عنوان هذه المحاضرة: مكانة المسجد في الإسلام، وهي تحمل الرقم التاسع بعد الثلاثمائة، وأسأل الله أن ينفع بها، وقبل أن أبدأ أزف الشكر لأهله ولذويه وعلى رأسهم رئيس هذا النادي: الأستاذ النبيل الأديب محمد بن عبد الله الحميد أثابه الله وحفظه، وحفظ أعضاء النادي والحضور وكل مسلم، ومعذرة إن ندَّ بيان أو تلعثم لفظ:
سيدي علل الفؤاد العليـلا أحيني قبل أن تراني قتيلا |
إن تكن عازماً على قتل روحي فترفق بها قليلاً قليلاً |
قبل أن أبدأ في عناصر الدرس عندي وثيقة عن المسجد، أقرأها قراءة ثم أبدأ أتحدث معكم عن أسرار المسجد في الإسلام.
لنا نحن المسلمين مع المسجد أسرار وأخبار، لنا معه تضحيات وأمنيات، سلوا المسجد من الذين زينوا جنباته بالتسبيحات، وأضاءوا جوفه بالعبادات، وسجدوا على جنباته خمس مرات؟
سيقول: المسلمون.
سلوه من الذي فجر من جنابه الكلمة الحية، والموعظة الحسنة، والخطبة المؤججة؟ من الذي صاغ من على منبره منهج الأجيال، وأذكى من محاربه الإيمان في قلوب الرجال، وغرس من روضته دوحة الإفضال؟
سيقول: المسلمون.
سلوه من الذي أباد من على منارته الإلحاد، ونشر من على قبته العدل بين العباد، ونادى العقل للحياة والطموح والجهاد؟
سيقول: المسلمون.
عاش رسولنا صلى الله عليه وسلم في المسجد خطيباً، يبعث من الصحراء أمة، ومن الأمة جيلاً، ومن الجيل قادة، ومن القادة شهداء لله في الأرض، يقول القاضي الزبيري شاعر اليمن:
ما بنى جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمة من عفاء |
عاش صلى الله عليه وسلم يصنع في المسجد من العبارات درراً، ومن الكلمات ثمرة، يقول أحمد شوقي:
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاء |
وعاش صلى الله عليه وسلم في المسجد معلماً يفتح البصائر على العبر، ويحرر العقول من الأوضار، ويسكن القلوب بمعين الحكمة والهداية.
وعاش صلى الله عليه وسلم في المسجد قائداً، يرسل كتائب الإيمان، وينظم جيوش الحق، لتنسف ركام الباطل، ويربي الفاتحين لينقذوا الدنيا من أتباع الشيطان، وإنها لتعجبني أبيات للبردوني ولو أنه لا يعجبني، وأبرأ إلى الله منه ومن منهجه، وأسأل الله أن يعامله بعدله، ولكنه تفوق أيما تفوق في قصيدته، وهو يروي عطرة الرسول عليه الصلاة والسلام في المسجد، وانطلاقه من المسجد، وسيرته صلى الله عليه وسلم في المسجد، يقول في أبياته:
بشرى من الغيب ألقت في فم الغار وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرار |
بشرى النبوة طافت كالشذا سحراً وأعلنت في الدنا ميلاد أنوار |
وشقت الصمت والأنسام تحملها تحت السكينة من دار إلى دار |
إنه رسول الهدى، ثم يقول له البردوني بعاطفة القومية التي لا تكفي لتكون صلة بينه وبين صاحب المسجد، إذ لا بد لنا مع صاحب المسجد من عقيدة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] والقومية وحدها ليست صلة، فيقول البردوني:
نحن اليمانين يا طه تطير بنا إلى روابي العلا أرواح أنصار |
إذا تذكرت عماراً وسيرته فافخر بنا إننا أحفاد عمار |
أنا ابن أنصارك الغر الألى سحقوا جيش الطغاة بجيش منك جرار |
على كلٍ أبدأ في العناصر، وقبل أن أبدأ أحب أن أبين أن هناك فصولاً تحدث فيها القرآن عن المسجد، وعن مهمته، ورسولنا صلى الله عليه وسلم روى بسيرته وحكمته وموعظته مهمة المسجد في الناس، ثم أتعرض لكلام أهل العلم والأدباء.
قال أهل السنة: تحصل عمارة المسجد بأحد أمرين: الأول: إما ببنائها لقصد وجه الله عز وجل، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له قصراً -أو بيتاً- في الجنة}.
والثاني: عمارتها بالتسبيح والتحميد والتهليل والصلاة.
عباد الله! نحن لا نعيش المساجد أسبوعاً واحداً، بل العمر كله والدهر أكمله، والزمن بمطلقه؛ لأننا أمة تعلقنا به، وانبعثنا منه، قال سبحانه: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:36-37].
من هم الذي يسبحون؟ هم أولياء الله، أهل لا إله إلا الله، أهل الرسالة الخالدة الذين يفتحون العقول قبل الحصون، والذين يبنون في القلوب منائر من الحق، هم أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة.
