والصلاة والسلام على مربي الجيل الأول؛ الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، هادي البشرية، ومزعزع كيان الوثنية، ومعلم الإنسانية، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته..
دونكم أيها الكرام حديثاً دونكم أيها الكرام حديثا |
يتهادى حنينه لقلوب هي للحب والمكارم أشهى |
كل ما قلته صبابة فضل في كئوس تهدى لأخيار أبها |
وإن كان من شكر فإني أشكر الله تبارك وتعالى جل ثناؤه على أن جمعني بهذه الوجوه، ثم أشكر لذوي الفضل، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله عز وجل، ونحن أمة نقول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت، فأشكر صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز، رئيس هذه الجمعية الخيرة المعطاءة، وأشكر نائبه، وأشكر القائمين عليها وعلى رأسهم الأستاذ الفاضل/ إبراهيم اليحيى، على جهودهم ثمرها الله بالأجر العميم في الدنيا والآخرة، وزادهم ثباتاً وإخلاصاً ونفعاً للعام والخاص.
محاضرتي في هذه الليلة بعنوان: الآباء ومسئولياتهم.
ويا لها -والله- من مسئولية ألقاها الله عز وجل على عواتقهم من فوق سبع سماوات، يوم يقول الله عز وجل لكبير البيت المسلم ورائده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
وهذا الحديث سيكون على شقين وعنصرين: العنصر الأول يتحدث عن نماذج من تربية سلفنا الصالح لجيلهم ولأبنائهم، والعنصر الثاني: حق الأبناء على الآباء، وما هو الواجب الذي ألقاه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم على أكتاف أولئك الآباء. هذا حديثنا لهذه الليلة، أسأل الله الهداية والسداد لما يحبه ويرضاه.
جيلنا الصالح، ابتداءً من موكب النبي الكريم يحملون التبعة أنفسهم، فيقومون بتربية النشء والجيل تربية يرضاها الله ويحبها، والله عز وجل قص لنا في محكم كتابه الكريم قصص وعبر عن الأنبياء والصالحين.
وكذلك لقمان، يربي ابنه التربية التي يرضاها الله ويريدها، ويبدأ معه في المعتقد، ثم في العبادات، ثم في الأخلاق والأدب والسلوك؛ يقول الله عز وجل مستفتحاً القصة من أولها: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان:12] فأي حكمة هذه الحكمة؟ وما مدلولها وأثرها؟ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:12-13] هذا هو غرس الإيمان في قلب الطفل، يوم أن ينشأ عابداً لله عز وجل، يوم أن يسقط الطفل على الأرض وهو يسقط مسلماً حنيفاً ولم يكن من المشركين، فما من مولود إلا ويولد على الإسلام، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا |
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا |
فيوم أن يقع الطفل على الأرض يكون المسئول الأول عنه هو الأب، أن يقوده إلى بر السلام وإلى طريق الجنة، فلقمان عليه السلام يقول لابنه: يا بني! لا تشرك بالله، أي: احذر أن تكون مشركاً أو أن تجعل لله نداً، واحذر أن تعتقد أن هناك مع الله ضداً.. إنه الخطر المحدق يوم توسوس الشيوعية أو الإلحاد أو الوثنية في عقول الأبناء، فمن المسئول عنهم إلا الآباء.
ثم يأتي فيلاطفه مع والديه، وهو الحق الذي جعله الله عز وجل مقروناً بحقه.. ومن جعل العقوق في المجتمع إلا بعض الآباء، ومن رضي بالعقوق وأدخله إلا سير بعض الآباء، يوم أن نشئوا بالعقوق مع آبائهم وأمهاتهم، فكان الجزاء من جنس العمل: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].
وبعد أن انتهى من حقوق الوالدين قال له: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17] هل سمعت أسلوباً أعجب من هذا؟! وهل سمعت جودة أعظم من هذه الجودة؟! يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ [لقمان:17] ثم قال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] فعلم أنه بعد أن يقيم الصلاة ويفرق طريق المسجد ومن طريق المسجد تلغى طريق الخمارة والمقهى والمعصية، وقرناء السوء والفساد وأهل الجريمة، وما وقع كثير من الشباب في تعاطي المخدرات، وفي الزنا -والعياذ بالله- وفي ضياع الأوقات، وفي استماع الترهات؛ إلا حين انحرفوا عن طريق المسجد.
فيقول لقمان عليه السلام لابنه:يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17] فإنك إذا أقمت الصلاة حفظك الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم قال له: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ [لقمان:17] وعلم أنه إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فسوف يكون له أضداد وأنداد وحساد فقال له: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17].
انتهى من العبادة والعقيدة، ثم أتى إلى الأخلاق والأدب والسلوك فقال له: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18] لا تتكبر على عباد الله، لا تزهو، لا تكن تياهاً معجباً، فأنت عبد للواحد الأحد.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا |
ثم قال له: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19] كن أديباً، كن موجهاً، كن طيباً، كن متواضعاً سهلاً ليناً.. وهذا هو الذي يريده الله عز وجل من العبد.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها |
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها |
ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: {يا بني! إن استطعت أن تنام وليس في قلبك غش لأحد فافعل} وهذا الحديث حسن.
عليك الصلاة والسلام يا من علمت أجيال الأمة الأدب! ويا من غرست في قلوبهم المعتقد! ويا من حركتهم للهمم العالية!
انظر إليه صلى الله عليه وسلم كيف كان يربي ويعلم، وكيف كان يوجه الجيل.
في سنن الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما قال: {كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا غلام! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله. قال: يا غلام! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله. قال: يا غلام! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله. قال: إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
فهل أوحى الآباء لأبنائهم بهذه الكلمات؟ وهل سجل الآباء هذه الكلمات في صدور أبنائهم بأسطر من نور؟ وهل قال الأب لابنه في الصباح الباكر، وهو يودعه إلى مدرسته أو إلى عمله أو إلى مزرعته: احفظ الله يحفظك؟ إنها وصية الله للأولين والآخرين، إنها الوصية التي لما افتقدناها من بيوتنا ومن مجتمعاتنا -إلا من رحم الله- قلَّت القلوب الواعية، وكثرت المخالفات والمعاصي، وأصبحنا نتذمر من المسئولية. هذا نثر وإن كان في النثر سعة ففي الشعر مجال أوسع، يقول أحد علماء الأندلس وقد أخذ يوصي ابنه ويقول له:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان |
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني |
إنه غرس الرقابة والخشية في قلوب الأبناء، لينشئوا والخوف يملأ قلوبهم من الواحد الأحد، وهي تربية الإيمان التي أرادها صلى الله عليه وسلم، هذه هي بضاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وليست من ميراث كانت ولا ديكارت أعداء البشرية، الذين يقولون: ينبغي أن يربى الابن شاكاً قبل أن يكون متيقناً؛ شاكاً في الله، شاكاً في اليوم الآخر، شاكاً في الرسالة الخالدة، والله قد جعله مولوداً على العبادة وعلى التوحيد والاستقامة.
ويقول الأندلسي الآخر وهو يوصي ابنه:
أبا بكر دعوتك لو أجبتا إلى ما فيه حظك لو عقلتا |
إلى علم تكون به إماماً مطاعاً إن نهيت وإن أمرتا |
ويجلو ما بقلبك من عماها ويهديك السبيل إذا ضللتا |
فهل وعى أهل الإسلام هذه الوصايا الخالدة؟
يقول جعفر الصادق رضي الله عنه وأرضاه، وهو يوصي ابنه: "يا بني! لا تصاحب فاجراً ولا عاقاً ولا بخيلاً ولا كذاباً؛ فإن الفاجر قد استحق لعنة الله، وإن العاق قد أدركته ظلامة أبيه وأمه، وإن البخيل يبيعك أحوج ما تكون إليه، وإن الكذاب يقرب لك البعيد ويبعد لك القريب" هذه وصايا خالدة تبث للأبناء في بيوتهم من الآباء.
وتعالوا ننظر إلى ديار الصحابة، الذين عاشوا على الهداية والرشد والاستقامة.
فهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاش شاباً مؤمناً، فلما أرادت أمه أن تستهوي قلبه وأن ترده إلى الكفر، أبى؛ لأن الإيمان أصبح في قلبه كالجبال الرواسي، قالت أمه: يا بني! إلا عدت عن دينك.. وحلفت بآلهتها ألا تأكل ولا تشرب حتى يترك دينه. فقال لها قولة المسلم الواثق من نفسه، المتمكن من إيمانه، الراسخ يقينه: [[يا أماه! والذي نفسي بيده، لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفساً نفساً ما عدت عن ديني، فكلي أو دعي. فلما رأت الجد أكلت وبقيت على دينها]] إنه إيمان غرسه محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا مصعب بن عمير تأتيه الدنيا وهو في بيت الدنيا، يلبس الحرير والديباج، ويتسور بالذهب وهو شاب في الجاهلية، أمه أغنى امرأة من نساء مكة، فلما دعته إلى دينها أبى؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- غرس في قلبه لا إله إلا الله، فأصبح عبداً لله، وأصبح متوجهاً إلى الله، وأصبح مخبتاً لله.. حبسته، ضربته، عذبته، قاطعته؛ فأبى وأتى إلى دين الله عز وجل.. أتى ودخل على الرسول عليه الصلاة والسلام وعليه شملة ممزقة؛ فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: {والله الذي لا إله إلا هو، لقد رأيت
حبيب بن زيد، تربيه أمه تربية صادقة مخبتة خالصة لوجه الله، فينشأ مجاهداً، ويرسله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب الدجال في اليمامة، فيدخل عليه وعمره يقارب العشرين، فيقول مسيلمة: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم. قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: لا أسمع شيئاً. فأخذه وقطعه بالسيف إرباً إرباً ولم يرجع عن دينه.
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا |
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا |
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا |
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق |
الأم روض إن تعهده الحيا بالري أورق أيما إيراق |
وهذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وأرضاها، ذات النطاقين، اللذين جعلهما الله عز وجل سمةً لها في الجنة، تقول لابنها عبد الله بن الزبير الفارس المسلول، الذي صلب في الحجون بالبطولة، ورفع لا إله إلا الله..
علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات |
كأن الناس حولك يوم قاموا وفود نداك أيام الصلات |
تقول له -وقد أتى ليستسلم خوفاً من الحجاج بن يوسف الثقفي -: يا بني! اصبر فإنك على الحق. قال: يا أماه! إني أخاف إذا ذبحوني أن يسلخوني ويقطعوا جسمي. قالت: يا بني! لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها، فثبت على الحق، ولبس أكفانه ومات شهيداً رضي الله عنه وأرضاه؛ لأن وراءه أم عظيمة.
اختيار الزوجة الصالحة، ثم أدب الاتصال بين الرجل والمرأة، ثم أحكام الولادة وما بعدها، ثم التربية، ثم الإحسان في المعاملة، ثم غرس الإيمان، ثم تعاهد الجيل، ثم المصاحبة، ثم بث روح الإيمان، وهو غرس الإيمان، لكن بالأحكام والمعاملة والسلوك.
والآن نشرع في تفصيلها:
أهو الجمال؟ فإنه مطلب فارس، أهو المال؟ فإنه مطلب اليهود، أهو الحسب؟ فإنه مطلب الرومان، أهو الدين؟ فإنه هو مطلب الإسلام.
يقول عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه:{ تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك} فالدين هو كل شيء في المرأة، ولا يعني كلامنا هذا؛ أن نعفي الرجال من مسئولية البحث عن الجمال، أو طلب الحسب، أو المال، لكن ينبغي ألا يكون هذا على حساب الدين، وإلا فسيكون غير موفق في اختياره، فلا بد أن يجعل الدين هو الأصل وما بقي تبع له.. ونحن نؤمن أن الجمال مطلوب وكذلك الحسب مطلوب، وأن المال لا بأس بطلبه خالصاً وحلالاً، لكن يقول الله سبحانه تعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221] فاظفر بذات الدين تربت يداك.
ويوم أُسيءَ الاختيار في بعض الأماكن؛ نشأ الجيل معوجاً، وأتى الطفل راضعاً من أم جاهلة أو ليست مستقيمة، أو أم فيها حمق، لأن الاختيار كان عن عدم تقدير وحكمة.
فأول مسئوليات الآباء: اختيار الزوجة الصالحة، التي تريد الله والدار والآخرة، ولا عبرة -والله- بالمرأة التي لا تريد الله، ولا تعمل بكتاب الله ولا بسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولو كانت في أي بيت.. أما عذب الله عز وجل امرأة نوح؟ أما عاتب ولام وندد بامرأة لوط؟ ولكنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مدح امرأة فرعون، ففي بيت فرعون تنشأ امرأة مسلمة مؤمنة، وفي بيت النبوة تنشأ امرأة فاجرة كافرة، فسبحانك يا رب!
فاختيار الزوجة أمر لابد منه، وهو أمر إذا وفق الله العبد إليه كان من أعظم ما ييسر تربية الأبناء فيما سوف يقبل من الزمن.
إن اتصال الرجل بالمرأة في الإسلام أمر شريف، ليس كما ادعاه أعداء البشرية، كـلينين وماركس وديكارت وكانت في كتبهم يوم قالوا: شهوة جامحة تفضى في المرأة.. سبحان الله! بل إنه لحكمة، لعمار الأرض، ولوجود الذرية الذين يحملون الرسالة.. فمن الأم ينشأ العلماء، والعباد، والزهاد، والحكماء، والأغنياء، والسادة، والقادة، وصانعو المجد، فأين ذهبت هذه الحكمة عن تلك العقول والأدمغة التي ما عرفت الطريق إلى الله؟!.
وحكمة التقاء الرجل بالمرأة أمر شريف يطلب فيه وجه الله، ولذلك قال البخاري في الصحيح: باب طلب الولد للجهاد في سبيل الله. وأورد حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام -وقد شاركه مسلم في إخراجه- يوم يقول عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة: {قال سليمان عليه السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن يلدن مجاهداً في سبيل الله} كل المائة يلدن بعد الحمل مجاهداً في سبيل الله، ولكن نسي عليه السلام أن يقول: إن شاء الله؛ فما ولدت إلا امرأة واحدة بشق رجل، قال عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده! لو قال إن شاء الله؛ لولدن كلهن فرساناً أو مجاهدين يجاهدون في سبيل الله، ولكان ذلك دركاً لحاجته}.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عليه الصلاة والسلام:{لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم رزق مولوداً لم يضره شيطان أبداً} باسم الله في أمورنا، وباسم الله نبدأ، وباسم الله نتصل، وباسم الله نربي، وباسم الله ننشئ جيلاً، وباسم الله نكون دعاة مخلصين، وحكماء وعلماء وفقهاء، فبدايتنا باسم الله، ونهايتنا باسم الله.
سبحانك يا رب! يا للحكمة! أول ما يقع رأسه على الأرض يسمع أذان الحق، يسمع الأذان الخالد، يسمع الرسالة المعطاءة، التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يسمعونه لغواً ولا زوراً ولا فحشاً ولا مجوناً، وإنما يدوي في أذنه من أول مرة: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر.. فتنبت في قلبه وهو رضيع شجرة الإيمان. قال الله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم:24-25] إي والله، إنها شجرة (الله أكبر).
زرعنا الله أكبر منذ حين فأنبتنا شباباً خالدينا |
ويقيم في الأذن الأخرى لينشأ عابداً مصلياً متوجهاً إلى الله. وهذه السنة قد أهملت عند كثير من الناس، وربما ينشأ الطفل وقد ردد على لسانه كلام الفحش والمجون والعهر والعياذ بالله؛ لأن اللسان إن لم يقوَّم نقل كلاماً لا يرضي الله، والعقل إن لم يهذب حمل أفكاراً لا ترضي الله، والقلب إن لم يوجه حمل وسوسة ووثنية تغضب الله عز وجل.
فأنت الأب، وأنت القائم، وأنت الحكيم على ابنك، وأنت المستودع، وأنت المسئول أمام الله، قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ [التحريم:6].
الأمر الثاني: من السنة أن نعق عن المولود، عن الذكر شاتين وعن الأنثى شاة، فقد جاء في حديث حسن: {عق صلى الله عليه وسلم عن
ومن حكم العقيقة؛ أن يبدأ الأب في البذل والعطاء، ويعلن الفرحة، ويشكر الله على هذه النعمة؛ أن رزقه ولداً، فالابن نعمة من الله؛ خاصة إذا نشأ نجيباً ودوداً حبيباً، والولد ليس بالأمر السهل، والعقم مرض، ولا تصفو لك الحياة إذا كنت عقيماً، وقد شكا بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام العقم إلى الله.. قال زكريا: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89] اجعل لي وارثاً، لكن ليكن هذا الوارث صالحاً صادقاً مخلصاً منيباً.
فما دام أن الله قد أنعم عليك بنعمة الولد فاشكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وادع جيرانك وإخوانك، وأطعمهم طعامك؛ لتعلن نعمة الله وشكرها وليكن أول طريقك مع هذا المولود البذل والكرم والعطاء، لا البخل والجفاف والحبس.. فهذه من حكم العقيقة، وكل مولود مرتهن بعقيقته حتى يعق عنه.
وكذلك من السنن أن يحلق رأسه، وأن يتصدق بوزنه فضة أو ما يعادلها من المال، وهذا أمر ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن القيم في كتاب تحفة المودود بأحكام المولود، والحكمة في ذلك: تفاؤلاً بأن الله يحط عنه الخطايا، وأن ينشئه عبداً صالحاً، وأن يكون طيباً مقبولاً، ولحكم أخرى قد لا تظهر لنا.
ونهى صلى الله عليه وسلم أن يتسمى بعض الأسماء: {جاءه رجل فقال: ما اسمك؟ قال:
فواجب الأب أن يسمي ابنه اسماً حسناً، يقول عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الحسن:{أحسنوا أسماءكم وأسماء أبنائكم، فإنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم}.
فإذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه؛ نادانا بأسمائنا وأسماء آبائنا، نادانا مع الملايين المملينة والألوف المؤلفة من الشعوب والأمم والمجتمعات: يا فلان ابن فلان ابن فلان من آل فلان، قم إلى الله ليحاسبك ولا يظلمك هذا اليوم.. أفلا يريد المسلم أن يكون اسمه حسناً؟ ولا يكون اسماً لا معنى له، اسم مستورد من أسماء الخواجات التي لا تدخل في العقول، ولا في اللغة، ولا في الأدب، ولا في المجتمع، أو من الأسماء التي توحي ببعض المجون، أو الظلم، أو الفحش، أو سوء الأدب، فهذه أسماء تقشعر منها الأبدان، وكان يفعلها العرب، وفي سنن أبي داود {أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل: قم احلب الناقة، ما اسمك؟ قال:
مع الطائر الميمون يا خير مقدم فأهلاً بالمسمى على العهد |
وكثيراً ما يخفق المجتمع الذي نعيش فيه في الرضاعة، إما أن يسند الطفل إلى غير أمه من أول وهلة، فلا يكون له علاقة بأمة، ولو كانت قادرة على الرضاعة، وهذا ينشئ الطفل مبتور الصلة والحنان مع أمه؛ فلا تجده مثل ذلك الابن الذي نشأ على ثدي أمه، يشعر أنها أم وأنها قريبة من قلبه وأنها ذات صلة.
وتجد بعض البيوت يفرط في هذا الجانب، فيستقدم كثيراً من المرضعات، أو كثيراً من الوسائل للرضاعة، ويترك الأم ولو كانت قادرة، وهذا خطأ ظهرت آثاره في التربية على الأطفال، عندما نشأ فيهم العقوق أو الجفاء أو القطيعة مع الأمهات، ينظر إليها وكأنها أمامه حجر، لا يجد صلة، ولا يجد حناناً، ولا عطفاً؛ لأن لبنها ما سرى في شرايينه وعروقه، وهذه حكمة الله عز وجل، والله عز وجل ذكر الرضاعة في القرآن فقال: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233].
وكلما تم الرضاع وحسن، كان أحسن وأجود وأمكن، ولا بد من اختيار البيئة التي يرضع فيها الطفل.
ومن حقوق الأبناء على آبائهم: ألا يرضعه كافرة ولا فاجرة ولا حمقاء ولا سيئة التصرف؛ فإن لبنها سوف يكون له أثر في عقله وإرادته وتوجهه، ولذلك رضع رسولنا صلى الله عليه وسلم في بادية بني سعد، حيث الصفاء والنقاء والهواء، فنشأ أفصح فصيح من فصحاء العرب، ونشأ أخطب خطيب من خطباء الدنيا، ونشأ عليه الصلاة والسلام وهو ذو إرادة حية، وإحساس متحرك وبيان فياض.
والبادية لها أثر -أعني: البادية التي كانت في الجيل الأول- أما باديتنا فالذي يظهر عليها اليوم الجهل والتخلف وفساد المزاج، أما البادية التي نشأ فيها صلى الله عليه وسلم فكان لها أعظم الأثر في حياته صلى الله عليه وسلم.
تقول عائشة رضي الله عنها: {ربما رأيت الرسول عليه الصلاة والسلام، إذا تهللت أسارير وجهه وأتاه خبر يسره، كأنه البدر ليلة أربعة عشر، فتذكرت قول الشاعر ومبرأً من كل غبَّر حيضة وفساد مرضعة وداء مغيل
} وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل
والسبب: من جودة الرضاعة كان وجهه يبرق، مع ما آتاه الله من الحكمة والقوة، وما آتاه من الجمال، حتى قيل لـأبي هريرة: أكان وجهه صلى الله عليه وسلم كالسيف؟ قال: لا والله، بل كالشمس. وقال أنس: [[والذي نفسي بيده، لقد نظرت إلى وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونظرت إلى البدر ليلة أربعة عشر، ولوجه المصطفى صلى الله عليه وسلم أجمل من البدر]] وهذا من جودة إرضاعه عليه الصلاة والسلام.. وقد حذر أهل العلم من رضاع المرأة الحمقاء؛ لأن الطفل ينشأ أحمقاً.
ذكر ابن كثير في ترجمة القاضي شريح -وكان من أذكياء الدنيا-: أن ثلاث نسوة دخلن عليه -وكان ذكياً ومنشأً، ومن أراد أن يعود إلى القصة، فليعد إليها في البداية والنهاية، وكان قاضي الدنيا- فقال قبل أن يتكلمن: أما هذه المرأة فثيب، وأما هذه المرأة فحامل بولد، وأما هذه المرأة فأرضعتها كلبة. فقيل له بعد أن انتهى من الحكم: ما دلك على ذلك؟ قال: أما الأولى فحامل بالولد؛ لأن صوتها ضعيف، وأما الثانية فثيب؛ لأنها تنظر في وجوه الرجال، وأما الثالثة فأرضعتها كلبة؛ لأن في يديها رجة ورجفة. فسئلت النسوة فكان كما قال. وهذا من ذكائه، وهو يعادل ذكاء القاضي إياس، وربما حمل بعض أهل الأدب هذه القصة على القاضي إياس، الذي يقول فيه أبو تمام:
إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس |
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه |
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم |
وكيف يقول الأب لابنه: كن صادقاً، ثم يخالفه فيكذب؟ الفعل فعل قبيح والقول قول جميل، قال الله: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] نقول للابن: صل في المسجد، ثم لا يرانا نصلي ونحن الآباء! فأي عدل هذا؟ وأي إنصاف؟ إنه ظلم للعقل، وظلم للعلم، وظلم للتربية، وظلم للإحساس.. نقول للابن: لا تغتب أحداً، اتقِ الله في أعراض المسلمين، ثم لا تفتأ الدقائق تمر إلا ونقع في أعراض الناس بسكاكين من القول الجارح، فأين ذاك القول من هذا الفعل؟
فيا أيها الأبرار الأخيار! إن القدوة أمرها عظيم، ولذلك سوف يلزمك ابنك يوم القيامة، ولا تظن الإسلام أن تقول في الدنيا: نفسي نفسي، إنما ذلك إذا كنت قد عملت صالحاً، ثم برأت نفسك بالتبليغ، أما أن تقول: أنا لي حسناتي وعلي سيئاتي، وأبنائي عليهم ما عليهم وأنا شأني شأن وشأنهم شأن، فهذا ليس في الإسلام.
يقول أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه على المنبر -كما في الترمذي بإسناد حسن، وعند أحمد بسند صحيح-: { يا أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتحملونها على غير محملها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] وإني سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ثم لم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده}.
أنصلح في أنفسنا وأبناؤنا لا يصلحون؟! أنتهجد بالقرآن وأبناؤنا في المقاهي والملاهي؟! أنتلوا الآيات البينات وأبناؤنا يرددون ما يغضب الله عز وجل؟! أندرس كتب العلم المقومة الراشدة وأبناؤنا مع المجلة الخليعة ومع القول السخيف؟! ففي أي المبادئ هذا؟ إن هذا ضرر القدوة يوم أن كانت سيئة، فنشأ الطفل مقلداً لأبيه في السوء، فلما أراد الأب أن يوجه ابنه بعدما أخذ منه التقليد رفض الابن؛ لأنها غرست في قلبه هذه الأمور، فأصبحت راسخات راسيات.
ففي مسند الإمام أحمد والسنن بسند صحيح، قوله عليه الصلاة والسلام: {مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع} فإذا بلغ الطفل السابعة، فعليك أن تأمره أمراً بالصلاة، لكن لا تضربه في هذا السن، إنما تقول له: صل هداك الله. وتأخذ بيده، وتعلمه طريق المسجد، وتقوده إلى حلق الذكر، وتحببه بأهل الخير والجلوس في مجالس الخير، فإذا بلغ العاشرة ولم يصل فاضربه ضرب مؤدب، وناصح، ورشيد، يريد له الخير مثلما يريده لنفسه.
{وفرقوا بينهم في المضاجع} يا لحكمة هذا الدين! ويا لقوته! ويا لشموله وعدله! يلاحظ الأطفال والنشء والجيل وهم في المضاجع، ويقول: حرام أن يتضاجعوا في مكان واحد، ففرقوا بينهم في المضاجع إذا بلغوا العاشرة من عمرهم، الذكر لا ينام في فراش الذكر، ولا الأنثى في فراش الأنثى، ولا الذكر في فراش الأنثى، ولا بأس بنومهم في غرفة واحدة، ولكن بشرط أن يفرق بينهم في المضاجع.
هذا هو الدين الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام، فلاحظ العبد في كل شأن من شئونه، الدقيقة والجليلة، حتى لا يحتاج إلى دين آخر، ونحن نقولها بقوة وبصراحة وعمق وشجاعة وتحدِّ: لسنا بحاجة إلى تربية أو إلى تعاليم مستوردة، ففي ديننا وكتابنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم الكفاية كل الكافية، ومن لم يستكف بدين الله فلا كفاه الله، ومن لم يستهد بهدى الله فلا هداه الله.. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: من اعتقد أنه سيهتدي بهدى غير هدى الله، الذي أرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً، ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.
قالوا هم البشر الأعلى وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا |
لكن المقصود هو العلم الموروث عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم، وتعليم الجيل من أعظم الخصال الواجبة في الإسلام.
والإسلام لا يعترف بالجهل ولا بالدروشة، فلا نزهد أبناءنا في العلم، بحجة أنه مضن وأن طريقه طويل وشاق، فهذا من سوء الإرادة. صحيح أنه إذا كان عند الابن أو البنت من العلم ما تقوم به شئون دينه ودنياه، فلا بأس أن يكون له مجال في الحياة، كأن يبذل سبله في الصناعة، أو في التجارة، أو في البذل والعطاء، أو في الزراعة، أو في أي ناحية من نواحي الحياة، فكلٌّ ميسر لما خلق له، لكن ليكن عنده علم تقوم به عبادته ومعاملته مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فلا بد من تعليمه العلم النافع، وغرس الفضيلة في قلبه، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يحرص على هذا، فهذا ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما، وهو شاب في العاشرة من عمره، يدخل مع الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي بعد صلاة العشاء، فيقوم الرسول صلى الله عليه وسلم ليصلي في الليل، وابن عباس معه، فيحضر ماءً للرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من وضع لي هذا الماء؟ ثم يقول -ويعلم أنه
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه:{من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}.
والله قد قسَّم العلم في القرآن إلى قسمين: ضار ونافع، قال الله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ [البقرة:102] ويقول الله عن أحد الذين تعلموا العلم، ولم ينفعهم، وهو بلعام بن باعوراء الحبر اليهودي: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176].
والله يقول لبني إسرائيل، وقد حملوا علماً لكن ما استفادوا منه، وما كان له أثر في معتقدهم، وعبادتهم، وسلوكهم، يقول الله عنهم: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيهم: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13].
فالعلم النافع هو الذي يورث خشية الله في القلب، والعلم النافع هو الذي ينشئ طفلاً يحب المسجد، ويحب القرآن والعلم، والعلم النافع هو الذي ينشئ الشاب عابداً لله، يتقي الله ويخاف الله ويريد ما عند الله.. قال الله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
وفرق بين علم وعلم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ [الروم:56] فتحفَّظت الآية بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى (الإيمان) من علم لا ينفع، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: {اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع}. لأنه ليس كل علم نافعاً، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يربي الناس على العلم النافع، الذي يريده الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فلا يكون مسلوب الإرادة، ولا مسلوب الهمة والمكانة، وكثير من الآباء يخطئون في هذا الجانب، فيربون أبناءهم بالسوط والقسر والقوة والعنف؛ فينشأ الابن وقد سلبت إرادته وقوته ومكانته، فينشأ مهزوز الإرادة، لا كلمة له ولا حق ولا قدم. وهذا عنف لا يورث إلا عنفاً، ولذلك وصف الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى رسوله عليه الصلاة والسلام بالحكمة وباللين، فقال له: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] ويوم ساءت هذه التربية في كثير من البيوت؛ نشأ الطفل على أحد شقين أو قسمين: إما عاق لأبيه، مكابر، شاق للعصا، وقاطع للحبل بينه وبين أبيه؛ بسبب العنف والجفاء والسلطة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإما أن ينشأ الطفل ذليلاً مخبتاً، لا مكانة له ولا شجاعة ولا إرادة. وهذا خطأ وقع فيه كثير من الآباء.
جاء في الطبراني: أن رجلاً أتى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! ابني ربيته، سهرت لينام، وظمئت ليروى، وجعت ليشبع، فلما كبر تغمط حقي، ولوى يدي. قال عليه الصلاة والسلام: هل قلت في ذلك شعراً؟ فأخذ الرجل يبكي ويقول: نعم يا رسول الله. قال: وماذا قلت؟ قال: قلت لابني: غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهل إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا باكياً أتململ كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لدغت به دوني فعيني تهمل فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
} جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
وإذا كان الأب جافياً مع أبيه، أو عاقاً لوالديه، فإن الجزاء من جنس العمل.
يقول الله تعالى عن الرفقة الصالحة: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] وكل صحبة وصلة وصداقة تتقطع وتتلاشى وتنهار إلا صلة الذين يريدون الله والدار الآخرة. قال ابن عمر رضي الله عنهما: [[والله لو صمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت أموالي غلقاً غلقاً في سبيل الله، ثم لقيت الله لا أحب أهل الطاعة ولا أبغض أهل المعصية؛ لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار]]. أورد هذا الأثر الغزالي في الإحياء، ولذلك يقول الشافعي، وهو يتحدث عن نفسه بتواضع في أبيات:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة |
ولكن والله هو منهم، ويرد عليه الإمام أحمد فيقول:
تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم قد تناولنا الشفاعة |
و الشافعي قرشي هاشمي ولكنه لم يركن إلى نسبه فقال:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة |
يقول: أنا سيئ -تواضعاً لله- لكن من خيرة الله لي أني أحب الصالحين ولست منهم؛ لعلي أن أنال بهم شفاعة، لأنه في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري {المرء يحشر مع من أحب} فإن أحببت الصالحين، وعملت بعملهم، حشرت معهم، والعكس بالعكس..
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة |
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة |
يقول: ولو كنت عاصياً لكنني أكره العصاة ولا أصاحبهم..
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي |
كيف يكون الإنسان صالحاً وهو يرافق رفقة السوء؟ يقول أهل العلم: ما كان أفسد على أبي طالب من صحبة السوء، أراد صلى الله عليه وسلم أن يقول أبو طالب لا إله إلا الله. فقال: {يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أشفع بها لك عند الله} فأراد أن يتلفظ بها، وأراد أن ينجو من النار والدمار والعار والشنار، وأن يدخل في رحمة الواحد الغفار، فقال له أبو جهل: كيف ترغب عن ملة آبائك وأجدادك؟ فأتى هذا الجليس السيئ، فرده في نار تلظى فمات كافرا مشركاً بسبب رفقاء السوء.
ورفقة السوء انتشروا كثيراً، وهم أعدى من الجرب، فالجرباء عند أهل العقول تعدي الصحيحة، وما سمعنا أن الصحيحة تعدي الجرباء، حتى تكون صحيحة. فمن الحكم والمصالح والواجبات على الآباء: أن يتقوا الله في الأبناء، وأن يجنبوهم رفقة السوء بكل وسيلة ممكنة.
يقول الله تَعَالَى:أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116] كثير من الأبناء الآن يشكون الفراغ، تجد أحدهم في العطلة الصيفية يقول: عندي فراغ. سبحان الله! مسلم وعندك فراغ؟! طالب علم وعندك فراغ؟! ألست من الأمة الخالدة التي ما عرفت الفراغ، ولا عرفت ضياع الوقت؟! كيف يكون عندك فراغ وعليك مسئولية وأمانة وحمل ثقيل؟
جاء في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:{نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} ويوم أن عرف الجيل الفراغ نشأ معوجاً، لا يعرف الرسالة، ولا يحمل مبدأً ولا مسئوليةً، لأننا أوجدناه ليكون فارغاً، وما أدركنا أن السلف الصالح ما عرفوا الفراغ.. أما كان صلى الله عليه وسلم أوقاته كلها معمورة بذكر الله؟.
ذكروا عن أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي -العالم الكبير الشهير، الذي ألف كتاب الفنون، وهو يوجد في مكتبة بون في ألمانيا في ثمانمائة مجلد- أنه من شدة حفظه للوقت كان إذا أتى لينام كتب الصفحات والأفكار التي تهديها بنات أفكاره إليه، فإذا استيقظ كتب الأفكار التي ربما تمر به، فألف من وقت الفراغ ثمانمائة مجلد.
وذكر عنه صاحب طبقات الحنابلة - ابن رجب - أنه قال: ربما أكلت الثريد ولا آكل الفتيت؛ لأن بينهما في الوقت مقدار قراءة خمسين آية. أي وقت هذا؟!
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي |
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي |
يتكلم دايل كارنيجى الأمريكي في كتاب: دع القلق وابدأ الحياة، عن الأمريكان، ويمدحهم ويقول: لا يعرفون الفراغ.
وقد صدقنا وهو كذوب! صدقنا في هذه القضية، ولو كان كاذباً دائماً، فإن مصانعهم تهدر، وإن معاملهم تعمل، يقول الله عنهم: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] يقرءون وينتجون ويقدمون ويخدمون ويفعلون، أما أبناء المسلمين -إلا من رحم الله- فتجدهم يشكون من الفراغ، خاصة في العطل الصيفية، حتى إنه تقدم اقتراحات: ما هي هوايتك؟ أللمسلم هواية إلا إرضاء الله عز وجل؟! هوايتك حمل الرسالة.. هوايتك نشر لا إله إلا الله.. هوايتك أن تضع هذا الرأس الذي خلقه الله على التراب ساجداً لله.
أما هواية جمع الطوابع، ومطاردة الحمام والدجاج، وركوب الخيل والسباحة! فهذه إنما هي في بلاد كانت، وديكارت، أما بلاد محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فلا.. إنما هوايتنا المحافظة على الصلوات الخمس.. هوايتنا حفظ القرآن العظيم.. هوايتنا أن نعيش مع المكتبة الإسلامية.. هوايتنا أن نقول للشعوب وللدنيا: نحن المنقذون بإذن الله، نحن الذين تهدوا بنا..
نحن الذين استيقظت بأذانهم دنيا الخليقة من تهاويل الكرى |
فمن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى |
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا |
ما عرفنا جمع الطوابع إلا يوم أن تركنا الطريق إلى المسجد، وما عرفنا مطاردة الحمام والدجاج إلا يوم أن تركنا الجلوس في حلق العلم، وفي حلق المربين الناصحين والعلماء المسددين، وإلا فإنا إذا وصلنا إلى هذه الدرجة؛ فقل على الأمة السلام، ولكن -بحمد الله- هناك بقية خير، وهناك آباء فضلاء نبلاء حكماء، يعلمون أن الله استودعهم البيوت.
وهل من الصحيح أن يُترك البيت فارغاً بلا توجيه، يغلب عليه الفراغ والوسوسة، وكل رأي وكل مجلة خليعة، وكل صدى فاجر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر؟ ليس ذلك من الصحيح.. فهذه الحقوق لابد أن تكون معروفة.
كلٌّ ميسر لما خلق له.. ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في آخر كتابه: تحفة المودود في أحكام المولود، قال: لا يعتب على الشاب بعد أن يكبر، فأنت أيها الأب لا ترغمه على تخصص لا يريده، وعلى طريق لا يحبه، إذا أصبح عاقلاً رشيداً فاهماً عارفاً بمستقبله، فأنت لا تقترح عليه أي تخصص ولا أي طريق، إذا كان هذا الطريق الذي ينحوه طريقاً يرضي الله.
وكثير من الآباء يقع في هذا، فهو يريد من ابنه أن يكون مفتياً، وابنه نفسيته وعقليته واتجاهه وتكوينه وتخصصه أن يكون مهندساً، ويريد الأب أن يكون ابنه تاجراً، والابن يريد أن يكون مفتياً؛ فيكون فيه اعوجاج في العلم، ويحدث من ذلك رسوب في السنوات، وتدهور وفشل في الدراسة وفي التحصيل العلمي. لماذا؟ لأن الابن ما تُرك وإرادته، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول:{كل ميسر لما خلق له}.
وقد علم صلى الله عليه وسلم الصحابة التخصصات، وفتح لهم الأبواب والثغرات، فأتى حسان بن ثابت فما قال له صلى الله عليه وسلم: كن مفتياً، ولا كن مفسراً، ولا كن محدثاً، لكن قرأ عقليته وتخصصه؛ فوجده شاعراً فقال: أنت شاعر الإسلام وادخل الجنة من باب الشعر والأدب؛ فكان شاعر الدعوة.
وأتى إلى أبي بن كعب فوجده مقرئاً وتالياً، فقال: {وأقرؤكم
هذه حقوق أردت -باختصار- أن أقدمها في هذه الليلة المباركة، التي أسأل الله أن تكون في ميزان الحسنات، وأن ينفع بما أقول من الكلام، ولا أريد الإطالة، فإن آخر الكلام ينسي أوله، بل أتم الشكر لله عز وجل، ثم أشكر أهل الفضل ثانياً، وأشكركم على حضوركم وإصغائكم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: يذكرني الأخ بأني ذكرت في غضون حديثي، بما يفهم الإزراء بمن قال هوايته السباحة، وإلا فإنها واردة في الإسلام، وقد حث عليها صلى الله عليه وسلم، لكن مقصودي: أن تكون رسالة المسلم في الحياة هذه الهواية، وأن تكون ليله ونهاره وديدنه، فهذا ليس بمطلوب، وإنما يتعلمها لتكون له وسيلة، فإن السباحة والرماية وركوب الخيل علمها صلى الله عليه وسلم أجيال الصحابة، ودعا صلى الله عليه وسلم إلى معرفتها، بل جاء في صحيح البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل، وحضر المسابقة صلى الله عليه وسلم، وشهد مراسيمها، ورأى أبطال جيله وهم يتسابقون على الخيل المضمرة والخيل التي لم تضمر. فجزاه الله خيراً.
الجواب: من أعظمها وأجلها، وهذا الذي أجمع عليه عقلاء المسلمين وعلماؤهم: كتاب الله الخالد، أن يكون أول ما يربى عليه الطفل هو القرآن الكريم، وأن يحفظ منه ما يستطيع، وأن يتدبره آناء الليل وأطراف النهار.
ثم كتب الحديث: -السنة النبوية- وبالخصوص رياض الصالحين، ذلك الكتاب الرحب النافع المفيد، وكتب الأذكار خاصة ما حقق منها ونقح، ومنها: كتاب تربية الأولاد للشيخ علوان، وحبذا لو حققت وخرجت بعض أحاديثه فهو من أحسن الكتب، إلى غير ذلك من الرسائل النافعة والمفيدة والمبصرة.
الجواب: لا بأس بها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم داعب، وإنما أذكره صلى الله عليه وسلم لأنه القدوة والمعلم، والذي على قوله وفعله وحاله تعرض الأقوال والأفعال والأحوال، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21] فقد جاء في صحيح البخاري: أن أخا أنس أبا عمير كان له نغر يلعب به، فمات هذا النغر -طائر أتى به من ناحية من نواحي المدينة فقص ريشه وأتى يلعب به- فمات الطائر، فأتى صلى الله عليه وسلم يعزي هذا الطفل في هذه المصيبة الكبرى؛ ليشاركه أحداثه وأحاسيسه ومآسيه وقال: {يا
فاللعب لا بأس به، بشرط ألاَّ يشغل الطفل عن صلاته، أو عن شيء يستثمر فيه وقته، إلا أن يكون له وقت وفسحة ونزهة فلا بأس بذلك، وقد دل عليه القرآن الكريم في سورة يوسف، كما قال الله: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ [يوسف:12] فدل على أن لعب الأطفال كان موجوداً، وحتى أبناء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لعبوا.
الجواب: تخصيص الأئمة بأن يكونوا أربعة أو أن الأمة أجمعت على هؤلاء الأربعة رد على ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين، فلم يذكر الله عز وجل في كتابه أنهم أربعة، ولا الرسول عليه الصلاة والسلام، بل أئمة الإسلام أكثر من ذلك، لكن الذين اشتهروا بالفقه والتأصيل في الفروع هؤلاء الأربعة، ومنهم من زاد داود الظاهري معهم وابن حزم والأوزاعي وسفيان الثوري، لكن تحديد العلم والفقه في هؤلاء الأربعة ليس بصحيح.
يقول ابن القيم: ليس بصحيح، ومن خصص هؤلاء الأربعة أو أعين هؤلاء وأنفس هؤلاء، لكن هؤلاء أجل من يُنقل عنه الفرعيات، أو التأصيل في الفروع، وإذا سمعت مقالة لغيرهم وأتى بدليل فلك أن تذهب إلى مذهب ذاك الرجل؛ لأن العلم ليس حظراً على أحد، فإذا تكلم الأوزاعي وأتى بدليل أخذناه على العين وعلى الرأس، وسفيان الثوري أحد الأئمة الذين لهم قدم صدق في الإسلام.
أما أنهم ثمانية عشر، فلا أعرف إلا أن عند الشيعة اثنا عشر مذهباً، فالأئمة عندهم هم اثنا عشر، يقولون: لكل إمام مقالة. أما نحن في الإسلام فأئمتنا كثير والحمد لله، ليسوا بأربعة ولا ستة ولا عشرة ولا ثمانية عشر، كل من اتقى الله عز وجل وصبر وحصل على اليقين فهو إمام في الدين، قيل لـابن تيمية: بم تحصل الإمامة في الدين؟ قال: بالصبر واليقين. وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
الجواب: الرسول -صلى الله عليه وسلم- صح عنه عند أبي داود وفي مسند أحمد أنه قال:{من تشبه بقوم فهو منهم} فالتشبه بقوم في قول أو فعل أتى به الكافر وليس في ديننا، فهو تنقص لدين الله عز وجل، وهذا خطر وقع فيه كثير من المسلمين سامحهم الله، يوم أن تركوا لأبنائهم هذا، حتى إن بعض الآباء يتشرف أن يتكلم ابنه وهو طفل، أو يفصح على اللغة الإنجليزية، ونحن لا نقول: هذا حرام، بل ربما تكون من الضرورات إذا وصل بنا الحاجة إلى تعلمها، ولكن أن ننشئ الطفل عليها، وهو لا يعرف اللغة العربية، ولا يتكلم بها، ولا يحفظ شيئاً من القرآن، فلا يجوز، يقول ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: من داوم على لغة غير اللغة العربية، وجعلها حديثه واهتم بها أكثر من العربية، فهي من علامات النفاق.
فكثير من الآباء يتمدح بين الناس أن ابنه أصبح ينطق الانجليزية بجدارة، وهذا ليس بحرام لكن لابد أن يُعلم اللغة العربية، فأشرف لغة في الأرض؛ لغة القرآن، اللغة التي جعلها الله عز وجل أحسن لغة، بحمل هذه الرسالة الخالدة.
الجواب: هذه المسألة بحثها ابن القيم في كتاب: تحفة المودود في أحكام المولود، والسنة في ذلك أن تكون في اليوم السابع، فإذا لم يكن في اليوم السابع ففي اليوم الرابع عشر، فإذا لم يكن في اليوم الرابع عشر ففي اليوم الواحد والعشرين، وإذا زاد فلك أن تعق عنه، وهذا قول لبعض أهل العلم، حتى لو كان الابن كبيراً، أما إذا مات الابن فيفتح الله ويسهل، لا تلحق العقيقة موت الابن، يكفيك حزن ابنك عن خسارة هذه الذبيحة.
وأما مسألة: هل يتصدق بها أو يدعو إليها؟ فقد بحثها ابن القيم وقال: الدعوة عليها أفضل من توزيعها على الناس، لأنك تريح الناس من مؤنة الطبخ، فدعوتك للناس أفضل وأولى.. وورد أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يكسر عظم الذبيحة، وإنما يفصل من المفاصل؛ تفاؤلاً ألا يكسر عظم هذا المولود. هذا من السنة.
أما إذا وجد أن المجاورين المحتاجين يكونون بحاجة أحوج ممن يدعى إليها، فهل هذا أحسن؟
فنقول: أنت أبصر، وهذه المسألة فيها سعة، وإنما ذكرت كلام ابن القيم أن يدعى إليها لأجل مئونة الطبخ. وإن رأيت أن توزيعها أفضل وأولى، فالمسألة فيها سعة، فافعل ذلك مأجوراً مشكوراً.
الجواب: ورد عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: [[الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها]]. وبعض المحدثين يرفع هذا الحديث إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونحن لا نسد آذاننا وعيوننا ونقول: لا نقبل إلا ما أتى من هنا.. نعم عندنا كل خير وعندنا ما يكفينا، لكن لا بأس من الاستفادة من تجارب الناس، وفي صحيح البخاري: أن الشيطان علم أبا هريرة آية الكرسي كل ليلة؛ فقال عليه الصلاة والسلام:{صدقك وهو كذوب} فلا بأس أن نأخذ من تجاربهم ما نستفيد منه؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها.
الجواب: هذا خطأ، وللابن حق أن يستشار في الزواج؛ لأنه هو صاحب الزوجة وهو الزوج، وهذا أورث كثيراً من المفاسد في المجتمع، منها: كثرة الطلاق يوم أن يجبر الشاب على بنت لا يرغبها، ولا يجد في نفسه ميلاً لها، فيقع بعد فترة أحداث الطلاق الذي يبغضه الله عز وجل. فنصيحتي أن يستشار الابن، وأن ينظر إلى مخطوبته قبل الزواج، وألا يقدم إلا على امرأة يرتضيها ويحبها؛ ليسدد في زواجه، ولئلا تتكرر هذه الأخطاء في المجتمع.
هذا؛ وفي الختام أشكركم، وأصلي وأسلم على الرسول الهادي صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر