إسلام ويب

التوسل بالأعمال الصالحة (1)للشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في قصص الأولين عبرة، ونحن في هذا الدرس مع قصة من قصص بني إسرائيل، وفيها من العظات والعبر والدروس المتعلقة بالعمل والاعتقاد شيئاً مفيداً، إنها قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار.

    1.   

    فضل مجالس الذكر

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد:

    فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. ومع روضة من رياض الجنة، ومع الحبيب صلى الله عليه وسلم، ومع كلامٍ نقف على أبوابه التي قدَّسها الله وعظَّمها وجعله أسوة وقدوة لمن أراد أن يهتدي وأن يقتدي.

    من زار بابَك لم تبرح جوارحُه      تروي أحاديث ما أوليت من مننِ

    فالعين عن قرة والكف عن صلة      والقلب عن جابر والسمع عن حسنِ

    الرسول صلى الله عليه وسلم جعله الله مقياساً وميزاناً لمن أراد أن يهتدي وأن يقتدي، وكل من أراد أن يخالف نهجه أو سنته فهو الضلال بعينه، والعالم اليوم -من باب ذكر النعم بين يدي هذا الدرس- عالم مقيت إلا من حفظ الله وعصم، ولذلك يقول جل ذكره: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] إلحادٌ مُزْرٍ، وطغيان وكفر، وبدع تترى، وفواحش تئن منها الأرض إلى السماء، وما هناك إلا ثلة قليلة يعيشون على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذه القلة القليلة أناس قليلون يحبون مجالس رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وأنتم حينما تجلسون في هذا المجلس تحفكم الملائكة، والله يباهي بكم، وكما يقول عطاء بن أبي رباح: [[مجلس واحد يكفِّر سبعين مجلساً من مجالس اللهو واللغو]].

    وأي لذة في الحياة؟ أهي اللذة البهيمية التي يعيشها الكافر؟ أهي اللذة الجنسية التي يطمع فيها الملحد؟ لا، إنها لذة الاتصال بالواحد الأحد تبارك وتعالى.

    1.   

    نص حديث الثلاثة النفر

    درْسُنا هذا يرويه عبد الله بن الفاروق عمر بن الخطاب.

    نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى     نوراً ومن فلق الصباح عموداً

    ولنستمع إلى الحديث، ثم العرض، ثم الشرح بإذن الله: عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غارٍِ فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما.. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة؛ فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه.

    وقال الآخر: -أي: الثاني- اللهم إنه كان لي ابنة عم، وكانت أحب الناس إليَّ -وفي رواية: كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء- فأردتُها على نفسها فامتنعت مني، حتى ألَمَّت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففَعَلَتْ؛ حـتى إذا قدرت عليهـا -وفي رواية: فلما قعدت عندها- قالت: اتق الله! ولا تفض الخاتم إلا بحقه! فانصرفتُ عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها.

    اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج.

    وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت له أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين وقال: يا عبد الله، أدِّ إليَّ أجري، فقلتُ: كلُّ ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق أجرك، فقال: يا عبد الله! لا تستهزئ بي، فقلت: لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً.. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون) رواه الشيخان البخاري ومسلم.

    عرض إجمالي لقضايا الدرس

    في هذا الحديث قضايا:

    أولها: موقفنا من الإسرائيليات.

    ثانيها: صدق اللجوء وإخلاص الدعاء في الأزمات إلى الواحد الأحد.

    ثالثها: التوسل بصالح الأعمال، وهل يجوز لك أن تتوسل بصالح العمل. أم لا؟

    رابعها: بر الوالدين وما جاء فيه.

    خامسها: فضل العفة، ومخالفة الهوى، وقصص من قصص الصالحين والأخيار.

    سادسها: فضل السماحة وأداء الأمانة.

    سابعها: إثبات كرامات الأولياء ونماذج من ذلك.

    1.   

    من سيرة الراوي عبد الله بن عمر

    هذا الحديث يرويه عبد الله بن عمر، يقول صاحب الكتاب: عن أبي عبد الرحمن، يكنيه، والكنية تعريف وسِمَة، ومن هدي السلف الصالح التكنية، والكنى إكرام للرجل، لذلك يقول الشاعر اليمني:

    أكنيه حين أناديه لأكرمه      ولا ألقبه والسوءة اللقب

    كذاك أدبت حتى صار من خلقي      أني وجدت ملاك الشيمة الأدب

    والرسول صلى الله عليه وسلم كان يكني أصحابه ولو لم يكن لهم أولاد، فكان يقول للخليفة الأول: يا أبا بكر، ولـعلي: يا أبا الحسن، ولـعمر: يا أبا حفص، وعثمان رضي الله عنه له كنيتان: أبو عمرو، وأبو محمد.

    والشاهد أن الكنية جارية، وربما كَنَّى صلى الله عليه وسلم مَن لم يكن له أولاد من أصحابه، فكان يقول لأخي أنس وهو طفل صغير يلعب بنغْر معه: (يا أبا عمير ما فعل النُّغَير؟).

    ابن عمر ورواية الحديث ورؤياه المنامية

    وعبد الله بن عمر من أكثر الصحابة رواية، بل هو من الرواة السبعة، ومن أكثر من روى الحديث النبوي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.

    عاش عبد الله بن عمر في كنف النبوة، وترعرع في رياض السنة، ورتع في مروج العلم النافع الذي ورثه من محمد صلى الله عليه وسلم، عاش زاهداً عابداً مخبتاً داعية إلى الله حنيفاً ولم يكُ من المشركين.

    أسلم مع أبيه وهاجر الهجرة، وما تزوج إلا بعد أن وصل إلى المدينة، كان أعزب في أول لياليه، فكان ينام في المسجد، فيقول عن نفسه: {كنت أعزب أنام في المسجد، وأرى الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الرؤيا، فتمنيت أن أرى رؤيا في المنام لأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم...} وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر التفت إلى أصحابه وقال: هل رأى أحد منكم رؤيا البارحة؟ لأن الرؤيا فيها ما يصدق وفيها ما يكذب، وهي ثلاثة أقسام:

    رؤيا من الرحمن، ورؤيا من الشيطان، ورؤيا أضغاث أحلام. فأما التي من الرحمن فهي التي من الرجل الصالح، في علم صالح بإذن الله وبشرى خير، فهي من المبشرات.

    وأما رؤيا الشيطان فهي ما يوعد به الشيطان في المنام من زلازل وفتن ومحن وبأساء وكوارث ومصائب؛ فهذه من الشيطان، ولا تخف منها، ولها علاج.

    وأما أضغاث الأحلام فهي مجريات الحياة التي تحدث عليك في النهار، كأن ترى الطريق وفيها سيارات تذهب وتجيء، ووقوف عند الإشارة، وأن ترى الناس يخرجون من المدارس، وأن ترى أطفالاً أمامك، وأن ترى بقالات مفتوحة أمامك، هذه مجريات الحياة، ليس فيها أمر زائد ولا ناقص، ولا يتطلب منك الأمر أن تسافر إلى الرياض إلى سماحة العلماء، وتقول: رأيت البارحة كأن سيارة تمشي في الخط وتقف عند الإشارة، فما هي تعبير رؤياي هذه؟ أفتوني مأجورين. فهذه أمور مجريات.

    والشاهد: أن ابن عمر قال:... فتمنيت أن أرى رؤيا، قال: فرأيت في المنام كأني في حديقة خضراء، وكأن عندي قطعة من إستبرق أو من حرير لا أشير إلى مكان إلا أخذتني هذه القطعة إلى ذلك المكان، قال: وإذا برجلين اثنين أخذاني بيدي؛ أحدهما باليمنى والآخر باليسرى، فأخذاني إلى بئر مطوية، لها قرنان -أي: ما يوضع عليها العجلة-، قال: فنظرا إليها فقالا لي: لا ترع لا ترع -وفي لفظ: لَمْ تُرَعْ لَمْ تُرَعْ، أي: لا تخف- قال: فأتيت فذهبت إلى أختي حفصة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    لا يستطيع ابن عمر من جلالة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن مهابته وعظمته أن يقص عليه الرؤيا؛ لأنه رجل شاب، والشاب دائماً عرضة للخجل والحياء، والرسول صلى الله عليه وسلم ما أخذ هيبته وما أخذ جلالتة بالجبروت؛ لا، فإنه كان أشد الناس تواضعاً وأسهل الناس وأيسرهم، يقف مع الطفل، ومع العجوز، لكن وضع الله عليه من المهابة ما الله به عليم، والشاب من عادته ألا يتجرأ على السؤال والحديث، حتى في الصحيحين يقول ابن عمر: {كنت جالساً مع قوم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام وقد أتي بِجُمَّار -أي: أتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بِجُمَّار- وهو قلب النخلة الأبيض، فمكث صلى الله عليه وسلم برهـة ثم التفت إلى أصحابه، فقال: شجرة لا يسقط ورقها؛ مثلها مثل المؤمن! أخبروني ما هي؟ قـال ابن عمر -صاحبنا هذه الليلة-: فوقع في قلبي أنها النخلة، فاستحييت أن أذكرها للرسول صلى الله عليه وسلم وفي القوم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي...} هؤلاء الأجلة أهل بدر، وأحد، وأهل منائر الإسلام، وأهل المنابر، وأهل عتاق المذاكي، وأهل السيوف، وأهل قيام الليل، وعلماء الأمة، وحُفَّاظ التاريخ بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستحيا أن يتقدم ويقول: هي النخلة، {... قال: فوقع الناس في شَجَر البوادي، أحدهم يقول: الطرفاء، وأحد يقول: السمر، وأحد يقول: السلم، وأحد يقول: الطلح، فلما انتهوا قال صلى الله عليه وسلم: هي النخلة، قال: فذهبت إلى البيت مع أبي، فقلت: يا أبتاه! لقد علمت بالشجرة التي حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنها النخلة، فقال عمر: والذي نفسي بيده لوددت أنك أخبرت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن لي بها كذا وكذا، وعَدَّ أموراً وأموالاً من الدنيا} يقول: لماذا تأخرتَ بالجواب وهذا وقت المبارزة، وأريد أن تبدي قوتك وذهنك وفهمك عند الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لكنه استحيا!

    ونعود إلى رؤياه رضي الله عنه، قال: {... فقصصتها على حفصة، فقصتها على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل} قال نافع مولى ابن عمر تلميذه الكبير: [[فكان ابن عمر لا ينام من الليل إلا قليلاً، حتى إذا سافر في الصحراء كان يصلي ويقول: يا نافع، هل طلع الفجر؟ فأقول: لا، ما طلع، فيعود فيصلي، فيقول: هل طلع؟ فأقول: لا، فيصلي، فإذا قلت: طلع أوتر بركعة ثم صلى الفجر]].

    أثر حديث: (كن في الدنيا كأنك غريب) في حياة ابن عمر

    وابن عمر يقول: {نزلت إلى السوق -ولكن رواية البخاري ليس فيها هذه الزيادة- فأخذ صلى الله عليه وسلم بمنكبَيَّ -أي: بمجامع ثيابه من منكبَيه، وفي لفظ: بمنكبِي- فقال: يا عبد الله، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل}.

    وكان ابن عمر يقول: [[إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك]].

    فبَقِيَت كلمةُ: {كن في الدنيا كأنك غريب} تَرِنُّ في أذنه، فكان من أزهد الصحابة على الإطلاق. رأته عائشة رضي الله عنها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يذهب إلى السوق في بردة لا تساوي عشرة دراهم، فدمعت عيناها وقالت: [[ابن عمر من الذين دفنوا في البرد يوم أحد مع الرسول صلى الله عليه وسلم]] أي: مِن الشهداء.

    يقول سائل لـنافع: [[ما هو عمل ابن عمر إذا دخل بيته؟ قال: كان يتوضأ ويقرأ في المصحف، ويتوضأ ويقرأ في المصحف، ويتوضأ ويقرأ في المصحف]].

    وابن عمر من الأولياء الكبار وإنما أذكر هذه القصص تربية وأسوة وقدوة؛ علَّ الله أن ينظر إلينا بنظرة خير فيجعلنا ممن أحبهم إذا لم نعمل بعملهم.

    استمرت به الحياة، وازدحم الناس على الملك بعد مقتل عثمان، وقد كان من المرشحين المرموقين للخلافة، لكنه تركها لحديث: {كن في الدنيا كأنك غريب} رأى الذهب والفضة فما أخذ منه شيئاً لحديث: {كن في الدنيا كأنك غريب} رأى المناصب تبذل إليه فما أخذها لحديث: {كن في الدنيا كأنك غريب} رأى البغال، والشهب، ورأى الخيول المسومة، ورأى اللذائذ، والقصور تشرف عليه من بغداد ودمشق، فتركها يوم فَتَحَ المسلمون الفتوح لحديث: {كن في الدنيا كأنك غريب} كان إذا حج بكى عند المقام ومرغ وجهه بالتراب وقال: [[اللهم إنك تعلم أني ما تركت الدنيا إلا من مخافتك]].

    عبد الله بن عمر وابناه: سالم، وعاصم

    توفي على أحسن حال رضي الله عنه، وترك لنا عِلماً جماً، وترك لنا ولداً صالحاً باراً عالماً هو سالم بن عبد الله، وكان لا يفارقه أبداً، والعجيب أن سالماً هذا شابَ أكثر من شيب والده عبد الله، فكان ابن عمر إذا التقى به من سفر تعانقا وتباكيا كثيراً، ويقول ابن عمر: [[انظروا للشيخ يُقَبِّل الشيخ]] حتى كان يترك بعض الأسفار ليستقر مع سالم، وكان يترنم ببيت من الشعر يقول:

    يلومونني في سالم وألومهم     وجلدة بين العين والأنف سالم

    وله أخ اسمه عاصم، استمر في طلب العلم والاستقامة، ثم وافاه الأجل فتوفي، فكان يبكي عليه ويقول:

    فليت المنايا كن خلفن عاصماً      فعشنا جميعاً أو ذهبن بنا معا

    وأصل البيت:

    فليت المنايا كن خلفن مالكاً      فعشنا جميعاً أو ذهبن بنا معا

    فحوله إلى عاصم.

    ومالك المقصود به في البيت هذا مالك بن نويرة، أخو متمم، الذي قُتل في حربه مع خالد، ومتمم هذا كان أعور العين، ومن شعراء العرب، وكان مالك هذا من سادات العرب ومن كبارهم وأجاويدهم، فلما قُتِل بكى عليه أخوه حتى بكت عينه العوراء، وقال أعظم مرثية في تاريخ الإنسان..

    روى الترمذي بسنده عن عطاء قال: وقَفَتْ عائشة على قبر أخيها عبد الرحمن، فبكت طويلاً فاستشهدت بأبيات متمم في أخيه حيث قال:

    وكنا كندمانَي جذيمة برهة     من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

    وعشنا بخير في الحياة وقبلنا     أصاب المنايا رهط كسرى وتُبَّعاً

    فلما تفرقنا كأني ومالكاً      لطول اجتماعٍ لم نبت ليلةً معا

    إلى أن قال:

    فليت المنايا كن خلفن مالكاً      فعشنا جميعاً أو ذهبن بنا معا

    وزاد أحدهم بيتاً له:

    بكت عيني اليمنى فلما زجرتُها      عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا

    وكانت من أعظم ما رُثِي به في التاريخ، حتى قال عمر: [[أدخلوا عليَّ متمماً...]]؛ لأن عمر أنكر قتل خالد لـمالك أخيه وقال: [[أبرأ إليك مما صنع خالد، وقال لـأبي بكر اعزل خالداً، فما فعل أبو بكر وقال: والله لا أغمد سيفاً سله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن خالداً سيف من سيوف الله]] فلما تولى عمر كان أول مرسوم في خلافته عزل خالد، قيل: لهذه الأسباب، وقيل: لغيرها، فقال: [[... أدخلوا عليَّ متمماً، قال: ماذا قلتَ في أخيك؟ فذكر أبياتاً، فبكى عمر حتى رثي له، وقال: يا ليتني كنت شاعراً فأرثي أخي زيداً - الذي مات في اليمامة، وهو زيد بن الخطاب - قال: أسلم قبلي، وهاجر قبلي، واستشهد قبلي]].

    الشاهد: أن ابن عمر رضي الله عنه ترك لنا سالم بن عبد الله بن عمر، سالم الزاهد العابد الذي دخل في الحرم يطوف، فدخل سليمان بن عبد الملك الخليفة وقيل: هشام، فطاف فلما رآه الخليفة وحذاؤه في يديه وعليه ثياب وعمامة لا تساوي ثلاثة عشر درهماً، قال: من هذا؟ قالوا: عالم المسلمين، فتقدم إليه وقال: أتريد مني حاجة؟ قال سالم: أما تستحي في بيت الله أن تقول لي هذا الكلام، فلما انتهى وقف له الخليفة ببني أمية وبالوزراء الذين معه والجيش حتى خرج، فقال: سألتك هل لك حاجة في الحرم فأخبرتني أن لا، فهل لك حاجة؟ قال: أمن حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا، قال: أما الدنيا فوالله ما سألتها من الذي يملكها سبحانه فكيف أسألها منك؟!

    ولذلك يقولون: مات سالم بعين من هشام بن عبد الملك كما ذكر الذهبي أنه عانه هشام حيث نظر إليه وكان عليه أبهة العبادة، وجمال قيام الليل والحسن، فقال: يا سالم، أتأكل اللحم؟ قال: آكله في الأسبوع مرتين، قيل: فعانه فقتله، قال أهل المدينة: [[لا بارك الله في هشام أخذ أبناءنا إلى الثغور فقُتلوا، وقَتل عالمنا بعينه]].

    وقد ذكرتُ هذا الأجل الرؤيا الخيرة، حتى أن البخاري كتب كتاب الرؤيا وذكر فيه أكثر من أربعين حديثاً.

    استطراد مع أبي دلامة

    دخل أبو دلامة على أبي جعفر المنصور وقال: يا أمير المؤمنين! قال: نعم، قال: رأيت في البارحة أني قبَّلت رأسك وأعطيتني ألف دينار! قال أبو جعفر: أما التقبيل فأنا أؤوله لك، وأما الألف دينار فلا أفعله. قال: لا والله هي حاجتان لا بد منهما، قال أبو جعفر: فوالله لا أتركك تقبل رأسي أبداً، قال: اعطني ألف دينار وسامحك الله في التقبيل.

    وهذا من الكذب في الرؤيا، وإلا فيمكن أنه ما رأى، والله أعلم، ولكن حصل على ألف دينار.

    وأبو دلامة -للمناسبة- دخل على الخليفة المهدي بن أبي جعفر، فقال له الخـليفة: آذيتـنا بـحوائجك دائـماً -أي: دائماً تسأل: أعطوني مالاً، أعطوني خيلاً، أعطوني كذا، آذيتنا دائماً- فقال: يا أمير المؤمنين! والله لا أسألك إلا حاجة سهلة، قال: ما هي؟ قال: أعطني كلباً للصيد، قال: أعطوه كلباً، قال: وأعطني خادماً، إذا صاد الكلب الصيد يمسك الصيد، قال: أعطوه خادماً قال: وفرساً أحمل عليه الصيد، قال: أعطوه فرساً، قال: وداراً أطبخ فيها الصيد!!

    1.   

    بنو إسرائيل في القرآن والسنة

    حديث درسنا من الإسرائيليات عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا قال: (كان فيمن كان قبلكم) فالغالب أنه من بني إسرائيل، لما قال صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم، أو سُنَنَ من كان قبلكم حذو القذة بالقذة... الحديث، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال فمن وفي رواية صحيحة: ومَن الناسُ إلاَّ هم) فكان الغالب في حديثه صلى الله عليه وسلم إذا قال: (كان فيمن كان قبلكم) أن يعني به بني إسرائيل.

    أسباب كثرة الحديث عن بني إسرائيل

    وبنو إسرائيل أخذوا قطاعاً كبيراً في القرآن والسنة، وأنت تقرأ سورة البقرة يتكرر فيها: يا بني إسرائيل، يا بني إسرائيل، يا بني إسرائيل، لماذا؟ لثلاثة أسباب:

    أولها: لكثرة بني إسرائيل؛ فإنهم الأمة الثانية في الترتيب في العدد بعد أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

    الثاني: لأن موسى نبي الدعوة والرسالة، عاش صراعاً عالمياً مع فرعون.

    ثالثاً: أنهم أهل مخالفه، وأهل لعنة، وأهل إعراض وبُعد؛ فكأن القائل يقول:

    إياكِ أعني واسمعي يا جاره!!

    ومصائب قوم عند قوم فوائد!!

    موقفنا من الإسرائيليات

    موقفنا من الإسرائيليات نحن -المسلمين- تُقسَّم الإسرائيليات عندنا إلى ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: ما كان في كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فهذا تحصيل حاصل، مثل: الأمر بتقوى الله، كتحليل الحلال وتحريم الحرام.

    القسم الثاني: ما يخالف كتابنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فهذا نضرب به عُرض الحائط، ونرده رداً تاماً، ولا نقبل منه ولو ذرة.

    القسم الثالث: ما لا يخالف ولا يوافق، إنما هو أعاجيب وقصص وأخبار.

    بهذا نحدث عن بني إسرائيل، ونذكرها للعبرة بين يدي الناس؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: {حدثوا عن بني إسرائيل ولاحرج} حديث صحيح، وقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم} ومعنى ذلك: ما لم يخالف كتاب ربنا أو سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن وافق قبلناه، وإن خالف رددناه، وإن لم يكن مخالفاً ولا موافقاً روينا وسكتنا، كأن نحدث أن فيهم قوماً ذهبوا في الدهر، وأنهم هلكوا، أو أن فيهم رجلاً صالحاً تعبَّد في جزيرة من الجزر، وأن فيهم قوماً استقاموا على منهج الله، وأن فيهم قوماً فسقوا فأهلكهم الله، هذه عبر، فنحدث ولا حرج.. هذا موقفنا من الإسرائيليات.

    و ابن كثير ذكر موقف أهل العلم من الإسرائيليات في أول تفسيره؛ ولكنه رحمه الله رحمة واسعة نسي هذا المنهج لَمَّا بدأ في التفسير، فأورد كثيراً من الإسرائيليات، ويعذره جلالته في الإسلام، وحسن نيته رحمه الله، ولكن يُتَنَبَّه لذلك، واعلموا أن أحسن تفسير على الدنيا وعلى وجه الأرض الآن هو: تفسير ابن كثير، يقول الشوكاني في البدر الطالع: ما على وجه الأرض أحسن من تفسير ابن كثير وقال السيوطي: لا أعلم في التفاسير أحسن منه فكيف بمثله.

    ونبهت على هذا لأنها قد تصادفكم أو صادفتكم كثيراً في تفسير ابن كثير الذي نهج نهجاً سديداً، وقعَّد قواعد في أول التفسير، لكنه نسي كثيراً من هذه القواعد لما كتب.

    1.   

    ضرورة الالتجاء إلى الله

    الحديث: يقول عليه الصلاة والسلام، وهو يقص علينا: انطلق ثلاثة نفر النفر: يطلق على المجموعة وعلى الأفراد، والثلاثة فما أكثر يسمى: نفر، وقوله صلى الله عليه وسلم: من بني إسرائيل، حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه... الغار: الكهف، قال تعالى: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً [الكهف:16] ولذلك يقولون: الأحبة في الغار أحسن من المتباغضين في الأقطار، أي: في أوسع حال، ولذلك قيل: (سَمُّ الخياط مع الأحباب ميدان) لو دخلت أنت والحبيب في سَمِّ الخياط لَوَسِعَكما، ولو دخلت مع البغيض في الأرض لضاقت بكما، إنما الضيق ضيق القلوب، والشاهد: دخول هؤلاء الغار، وقوله: فانحدرت صخرة من الجبل -في روايات في غير الصحيح: فأمطرت السماء، فالتجئوا إلى الغار- فانحدرت عليهم صخرة فسدت عليهم الغار.

    الضوائق تلجئُ المرءَ إلى الله

    أصبحوا في ضائقة، واشتدت عليهم الأزمات، العبدُ قد يشرك في السعة، وقد يكفر؛ لكن إذا ضاقت عليه الضوائق لا يلتجئ إلا إلى الله.

    يا واهب الآمال أنـ     ـت منعتني وحميتني

    وعدى الظلوم علي     كي يجتاحني فنصرتني

    فانقاد لي متخشعاً      لما رآك نصرتني

    يقول حصين بن عبيد لما أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد سأله الرسول صلى الله عليه وسلم: {كم تعبد؟ قال: سبعة، قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: مَنْ لِرَغَبِكَ ولِرَهَبِكَ؟ -أي: لشدة الضوائق والشدائد- قال: الذي في السماء، قال: فاترك التي في الأرض واعبد الذي في السماء}.

    قال ابن قتيبة: أجمع العقلاء على أن جميع البشر إذا اشتدت بهم الضوائق التجئوا إلى الله، حتى الكافر الملحد، وتجدون هذا في كتب الملحدين الذين أسلموا وكانوا على هذا النهج، مثل كتاب: رأيتُ الله، للملحد الذي أسلم، ومثل كتاب: أين الله؟، ومثل كثير من الكتب، بل القواعد التي ذكرها دايل كارنيجي في كتاب دع القلق وابدأ الحياة، لا يتعرفون على الله إلا في الضوائق، وإذا دخلوا البحر وضاقت بهم الضائقة واضطربت السفينة من تلاطم الأمواج، وأتى الموت من كل مكان، وازدحمت عليهم الأهوال، وضاقت بهم الدنيا، فيتذكرون الأطفال والأزواج والأموال، فيلتجئون إلى الله، قال الله: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65] ولذلك أمرنا الله أن نلتجئ إليه في وقت الضوائق؛ فإنه هو الذي ينجي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو الذي يقول وقت ازدحام المعركة وتلاقي السيوف والرماح: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].

    يقول ابن القيم: سُئِلَ ابن تيمية عن هذا: كيف يُذَكِّرُنا الله وقت الأزمة بذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى والقلوب مشغولة بالحرب والقتل؟ قال ابن تيمية: إن العرب تعودوا على أن المحبين لا يذكرون محبيهم إلا في الأزمات، فأراد الله أن يذكرهم بمحبوبهم هذا.

    ولذلك يقول عنترة وهو في المعركة والسيف على رأسه والرمح على رقبته؛ يقول لمحبوبته:

    ولقد ذكرتك والرماح نواهل      مني وبيض الهند تقطر من دمي

    فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم

    فأراد الله أن يردهم إليه في هذه الأزمة.

    قال: {... فدخلوا في الغار فانطبقت عليهم الصخرة فسدت عليهم الغار...}:

    الآن ضاقت بهم الضوائق، فلا خبر ولا اتصال، ولا يوجد من ينجدهم، ولو كانوا في قرية لصاحوا حتى يسمعهم الناس؛ فقالوا: الآن أتى الصدق وذهب الكذب فقالوا: {... لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم...}.

    الالتجاء ينفع مَن عرف الله في الرخاء

    والإنسان إذا ضاقت عليه الضوائق يراجع حسابه مع الله عز وجل؛ فهذا يونس بن متى عليه السلام ذهب مغاضباً، يقول الله عز وجل: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87] فإنه لما ركب في السفينة اسْتَهَمَ معه أهل السفينة؛ وذلك حين تغير مسارها، وهبت عليهم الريح، وقال قائد السفينة: إن معنا رجلاً مشئوماً أتى بمعصية، ولا يمكن أن تنجو السفينة وهو فيها، حتى قواد السفن يعرفون أنه لا تتعكر مسيرتهم إلا بالذنوب.

    كم نطلب الله في ضر يحل بنا     فإن تولت بلايانا نسيناه

    ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا     فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه

    ونركب الجو في أمن وفي دعة     فما سقطنا لأن الحافظ الله

    فاستَهَمُوا على أن من تأتي عليه القرعة رمي به في البحر وسط الليل.. يونس عليه السلام نبي من الأنبياء، أرسله الله إلى مائة ألف أو يزيدون، ركب معهم فاستَهَمُوا فوقعت فيه القرعة، قالوا: قد تكون خطأ، أعيدوا مرة ثانية، فأعادوا فوقعت فيه، فأعادوا فوقعت فيه ثالثة، فأخذوا بثيابه وشحمه ولحمه ودمه وعصبه وألقوه في البحر.

    انظر إلى هذه الرفقة والصحبة ما أحسنها! لا حبال، ولا أخ، ولا اتصال، ولا وصية، ولا شيء، فوقع وسط البحر، وسط الليل، وليته حين رُمي كان قريباً من الشاطئ حتى يسبح، أو في النهار حتى تراه سفينة أخرى أو قارب، ولكن في انقطاع لا يعلمه إلا الله، ولما وقع تلقته بحفظ الله ورعايته سمكة فابتلعته في ظلمة البحر وفي ظلمة الليل وفي ظلمة بطن الحوت، فإلى من يلتجئ؟ إلى الإخوان والأقارب والعشيرة؟ لا. إنما يلجأ إلى الله، فأول ما وقع قال: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].

    وقد ورد في أثر إسرائيلي قالوا: فسمعت الملائكة قوله: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] فبكت، وقالت: يا رب! صوت معروف من عبد معروف. قال: ما عليكم، هذا عبدي كان يسبحني في الرخاء، وعزتي وجلالي لأنجينه.

    ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144] أي: رصيده طيب، أعماله في الرخاء طيبة معنا، كان معنا في السعة ووقت السرور والحبور مطيعاً لله عز وجل، لكن بعض العصاة لا يذكر الله عز وجل إلا في الأزمات، إذا أتاه حادث سيارة أو أحس أن الطائرة سوف تتحطم في الجو قال: لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين.

    لكن إذا نزل الأرض لعب بالوَتَر، وبالكأس، ومارس المجون والخلاعة، يسمع الأذان وكأن بينه وبينه ألفَ رامٍ، ولا يلقي للإسلام ولا للدين ولا للصالحين ولا للقرآن بالاً، لكن إذا رأى الشدة رجع إلى الله عز وجل، وهذا مثله مثل فرعون؛ أفجر فاجر، وأطغى طاغية، وأحمق إنسان على وجه الأرض، ادعى الألوهية، استحيا كثير من الملاحدة أن يدعوا الألوهية إلا هو، قال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] يقول ابن الجوزي: اغتر فرعون بنهر ما أجراه. ما أجرأه! يقول: اغتر لما رأى النهر، والمعنى: أنه ما أجرى النهر، وما أجرأه على الله عز وجل! ولذلك لما وقع في الهلاك قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ [يونس:90] انظر إلى هذا المؤمن، لطخ صحائفه السوداء وألحد في دين الله ثم آمن بالله، قال الله عز وجل: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91].

    إذاً: هؤلاء كان لهم أعمال صالحة، لم يقولوا لَمَّا دخلوا الغار وانطبقت عليهم الصخرة كلٌّ منكم يحدث ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بمواصفاته في الحياة، فيأتي الأول فيقول: اللهم إني فلان بن فلان وابن فلانة بنت فلان، ومن آل فلان أهل الكرم والجود، وأهل الشجاعة والمجد والشَّيَم، الذين شاركوا في المعارك، وتولوا المناصب، ولم يأتِ الآخر فيقول: إني ابن الغني صاحب رأس المال الفلاني، صاحب السيارات، والعقارات، والدور، وقلة الحياء، لا. بل أتوا إلى الأعمال الصالحة، سواء أكانوا أحراراً أم عبيداً، سواء أكانوا سوداً أو حمراً أو بيضاً؛ لأن الألوان عند الله ليست مقياساً، ومعمل ألوانه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يوم القيامة: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

    بلال سيد من السادات، قصره كالربابة البيضاء، يمشي في الجو، في سماء الجنة، وأبو طالب وأبو لهب في نار تلظى لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى [الليل:15] هذا ميزان الله عز وجل.

    قال: {... فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم...}:

    ولم يقولوا: بأعمالكم؛ لأن فيها خيراً وشراً، ولكن ادعوا الله بصالح الأعمال.

    صدق اللجوء وحرارة الدعاء

    المسألة الثانية: وقبل ذلك صدق اللجوء إلى الله، إذا ضاقت بك الضوائق فاصدق مع الله عز وجل، وقد ذكر أهل العلم قصصاً عجيبة لمن صدق اللجأ إلى الله في وقت الأزمات، والقصص في ذلك معروفة مشهورة، ذكر ابن القيم شيئاً منها في الجواب الكافي.

    فلا بد من اللجوء إلى الله عز وجل بالدعاء بحرارة، ومن ذلك: قال علي بن أبي طالب: ما من أحدٍ ليلة بدر إلا نائم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي ويبكي ويدعو، ويوم اصطف الجمعان والتحم الفريقان؛ وقف عليه الصلاة والسلام بصدق اللجأ إلى الله الحي القيوم يدعو حتى سقطت بردته من على منكبيه، فأخذها أبو بكر وأعادها عليه، وقال: هون مناشدتك ربك يا رسول الله، إن الله منجز لك ما وعد، والرسول صلى الله عليه وسلم أعلم بربه، ويعلم أنه لا يأتي النصر ولا الكرامة ولا الفتح إلا بصدق اللجأ، فكان يقول: يا رب! إن تُهلِك هذه العصابة فلن تُعبَد بعد اليوم، حتى نصره الله.

    وفي الغار يوم دخل مع أبي بكر كان صادقاً في اللجوء إلى الله فنجاه الله، كان الكافر يأتي فيطلع على سطح الغار حتى يقول أبو بكر: {يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا، فيتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: ما ظنك باثنين الله ثالثهما} ويأتون جماعات وأسراباً يريدون دخول فم الغار فيجدون بيت العنكبوت وعش الحمامة على فم الغار، فيقولون: ما دخلوا هنا..!

    ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على     خير البرية لم تنسج ولم تَحُم

    عناية الله أغنت عن مضاعفة     من الدروع وعن عالٍ من الأطَم

    1.   

    أنواع التوسل وحكمها

    المسألة الثالثة: التوسل بالأعمال، يقولون: تعالوا ندعوا الله بصالح أعمالنا، فهل لك أن تدعو الله بصالح عملك؟ وهل لك أن تتوسل بأمور أخرى هي من الصلاح؛ كأن تقول: اللهم إني أتوسل إليك بهذا المصحف، أو تأتي إلى كتاب فتح الباري وتقول: اللهم إني أتوسل إليك بكتاب فتح الباري لـابن حجر العسقلاني، أو بـرياض الصالحين، أو بهذا المسجد، فتقول: اللهم إني أتوسل إليك بمسجد أبي بكر الصديق الذي صلى فيه المسلمون وذكرك فيه الذاكرون فاغفر لي، أو تقول: أتوسل إليك بالرسول عليه الصلاة والسلام فاغفر لي، أو بـالمدينة أو بـمكة، أو بـقبرص.. هل يجوز هذا أم لا؟ وهل يجوز لك أن تأتي وتقول: اللهم إني أتوسل إليك أني أذكرك وأسبحك وأصوم لك، وأتوسل إليك بطاعتي، واتباعي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم؟ هذه فيها تفصيل سيأتي.

    التوسل بالأعمال الصالحة

    أما التوسل بصالح العمل فعليه كبار الأئمة من المحدثين والمحققين، وعلى رأسهم العلم الكبير شيخ الإسلام ابن تيمية، فلك أن تتوسل بصالح العمل، وهو من الذي تؤجر عليه، فلك أن تقول: اللهم إنك تعلم أني فعلت كذا يوم كذا لمرضاتك، اللهم إنك تعلم أني صليت في الليلة الفلانية من ذاك التاريخ ركعتين من جوف الليل لا أريد إلا وجهك فاغفرلي ذنوبي، هذا بصالح العمل فتوسل، وعليه حديث: {اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةًَ، خرجت اجتناب سخطك وابتغاء مرضاتك فاغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} ولكنه ضعيف في سنده عطية بن سعيد العوفي، وابن تيمية ضعفه، ولكنه شرحه على فرض صحته فقال: هذا التوسل بصالح العمل، فأنت تتوسل بحق السائلين؛ فإن للسائلين على الله حقاً إن شاء تَرَكَهم وإن شاء أعطاهم.

    التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

    أما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو على قسمين:

    الأول: التوسل باتباعه وهو صحيح، لك أن تقول: اللهم إنك تعلم أني أعمل بسنة نبيك عليه الصلاة والسلام فاغفر لي.

    الثاني: التوسل بذاته، وهو لا يجوز، لا تأتي إلى قبره وتقول: اللهم إني أتوسل إليك بالنبي فاغفر لي، أو أتوسل إليك به أن تغيثنا أو تمطرنا هذا اليوم؛ فهذا لم يفعله الصحابة، وهو أمر محدث وشُعبة من الشرك لا يجوز.

    وقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قحط الناس في عهده، والرسول صلى الله عليه وسلم مدفون عندهم في الروضة فما توسل به، فلو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام جائز لأتى عمر إلى قبره صلى الله عليه وسلم، لكن أتى بـالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: [[اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك برسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: في حياته- يدعوه صلى الله عليه وسلم فيغيثهم- وقد مات، اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبينا العباس فاسقنا يا رب، فدعا العباس فسقاهم الله]] فهذا هو الصحيح.

    التوسل بذات الشيء

    أما التوسل بشيء لذات الشيء فلا يجوز هذا، وهو من باب الشرك، كما قال الله عن الكفار: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] وهذا منهج الشرك، فإنهم ما عبدوا الأصنام لذاتها، ولكن قالوا: يقربوننا إلى الله زلفى، فنتوسل بهم إلى الله ليرفعوا حوائجنا إليه، وليكونوا واسطة بيننا وبين الله، وهذا هو الشرك بعينه.. فالتوسل بالأعمال الصالحة يجوز، أما بغير ذلك من الذوات فلا يجوز ولو بذات الرسول صلى الله عليه وسلم.

    وبعض الناس يبلغ من ولاية الله عز وجل أن يقسم على الله قسماً فيبر الله قسمه، يقول عليه الصلاة والسلام: {إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره} ويقول: {رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره منهم البراء ابن مالك} حتى كان يقسم على الله فيبر الله قسمه، لما التقى المسلمون في تستر مع الكفار، وكان القائد أبو موسى، قالوا: [[يا براء نسألك بالله أن تقسم على ربك أن ينصرنا هذا اليوم، فاغتسل وتحنط وتكفن وأخذ سيفه وقال: يا رب أقسم عليك أن تنصرنا هذا اليوم وأن تجعلني أول شهيد]] فكان أول شهيد وانتصر الجيش. فهذا بلغ في الولاية أن يقسم على ربه فيبر الله عز وجل قسمه.

    1.   

    حديث الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة

    بر الوالدين في حديث أصحاب الغار

    قال صلى الله عليه وسلم: {... فإنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منـهم -وهو الأول-: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران...}:

    الشيخان معروف أنهما كبيران لكن من باب التأكيد، أو من باب عطف المترادفات في الكلام، وإلا فكل شيخ كبير، والمشهور عندنا أن الشيخ شيخ العلم، لكن المشهور في لغة العرب أنه الكبير في السن، قال الشاعر:

    زعمتني شيخاً ولست بشيخ     إنما الشيخ من يدب دبيبا

    فالشاعر: ينفي التهمة عن نفسه، والمعنى أن زوجته تقول إنه شيخ وهو لا يريد أن يكون شيخاً، لأن العرب يجدون في الشيبوبة عند النساء وصمة ولذلك يقول:

    عيَّرَتْنِي بالشيب وهو وقار      وليتها عيرت بما هو عار

    وفي القرآن: وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23] وكأن إيراد كلمة (كبيران) هنا لفائدة؛ لأنه لو قال شيخ وسكت لتُوُهِّم أنه شيخ نسبي إضافي، أي دخل في الشيخوخة، وليس كبيراً في السن. قال {... كان لي أبوان شيخان كبيران...}:

    أي: كنت أعلم أنهما في الشيخوخة وأنهما لم يكونا صغيرين؛ لأن بعض الأبناء يبر والديه خوفاً منهما لا خوفاً من الله، ولا لطلب الحسنات؛ فهذا يقول: أنا ما خفت من والديَّ، فهما شيخان كبيران لا يستطيعان أن يضرباني أو يعضاني أو يمسكاني ويضرباني.

    وقوله: {... وكنت لا أغبق...}:

    الغبوق هو: شرب اللبن، آخر النهار، والصبوح شربه بعد الفجر.

    وأما قول الشاعر:

    ألا هبي بصحنك فاصبحينا      ولا تبقي خمور الأندلينا

    فاصبحينا معناه: أعطينا الخمر، ولكن هنا في اللبن وشرب آخر النهار منه يسمى غبوقاً.

    قال: {... اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً...}:

    أي: أنت تعلم أني كنت آتي باللبن في آخر النهار فما أقدم على والديَّ أحداً من أهلي ولا مالي، والمقصود في الحديث بالمال: الرقيق، ويدخل فيها حتى من يشرب اللبن ممن يقبل شرب اللبن، ولكن المقصود هنا الرقيق.

    قال: {... فنأى بي طلب الشجر...}

    يعني: كنت أرعى الغنم، وأبحث عن الشجر للغنم حتى تأخرت عن العودة في المساء.

    قال: {... فلم أُرِِحْ...}:

    ويجوز أن تقول: أَرُحْ، والرواح في آخر النهار، والغدو في أول النهار، ويجوز أن يكون في أول النهار، يقول عليه الصلاة والسلام: {من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح} فالغدو معناه: الذهاب إلى الشيء، والرواح: الرجـوع من الشيء، وقال تعالى: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل:6] لكن الرواح هنا المقصود به: آخر النهار، ومن هنا فإن الإمام مالكاً يرى أن ساعات الذهاب إلى الجمعة تبدأ من بعد الزوال، وفي المسألة خلاف، فغيره من أهل العلم قالوا: لا، قد يطلق الرواح على الذهاب والغدو إلى الشيء.

    قال: {... فلم أَرُحْ عليهما حتى ناما...}.

    رجع بإبله فحلب فأتى بالإناء فوجد الشيخين الكبيرين (الوالدين) نائمين -وانظر إلى اللطافة- ما أيقظهما لأنه خاف أن يعكر عليهما النوم، وليس بعد هذا البر من بر، ولا بعد هذا الإحسان من إحسان، وهذا ما فعله كثير من الصحابة وكثير من السلف؛ كان الواحد منهم يأخذ الماء لوالده فيقف حتى يستيقظ والده، وكان بعضهم يحمي الماء لوالده في شدة الشتاء فإذا استيقظ الوالد قدم له الإناء ليتوضأ، هذا هو البر.

    قال: {... فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما، حتى برق الفجر والصبية يتضاغَون عند قدمي} أطفاله يتضاغون عند قدمه من الجوع، ويتلمظون من الحسرة والضنى فما أشربهما وما أيقظ والديه { فاستيقظا فشربا غبوقهما؛ اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك...}:

    هذا هو الشاهد، أي: إن كان إخلاصاً لا رياءً ولا سمعة، فإن بعض الناس يفعل بعض البر رياء وسمعة، يأتي والمجلس مجتمع والناس حضور؛ فيأتي يصب القهوة فيبدأ بأبيه فيقول الناس: ما شاء الله ما أبره بأبيه! أو يدخل المجلس أمام الناس فيبدأ بأبيه فيقبل يديه ورأسه، ولكن إذا خرجوا أعطى والديه يديه، فهو أمام الناس بار وفي الخفاء من أجفى الجفاة.

    قال: {... ابتغاء وجهك} أي: لا لطلب السمعة ولا الرياء {ففرِّج عنا ما نحن فيه} أي: من الصخرة؛ فانفرجت شيئاً -أي: قدر الثلث وبقي ثلثان- فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه.

    تصور المشهد حين ينتهي من الدعاء فتتحرك الصخرة قليلاً؛ كيف تكون مشاعرهم وقلوبهم يوم اتصلت بالواحد الأحد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وبدأ الإخلاص معهم! وهذا من كرامات الأولياء التي سوف أذكرها.

    مراقبة الله في السر

    تقدم الثاني وقال: اللهم إنه كان لي ابنة عم...

    ذكر من حسنها وجمالها وأنه راودها عن نفسها فأبت وامتنعت بحفظ الله ورعايته، وهذا من علامات الصلاح، لكن تغيرت حالها وعضَّها الفقر، والفقر قد يودي ببعض العباد إلى الفاحشة والعياذ بالله، ولذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم: {اللهم إني أعوذ بك من غنىً يطغي ومن فقرٍ ينسي} والغنى يطغي كثيراً من الناس، قال تعالى: كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] بعض الناس إذا استغنى طغى وبغى حتى ما كأنه بالإنسان الذي كان يجلس على التراب ولا يجد كسرة الخبز، فقد صار لا ينظر إلى الناس ولا يرد السلام، ولا يصافح، وإذا جلس تكلم بكلام الجبابرة، كأنه من نسل فرعون وقارون وهامان؛ لأن عنده شيئاً من المال، والعقارات، والسيارات؛ فيطغى.

    وبعض الناس تصل به درجة الفقر إلى أن ينسى الله عز وجل، وبعض الإلحاد في بعض الناس سَبَبُه الفقر، ولذلك تعوذ النبي بالله من الغنى المطغي ومن الفقر المنسي.

    وبعض الناس يفهم أن معنى الاستقامة أن تكون فقيراً ممزق الثياب، ولا تجد كسرة خبز، هذا قد يوصل بعض الناس إلى الإلحاد، ومن ذلك: ابن الراوندي، خبيث معثَّر، من الفلاسفة المحسوبين على الإسلام، كان فقيراً لا يجد كسرة الخبز، يقولون: بحث عن كسرة خبز فأخذ يأكلها على نهر دجلة، فمر أحد الخدم معه من الأموال ما لا يعلمه إلا الله، فرأى الخادم معه الأموال من الإبل والخيول والبقر والعبيد فنظر إلى السماء وقال: هذه قسمة ضيزى، ثم أخذ الكسرة وضرب بها نهر دجلة وقال: أنا ابن الراوندي من أذكياء الدنيا، وهذا الخادم تعطيه ولا تعطيني! يقول الذهبي لما ترجم له: الكلب المعثَّر يعترض على رب العزة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في قضائه بسبب الفقر. والإلحاد مرض ينخر في جسمه، ولذلك دخل الإلحاد في الأمم الفقيرة، وماركس ولينين وهرتزل أهل الإلحاد ومؤسسو دول العناد والفجور والطاغوت أول ما أتوا إلى الأمم الفقيرة، دخلوا إلى الفقراء بالغنى مع الإلحاد، وكان مركبهم مركب الاقتصاد، وأفريقيا الآن بهذا الأسلوب، النصارى لا يبشرون -ينصرون- إلا بالمال، والأمم الشيوعية الكافرة لا يدخلون إلا بهذا، وقد دخلوا في أمم وشعوب تعرفونها أنتم بسبب الفقر، ولذلك فإن من دعاياتهم: هل تريد إيصال الغاز إلى بيتك؟ هل تريد مد الأنابيب للماء؟ هل تريد الراحة المريحة؟ هل تريد إدخال الثلاجة، والسخانة، والسيارة وكذا؟ لافتاتهم هكذا، ولما دخلوا إلى الشعوب امتصوا خيراتها.

    فالشاهد: أن الكفار ركبوا مركب الاقتصاد، فلما انتهى دخلوا بمركب الحداثة، والحداثيون وما أدراك ما الحداثيون! يأتي أحدهم بطلاسم ويقول: نلغي كل قديم، ومعناه إلغاء الكتاب والسنة، وهذا له كلام طويل وقد سمعتم ما فيه الكفاية وقرأتم عنه كذلك.

    قال:... فلما عضتها السنة...

    أي: الفقر، أتى بمائة وعشرين ديناراً فوضعها بين يديها، فمكنته من نفسها، فلما تمكن ذكر موعود الله ولقاءه والعرض بين يديه.

    يوسف عليه السلام ومراقبته لله

    وهذا كموقف يوسف عليه السلام، يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: تأملت كيف رفع الله يوسف! وذلك بأمور:

    الأمر الأول: أنه كان شاباً، والشاب صاحب جموح وطموح في الشهوة.

    الأمر الثاني: أنه كان غريباً، والغريب لا يخشى من العار كثيراً؛ لأنه ليس صاحب بلد، سافر إلى مصر ولا يعرفه أحد في مصر، ومن يدري أنه ابن يعقوب، وأنه زنى؟!

    الأمر الثالث: أنه في بيت ملكة، والملكة تستطيع -لو حُكِمَ عليه- أن تقول: لا. هذا المرسوم خطأ مرفوض لا يمكن أن يجري عليه شيء، هذا رجل طاهر أطهر من حمام الحرم ومن ماء الغمام.

    الأمر الرابع: أنها جميلة، فما عرضت نفسها لأنها متبذلة أو أن وجهها مثل قفاها، لا. بل لأنها جميلة.

    الأمر الخامس: أنها هي التي تزينت ودعته إلى ذلك.

    وذكر ذلك ابن تيمية وابن القيم في مدارج السالكين وقال: رفع الله يوسف بهذه الأمور الكثيرة، فلما وقع في هذا المأزق ذكر عظمة الله، يقول الله عز وجل وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24] بعض المفسرين يقولون: هَمَّ أن يتركها، ولكن هذا خلاف ما في السير وخلاف ما يفهم من الآية، يقول الله وجل وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [يوسف:24] فلو هَمَّ أن يتركها لَمَا ذكر الله عز وجل هذا الهم؛ لكنه أراد وخاطرته النية فذكر موعود الله، كما قال الله: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24] وبرهان ربه، قيل: إنه رأى يعقوب عليه السلام عاضاً بإصبعه، وقيل: رأى جبريل لـه ستمائة جناح، وقالوا: رأى الجنة ورأى النار، ولكن الصحيح: أنه واعظ الله في قلب كل مؤمن، بقية إشعاع الإيمان وقوته تحركت في قلبه، وهو برهان ربه، فانتهى فرفع الله مكانه، وأغدق عليه من الثناء، وملَّكه الدنيا.

    الخوف والمراقبة عند مسلم بن يسار

    ذكر صاحب حلية الأولياء في ترجمة مسلم بن يسار: أنه خرج إلى مكة حاجاً أو معتمراً، وكان من أجمل الناس، ولكنه كان من أولياء الله ومن العباد والأخيار، فعرضت لـه فتاة في طريق مكة إلى المدينة من أجمل النساء، ودعته إلى نفسها، ففر منها إلى واد آخر، ولحقه رفيقه وصاحبه وأتاه فإذا هو يبكي، قال: [[ما لك؟ قال: أصبت بمصيبة، فسأله بالله أن يخبره، فقال: دعتني امرأة اليوم إلى نفسي فأبيت، قال: آجرك الله، قدوتك يوسف عليه السلام، وهينئاً لك أنك امتنعت، فلما حج وطاف ثم صلى عند المقام ركعتين ثم أخذت به عينه فنام، فرأى يوسف عليه السلام يطوف فقال: من أنت؟ قال: أنا يوسف الذي هَمَمْتُ وأنت مسلم بن يسار الذي لم تَهم]] هذه من القصص التي وردت عن الصالحين والأخيار، وإلا فمقام يوسف أعلى وأشرف وأعظم وأجل، إلى غير ذلك ممن يحفظ الله في الخلوة، ولذلك أكبر الحظوظ مع الله عز وجل أن تحفظه في الخفاء سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك يقول أبو نواس فيما ينسب إليه:

    إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل      خلوت ولكن قل علي رقيب

    ولا تحسبن الله يغفل ساعة     ولا أن ما يخفى عليه يغيب

    والأندلسي يوصي ابنه ويقول:

    وإذا هممت بريبة في ظلمة     والنفس داعية إلى الطغيان

    فاستحي من نظر الإله وقل لها     إن الذي خلق الظلام يراني

    فلما هم وأراد أن يباشر الفاحشة ذكر موعود الله فكف وقال:... اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة -أي: ثلثاً آخر، على قدر الدعاء؛ لكن ما استطاعوا أن يخرجوا - غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها....

    تثمير الأجر

    وتقدم الثالث فقال: اللهم إني استأجرت أُجَراء...

    كان عنده خدم وعبيد يشتغلون عنده، فأعطاهم حسابهم إلا أحدهم ما أخذ الحساب، لا أدري ما الذي أغضبه! فذهب مغاضباً، فأخذ أجرته فثمَّرها، واشترى بها إبلاً وغنماً وبقراً ورقيقاً فأصبحت أموالاً عظيمة، وبعد فترة عاد هذا الخادم وقال: أعطني أجرتي، قال: خذ هذه الإبل، وهذه البقر، وهذه الغنم، وهذا الرقيق، فقال: أتستهزئ بي؟! يعني أجرة أيام بسيطة تصبح هذه الأموال كلها؟! قال: والله لا أستهزئ بك، وانظر من لؤم الخادم هذا أنه ساقها جميعاً وما ترك له شيئاً منها وذهب.

    قال:... اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك -والشاهد: (ابتغاء) الإخلاص- ففرِّج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون.

    1.   

    مسائل مستفادة من حديث الثلاثة

    فضل بر الوالدين

    إن من أحسن ما يُتَوَسَّل به إلى الله عز وجل بر الوالدين، والله ذكر في كتابه حقه وحق الوالدين: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23] طاف رجل بأمه، وقد أصابه من الجهد والتعب ما الله به عليم، فرآه ابن عمر، فقال: [[يا ابن عمر، أترى أني وفيتها حقها؟ قال: لا والله، ولا بزفرة من زفراتها]].

    وذكر الزمخشري صاحب الكشاف ينسبه إلى الطبراني: {أن رجلاً أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يبكي فقال: ما لك؟ قال: ظلمني ابني يا رسول الله، ربيته وأشفقت عليه، فلما كبر تغمط حقي وظلمني وبسر في وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام: هل قلت في ذلك شعراً؟ قال: نعم، قال: ماذا قلت؟ قال: قلت:

    غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً     تعل بما أجري عليك وتنهل

    إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت     لسقمك إلا شاكياً أتململ

    كأني أنا الملدوغ دونك بالذي     لدغت به دوني فعيناي تهمل

    فلما بلغت السن والغاية التي     إليها مدى ما فيك كنت أؤمل

    جعلت جزائي غلظة وفظاظة     كأنك أنت المنعم المتفضل

    -معنى القصيدة: إذا كنت مريضاً فكأن الذي أصابك أصابني، وهذا مجرب، فالوالد والوالدة إذا مرض الطفل لا ينامان، وكأن المرض فيهما، يبيت الواحد منهم مهموماً، فهل هذا جزاء ما كان؟- فبكى عليه الصلاة والسلام وأتى بالابن وحاكمه وقال لـه: أنت ومالك لأبيك}.

    وبر الوالـدين من أحسن ما يتقرب بـه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] بعض السذج يقول: ما ذكر الله الضرب وإنما ذكر (أف) فلا نقول: (أف).

    هل يجوز أن تضرب أباك لأنه ما ذكر الله الضرب في القرآن؟! هذا يردده بعض المتفقهة يردون به على أهل الظاهر، يقولون: لأن ابن حزم ينفي القياس، فمعناه أن غير التأفف من ضرب ونحوه لا يحرم عنده ولا يدخل في النهي، وابن حزم من هذا بريء حماه الله وكفاه.

    فضل العفة ومخالفة الهوى

    تطبيق الدين أن تخالف هواك، سئل الإمام أحمد: ما هي المروءة؟ قال: ترك ما ترجو لما تخشى. وما بلغ الله الصادقين منازلهم إلا بمخالفة الهوى؛ موسى عليه السلام لما سقى للجاريتين (بنتي الرجل الصالح) كان فيه حياء، والدليل على حيائه ما حكاه الله عن البنت إذ قالت: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص:26] القوة رأته رفع الصخرة، التي لا يرفعها إلا عشرة، والأمين ما نظر إليها، وقد ذكر أهل التفسير أنه مشى أمامها وقال: دليني على البيت برمي الحصى، فبلَّغه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى تلك المنزلة العظيمة بهذه الأعمال الصالحة، فلعل الله نظر إلى قلوب العباد في عصر موسى فوجد قلب موسى من أحسن القلوب فاختاره للرسالة.

    وذكر صاحب طبقات الحنابلة قال: وقعت لـابن عقيل، وقيل: لغيره، والصحيح لغيره، قال هذا الرجل الصالح: حججت مرة من المرات فلما طفت وسعيت وقضيت حجي بحثت عن مال لي فلم أجد درهماً ولا ديناراً، وذهبت أبحث عمن يقرضني مالاً فما وجدت، قال: فذهبت على وجهي في جوع لا يعلمه إلا الله، وبينما أنا في سكك مكة أنزل سكة وأصعد سكة أخرى، وأنزل مكاناً وأصعد مكاناً، قال: فمكثت في ناحية الطريق وإذا أنا بعِقد من مرجان -والدرة الواحدة منه تعادل آلاف الدنانير- فأخذته معي، قال: فلما وضعته في كمي وأنا فرح به سمعت وأنا داخل الحرم قائلاً يقول: من وجد العقد وله كذا وكذا، وعند ابن رجب: من وجد العقد فليدفعه لي، قال: فأتيت إلى الرجل فقلت: ما وصف عقدك؟ فوصف لي العقد والخيط الذي فيه، وعدد الدرر التي فيه، قال: فأخذته فدفعته إليه، فوالله ما ناولني درهماً ولا ديناراً، قلت: اللهم إني دفعتها ابتغاء وجهك فاجعلها لمرضاتك يا رب العالمين، قال: فأخذها وذهب لا أدري أين ذهب، فلبثت بعد الحج أياماً بسيطة، ثم سافرت فركبت البحر، فلما ركبت البحر انكسر بنا القارب الذي نحن فيه، فغرق أصحابي كلهم جميعاً وماتوا إلا أنا، أخذتني خشبة، قال: فركبت الخشبة ثلاثة أيام بلياليها بين الحياة والموت في البحر، قال: وأنا أسبِّح الله وأدعوه أن ينجيني، فدفعتني الخشبة إلى جزيرة؛ فنزلت في هذه الجزيرة، فدخلت مسجداً فوجدت فيه مصحفاً، فنظرت فيه أقرأ فدخل علي أهل المسجد فقالوا: تقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قالوا: تقرئنا بالأجرة؟ قلت: أقرئكم، فدفعوا لي أجرة فأقرأتهم، قال: ورأيت صحيفة فكتبت فيها، قالوا: وتخط أيضاً؟ قال: وأخط -هذه الجزيرة كأنها ما رأت خطاطاً ولا قارئاً- قالوا: علمنا الخط بالأجرة، قال: فكنت أعلم صبيانهم، فأتاني رجل من خيارهم وقال: إن هنا بنتاً يتيمة وأبوها رجل صالح من أصلح الناس، وإنه كان يدعو الله عز وجل أن يرزقها الله رجلاً صالحاً؛ أفتتزوجها؟ قال: أتزوجها. قال: فلما التقيت بها رأيت العقد الذي وجدته في مكة في عنقها، فسألتها عنه، فأخبرتني الخبر، وقالت: حججت أنا ووالدي حجة، وهذا العقد معنا لأن أبي باع مالاً من أملاك ودور وعقار وجعله في هذا العقد، فضاع منا ووجدنا رجلاً صالحاً فرد لنا هذا العقد، فكان أبي تأسف بعد ما رجع إلى قريتنا ويقول: يا ليتني زوجتكِ صاحب ذاك العقد، فكان يدعو الله عز وجل أن يلاقي بيني وبين صاحب ذاك العقد، فنظر إلى العقد فقال: أنا صاحب ذاك العقد. هذا حفظ الله عز وجل لمن يحفظه عز وجل.

    والشاهد من هذه القصص: أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.

    وروي عن علي بن أبي طالب [[أنه دخل مسجداً في الكوفة وأراد أن يصلي ومعه بغلة، فرأى شاباً فقال: احبس هذه البغلة حتى أصلي، فأخذها بخطامها، ودخل علي رضي الله عنه يصلي، فلما دخل المسجد أخذ هذا الشاب خطام البغلة، وذهب به إلى السوق فباعه بدرهم؛ فخرج علي رضي الله عنه فسأل الناس: أين الشاب؟ قالوا: أخذ الخطام وذهب به، فأرسل علي وراءه فوُجد يبيع الخطام فقال له الرجل الذي أرسله بكم تبيعه؟ قال: بدرهم، قال: خذ درهماً، فاشترى منه الخطام بدرهم ثم أتى به إلى علي رضي الله عنه، قال علي رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لقد هممت أن أعطيك درهماً حلالاً، وقد أخذته اليوم حراماً]].

    يأبى بعض الناس أن يسترزق إلا بالحرام، كان علي سيعطيه درهماً حلالاً، لكنه أخذ هذا الخطام وباعه بدرهم من رسول علي رضي الله عنه، فتجد بعض الناس بديناً سميناً قوياً ذا عضلات؛ ولكنه يسرق حذاءً أو شيئاً بسيطاً، كقلم، أو يختلس، ولو عمل في الحلال لرزقه الله عز وجل من حيث لا يحتسب، ولذلك تقطع أيدي بعض الناس على أقلام أو أحذية، أو على لباس بسيط، أو على خمسين ريالاً، وتجده يرتكب هذا الإجرام بسبب أنه ما سلك الحلال، والله قد بين طريق الخير وطريق الشر، وجعل الإنسان على نفسه بصيرة.

    فضل السماحة وأداء الأمانة

    وفي هذا الحديث: فضل السماحة وأداء الأمانة، فهذا الرجل الذي ذهب أجيره، فنمَّى أمواله، فلما عاد سلم له جميع الأموال، ولم ينقصه مثال للسماحة والأمانة، وذلك أمر مطلوب من المؤمن، إذا باع وإذا اشترى، وإذا قضى وإذا اقتضى، وإنظار المعسر قد ورد فيه ما ورد، وبعض الناس يشدد على الناس فيشدد الله عليه، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن فرَّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، فالجزاء من جنس العمل.

    من كرامات الأولياء

    وفي الحديث: إثبات كرامات الأولياء، فهم دعوا بصالح أعمالهم، وتوسلوا إلى الله بذلك، ففرج الله عنهم الصخرة، وفي صحيح البخاري في كتاب الوكالة أن رجلاً صالحاً من بني إسرائيل ذهب إلى رجل غني وراء البحر من بني إسرائيل أيضاً، وقال: أريد منك ألف دينار، قال: هل لك وكيل؟ أي: ضامن يضمنك؛ لأني ما أعرفك، قال: وكيلي الله عز وجل، قال: كفى بالله وكيلاً.. انظر ما أحسن ذاك وما أحسن هذا! رضي هذا بالله فرضي ذاك به.. قال: هل من شاهد؟ أي: ما دام أنه ليس لك وكيل إذا ما سدَّدت فشاهد يشهد أنني دفعت لك هذا المال، قال: ما لي شاهد إلا الله، قال: كفى بالله شاهداً.

    فركب المقترض البحر ومعه الدنانير وذهب إلى أهله، ولما حان أجل القضاء وقف هذا المدين على الشاطئ ينتظر سفينة تحمله إلى الشاطئ الآخر، فما وجد سفينة ولا قارباً أبداً، تحرى اليوم الثاني والثالث فما وجد، فأخذ خشبة فنقرها من وسطها ثم جعل فيها ألف دينار وكتب عليها اسم الرجل، ثم ضرب بها في البحر؛ لأن ذاك قد رضي بالله كفيلاً ورضي بالله شهيداً، فسوف يبلغ الله هذه الأمانـة، فلما وضعها في البحر ساقها الله عز وجل بالريح وذاك الرجل يعرف موعد الأجل، فكان قد خرج من بيته ينتظر الرجل، فوقف على الشاطئ فانتظر، حتى يئس من مجيئه، فرأى هذه الخشبة فقال: آخذها حطباً لأهلي، فأخذها وحملها على كتفه، ولما وصل إلى بيته أخذ هذه الخشبة فإذا فيها الألف دينار، وفيها ورقة من ذاك المرسل إلى المرسل إليه، وهذه من كرامات الأولياء، ومن رضي بالله كفيلاً وشهيداً بلَّغه الله ما تمنى.

    وكرامات الأولياء عندنا منها ما لا يحصى ولا يعد، وأكثر ما صح من كرامات الأولياء وما أُثِر منها عن صحابة محمد عليه الصلاة والسلام، وهم لا يريدون الكرامة لذاتها، ولكنهم يريدون الاستقامة، فآتاهم الله الدنيا والآخرة. والكرامة أمر خارق للعادة يثبته أهل السنة والجماعة.

    1.   

    صورة من صور الابتداع في الدين والتعليق عليها

    السؤال: بعض الناس يدعي الاستقامة لكنه يأخذ بعض الشباب ويقودهم على طريقته في الاستقامة، ويذهب بهم إلى مقبرة الشرف، ثم يأمرهم بأن يناموا في القبر ويأخذ بدفن أرجلهم -ما شاء الله- ويقول بعض الأناشيد، وكذلك يستخف بأهل العلم ولا يقتنع بكلامهم، ومن أعماله أنه يأخذ مجموعة من الشباب ويقوم بهم في أحد المساجد في مدينة أبها، وكل من نصحه أخذ بإيراد قصص بعض الصوفية ولا يركن إلى السنة.. فما حكم الشارع في هذا؟

    حكم الابتداع في الدين

    الجواب: أولاً: هذه سنة الله عز وجل بين الغالي والجافي، ولا ابتداع في الدين إنما هو اتباع.

    ثانياً: الشريعة -والحمد لله- مكملة، والكتاب مكمل لا يحتاج إلى زيادة، فإنه كامل.

    ثالثاً: ليس كل من أتى بعمل في ظاهره خير أجر عليه ولو كان مخالفاً للسنة، بل هو آثم؛ لأنه ابتدع، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27] والنصارى يصفهم الله بالضلال لأنهم ابتدعوا رهبانية، أي: عبادةً ما أنزل الله بها من سلطان، فلا يأكلون اللحم، ولا يتزوجون النساء، ولا يخالطون الناس، ولا يغتسلون، هؤلاء ظنوا أنهم بعملهم مصيبون، فوقعوا في الخطأ، ولذلك حذر صلى الله عليه وسلم من هذا.

    أما هذا الشاب حين يأخذ الشباب فيذهب بهم إلى المقبرة، فحسن جميل أن يزور المقبرة، لكن لا يجعل لزيارته وقتاً محدداً وهيئة ورسوماً ما أنزل الله بها من سلطان، وما أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم، يزور الزيارة الشرعية، يذهب بهم فيسلم على أهل القبور ويدعو ثم يذهب، أما أن يذهب فيحفر في القبر لأرجلهم ثم يضجعون وينشدون أناشيد الصوفية فهذه هي البدعة، وإذا أدركوا أولئك فيعزرون إما بخيزران، ويجوز بكرباج حتى يعودوا إلى السنة، ويفهموها، فإذا فهموها فبها ونعمت وإلا فهذا مبتدع.

    وأما أنه يأخذ الناس ويجمعهم في مسجد فالجمع في المسجد حسن، لكن بشرط ألاَّ يكون بموعد محدد، ككل ليلة ثلاثاء -مثلاً- نجتمع ونذهب إلى مسجد آل فلان، فإيقاف وإيعاد الناس في وقت أو في مكان بغير ما ورد الشرع به بدعة، فقد جعل الله لنا مواعيد وأزمنة وأمكنة، جعل لنا البيت الحرام، والحج، والوقوف بـعرفة يوم التاسع، ومن ذلك أيضاً يوم الجمعة المعروف، ويوم عيد الفطر وهو يوم الانتهاء من الصيام، أما أن يزاد في المواعيد والارتباطات والرسوم فهذا بدعة.

    له أن يجمع الشباب في يوم من الأيام فيصلون، أو في ليلة لا لأنها ليلة يعتقد أنها أفضل من غيرها فأيام الأسبوع كلها سيان، وفي صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: {لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.. لكن أن يأخذهم دائماً ويقوم بهم في أوقات فهذا لا ينبغي.

    ملاحظات على ما يفعله بعض الشباب

    ثم يلاحظ على هذا الأخ أمور -ونسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفقهنا وإياه في الدين- منها: أن عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يعمل بالكتاب والسنة أو يفقه الناس بالكتاب والسنة، ومنها: ألا يشهر بعمله الناس، فإن جمعه الناس لقيام الليل ليس مأثوراً عن الصحابة كثيراً، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل في بيته، وإنما جعل قيام الليل في الليل للسر وللخفاء، أما أن يجمعهم فيذهبون في السيارات ثم يجتمعون عند المسجد ثم يتوضئون ثم يصلي بهم، والناس في رمضان يقومون في ليالي القيام للمصلحة لإظهار عظمة الإسلام، ولكثرة الجمع، ولأن هذا عمل مسنون كان لـه سالف من الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم جمع الناس عمر، لكن في غيرها من الليالي لا أظن ذلك إلا إذا كان نادراً، كما ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بـابن عباس لما صلى معه، وكذلك صلى بـحذيفة، وصلى معه ابن مسعود نادراً، أما جمع الناس وإيعاد الشباب في ليلة محددة وجمعهم في مسجد فهذا ليس بوارد.

    خطر انتقاص العلماء

    وأما انتقاص أهل العلم فهو علامة خذلان الرجل، ولحومهم مسمومة، كل شيء إلا العلماء وطلبة العلم والدعاة إلى الله عز وجل، وأهل الاستقامة، وأهل الخير والفضل، وتنقصهم علامة النفاق والخذلان، يقول الله عز وجل: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66].

    وهذا مسلك الخوارج، مع أنهم قاموا الليل حتى أصبح وجه أحدهم كركبة البعير، وفي صحيح مسلم من رواية أبي سعيد وأصل الحديث في البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقيامكم إلى قيامهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} فالعبرة ليست بكثرة صيام ولا صلاة، العمل فقه في الدين وتعلم، ثم عملٌ بما تعلمت، ولذلك كفَّر الصحابةَ الخوارجُ واستحلوا دماءهم فقتلوا عبد الله بن خبيب؛ لقلة فقههم في دين الله عز وجل.

    فانتقاص العلماء من أكبر الجرائم.. سافر صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى تبوك، فوقع بعض الناس في عرض الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، وقالوا: ما رأينا كقرائنا أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء. أي: ما أكثر أكلهم! وهذه الكلمة سهلة فيما يبدو، وبعض الناس يتفكه على لحى الدعاة وعلى ثيابهم أنها قصيرة، وعلى السواك، ويقوم ليحاكيهم في حركاتهم وكلماتهم، وكأنه أمر سهل، وقع ناس في عهده صلى الله عليه وسلم في هذا فنزل جبريل وقال للرسول عليه الصلاة والسلام: أدرك قوماً في آخر معسكرك هلكوا قال: كيف هلكوا؟ قال: دخلوا النار، فأخبره جبريل بما قالوا، فقام عليه الصلاة والسلام يؤنبهم، فقاموا يأخذون بخطام بغلته أو ناقته ويقولون: إنما كنا نخوض ونلعب -أي: كنا نقطع من النهار ونمزح- فقال الله من فوق سبع سماوات: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65]} أآيات الله يُسْتَهزأ بها؟! أرسول الهداية والعلماء وطلبة العلم والمساجد والمصاحف؟! هذه دونها قطع الرءوس، امزح في كل شيء إلا ما يليق بالإسلام، واليوم الآخر، والعلماء، وكتب العلم، وطلبة العلم، والمساجد.

    حرمة المؤمن وحرمة الدين

    دُمرت الدنيا خمس مرات من أجل لا إله إلا الله، ومن أجل هذا الكيان، هذا دين أُقِيْمَ على الاحترام، دين هو صلة الله من السماء إلى الأرض، الملائكة كلها تحترم قداسة المؤمن، والرسول صلى الله عليه وسلم ينظر إلى الكعبة ويقول: {ما أعظمك! ما أجلك! ما أقدسك! والذي نفسي بيده لَلمؤمن أقدس منك وأعظم عند الله. وفي لفظ: أشد حرمة منك} كل شيء إلا الإسلام والسنة، أو ما يطبق من السنة فالاستهزاء بها كفر.

    وبعض الناس تجده مستقيماً لكنه يبغض العلماء، لقلة عمله، ولجهلٍِ أو لشبهةٍ وردت في نفسه، فزرعت في قلبه النفاق، والخوارج فيهم شُعَبٌ كثيرة من النفاق، وتجدهم في سَمْت، وقيام ليل وبكاء، لكن ما أعفاهم ذلك، ولذلك قتل علياً رضي الله عنه ابن ملجم وهو منهم.

    فأما هذا فنقول: لا وألف لا، أما التهجم على العلماء وعلى طلبة العلم فأسألك بالله الذي لا إله إلا هو أن تنقذ نفسك من النار؛ فإن معناه الغضب والنفاق والكفر الذي ما بعده كفر.

    هذا وأدعو إخواني من هؤلاء الشباب الذين عاشوا الصحوة أن يأتوا إلى العلم، وأن يجعلوا العلم وِردهم، والطريق الموصل إلى العلم، اللباب المقشر وهو أعظم طريق، عالم واحد كما في السنن عن ابن عباس مرفوعاً والموقوف أصح: {أشد على الشيطان من ألف عابد}. العابد يوسوس عليه الشيطان، العابد قد تتلعثم عليه المسائل، وقد تأتيه واردات وخطرات، العابد لا يدري بالحلال والحرام والشبهات، وقد يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، وقد قدم في موضع التأخير وأخر في موضع التقديم، أما العالم فعلى بصيرة، وكلما فتحت صفحة من كتب العلم كلما فتح الله لك باباً، كلما قرأت حديثاً كلما آتاك الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى نوراً وهاجاً.

    دعوة إلى العلم وبيان فضله على العبادة

    فأنا أدعوكم ونفسي يا شباب الإسلام إلى مدارسة العلم.. المصحف، كتب العلم، حلقات الذكر.. أيهما أفضل الليلة: أنت أم أحد الناس ذهب يصلي إلى صلاة العشاء؟ أنت الليلة -إن شاء الله- أفضل منه؛ لأنك تسمع المسائل، تسمع كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، تسمع إيرادات العلماء، تسمع مناقشات حارة وتحرير علمي، لا أقول: إني أتيت بها؛ لكن أتى بها أهل العلم، أنا ناقل فقط، أجمع ما قالوا وأعرض عليكم بضاعتهم، فالمقصود أن من حضر إلى هذه الحلقة وجلس أفضل ممن جلس يصلي ألف ركعة، لأن قصارى العبادة أن تكون لنفسك؛ لكن العلم يزيل خطرات الشيطان وتلبيسات إبليس.

    وقد نصح ابن الجوزي بالعلم، قال العز بن عبد السلام: " كنت في شبابي أطلب العبادة فكنت عابداً كبيراً؛ فأصابني وسواسٌ الله أعلم به، فذهبت إلى العلماء وقلت: ما علاج الوسواس؟ قالوا: عليك بطلب العلم، فطلبت العلم فأذهب الله عني الوسواس " وقال ابن القيم: " لما بدأت حياتي قبل أن ألقى ابن تيمية كان في قلبي شبه ووساوس؛ فلما رأيت ابن تيمية شيخ الإسلام شكوت عليه ذلك فقال: عليك بالعلم لا تجعل قلبك كالأسفنجة تقبض الماء وتحتبسه، لكن اجعله كالزجاجة القوية تدفع الشبهة بقوتها وتراه بصفائها. وأعظم ما يمكن جلوسك معه: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وتفتيشك ورقات الجويني أحسن من كثير من تسبيحات الصوفية الذين أتتهم الهواجس والخطرات، يقول الذهبي: يجلس أحدهم في الغرفة ثلاثة أيام لا يأكل حتى يرى الخشب أمامه أشباحاً، فيقول: هؤلاء ملائكة، قال: والله هؤلاء ليسوا بملائكة ولكن عقلك خاش وفاش. نعم، من الجوع، وإلا فطريقه صلى الله عليه وسلم طريق معروف لمن قرأ السيرة وحياة الصحابة رضوان الله عليهم، الخطابة خطابة والصلاة صلاة والقراءة قراءة، مع الأهل وفي السوق، هؤلاء هم العبَّاد، فماذا يريد الإنسان من غيرهم؟ أيريد الزوايا؟! أيريد المرقعات؟! أيريد الصوامع والغيران والكهوف؟! يريد تربية الأظافر وتربية الشعور والقذارة، وعدم الفقه في الدين، وركعات، ثم الغل والحقد على عباد الله: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27].

    أسأل الله لي ولكم لزوم السنة والاتباع، وترك الابتداع، وأن ننهج نهج مـحمد صلى الله عليه وسلـم، فلا سعـادة -والله- ولا فلاح ولا نجاح إلا في اتباع سنته وسيرته، ألهمنا الله رشدنا ووقانا شر أنفسنا.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبة وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767958154