أما الذي لا يعرف المسجد، ويتعرف على البار، ويقاطع بيت الله ويعرف المقهى والملهى، فليس من الله في شيء، يقول المثقب العبدي:
فإما أن تكون أخي بصدق فأعرف منك غثي من سميني |
وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني |
فإني لو تخالفني شمالي ببغض ما وصلت بها يميني |
إذاً لقطعتها ولقلت بيني كذلك أجتوي من يجتويني |
مسجد بني إخلاصاً وصدقاً لله عز وجل وأهله هم المأجورون، ومسجد بني رياءً وسمعة وصداً عن منهج الله، قال سبحانه عن مساجد الضرار التي تصد أولياء الله عن الصلاة، والتي بناها بعض الناس وهم كاذبون في دعواهم، يقول: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]
ثم يقول جل اسمه: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة:109]
محمد إقبال دائماً أكرر شعره؛ لأن فيه إيماناً وحباً وطموحاً، والمقصود هنا: ماذا قال عن المساجد، وهذا الرجل له قصيدة ترجمها أبو الحسن الندوي وأشار إليها نجيب الكيلاني، كان يدرس الفلسفة في بون، وكان مؤمناً يحمل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]. بحث عن مسجد فما وجد في بون مسجداً، فنظم قصيدة اسمها: بحثت عنك يا رسول الله في ألمانيا، يقول: يا رسول الله بحثت عنك فما وجدتك أين أنت؟ هو يدري أنه في المدينة.
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا التاريخ أنت المحرر |
تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر |
قال: ما وجدتك يا رسول الله، أين أنت؟ بحثت عن مسجدك، فما وجدته في بون، وجدت الناطحات، والسيارات، والقاطرات، والشاحنات، ولكنني ما وجدت الذي أنزل عليه الآيات البينات، وعبد الوهاب عزام يترجم هذا الكلام، يقول:
أرى التفكير أدركه خمول ولم تبق العزائم في اشتعال |
وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقال |
وعند الناس فلسفة وفكر ولكن أين تلقين الغزالي |
وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال |
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالي |
أول ما وصل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وضع حجر الأساس إيذاناً بافتتاح المسجد، فجعله عليه الصلاة والسلام جامعة كبرى للعقائد، والأخلاق والسلوك والآداب والشعر والخطابة والطموح.
يقول الأستاذ علي الطنطاوي، وأنا أحب أدب هذا الرجل، وهو إذا كتب أحسن منه ألف مرة إذا تكلم، وما سحره إلا في كتابته، يقول: مبادئنا تعلن كل يوم خمس مرات من على مآذن المسجد، ليس عندنا ألغاز ولا أحاجي ولا ألغام، وإنما عندنا مبادئ واضحة ربانية، نحن معنا جامعة في المسجد، نرسل الشعاع للعالم، أو كما قال.
ويقول بعد المسجد: سلوا كل سماء في السماء عنا، وسلوا كل أرض في الأرض عنا، من الذي حرر العقل من رهق الخرافة؟ سيقول: المسلمون، إلى مقالة طويلة قالها -لا شلت يده- في فضائل المساجد وفي مكانتها في الإسلام.
والمقصود هنا: أمهمة المسجد منحصرة في خمس صلوات ثم يغلق؟
أمهمة المسجد أن يبقى لصلاة الجمعة مرة في الأسبوع؟
أمهمة المسجد أن يجتمع الناس دقائق معدودة ثم ينتهون؟
لا.
إنه أكبر من ذلك إنه تفجير طاقة، ولذلك تجدون المستشرق المجري المجرم جولد زيهر، ويسمونه زهير، لأنه عرب اسم أبيه، صاحب الهجوم على السنة، والذي رد عليه أبو رية برد أقبح من فعل ذاك.
يقول: ما زال المسلمون في قوة مادام معهم القرآن والمسجد.
أولاً: إنه جامعة علمية، بعث عليه الصلاة والسلام معلماً، يقول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث.. الحديث} ويقول له سبحانه: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114]
إذاً هو المعلم، والله يقول له: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ [محمد:19]
في السنن: {يدخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فيجد حلقتين، حلقة يدعون الله ويسألونه ويتضرعون إليه، وحلقة أخرى يطلبون العلم ويسألون، قال عليه الصلاة والسلام: هؤلاء العباد، يدعون الله إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون العلم وإنما بعثت معلماً، ثم جلس معهم عليه الصلاة والسلام}.
إذاً: دعوته هي العلم، ورسالته تنبني عليه، لكن بالإيمان كما قال الله: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ [الروم:56] فعلم بلا إيمان، يسمى علمنة لا دينية، وهي مذهب ضال رعديد، وأنتم تعرفون دور العلمنة في فصل الناس عن الدين وعن المسجد، والمصحف، والتسبيح، والكعبة وزمزم، وذلك يوم تصورت أن الدين يحارب العلم كما وجدته في الكنيسة، وهذا خطأ.
العلم بلا إيمان كفر بالله، وأول من أدخله في المشرق مصطفى كمال أتاتورك عليه غضب الله، وتبعه صنف من الناس كثير ساروا على منهجه في فصل المسجد عن الأمة وقالوا: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، وليس للمسجد دخل في شئون الناس، ولا تتحدث عن شئون الناس في المسجد، وتحدث عن التيمم والحيض، والغسل من الجنابة، والسواك، لكن لا تتحدث عن الاقتصاد، ولا عن الشباب، ولا عن مشاكل العالم، ولا عن المال، ولا عن الاجتماع في المسجد، وهذا خطأ كبير، وسوف يكون لنا تعريج على ذلك.
والرسول صلى الله عليه وسلم، أكثر حلقاته وتعليمه في المسجد: {جلس -كما في صحيح البخاري - وكان أبيض أمهق مرتفق} الأبيض الأمهق: الموسوم بحمرة، والمرتفق: المتكئ -فدخل ضمام بن ثعلبة - أخو بني سعد بن بكر من الطائف -على ناقة فعقلها في باب المسجد، وتخطى الصفوف، قال: أين ابن عبد المطلب؟ -يقصد رسول الهدى عليه الصلاة والسلام- فقال له الناس: ذاك الرجل الأبيض الأمهق المرتفق رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: يابن عبد المطلب! هو ابن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وجده عبد المطلب، لكن جده كان عند العرب أشهر من أبيه، حتى يقول في المعارك:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب |
قال: قد أجبتك، قال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، قال: سل ما بدا لك -وظن أن السؤال فرعي أو جزئي، لكنه سؤال مطلق وعام- قال: يا رسول الله! قال: نعم. قال: من خلق السماء؟ قال: الله، قال: من بسط الأرض؟ قال: الله، قال: من نصب الجبال؟ قال: الله، قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال، آلله أرسلك؟ فتربع وقال: اللهم نعم. قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال، آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم. فأكمل أركان الإسلام، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص، أنا ضمام بن ثعلبة: أخو بني سعد بن بكر، ثم تولى وركب ناقته، فقال عليه الصلاة والسلام: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا.
إسلام بسيط سهل، وقد تعرض سيد قطب لهذا الحديث وشرحه شرحاً وافياً، وقال: إن هذا الإسلام هو الذي ناسب العالم، ولذلك فهذا الدين يكتسح العالم، وهو الفجر الجديد، ولكنه لا ينطلق إلا من المسجد كما انطلق في أول يوم.
بل أكثر الوفود، ما وفدت عليه صلى الله عليه وسلم إلا وهو في مسجده، وفد عبد القيس، وفدوا عليه وهو جالس بعد صلاة العصر، قال: من الوفد؟ والرواية عند مسلم من حديث ابن عباس، قال: من القوم؟ -وقيل: من الوفد؟- قالوا: ربيعة، قال: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى- خزايا: جمع خزيان، وندامى: جمع نادم أو ندمان- قال: إني آمركم ثم سرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمور الإسلام، ثم ودعهم من المسجد، وجلس عليه الصلاة والسلام طيلة عمره، وغالب أوقاته في المسجد يعلم، ويخطب ويفتي، ويتكلم ويرشد ويعقد الرايات -كما سوف يأتي- ويدير شئون الأمة الإسلامية من مسجده صلى الله عليه وسلم.
كريسي موريسون أمريكي مطلع كاد أن يسلم لكن لا أدري ماذا حدث له؟ يقول: في كتاب الإنسان لا يقوم وحده: ليس العجب من محمد أن يبعث نبياً فقد بعث الله أنبياء قبله، ولكن العجب أن يبقى أربعين سنة لا يتعلم ثم يخرج إلى الناس فإذا هو أخطب خطيب، وأفتى مفتي.
إنها حكمة الله: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:1-4].
يقول أيضاً: ما للنحلة تغادر خليتها وتذهب ثم تعود برحيق الزهر؛ من الذي علمها أن تعود إلى خليتها؟ أعندها آريال؟ قال سيد قطب: ليس عندها آريال، ولكن عندها: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:68].
وهذا إنما هو استطراد، والمقصود: أن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج للناس هكذا، ثم أصبح في المسجد فإذا هو أعلم الناس والله يقول: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48] ولو كنت تكتب لقالوا: كتبت القرآن ولو كنت تقرأ لقالوا: قرأت صحف الأولين، ولو كنت تقول الشعر، لقالوا: نظمت كتاب الله: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69] إنك أتيت أمياً للأمة الأمية فأخرجتها من صحراء الوثنية والتخلف؛ صحراء الإبل والبقر والغنم إلى ضفاف دجلة والفرات، وإلى قرطبة وسمرقند، وطاشقند والسند، يهللون ويكبرون ويسبحون بحمد الله، أليست هذه معجزة؟ بل هي أكبر معجزة في تاريخ الإنسان، يقول محمود غنيم:
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه |
ليس المعجزة فقط في أن تحول الطعام القليل إلى كثير، أو تفجر من الصخر ماء، لكن المعجزة الكبرى أن تخرج أمة هي تتقاتل على موارد الشاة، إلى أمة تتكلم بألسنة الدهر وتخطب على منابر التاريخ، هذه أعظم معجزة له عليه الصلاة والسلام.
يقول شوقي:
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم |
والمقصود: أن عيسى عليه السلام أحيا ميتاً بإذن الله، فأنت أحييت -بإذن الله- ملايين مملينة، وانطلقوا من المسجد، فما من منارة في الدنيا يذكر عليها الله ويؤذن إلا واسم الرسول صلى الله عليه وسلم معه، يقول مجاهد بن جبر رحمه الله مفسر مكة قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4] قال: ما ذكرت إلا ذكرت معي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد |
فذكره دائماً يدوي عليه الصلاة والسلام من على المنائر.
وقال في الصحيح عليه الصلاة والسلام: {ما جلس مؤمن ينتظر الصلاة في مصلاه إلا كان في صلاة تقول له الملائكة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث}.
ويقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث جابر: {أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهراً يغتسل منه كل يوم خمس مرات، أيبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا والذنوب}.
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط}.
قال الحسن البصري: [[أيها المؤمن! لن تعدم المسجد إحدى خمس فوائد أولها: مغفرة من الله تكفر ما سلف من الخطيئة، وثانيها: اكتساب رجل صالح تحبه في الله، وثالثها: أن تعرف جيرانك فتتفقد مريضهم وفقيرهم، ورابعها: أن تكف سمعك وبصرك عن الحرام، وخامسها: أن تسمع آية تهديك]].
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] كان المسجد في عهده صلى الله عليه وسلم منبراً للخطابة، وإحياء الكلمة المؤثرة.
إن أفصح من تكلم بالضاد هو محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يجيد حبك الكلمات صلى الله عليه وسلم.
ومن معجزاته البلاغة، رجل عاش بين جبال مكة، لا قرأ ولا كتب ولا تتلمذ ولا دخل كتاتيب، ولا درس على يد شيخ، ولا جامعة، ولا مدرسة، ثم يخرج للتاريخ وللعالم وللدهر بعد أربعين فيتكلم بأفصح عبارة أليس هذا هو العجب العجاب؟! يقول صلى الله عليه وسلم: {ألا إني أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصاراً} وفي حديث عمرو بن العاص قال: {أوتيت مفاتيح الكلم وخواتمه} يقول أهل العلم، من علماء الحديث وذكره السباعي في السنة ومكانتها في التشريع يقول: إن من ميز علم الحديث عند أهل السنة أنه لا يستطيع أن يقول العبارات إلا الرسول عليه الصلاة والسلام، مثل حديث: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى} من يستطيع أن يقول مثل هذه العبارة، حديث: {احفظ الله يحفظك} حديث: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها} لا يستطيع ذلك إلا هو عليه الصلاة والسلام.
بالله لفظك هذا سال من عسل أما قد صببت على أفواهنا العسلا |
أم المعاني اللواتي قد أتيت بها أرى بها الدر والياقوت متصلاً |
إذاً: ومن مهمة المسجد في عهده عليه الصلاة والسلام أنه نادٍ أدبي، يؤمه رواد الشعر وأبطال القافية، مع أنه للعبادة وللخطابة ولاستقبال الوفود، جعله نادياً أدبياً يتحرر فيه الإنسان من قيود النثر أحياناً، وينطلق مع النظم، كان صلى الله عليه وسلم يقرب المنبر لـحسان، ويقول: {اهجهم وروح القدس معك } وكان صلى الله عليه وسلم يقول لـحسان بجانب المنبر: {كيف أنت وكفار قريش، أي كيف الهجو؟ قال: معي -يا رسول الله- لسان لو وضعته على حجر لفلقه، ولو وضعته على شعر لحلقه} ثم ينطلق بالقافية.
وعند البخاري: أن عمر رضي الله عنه مر بـحسَّان وهو ينشد بالمسجد فلحظ إليه، فغضب حسَّان وقال: كنت أنشد وفيه من هو خير منك، أي: رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال أبو هريرة: نعم. يؤكد ذلك.
ووقع في عهده عليه الصلاة والسلام حوار أدبي ومفاحمة بين بني تميم وبين حسان، وفدوا سبعة وقيل: ثمانية، معهم الزبرقان بن بدر، وحدث هناك صراع في حلبة الشعر، وغلب وانتصر الرسول عليه الصلاة والسلام في المسجد، وغلب خطيبه خطيبهم في المسجد، وانتصر عليه الصلاة والسلام في عالم الأدب كما انتصر في عالم الشجاعة في الميدان.
هذه الأساليب العصرية يقولها صاحب كتاب الرحيق المختوم في سيرة النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام، للمباركفوري وهو كتاب جيد، وأخذ الجائزة العالمية في السيرة، وأحسن كل الإحسان، الأسلوب الطريف الذي لا يتطور حتى يصير البياض برصاً كما فعل بعض الناس، لكنه معتدل في أسلوب العصر، يقول مثلاً من هذا: الرسول عليه الصلاة والسلام يعلن الحرب على أبي سفيان من على المنبر، الرسول عليه الصلاة والسلام يعلن حالة الاستنفار في المدينة، الرسول يجتمع بكبار أصحابه في مجلس شورى مغلق، أبو بكر يعلن سياسة حكومته الجديدة، عمر بن الخطاب يصدر مرسوماً أولياً بعزل خالد، هذا أسلوب عصري.
أما الأسلوب الذي أشير إليه في بعض المحاضرات وأرجو أن يكف عنه بعض الناس وهو امتهان العبارة الشرعية، مثل أحد الخطباء في شريط يقول: الرسول عليه الصلاة والسلام اتصل بلاسلكي من بدر، وقال: عاوزين ألف مقاتل من الملائكة.
فأصبح هذا أسلوباً مستخذلاً عند أهل العلم، قال: فنزلت فرقة الكمندوز، يقودها جبريل، وهو قائد الفرقة الثامنة والثلاثين، ومتخصصة في النسف والإبادة والتدمير، فأهل العلم اعترضوا على هذا وقالوا: لا. البياض إذا كثر أصبح برصاً، رويداً رويداً.
الأمة المنظمة والنظيفة، والأمة المهتدية هي الأمة الإسلامية، والصور التي توجد في هذا العصر ليس مسئولاً عنها الإسلام، المسئول عنها الذين لا يعرفون الإسلام، ما تعلموا في مدرسة الإسلام، وما عرفوا روحه.
أما أن نخطئ ونسبب الخطأ إلى الإسلام فليس بصحيح، عند أحمد وأبي داود، والترمذي بسند حسن: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالمساجد أن تبنى في الدور وتنظف وتطيب} الدور: الحارات، يقول: دار بني عبد الأشهل، ودار بني عبد النجار، ودار بني حارثة، يعني: قراهم، فأمر صلى الله عليه وسلم أن تنظف وتطيب، وكان لمسجده صلى الله عليه وسلم رجل اسمه نعيم بن مجمر وقيل: المجمر، يجمر المسجد كل جمعة بالأطياب والروائح الزكية، فتفوح فتنتشي النفوس وترتاح ببيت الله عز وجل.
كان بمسجده صلى الله عليه وسلم مؤذن، مهمته أن يصدح بصوته كل يوم خمس مرات، ليسمع الناس فيأتون إلى بيت الله عز وجل، بل كان له خمسة مؤذنين عند كثير من أهل العلم.
كان صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى تنظيف المساجد، ويخبر أنها من أفضل الأعمال عند الله عز وجل؛ رأى بصاقاً في جدار مسجده مرة، فغضب غضباً شديداً، وحك البصاق وقال: {البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها} رواه البخاري، {ودعا رسول الله بخلوق -بطيب- وطيب بيده الشريفة مسجده}.
كان عمر رضي الله عنه وأرضاه، جالساً في المسجد، فأتى رجلان من أهل الطائف فترافع الصوت في المسجد قال: عليّ بهما، فأتي بهما قال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: والذي نفسي بيده لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً، وعمر إذا حلف حلف.
حتى وضعت يميني ما أنازعها في كف ذي نقماتٍ في قوله القيل |
والسبب في ذلك: أنهم أبعد عن معرفة الأحكام أو عن جزئيات الأحكام، فعذرهم بهذا الجهل.
الرابع: تحريم البيع والشراء في المسجد، فإنما وضع للتسبيح والالتقاء والصلاة وذكر الله، يكفي بقية الأربع والعشرين ساعة نمضيها في الأسواق، وفي البيع والشراء والمكاتب والفصول والدنيا، والحديث والتراب، ثم تبقى هذه الدقائق لنلتقي فيها بالله رب العالمين، فتبقى خالصة لله، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه النسائي والترمذي: {من سمعتموه يبيع ويشتري في المسجد فقولوا له: لا أربح الله تجارتك} وهذا سنة، وحملها أهل العلم على التحريم، فإن من باع واشترى في المسجد ارتكب أمراً محرماً؛ لأنه خدش قداسة الشريعة، وانتهك حرمتها وصيانتها.
المسجد احترام وانضباط وتعليم، والمسجد خضوع وخشوع لله رب العالمين.
نهى صلى الله عليه وسلم عن إقامة الحدود في المسجد لما روى أحمد وأبو داود بسند فيه نظر: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن تقام الحدود في المسجد، ويستقاد فيها} ولا يجلد الزاني في المسجد ولا يرجم، ولا يجلد شارب الخمر في المسجد، إلى غير ذلك، بل خارج المسجد، لأنها تأديب وتعزير وتطهير للعصاة، والتطهير إنما يكون خارج المسجد، كما قال بعض الفضلاء الأجلة.
وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال |
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خال |
وأصبح -أحياناً- موسماً لبعض الناس أن يتباهى بإخراج ثرائه في ركوشات وزخرفة ما أنزل الله بها من سلطان.
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها |
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها |
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا خاب راميها |
فصاده خالد كما يصاد الثعلب، وأتى به إلى المدينة وربطه في المسجد، وخرج عليه الصلاة والسلام على هذا السيد، وكان من رجالات العرب، قال: يا محمد! إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم يقول -انتبه: إن عفوت عني سوف أحفظ جميلك، وإن قتلتني فلا تظن أن دمي سوف يذهب هدراً، ورائي ألوف- فتركه عليه الصلاة والسلام وصدف عنه، وكان يسمعه آيات الله البينات في الصلوات: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] منطق العقل والحجة والبرهان لا تضربه ولا تقتله حتى تحاوره وتناقشه وتفهمه: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [الأنعام:148] قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111] فلما سمع كلام الله ثلاثة أيام، قال: أطلقني يا محمد، فأطلقه، فذهب إلى النخل واغتسل وأتى وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
إن من الحكمة أن يؤتى برجل ولو كان كافراً، يسمع كلام الله، يسمع الخطبة، يسمع قراءة الإمام، فإن هذا جائز عند أهل العلم، نصوا على ذلك لحديث في الصحيحين.
والمقصود الأعلى في هذا: أن نسمع الناس الحجة، أن نسمعهم كلام الله، أن نبلغ دوعتنا للناس، وهاهو قد مر علينا قرنان من الزمان لم نقدم للبشرية شيئاً ونحن عالة عليهم في عالم المادة، فالواجب أن نقدم لهم الإيمان كما يقول كريسي موريسون: قدمنا لكم الثلاجة والبرادة والطائرة والصاروخ وما قدمتم لنا الإيمان.
هم يريدون الإيمان، فأين من يقدم الإيمان؟ حتى الإبرة والطباشير مستوردة منهم والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، فيا ليت أننا ارتفعنا في عالم الإيمان، يوم نكصنا في عالم المادة، ولا يعني ذلك أن عالم المادة هو العلم المقصود، فالله يقول: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير |
ولكن الرزية فقد شهم يموت بموته بشر كثير |
هذا سعد اهتز له عرش الرحمن لما مات والحديث صحيح، وقال حسان:
وما اهتز عرش الله من موت هالك سمعنا به إلا لـسعد أبي عمرو |
تغالب الأوس والخزرج في مجلس، قال الخزرج: منا أربعة يحفظون القرآن، قال الأوس: منا من اهتز له عرش الرحمن فأسكتوهم.
هذا تحصيل الحاصل، وإلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من ذلك، هذا من شعر بعض الناس في المخيمات يقول:
رأيت الحق منهزماً فليت الحق لم يهزم |
أبرد من الثلج، فهذا شعرهم، هكذا يقولون: محمد عبد صالح، محمد عبد صالح، فأشرف عليه الصلاة والسلام عليهم وإذا عمر لم ير الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذ يحصبهم بالحصى، وكان عمر قوياً في دين الله، قال صلى الله عليه وسلم: {دعهم يا
القضية أكبر من قضية اللعب، تأتي إلى إنسان يغني وهو لا يصلي، قال أهل العلم: لا تتكلم له في الغناء؛ لأن القضية أكبر من ذلك، أتى صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة وهم يعبدون الأصنام، ويسجدون للأوثان ويشربون الخمر، أينهون عن الخمر في الحرم؟ لا.
يقول ابن تيمية: إن الطبيب إذا شكا من جسمه مرضين مختلفين داوى الأخطر، فالحكمة أن يبدأ بالأهم، والمقصود هنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركهم فسحة في المسجد، فأخذوا راحتهم فلما رأوا أريحيته؛ أسلموا عن بكرة أبيهم.
وإنما أتينا إلى المسجد لندعو حياً قديراً قوياً عالماً، يضر وينفع ويحيي ويميت سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، هذا ابن عربي صوفي دخل مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ولما أصبح عند الروضة سلَّم وقال:
في حالة البعد نفسي كنت أرسلها تقبل الأرض عنكم وهي نائبتي |
وهذه دولة الأشباح قد حضرت فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي |
قال: فانشق القبر وصافحني، وهذا كذب وافتراء على الله، لم يصافحه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، وإنما هذه من الخزعبلات، والبرعي شاعر اليمن خزعبل كذلك يقول:
يا رسول الله يا من ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاماً |
فأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاماً |
فيقول الألوسي راداً عليهم: تركوا الحي الذي يسمع النداء وهو أقرب من نداء القريب إلى القريب، ونادوا الميت الذي لا يسمع، فالمقصود من هذا: تجريد التوحيد في المسجد، وسر الرسالة في المسجد أن تفرد العبودية لله.
يقول: يا جنرالات، ولا يا أمير المؤمنين، ولا يا مهندس، ولا يا فخامة فلان، إنما الناس سواسية يتكلم لهم بقوة، ويجب عليهم أن يسمعوا وأن يصغوا لما يقول.
ثم المسجد ميدان للشورى وبرلمان حافل لتبادل الآراء، والإسلام لا يقتل الكلمة، أنت رجل وأنا رجل، وأنا إنسان وأنت إنسان عليّ أن أسمع منك وتسمع مني قال تعالى في الكافر: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] فكيف بالمؤمن.
قال ابن إسحاق: وقف عمر رضي الله عنه وأرضاه على المنبر يخطب الناس فقال: [[أيها الناس: ما رأيكم لو صدفت عن الطريق هكذا -أي ملت في العدل والدولة، أو ملت عن الإسلام والشريعة- فسكت الصحابة.. أي: هائبين ومقدرين لـ
وروى أهل العلم كـالذهبي وغيره أنه عمر قال مرة: [[أيها الناس! اسمعوا وعوا -على المنبر- قال سلمان: والله لا نسمع والله لا نعي، قال ولمَ؟ قال: تلبس ثوبين وتلبسنا من ثوب ثوب -لأنه أتى بلباس من اليمن هدايا، فكان عمر طوالاً، فأخذ ثوب ابنه عبد الله وثوبه- فقال عمر رد عليه يا عبد الله، فرد عليه وقال: هذا ثوبي من بيت مال المسلمين أعطيته أبي فلبسه مع ثوبه، قال سلمان: الآن قل نسمع وأمر نطع]] واندفع عمر يتكلم.
نعم. والحق شورى والحقوق قضاء.
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه |
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه |
فيك أطياف الهدى قد سبحت وسرى في قلبك الحب الدفين |
وبلال الشوق نادى سحراً ادخلوها بسلام آمنين |
يا مسجداً ما أجملك ما خاب عبد أملك |
إن تحم عيني أن تراك جعلت قلبي منزلك |
القلب حن إلى رؤاك نادى جنابك هيكلك |
منك يا مسجد الطموح انطلقنا كالضياء الجميل في الآفاق |
ورسمنا خلودنا من معانيك وفي راحتيك أحلى العناق |
صوتك العذب بـنهاوند أضحى يتهادى إليه أهل العراق |
أشكركم شكراً جزيلاً على استماعكم وما بقي من وقت فللأسئلة، وأكرر شكري للنادي الأدبي الرائد الحافل، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الجواب: الحمد الله، حدث في عهده صلى الله عليه وسلم مناظرات عدة في المسجد، وأشهرها عند أهل السير والتاريخ ما وقع بينه وبين بني تميم عندما وفدوا بسبعة أو ثمانية، منهم قيس بن عاصم المنقري حليم العرب، الذي يقول فيه الشاعر:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته وما شاء أن يترحما |
تحية من ألبسته منك نعمةً إذا زار عن شحط بلادك سلما |
وما كان قيس موته موت واحد ولكنه بنيان قوم تهدما |
فـقيس وفد مع الوفد، ووفدوا بـالزبرقان بن بدر وكان عنده قصيدة أعد لها من زمن، وعطارد بن حاجب بن زرارة معه خطبة، فلما وفدوا عند الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم أسلموا، قالوا: لا نسلم حتى يغالب شاعرنا شاعرك، أي: نفاخرك، فقال صلى الله عليه وسلم: عليّ بـحسان، فأتوا بـحسان واجتمع الناس، وقام الزبرقان قال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا منا الملوك وفينا تنصب البيع |
أو كما قال، فرد عليه حسان في الموقف نفسه وقال:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنناً للناس تتبع |
يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا |
فغلبه، ثم قام عمرو بن الأهتم فألقى خطبة فغلبه ثابت بن قيس بن شماس فقال بنو تميم: غلب شاعرك شاعرنا، وخطيبك خطيبنا، ثم أسلموا.
الجواب: في هذه المسألة حديثان صحيحان، حديث مجيز وحديث يمنع، والجمع بينما سهل، أما الحديث الأول في الصحيحين: {أن
والحديث الثاني حسن رواه أبو داود في السنن وذكره ابن حجر في الإصابة، يقول عليه الصلاة والسلام: {من رأيتموه ينشد في المسجد شعراً فقولوا: فض الله فاك} الجمع بينهما يقال: أما الشعر المأذون به فهو الشعر الإسلامي المنضبط المباح، وأما الشعر الممنوع فهو شعر الغزل المقيت والفحش والبذاء والهجاء.
الجواب: الكتابة من داخل المسجد ليس لها أصل في الشريعة، وقد بحثت هذه المسألة عند كثير من هيئة كبار العلماء، ولم يجدوا لها أصلاً عن رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، وإنما أدخلها في المسجد النبوي فيما أعلم السلاجقة، وقيل: العثمانيون وليس لها أصل في الإسلام من قبل، وليست من السنة في شيء، والرسول صلى الله عليه وسلم منع المباهاة بالزينة والزخرفة في مسجده صلى الله عليه وسلم وفي المساجد عامة، ومن عنده في ذلك دليل فليأتنا به.
الجواب: إذا بيع خارج المسجد فلابد من ضابط، أن يكون قبل النداء الثاني، أمَّا بَعْد النداء الثاني فيحرم بالإجماع عند أهل العلم، وأما بيعه خارج المسجد في أي وقت غير هذا الوقت فجائز.
الجواب: الرواية يقول بوضعها ابن القيم وكثير من المحدثين كـالذهبي وابن كثير وغيرهما، ولكنها تنجبر بمجموع الطرق وتعتضد، نعم صحيح أن القصيدة لـكعب، ولكن الضعف عندهم، هل قالها كعب أمام الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد، وإلا فهي له وقالها في الرسول عليه الصلاة والسلام وقال أهل السير: إنه أتى في الليل وبات عند أبي بكر، وشكى إليه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أهدر دمه وقال: {من وجد
الجواب: هذا الحديث صحيح عن جابر في كتاب المساجد في صحيح البخاري: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له منبر من نخل، فقال لامرأة من الأنصار: مري ابنك النجار أن يصنع لي منبراً أكلم الناس عليه، فصنع له منبراً على ثلاث درجات -وهو السنة- فقام صلى الله عليه وسلم يتكلم على ذاك المنبر الجديد وترك القديم، فحن له القديم بصوت مرتفع، كصوت العشار وكبكاء الأطفال} أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [الطور:15] بل هو الحق الصراح، الجماد يسري في عروقه حب محمد عليه الصلاة والسلام فكيف بالمؤمنين؟! يقول الحسن معلقاً على هذا الحديث كما ذكر ابن حجر: يا عجباً لكم!! هذا خشب حن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تحنون له؟!
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا |
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرف نلام وما علينا |
ولما نلقكم لكن ذكراً يذكرنا فكيف إذا التقينا |
تسلى الناس بالدنيا وإنَّا لعمر الله بعدك ماسلينا |
الجواب: لا. ليس هنا وضوء، ومن دخل عليه الوقت وعليه جنابة وخاف أن يخرج الوقت فيتيمم ويصلي؛ لأن التيمم يكون إما لمرض أو لفقدان الماء، وهذا فقد الماء وخاف أن يخرج عليه الوقت، وهذا نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: لأن مداركة الوقت أولى من طلب الماء حتى يفوت الوقت، والصلاة بالتيمم هي ما أوجبه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليه، لأنه لم يجد ماء وفي قراءة (فإن لم تجدوا ماء) والقراءة المشهورة فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [النساء:43].
الجواب: ثاني مسجد هو مسجد جواثى في البحرين، والبحرين هي الأحساء الآن، وهو إلى الآن معمور بعمارة قديمة بأطرافه الأربعة، وأسسه في عهده عليه الصلاة والسلام وفد عبد القيس بعدما وفدوا إليه عليه الصلاة والسلام.
الجواب: ليس الأمر فرضاً أن يكون هناك تخصصات في المسجد، بل على الميسور، وما دام وقد وحدت جامعات تقوم بهذا الدور فلها ذلك القدر، لأن بعض الإمكانيات والملابسات والمقارنات وحاجة بعض العلوم كوجود بعض المعامل وكثير من الأقسام، وغيرها من التخصصات قد لا يتسنى وجودها في المسجد، لكن في حالة أن يكون هناك علم نظري يقرأ في حلقات فلا بأس، وذكر عن سعيد الحلبي أنه كان يدرس علم المثلثات في المسجد، ودرس كثير منهم المنطق في المسجد، والمأمون أدخل كثيراً من العلوم على المسلمين، يقول ابن تيمية: المأمون سوف يسأله الله عن العلوم التي أدخلها على المسلمين، أي: التي ما كان فيها خير.
الجواب: مصلى العيد يسمى مصلى ولا يسمى مسجداً؛ لأن المسجد هو ما تعود فيه الصلاة، إما صلاة في كل يوم مرة، أو الصلوات الخمس، ولذلك لا يصلي التحية من أتى يوم العيد أو الاستسقاء، بل يجلس في المصلى بخلاف المسجد؛ لأن المسجد اسم مكان لما يسجد عليه.
الجواب: لا عبرة بالتسمية، العبرة بالمعاني، قد يسمونها صالة، وهم يصلون فيها دائماً الصلوات الخمس، وعرف ذلك عنهم فتأخذ حكم المسجد؛ لأن المعنى أنها أصبحت كالمسجد، أما أن يسميها صالة أو غرفة أو كذا، فليس العبرة إلا بالمعنى.
الجواب: الذي يظهر عند أهل العلم إما أنهم جعلوا سن السابعة هي دخول المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما عند أحمد وأبي داود بسند صحيح: {مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع}.
الجواب: إذا انضبطوا وتأدبوا في المسجد فلا بأس، فإن المقصود من منعهم: منع التشويش على المصلين والإزعاج، فإن انتفت العلة انتفى المعلول.
الجواب: أولاً في هذا الحديث ثلاث مسائل، يقول أهل العلم: يقول صلى الله عليه وسلم: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} والنصارى ليس لهم نبي إلا واحد هو عيسى عليه السلام، فكيف يجعل صلى الله عليه وسلم لهم أنبياء؟ قالوا: هذا من التغليب وهو باب معروف في النحو.
الأمر الثاني: كيف اتخذوها مساجد؟ قالوا: للعبادة والتوسل والقربات.
الأمر الثالث: أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد عصمه الله من ذلك، ولما حضرته الوفاة قال: {اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد} وبعض الناس كما نشرت بعض الصحف يتكلم في هذه القضية بمثل هذه الأوقات يريد أن يثير الناس بحجية أن القبر داخل المسجد، وهذا الكلام ليس له أساس من الصحة، أولاً: أن الله عصم رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعبد من دونه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قضاء وقدراً من الله.
الأمر الثاني: أن غرفته صلى الله عليه وسلم ليست في المسجد، وإنما هي كما يقول ابن القيم مثلثة الجدران في منظومته، وليس من يصلي يتجه للغرفة بل إنما هو يتجه إلى الروضة، وإلى القبلة ولا يتجه إلى غرفته عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثالث: أن أهل العلم من التابعين كـسعيد بن المسيب وغيرهم سكتوا عن ذلك، وسكوتهم شبه إجماع والأمة لا تجتمع على ضلالة أبداً، وسكت عنها أهل القرون المفضلة إلى هذا القرن، ولا يمكن أن يجمع الله أمة رسوله عليه الصلاة والسلام على سنة باطلة أبداً.
فقل للعيون الرمد للشمس أعينٌ تراها بحق في مغيب ومطلع |
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأهوائها لا تستفيق ولا تعي |
الجواب: بين الأذان والإقامة لا بأس به، وفي فتاوى ابن تيمية أنه قال: التصافح بعد الصلاة بدعة، ومقصود ابن تيمية ما يفعله بعض الناس من الجاليات كما تعرف في بعض البلدان، إذا سلم سلم عن يمينه ويساره دائماً باستمرار، فجعلوها كأنها من السنة؛ حتى ما يسلم التسليمة الثانية إلا ويبدأ يسلم عليك وقد رآك في اليوم عشرين مرة، فهذه يقول ابن تيمية: ما كان يفعلها الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه، والسر في منع ذلك؛ لأنها تشوش على الذاكر بعد الصلاة، إذ من السنة أن تستغفر وتسبح ثلاثاً وثلاثين وبقية الأذكار، فإذا جعلت هذه سنة عطلت الفوائد والذكر والعبادة، فمنعها ابن تيمية وأهل السنة، وأما بين الأذان والإقامة فالأمر فيه سعة، صافح الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه والقادمين من الأعراب، وعانق بعض الناس وتكلم معهم فالأمر فيه سعة بإذن الله.
الجواب: النوم في المسجد للحاجة جائز، وعند البخاري حديث أنس أنه قال: تغاضب علي وفاطمة بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، فخرج علي فنام في المسجد، فقال صلى الله عليه وسلم: أين هو؟ يعني: علياً؟ -قالت: في المسجد؛ غاضبني فخرج المسجد -بشر مهما بلغوا من الرقي ومهما بلغوا من الإيمان لكن يتعاملون تعامل البشر، رجل يغاضب زوجته -فخرج صلى الله عليه وسلم فوجده نائماً في المسجد، فأخذ يضربه برجله ضرباً خفيفاً ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب، قم أبا تراب، كان بنو أمية يعيرون علياً ويقولون قم أبا تراب، قال: والله إنها من أحب الكنى إلى نفسي، ثم يقول:
وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها |
ونام رسول الله في المسجد لحديث سهل بن سعد أنه اضطجع صلى الله عليه وسلم ووضع رِجلاً على رِجل، وقال ابن عمر في الصحيح: [[كنت رجلاً عزباً فأنام في المسجد]] وهذا الأمر وارد للحاجة، أما لغير الحاجة فلا. هناك فنادق وأماكن وبيوت، لكن الإنسان إذا اضطر وما وجد مكاناً إلا المسجد؛ فله أن ينام كما فعل أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر