله العبد، وألا نجعل الدين محل صراع، وأن كلاً يعرض رأيه وفكره وأطروحته بغض النظر عن مردها ومصدرها.
الأمر الثاني: الالتواء فيما يطرح، فإننا نعلم أنه يريد نكاية والله أعلم.
وأنا أطالبه بأمور: منها: المبارزة وحضور مجلس للمناظرة، وقد طلبه بعض الفضلاء ولكنه يرفض دائماً، ونريده للمناظرة ليظهر الحق أمام الناس، وليعلموا الحق مع من.
والأمر الثاني: ألا يكون عالة على غيره، لأنه مقلد فإنه أحياناً يطرح بعض الأشياء وكأنها من عند ذاته، وبأسلوب يظهر للناس أنه حضر هذه المادة بنفسه وأعدها وتعب عليها، ثم تكتشف وإذا هي بالحرف والسطر والرقم لغيره، وهذا خلاف للأمانة العلمية، وقد أخبره بذلك الدكتور ناصر رشيد، وغيره من الأساتذة، والدكتور أحمد التويجري، وهذا أمر مخالف للقلم -وبغض النظر عن أمانة المسلم الذي يخاف الله عز وجل- لكنها عند العقلاء من الناس مذمومة مطروحة.
الجواب: عبد القادر طاش صاحبته وأعرفه كثيراً، وأحبه في الله عز وجل، وأنا أقول له بصراحة: لماذا يا دكتور عبد القادر هذه الغمغمة والجمجمة والهمهمة؟ لا بد أن يكون الحق واضحاً لا لبس فيه فيما يكتب في جريدة المسلمون، بأن يطرح الحق واضحاً ومؤصلاً، ويكتب ولا يخاف إلا من الله عز وجل، ولا نطلب منه أن ينقد بعض الناس، أو يتعرض، أو يذم، أو يقدح؛ لكنا نطلب منه أن يعرض الحق بوضوح، ويدافع عن أهله.
الدكتور عبد القادر رجل مقبول وفيه خير، وعرفت تدينه وصدقه, ولكني أطالبه أن يثري أسلوبه بالمتانة، فمن وجهة نظري يحتاج أسلوبه أن يكون لماعاً، أو يكون لماحاً بالنظر، حتى يكون له جاذبية ولعله أعرف بهذا، ولكن هذا طلب مني، لا أني أمن عليه، وأسال الله أن يثبته ويسدده.
الجواب: من أحسن ما أقرأ له على قلة فيما يكتب زين العابدين الركابي، وهي من أحسن ما أقرأ وما ذلك إلا لأمور، منها: العقل الحصيف، لأنه الآن شارف على الستين، وهذه الستين تحمل من التجارب والممارسات ومن المزاولة والخبرة ما الله به عليم، لأن الرجل عنده صفاء قديم في التوجه، وقد تكلم في كثير من المنابر والأماكن، وعرف الحق من الباطل، ثم إن الشيخ زين العابدين الركابي استفاد، فهو رجل متواضع يجلس مع كثير من العلماء، ويباحثهم في كثير من المسائل، فاستفاد إلى عقله عقولاً.
لكني أطالبه أن يكثر فيما يكتب، وقد قلت له: إن الواجب عليه بما عنده من خبرة أن يكتب مؤلفات في هذه المرحلة، وأن يجدد ويؤثر، ويشارك في المسيرة علّ الله أن ينفع بما يقدم.
الجواب: أحرج موقف وقد كررته كثيراً في بعض المقابلات ولا بأس من إعادته، فقد حدث هذا قبل سنوات، ويمكن أن يكون محرجاً أو ليس محرجاً بالنسبة لي لأني قد نسيت، لكن ذلك الموقف كثير ما سمع مني، وهو مثل الورود تشم ولا تعك.
قبل سنوات أقيم حفل كبير في جامعة الإمام في أبها، واجتمع إليه بعض الناس والأعيان، وكان من المقرر أن لي في البرنامج قصيدة، نظمتها وصححتها، ثم وضعتها في جيبي، وكنت ألبس من لباس الكشافة -الترنك هذا- وجاء أحد الإخوة اسمه علي حجر، فأخذ القصيدة لينظر إليها ثم نسي فوضعها في جيبه -وقع هذا قبل صلاة العصر، والحفل سوف يكون بعد المغرب- ثم ذهب إلى منطقة خميس مشيط، فجئت ظاناً أن القصيدة ما زالت موجودة، وقدم لي المقدم وكان العلماء والمشايخ وبقية الجماهير منتبهين، فقمت عند الميكرفون وقدمت للقصيدة بكلمة نثرية وأنا لا أحفظ من القصيدة ولو بيتاً فهي ما زالت للتو تغطية للمناسبة، ثم قدمت ببادئ القصيدة وأتيت لأخرجها ففتحت الزر الأيمن فلم أجدها! وفتحت الزر الأيسر فلم أجدها! وفي الجيب الأعلى فلم أجدها! وأنا سريع النكتة، فقلت: أيها الإخوة! وتذكرت في أثناء البحث أن زميلي الأخ علي أخذها وذهب إلى والدته، فقلت: معذرة أيها الإخوة! نظمتها اليوم ولم أحفظها، وصححتها ووضعتها في جيبي، ولكن تذكرت أن أحد أصدقائي أخذها فنسيها وذهب وركب سيارة قبل صلاة العصر يزور أمه، فالمعذرة حتى يأتي بالقصيدة إن شاء الله، ثم جلست فضحك الجميع، والموقف لمن حضره وشاهده مؤثر.
فقلت: من الأخ؟ قال: أنا جحلق -والجحلق لغة دارجة- قلت أنا: إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ثم قلت له: من أي قبيلة أنت؟ قال: أنا مطيري، ثم سرت أنا وإياه في الحديث، ثم سألني من أين أنت: قلت: أنا من الجنوب؟ قال: الجنوب شعوب وقبائل!! لكن من أين؟ قلت أنا: قرني؟ قال: أعائض القرني منكم؟ قلت: نعم. فمشينا قليلاً ثم أتى بشريط في سيارته وشغله، والشريط كان لي وهو بعنوان: (ظالم من الدرجة الأولى), يتحدث عن الحجاج وقتله لـسعيد بن جبير، فقلت: لمن هذا؟ فقال: هذا لداعية من الدعاة في القصيم من بريدة، ثم أخذ يتكلم معي ورفع الشريط حتى أسمعه، ثم أخفضه، ويخبرني بالجملة التي سوف تأتي منها القصة، فقال: هذا الحجاج كان والياً في العراق، وكان أحد العلماء اسمه سعيد بن جبير، قلت: عجيب، ثم يرفع, ثم يخفض، ويقول: انظر! سوف يأتي الآن بالذهب له، ويغريه به، ثم يرفع، إلى أن قال: الآن اسمع الأسئلة، واستمر في الحديث حتى انتهى الشريط تماماً.
بدأت أكلمه ونسيت من نفسي أخذت أقص عليهم القصص في الطريق، فأخذ ينظر إلي وينظر إلى الشريط، وبعدما اقتربنا من بروازة مكة، قال: أنت!! صوتك!! فضحك زميلي اللذان كانا معنا، وقال: وصلت، فبدأ التعارف من ذلك الوقت، وأصبحت صداقة فيما بيننا.
العشماوي: قال عنك إنما هو من القصيم؟
القرني: يقول من القصيم، هذا يدلك على أن الأمة ليس عندها أمانة علمية.
الجواب: مما نشكو فيه إلى الله عز وجل الفراغ القاتل الذي يعيشه كثير من الشباب، وقد مر عام وانصرم في لحظة من اللحظات، مر ببؤسه ونعيمه، وبسعادته وشقاوته، وبانتصاراته وهزائمه، وبحسناته وسيئاته، ولكن: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52] أما هذا العام فإني أدعو إخواني إلى أن يستثمروه، وما مع الواحد منا إلا أن يعيش يوماً بيوم، وأن يعيش كل جزء بجزئه، فالحياة التفصيلية: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح) وقصدي من هذا: أن الشباب الذين يظنون أن العطلة الصيفية فرصة للتفرجة والنزهة، وفرصة لراحة النفس، فهذا ليس بصحيح في الإسلام، إن الله يقول: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] أي: حتى تموت، فعليك بالجد الصارم والمواصلة، والاستفادة، وعدم تضييع الفرص، فإن معظم الناس قد تأثروا ببعض الأطروحات في أن العطلة الصيفية فرصة لأن يتفرغ الإنسان للهو واللعب والذهاب والإياب، وهذا ليس بصحيح.
والأصل أن هذه العطل لم تكن عند السلف، فحياة السلف علم متصل، وعبادة وتلق دائم، وما أجملها إذا كانت تستغل فيما يقرب إلى الله عز وجل!
وهذه دعوة لإخواني أن ينتجوا في هذه العطل، مثل مدارس تحفيظ القرآن، فلماذا لا يدخل الناشئة في هذه العطل الصيفية في هذه المدارس، والمراكز الصيفية، والمخيمات، والمكتبات، وإلقاء المحاضرات، يبدأ فيحصل علماً، أو يقرأ كتاباً يختاره ويلخصه ويحفظه، مثلاً: كتابة مقالات، أو كتابة كتيبات، أو مشاركة في تخريج أحاديث، فيجعل المرء لنفسه في هذه العطلة مشروعاً، وهذا يأتي بأمور:
منها: الاستعانة بالله عز وجل، ومعرفة أن هذا العمر يتصرم، وأنه لا يعود مرة أخرى، وعليه أن يبتعد عن رفقة السوء، وأهل العطالة والبطالة والفراغ، إلى غير ذلك من الأسباب التي توصل إن شاء الله إلى استثمار هذا الوقت فيما يقرب من الله.
السؤال: شيخ عائض! نحن في البداية تكلمنا عن الشعر، فنرجو إن شاء الله أن تختم هذا اللقاء بقصيدة تختارها للإخوة المستمعين؟
الجواب: الحقيقة أني لم أكن أعلم أن هذا الطلب سوف يكون، وقد سلف معنا بعض الأبيات، وأنا من الذين لا يحفظون قصائدهم إلا إذا مر عليها وقت طويل، وأكثر ما قلت في أني مقل، وأنا لست كمثلك، عندك من الغزارة ما يجعلك تخرج بين الفينة والأخرى ديواناً، لكن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
العشماوي: نترك لك فرصة أن تأتي بقصيدة الآن، وتقرأها كاملة لأن المستمعين حريصون على ذلك.
القرني: فأجره حتى يسمع كلام الله.
القرني: أثابكم الله وحفظكم ورعاكم، وأنا بدوري أشكركم يا فضيلة الدكتور أبا أسامة! على ما قدمتم، والحقيقة أنكم أضفيتم روحاً وحياة على اللقاء، ومثلكم يطلب للقاءات لأن لقاءاتكم مع المشايخ أصبحت كالكبريت الأحمر، لقوتها وما فيها من حياة ونشوة، وبالمناسبة أقول لك: يا أخي! سوف تستمر هذه اللقاءات إن شاء الله، وما ذكرته من طلب الإخلاص هذا أمر وارد عند الجميع، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية.
أمر آخر مما أتذكره الآن في نهاية المقام، أن مقدم اللقاء هو الذي يضفي عليه من اللقاء ومن الحيوية ما الله به عليم، وهي كمقدمة بعض الكتاب الجهابذة والعباقرة للعلماء، إذا قدموا للكتاب ولو كان ليس بذاك لقي قبولاً عند الناس، فعسى أن يكون لقاؤنا هذا من ذاك.
ثم أشكر تسجيلات السرة بـالكويت، وأطالبها بالاهتمام بإيصال الأمانات إلى أهلها، وهي إعطائي وإياك والمشايخ نسخاً من هذا اللقاء، وأقول لهم: لا تكون تسجيلات السرة كـعزة، كما قال كثير:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنىً غريمها |
فسوف ندعو لهم من الآن حتى يوصلوا الأشرطة، فإذا ما وصلت ففي الأمر نظر، وأسأل الله التوفيق والهداية والرشد والسداد، وشكراً لكم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر