إسلام ويب

الصائمون الصادقونللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خمس عشرة مسألة أوردها الشيخ في الإخلاص، والمتابعة، والصدق، وصوم القلب والجوارح، واستغلال الأوقات في الدعاء والمناجاة .. كلمات مضيئة، وأشعار وضيئة، قصص وأقوال .. وصايا ونصائح، فإذا أردت أن تكون من صنف الصائمين الصادقين فاستنر بهذه المادة.

    1.   

    إخلاص العمل لوجه الله

    الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالهداية الربانية فأنار به سبل الإنسانية، وهدى به البشرية، وزعزع به كيان الوثنية، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد:

    فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته:

    شكر الله لأهل الفضل فضلهم، وعلى رأسهم رئيس هذا النادي، وأعضاء هيئته، والمشاركون والحضور، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى كما جمعنا بكم هنا أن يجمعنا هناك في مقعد صدق عند مليك مقتدر يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [التحريم:8] يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106].

    عنوان المحاضرة: (الصائمون الصادقون) والداعية المسلم يجتاب النوادي كالمساجد، ويحضر المحافل كالأسواق، ويشهد مجامع الناس، وله أن يشارك ويرى، فما معنا إلا إخوان، وما أتينا إلا إلى خلان، وما زرنا إلا الجيران، نحن وإياهم في هدف واحد، والمقصد هو وجه الله -إن شاء الله- لترتفع لا إله إلا الله محمد رسول الله، فرسولنا أول داعية بعد الفترة، طرق سمع التاريخ وتكلم على منبر الدنيا، جاب الأسواق، وحضر الأندية، وتكلم في مجامع الناس؛ ليبلغ راية الله، يقول محمد إقبال شاعر الباكستان عن الداعية المسلم وعن دوره في الحياة:

    أنت كنز الدر والياقوت فـي     لجة الدنيا وإن لم يعرفوك

    محفل الأجيال محتاج إلى     صوتك العالي وإن لم يسمعوك

    أما عناصر هذه المحاضرة فهي تدور على سبع عشرة مسألة:

    المسألة الأولى: إخلاص العمل لوجه الله في كل عمل.

    المسألة الثانية: المتابعة للإمام الأعظم محمد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.

    المسألة الثالثة: الصدق وحسن التوجه إلى الباري جلت قدرته.

    المسألة الرابعة: قلوب صامت عن السوء، كيف تعيش القلوب في رمضان؟ وكيف تحيا بذكر الواحد الديان؟ وكيف ترفرف على سبحات الرحمن؟

    المسألة الخامسة: فهي العيون التي عرفت الصيام، كيف تصوم العيون..؟

    سهر العيون لغير وجهك ضائع     ورضا النفوس بغير ذاتك باطل

    المسألة السادسة: فهي ألسنة هجرت اللغو وحبست عن الكلام في غير مرضاة الله فهو صيامها، وسوف نقف عند هذه المسائل بإذن الله.

    السابعة: أذن تأبى الخنا والزور، وقاطعت كل أغنية ماجنة، وكل كلمة فحش، وكل كلمة فيها بذاءة.

    المسألة الثامنة: يد تمتد بالإحسان وتكف عن الباطل في رمضان وفي غير رمضان.

    المسألة التاسعة: فما هي الرِّجل! التي تحمل صاحبها لتقف على ساحة الحق وتحجم عن المنكر؟

    المسألة العاشرة: البطون الجائعة في مرضاة المولى.

    المسألة الحادية عشرة: أكباد ضمئت لتشرب من الكوثر يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

    المسألة الثانية عشرة: الصائمون في جلسة السحر مع رب العزة والجلال، يوم يتجلى لعباده في الثلث الأخير، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داعٍ فأجيبه؟

    المسألة الثالثة عشرة: الصائمون يسافرون مع القرآن الكريم في رحلة ممتعة.

    أما المسألة الرابعة عشرة: فهي في دقائق الإفطار روعة وجلال، يوم تأتي الشفاه إلى الطعام وتمتد الأيادي إلى فضل الله، إنها ساعة الاستجابة، وللصائم فيها دعوة لا ترد.

    المسألة الخامسة عشرة: صلاة التراويح، حشد هائل من المؤمنين يحضرون جلسات الخير والسجدات التي تعتقهم من الرق والعبودية لغير الله.

    المسألة السادسة عشرة: الفقراء يمدون أيديهم.

    المسألة السابعة عشرة: رمضان مدرسة روحية تربوية.

    تلكم أيها الفضلاء النبلاء! أيها السادة الأخيار الأبرار! أيها المستقبلون لشهر رمضان! تلكم المسائل التي نريد أن نتكلم عنها في هذا الدرس بحول الله.

    يا رب هب لي بياناً أستعين به     على قضاء حقوق نام قاضيها

    فمر سري المعاني أن يواتيـني     ربي فإني ضعيف الحال واهيها

    الأدلة الدالة على وجوب الإخلاص لله تعالى

    أما إخلاص العمل فالمقصد هو الله، وكان أحد الوعاظ إذا جلس في مجلس الوعظ قال وهو يلتفت إلى السماء: إنك تعلم ما نريد قال سبحانه: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] فما عمل للدنيا يفنى، وما عمل لأجل الناس يذهب للناس قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] وقال: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] وقال عز من قائل: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3] قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110] صائمان اثنان، هذا جائع وذاك جائع، وهذا ظمئ وذاك ظمئ، وهذا سهر وذاك سهر، ولكن..

    لشتان ما بين اليزيدين في الندى     يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم

    أما ذاك فتقبل الله عمله؛ لأنه قصد وجه الله، ورضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه أراد بعمله وجه الله، وهذا رد الله عليه عمله كله، فلا قبل جوعه ولا ظمأه ولا سهره ولا صيامه..!

    وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يقول الله عز وجل: من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه} والله يترك من يشرك معه، وهذه هي المراءاة، وفي الصحيحين {من راءى راءى الله به، ومن سمع سمّع الله به}.

    إذاً يا أيها الفضلاء! يا أيها النبلاء! لا بد أن نعرف مسألتين في الإخلاص:

    معرفة الله سبب الإخلاص

    أولها: أن نعرف الله، فهو القدير الذي بيده مفاتيح القلوب، والمعطي والمفقر، والمانع والقابض، والباسط والرازق، والمحيي والمميت، قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً [الفرقان:3].

    إخوتي في الله! يقول عليه الصلاة والسلام: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} كثير من الناس يجودون صلاتهم من أجل الناس، ويصومون من أجل الناس، ويتلون كتاب الله من أجل الناس قال الله فيهم: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:22].

    فأوصي نفسي -أولاً- وإياكم بمعرفة الباري، من هو الله؟

    إن الله تعالى يوم لقيه موسى ليملي عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى دعوة التوحيد، قال: يا موسى! إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14] ولذلك أعلن شاعر السودان الإيمان في قصيدته وهو يتكلم عن رسالة التوحيد التي تركها كثير من شعرائنا، وصاروا يتكلمون عن الفتاة، والزهرة، وعن الهيام، والشاطئ والماء، ولكن لا يربطون ذلك بالواحد الأحد، أما شاعر السودان فيقول في قصيدة الإيمان:

    بك أستجير ومن يجير سـواكا     فأجر أجيراً يحتمي بحماكا

    إلى أن يقول:

    أشكو إليك مصائباً أهفو بهـا     يا رب هل من غافر إلاكا

    إبليس يخدعني ونفسي والهوى     ما حيلتي في هذه أو ذاكا

    ثم يقول وهو يتكلم عن الإخلاص والإيمان والتوحيد:

    قل للطبيب تخطفته يد الـردى     من يا طبيب بطبه أرداكا

    قل للمريض نجا وعوفي بعدمـا     عجزت فنون الطب من عافكا

    والنحل قل للنحل يا طير البوادي     ما الذي بالشهد قد حلاكا

    وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ      فاسأله من ذا بالسموم حشاكا

    واسأله: كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو      تحيا وهذا السم يملأ فاكا

    فالحمد لله العظيم لذاته     حمداً وليس لواحد إلاكا

    لا بد أن ندخل المسجد موحدين، والنادي موحدين، والسوق موحدين.

    ما هي رسالتنا؟ وما هي أصالتنا؟ ما هو عمقنا؟ ما هو شرفنا في الحياة؟؟

    شرفنا وأصالتنا وعمقنا هو لا إله إلا الله محمد رسول الله، نحن لم نخلق للغناء، ولا للرقص والتطبيل والمسرحية الآثمة، والفيديو المهدم، أتعلمون أن أرذل الناس هم هؤلاء المغنون الذين يصدون الناس عن لا إله إلا الله، الذين يقربون الزنا والفحش والبذاءة وقلة الحياء من الأمة!! هؤلاء والله عيب أن يتصدروا المجتمع، وعيب أن يقودوا الشباب! وعيب أن يتصدروا الموكب! وعيب أن يكونوا في أول الركب! هؤلاء لا قيمة لهم؛ لأن أهل القيمة هم أهل الإيمان الذين خاطبهم الله بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [الأحزاب:70] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] هم أهل الإيمان..

    عباد ليل إذا جن الظلام بهـم     كم عابد دمعه في الخد أجراه

    وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم     هبوا إلى الموت يستجدون لقياه

    يا ربُ فابعث لنا من مثلهم نفراً     يشيدون لنا مجداً أضعناه

    أضعناه ومزقه شامير ورابين، وأعداء الشعوب؛ يوم تركنا لا إله إلا الله محمد رسول الله.

    المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم

    أما العنصر الثاني فهو متابعة المصطفى عليه الصلاة والسلام، أولاً: اسأل نفسك في صيامك، وصلاتك، وحجك، في هديك، في ليلك ونهارك من هو إمامك؟ من هو قدوتك؟ من هو الذي تحبه في الحياة؟

    نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه     فيه العفاف وفيه الجود والكرم

    يا خير من دفنت القاع أعظمه     فطاب من طيبهن القاع والأكم

    اسأل نفسك من هو قدوتك في الحياة؟ اعرض أعمالك على محمد عليه الصلاة والسلام وعلى أعماله فإنه برهان، زن أقوالك بأقواله فإنه ميزان، اعرض نفسك عليه فإن قبلت فبها ونعمت، إن وافقت النسخة النسخة فقد نجحت وأفلحت، وإن اختلفت النسخة عن النسخة فاعرف أن في البضاعة بهرجاً، وأن في العملة زيفاً، وأن في البضاعة غشاً لا يقبله الله، قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] وقال سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].

    من الذي أحيا القلوب بإذن الله؟

    من الذي غرس فيها لا إله إلا الله وكانت ميتة؟ من الذي أخرج للعالم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وأبياً وطلحة والزبير وحسان وابن عباس؟

    أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له     وأنت أحييت أجيالاً من الرمم

    أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه     والرسل في المسجد الأقصى على قدم

    كنت الإمام لهم والجمع محتفل     أعظم بمثلك من هادٍ ومؤتمم

    أليس كسافة؟ أليس خزياً وعاراً أن يحفظ بعض الناس تواريخ البشر وينسون تاريخ أعظم البشر! يقرءون سيرة أخس البشر ويتركون سيرة أكرم البشر؟! يحفظون آداب أحقر البشر الأقزام! ويتركون العظيم الذي لم يطرق العالم مثله!

    والله لقد شهد الأعداء له، والله لقد اعترفوا بفضله، جولد زيهر المجري الذي هاجم الحديث يتهيب عن الهجوم على محمد صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه عظيم! إنه رجل عبقري! نشر الخير في الأرض.."

    أتطلبون من المختار معجزة     يكفيه شَعْبٌ من الأموات أحياه

    أهل الجزيرة، أهل الضأن، والغنم، والإبل، والعمالة، والجهالة، والضلالة، يخرجهم بعد خمس وعشرين سنة ليحملوا لا إله إلا الله في طشقند وسمرقند والهند ويقفون على ضفاف الأطلنطي ونهر الأوار. بماذا أخرجهم؟ لقد أدبهم ووجههم إلى المنهج السليم؟!

    فالمطلوب منا في العنصر الثاني المتابعة في الصيام، ما هو هديه في الصيام؟ وكيف كان صائماً؟ وأحسن من أدلكم على تأليفه في هذا الموضوع هو الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه زاد المعاد.

    فهديه صلى الله عليه وسلم في الصيام، أنه كان أصبر الناس على الصيام، يواصل الليالي والأيام ولا يأكل اللقمة ولا يشرب جرعة، فكان الصحابة يحبون أن يواصلوا مثله ولكن هيهات! شتان ما بين الفريقين والواديين والمثلين، هم فضلاء لكنه من نوع آخر!

    وإن تفق الأنام وأنت منهم     فإن المسك بعض دم الغزال

    يقول: {إني لست كهيئتكم} ورفض أن يواصلوا معه قالوا: ولم؟ قال: {إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني} يا للعظمة! يا للجلال! الله يطعمك ويسقيك فيكف تكون صائماً؟

    قال ابن القيم: ليس طعاماً محسوساً، ولا شراباً محسوساً، طعام المعاني، طعام أرواح الكلمات النيرات التي تتنزل عليه من السماء، طعام الإشراق والحكمة، طعام المعرفة؛ ولذلك يقول الأندلسي يوصي ابنه:

    فقوت الروح أرواح المعاني     وليس بأن طعمت ولا شربتا

    قوت الروح القرآن، قوت الروح المعاني، تجد الشاعر الذي يعيش الأحاسيس فينظم قصيدة جميلة فيشبع من قصيدته وجمالها، فينسى الطعام، وينسى الخبز والماء والفاكهة! فنقول: لم؟ فيقول: أنساني جمال التصوير والإبداع في القصيدة، والإشراق في المعاني أن آكل أو أشرب! فما بالك بمن جبريل يتنزل عليه بالوحي والكلام من السماء؟ قال: يطعمني ربي ويسقيني.

    قال ابن القيم: يطعمه معاني وكلمات نيرات وحكماً، ثم يستشهد بقول شاعر عربي سافر إلى محبوبته! فنسي الطعام والشراب وأصبح على الناقة يمشي ويقول:

    لها أحاديث من ذكراك تشغلها     عن الطعام وتلهيها عن الزاد

    لها بوجهك نور تستضيء به      ومن حديثك في أعقابها حاد

    إذا تشكت كلال السير أسعفها      شوق القدوم فتحيا عند ميعاد

    هذا طعامه وشرابه عليه الصلاة والسلام يوم يواصل، أما الذي يُطْلَبُ منا: هو أن نعيش رمضان كما عاشه عليه الصلاة والسلام، فحياة النوم من الصباح إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى المغرب ليست بحياة، وليس هذا بصيام، يصوم الإنسان وهو يحلم ويرى في المنام أنه صائم وهو لم يصم! لا جاع ولا ظمئ ولا عاش مع القرآن، أهذا صيام؟ من أين أتى هذا الصيام؟ حياة السهر في غير طاعة منذ صلاة العشاء، بل بعضهم يترك صلاة التراويح والقيام ويذهب للسهر حتى صلاة الفجر، يسهر مع أغنية ماجنة، أو عزف على الناي، أو رقصة وعرضة شعبية إلى السحر، يوم يتنزل الله إلى السماء الدنيا!

    قلت لليل: هل بجوفك سر     عامر بالحديث والأسرار؟

    قال: لم ألق في حياتي حديثاً     كحديث الأحباب في الأسحار

    يوم تمتد الأكف: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] من يتوب عليك؟ من يهديك سواء السبيل؟ من يرزقك؟ من يحل مشكلاتك في الحياة؟ من يؤمن مستقبلك إلا الله؟ قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66] عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88] وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] كل المخلوقات يموت إلا الله كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

    يا إخوتي في الله! حياة الصيام هي حياة القرآن، حياة تحفظ سمعك وبصرك وقلبك عما لا يرضي الله.

    الصدق وحسن التوجه إلى الباري

    الإخلاص شيء من الصدق والصدق شيء من الإخلاص، لكن الصدق يزيد عليه، الصدق أن تصدق في عبادتك قال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] أن تصدق في الكلام، أن تصدق في العمل، يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً} الصدق عجيب! الصدق من أحسن ما يكون!

    سجن أحد الأخيار من العلماء في سجن بغداد، وكان الذي سجنه هو الخليفة المهدي بن أبي جعفر المنصور، وسبب السجن أن الخليفة قال له: لابد أن تخبرني أين عيسى بن زيد -وهو من نسل وأحفاد علي بن أبي طالب - وعيسى بن زيد رجل فاضل عظيم، ولكنه اتهم بأنه يريد الخلافة، فأتى الوشاة، وقالوا: هذا الرجل الصالح في بيتك. فذهبوا به إلى الخليفة، فقال له الخليفة: أخرج عيسى بن زيد. قال: والله ما كذبت في حياتي، ووالله الذي لا إله إلا هو لو كان عيسى بن يزيد بين جلدي وعظمي ولحمي ما أخرجته، أتقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: اضربوا عنقه. فاقتربوا بالسيف من عنقه قال: قل لي: أين هو؟ قال: والله لا أكذب أبداً، وهل جزاء الصدق إلا الجنة، اضرب عنقي. فضرب ففصل رأسه عن جسده، (ذكر هذه القصة ابن خلكان).

    أدخلوا رجلا من الصالحين قيل: إنه زر بن حبيش على الحجاج، فقال الحجاج: أين ابنك؟ قال: أنا لم أكذب في حياتي، ولو كذبت كتمت عليك أين ابني فأنا كاذب، ابني في البيت. فجازاه الله جزاء الصدق بالصدق، ومعنى الصدق: أن تصدق في العبادة وأن تكون موافقة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم

    أما العنصر الثاني فهو متابعة المصطفى عليه الصلاة والسلام، أولاً: اسأل نفسك في صيامك، وصلاتك، وحجك، في هديك، في ليلك ونهارك من هو إمامك؟ من هو قدوتك؟ من هو الذي تحبه في الحياة؟

    نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه     فيه العفاف وفيه الجود والكرم

    يا خير من دفنت في القاع أعظمه     فطاب من طيببهن ذاك القاع والأكم

    محمد صلى الله عليه وسلم قدوتنا في الحياة

    اسأل نفسك من هو قدوتك في الحياة؟ اعرض أعمالك على محمد عليه الصلاة والسلام وعلى أعماله فإنه برهان، زن أقوالك بأقواله فإنه ميزان، اعرض نفسك عليه فإن قبلت فبها ونعمت، إن وافقت النسخة النسخة فقد نجحت وأفلحت، وإن اختلفت النسخة عن النسخة فاعرف أن في البضاعة بهرجاً، وأن في العملة زيفاً، وأن في البضاعة غشاً لا يقبله الله، قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] وقال سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].

    من الذي أحيا القلوب بإذن الله؟

    من الذي غرس فيها لا إله إلا الله وكانت ميتة؟ من الذي أخرج للعالم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وأبياً وطلحة والزبير وحسان وابن عباس؟

    أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له     وأنت أحييت أجيالاً من الرمم

    أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه     والرسل في المسجد الأقصى على قدم

    كنت الإمام لهم والجمع محتفل     أعظم بمثلك من هادٍ ومؤتمم

    أليس كسافة؟ أليس خزياً وعاراً أن يحفظ بعض الناس تواريخ البشر وينسون تاريخ أعظم البشر! يقرءون سيرة أخس البشر ويتركون سيرة أكرم البشر؟! يحفظون آداب أحقر البشر الأقزام! ويتركون العظيم الذي لم يطرق العالم مثله!

    والله لقد شهد الأعداء له، والله لقد اعترفوا بفضله، جوز سهير الهُجري الذي هاجم الحديث يتهيب عن الهجوم على محمد صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه عظيم! إنه رجل عبقري! نشر الخير في الأرض.."

    أتطلبون من المختار معجزة     يكفيه شَعْبٌ من الأموات أحياه

    أهل الجزيرة.

    أهل الضأن، والغنم، والإبل، والعمالة، والجهالة، والضلالة، يخرجهم بعد خمس وعشرين سنة ليحملوا لا إله إلا الله في طشقند وسمرقند والهند ويقفون على ضفاف الأطلنطي ونهر الأوار. بماذا أخرجهم أدبهم ووجههم إلى المنهج السليم؟!

    هديه صلى الله عليه وسلم في الصيام

    فالمطلوب منا في العنصر الثاني المتابعة في الصيام، ما هو هديه في الصيام؟ وكيف كان صائماً؟ وأحسن من أدلكم على تأليفه في هذا الموضوع هو الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه زاد المعاد.

    هديه صلى الله عليه وسلم في الصيام، أنه كان أصبر الناس على الصيام، يواصل الليالي والأيام ولا يأكل اللقمة ولا يشرب جرعة، فكان الصحابة يحبوا أن يواصلوا مثله ولكن هيهات! شتان ما بين الفريقين والواديين والمثلين، هم فضلاء لكنه من نوع آخر!

    وإن تفق الأنام وأنت منهم     فإن المسك بعض دم الغزال

    يقول: {إني لست كهيأتكم} ورفض أن يواصلوا معه قالوا: ولم؟ قال: {إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني} يا للعظمة! يا للجلال! الله يطعمك ويسقيك فيكف تكون صائماً؟

    قال ابن القيم: ليس طعاماً محسوساً، ولا شراباً محسوساً، طعام المعاني، طعام أرواح الكلمات النيرات التي تتنزل عليه من السماء، طعام الإشراق والحكمة، طعام المعرفة؛ ولذلك يقول الأندلسي يوصي ابنه:

    فقوت الروح أرواح المعاني     وليس بأن طعمت ولا شربتا

    قوت الروح القرآن، قوت الروح المعاني، تجد الشاعر الذي يعيش الأحاسيس فينظم قصيدة جميلة فيشبع من قصيدته وجمالها، فينسى الطعام، وينسى الخبز والماء والفاكهة! فنقول: لم؟ فيقول: أنساني جمال التصوير والإبداع في القصيدة، والإشراق في المعاني أن آكل أو أشرب! فما بالك بمن جبريل يتنزل عليه بالوحي والكلام من السماء؟ قال: يطعمني ربي ويسقيني.

    قال ابن القيم: يطعمه معانٍ وكلمات نيرات وحكم، ثم يستشهد بقول شاعر عربي سافر إلى محبوبته! فنسي الطعام والشراب وأصبح على الناقة يمشي ويقول:

    لها أحاديث من ذكراك تشغلها     عن الطعام وتلهيها عن الزاد

    لها بوجهك نور تستضيء به      ومن حديثك في أعقابها حاد

    إذا تشكت كلال السير أسعفها      شوق القدوم فتحيا عند ميعاد

    هذا طعامه وشرابه عليه الصلاة والسلام يوم يواصل، والذي يُطْلَبُ منا: هو أن نعيش رمضان كما عاشه عليه الصلاة والسلام، فحياة النوم من الصباح إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى المغرب ليست بحياة، وليس هذا بصيام، يصوم الإنسان وهو يحلم ويرى في المنام أنه صائم وهو لم يصم! لا جاع ولا ظمأ ولا عاش مع القرآن، أهذا صيام؟ من أين أتى هذا الصيام؟ حياة السهر في غير طاعة منذ صلاة العشاء، بل بعضهم يترك صلاة التراويح والقيام ويذهب للسهر حتى صلاة الفجر، يسهر مع أغنية ماجنة، أو عزف على الناي، أو رقصة وعرضة شعبية إلى السحر، يوم يتنزل الله إلى السماء الدنيا!

    قلت لليل: هل بجوفك سر     عامر بالحديث والأسرار؟

    قال: لم ألق في حياتي حديثاً     كحديث الأحباب في الأسحار

    يوم تمتد الأكف: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] من يتوب عليك؟ من يهديك سواء السبيل؟ من يرزقك؟ من يحل مشكلاتك في الحياة؟ من يؤمن مستقبلك إلا الله؟ قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66] عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88] وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] كل المخلوقات يموت إلا الله كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

    يا إخوتي في الله! حياة الصيام هي حياة القرآن، حياة تحفظ سمعك وبصرك وقلبك عما لا يرضي الله.

    1.   

    الصدق وحسن التوجه إلى الباري عز وجل

    الإخلاص شيء من الصدق والصدق شيء من الإخلاص، لكن الصدق يزيد عليه، الصدق أن تصدق في عبادتك قال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] أن تصدق في الكلام، أن تصدق في العمل، يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) الصدق عجيب! الصدق من أحسن ما يكون!

    أبو جعفر المنصور وأحد الأخيار

    سجن أحد الأخيار من العلماء في سجن بغداد، وكان الذي سجنه هو الخليفة المهدي بن أبي جعفر المنصور، وسبب السجن أن الخليفة قال له: لابد أن تخبرني أين عيسى بن زيد -وهو من نسل وأحفاد علي بن أبي طالب - وعيسى بن زيد رجل فاضل عظيم، ولكنه اتهم بأنه يريد الخلافة، فأتى الوشاة، وقالوا: هذا الرجل الصالح في بيتك. فذهبوا به إلى الخليفة، فقال له الخليفة: أخرج عيسى بن زيد. قال: والله ما كذبت في حياتي، ووالله الذي لا إله إلا هو لو كان عيسى بن يزيد بين جلدي وعظمي ولحمي ما أخرجته، أتقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: اضربوا عنقه. فاقتربوا بالسيف من عنقه قال: قل لي: أين هو؟ قال: والله لا أكذب أبداً، وهل جزاء الصدق إلا الجنة، اضرب عنقي. فضرب ففصل رأسه عن جسده، (ذكر هذه القصة ابن خلكان).

    الحجاج وزر بن حبيش

    أدخلوا رجلا من الصالحين قيل: إنه زر بن حبيش على الحجاج، فقال الحجاج: أين ابنك؟ قال: أنا لم أكذب في حياتي، ولو كذبت كتمت عليك أين ابني فأنا كاذب، ابني في البيت. فجازاه الله جزاء الصدق بالصدق، ومعنى الصدق: أن تصدق في العبادة وأن تكون موافقة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    قلوب صامت عن السوء

    يا أيها الإخوة!! إن مفهوم الصيام عند كثير من المسلمين أن يترك الخبز والفاكهة واللحم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا صيام في الشريعة، لكن مفهوم الصيام ومقصده ودلالته: أن تصوم قلبك عن السوء، كم امتلأت قلوبنا من السيئات، من الكبر، والعجب، والحقد، والحسد وهذا ليس بصيام، كيف تصوم البطن ولا يصوم القلب؟

    كيف يصوم من يعتقد الاعتقادات السيئة الباطلة؟ استهزاء بالكتاب والسنة، واستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم، الاستهزاء بالصالحين، والتكبر على عباد الله، والعجب بما عنده من منصب أو ثروة أو وظيفة أو سيارة أو فلة.. كيف يصوم؟

    والله إن قلوب بعض الناس كقلب فرعون ولو كان يصلي مع الناس، ويصوم شهر رمضان، ويحج البيت العتيق..! فإن قلبه مثل قلب فرعون، لا يرى البشر، ولا ينظر إلى الناس، ولا يرد السلام، ولا يبتسم، ولا يعرف من الإسلام شيئاً، صور له شيطانه أنه من أعظم الناس.

    خفف الوطء ما أظن أديم الأ     رض إلا من هذه الأجساد

    صاح هذي قبورنا تملأ الرحـ     ـب فأين القبور من عهد عاد

    وقد انتشرت ظاهرة الكبر في المجتمع، خاصة فيمن سول له الشيطان منصباً أو مالاً أو ثروة أو وجاهة في المجتمع، أو علماً ومعرفة أو شهادة عالية أو ثقافة، فتجده لا يرى الناس شيئاً.

    وللمتكبرين الذين ما صامت قلوبهم علامات منها: سواد الوجه واكفهراره.

    وجوههم من سواد الكبر عابسة     كأنما أوردوا غصباً إلى النار

    هانوا على الله فاستاءت مناظرهم     يا ويحهم من مناكيد وفجار

    ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضـاً     أهدوك من نورهم ما يتحف الساري

    من تلق منهم تقول لاقيت سيدهم     مثل النجوم التي يسري بها الساري

    علامات الصالحين في رمضان

    من علامات الصالحين في رمضان وغير رمضان: البسمة، وحسن الخلق، ولين الجانب، والزيارة والاستزارة، ورد السلام، والعشرة الطيبة، أما أن يحشو الإنسان قلبه بالكبر، ويتكبر على عباد الله، ويتغطرس على الناس بما عنده من ماديات فهذا والعياذ بالله لم يصم.

    من صيام القلب مسائل:

    صيام القلب عن الاعتقادات الباطلة

    وهي الزندقة والإلحاد، والشكوك الآثمة، وأنا مما أسمع من كثير من الشباب الذين بدءوا في الهداية يجدون وساوس في قلوبهم وخطرات وواردات، وعلاج هؤلاء أمران:

    أولهما: تدبر كتاب الله عز وجل صباحاً ومساءً.

    ثانيها: الابتهال والدعاء إلى الله الواحد الأحد، ثم الجزم وعدم التردد، يأتي إبليس يشكك في الرسالة والرسول، وفي الخالق وفي اليوم الآخر، وفي الجنة والنار، وهذا ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله.

    إذاً من صيام القلب.

    أولاً: أن يصوم عن الاعتقادات الباطلة.

    صيام القلب عن الكبر

    ثانياً: أن يصوم عن الكبر، كيف يكون عبداً لله من يتكبر؟ مسكين من يتكبر،ضعيف من يختال على الناس، لم يعرف نفسه ولم يعرف ربه، ولذلك كان السلف الصالح يسمون المتكبرين: حمقى.

    قيل لأحد الصالحين: من هو الأحمق؟ قال: "هو من لم يعرف ربه ولم يعرف نفسه".

    مر ابن هبيرة -أحد أمراء بني أمية- بجيش عرمرم معه كتيبة خرساء مدججة بالسلاح على خيول متوجة، وعليه ديباج وحرير، أمير نسي نفسه ونسي الله! فقام له الناس جميعاً إلا الحسن البصري لم يقم وبقي جالساً، فنظر إليه شزراً وكبراً: لِمَ لمْ تقم يا حسن وقد قام لي الناس؟

    قال: أردت أن أقوم فتذكرت أن فيك ثلاث خصال؛ فما قمت لك - الحسن البصري إمام التابعين، جهبذ علَّامة مُحدِّث زاهد، يُستسقى بدعائه الغمام- قال: أردت أن أقوم لك فتذكرت أن فيك ثلاث خصال؛ فما قمت. قال: ما هي؟

    قال: علمت أنك أتيت من نطفة قذرة -نطفة من ماء يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [الطارق:7] وتعرف من أين مخرج الماء.

    قال: وعلمت أنك تحمل في بطنك العذرة (الغائط).

    والأمر الثالث: أنك تصير جيفة مذرة ترمى في التراب كما يرمى الكلاب؛ فما قمت لك، فنكس رأسه خجلاً أمام الناس وذهب.. وهذه معرفة الموحدين بقدر المتكبرين.

    وورد أن المهدي الخليفة العباسي، دخل مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام فقام له الناس جميعاً إلا المحدث الكبير والخطيب الشهير ابن أبي ذئب فما قام له!

    فقال الخليفة: يا ابن أبي ذئب! قام الناس جميعاً لي إلا أنت؟ قال: والله الذي لا إله إلا هو إني أردت أن أقوم لك فتذكرت قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] فتركت قيام هذا اليوم لذاك اليوم.

    قال: اجلس والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت.

    صيام القلب عن العجب

    وذلك بألَّا تعجبه نفسه أو علمه أو ثقافته أو شهادته.

    يا أيها الإخوة! هذه الشهادات مهما علت -والله- لا تساوي قيمة الأحذية إذا لم تكن متوجة بالإيمان، والله ليس لها وزن في الدنيا ولا في الآخرة، والله إنها لعنة على صاحبها إذا لم تدله على الإيمان، والمسجد والقرآن، والسجود وخشية الله..

    ألا بلغ الله الحمى من يريده     وبلغ أكناف الحمى من يريدها

    وكذلك المناصب ليست بشيء، أعظم منصب في الدنيا تولاه فرعون، قال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51] ويقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] مات كالضفدع في البحر، أصبح في اللحظات والسكرات الأخيرة يقول: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] أين منصبك؟ أين وظيفتك؟ أين جاهك؟ لا شيء، فلينتبه لهذا.

    صيام القلب عن الحسد والحقد

    ومما يصوم عنه القلب: الحسد والحقد، فإن الحسد خصلة ذميمة، وهي من خصال بني إسرائيل أتى بها الشيطان، ولماذا نحسد يا عباد الله؟! والواجب أن نطهر قلوبنا؛ لأن المقصد من الصيام ليس أن تجوع، فالله ليس بحاجة إلى جوعك أو ضمئك؛ لكنك أنت بحاجة إلى أن تُصفِّي قلبك وترققه.

    1.   

    صوم الجوارح

    صوم العيون

    إن كثيراً من الناس -نسأل الله أن يتوب علينا وعليهم- قد تصوم بطونهم، وفروجهم، وتصوم أكبادهم من الماء، ولكن لا تصوم عيونهم، ينظرون إلى الحرام، وإلى عورات المسلمين، وإلى كل مفتونة وإلى كل منظر يغضب المولى تبارك وتعالى، وهذا ليس بصيام، قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30] وورد في الأثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {النظر سهم مسموم من سهام إبليس} وجزاء من غض البصر أن يعوضه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه.

    نظر أحد الرجال إلى امرأة فاتنة، فقال له أحد الصالحين، وقد أخبره أنه نظر إلى منظر حرام قال: أتنظر إلى الحرام؟ والله لتجدن غبها ولو بعد حين.

    قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة، جزاء للمعصية وعقوبة على ما اقترفت يداه، ولذلك فإن أكثر ما نزاوله ونجده في الحياة من غم أو هم أو حزن أو مصائب أو رسوب أو فشل أو انهزام أو تقهقر أو فقر أو مرض هو بسبب ما فعلناه من الذنوب والخطايا، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] والله يعفو عن الأكثر، ولو يؤاخذنا بما نفعل لما ترك على ظهرها من دابة، فرحماك يا رب، وعفوك يا رب، ورضاك يا رب!!

    إن الملوك إذا شابت عبيدهـم     في رقهم أعتقوهم عتق أبرار

    وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً     قد شبتُ في الرق فاعتقني من النار

    قال بعض أهل العلم في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75] قال: الذين يغضون أبصارهم يرزقهم الله فراسة إيمانية، ولذلك قالوا عن ابن تيمية: إنه كان ينظر بنور الله؛ لأنه غض بصره عن محارم الله، حتى ذكروا عنه أنه كان يعرف الزاني، والكاذب والمخادع من صورهم، حتى يقول الذهبي: كانت عينا ابن تيمية كلسانين ناطقين. يكاد لسانه يتكلم، بقي عليه شيء حتى يكاد يتكلم، يقول:

    وقاد ذهنٍ إذا سالت قريحته     يكاد يخشى عليه من تلهبه

    يكاد يحترق بالنور، تصور أن إنساناً لا يعرف إلا قيام الليل، والمسجد، والمصحف، وذكر الله، والتوجه إليه سبحانه، والدعاء، والجلوس مع الصالحين، وحب الله ورسوله كيف يكون في الحياة؟!

    أما إنسان شذر مذر في كل واد؛ مع الأغنية، والمجلة الخليعة، والجلسة الآثمة، والكلمة الفاحشة، مع النظرة غير المسئولة، ماله رباً، وسيارته رباً، وفلَّته رباً، وسكنه رباً، وشرابه رباً!! كيف يصلح قلبه؟

    وأنا الذي جلب المنية طرفه     فمن المطالب والقتيل القاتل

    يقول المتنبي: أنا المسئول! أنا الذي نظر، وأنا الذي أصيب، وأنا المقتول وأنا القاتل؛ فمن الذي يحمل الدية؟

    يقول في قصيدة عشقية له -الله أكبر عليه من شاعر! لو سخر شعره في خدمة هذا الدين- شاعر العربية، لكنه لم يعرف التوجه، يريد إمرة، مطرود دائماً من سيف الدولة إلى كافور، ومن كافور إلى عضد الدولة يطلب الإمرة، فمات وما كسب إمرة، وما كسب رضا، وذهب إلى الله، يقول في قصيدته:

    وأنا الذي جلب المنية طرفه     فمن المطالب والقتيل القاتل

    والذي يعمل لغير الله يجد مثل هذه الجزاءات، ضرب رأسه وقتل في الصحراء.

    دخل أحد الشعراء على سلطان من سلاطين الدنيا، سلطان لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فقال للسلطان:

    ما شئت لا ما شاءت الأقدار     فاحكم فأنت الواحد القهار

    هل نظرتم إلى الكلام؟ هل نظرتم إلى الكفر والزندقة والخيبة وقلة الحياء؟

    فابتلاه الله بمرض عضال، ما استطاع الأطباء أن يعالجوه؛ ليعلمه الله من هو الواحد القهار، ومن هو الذي بيده مفاتيح ومقاليد السماوات والأرض، ومفاتيح وخزائن كل شيء، قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] فأخذ يتقلب كالكلب على الفراش ويبكي، ويقول:

    أبعين مفتقر إليك نظرت لي     فأهنتني ورميتني من حالق

    لستَ الملومَ أنا الملوم لأنني     علقت آمالي بغير الخالق

    أنا الذي مدحك ونسي الله، أنا الذي أنزلك في منزلة الله، أنا الذي أشرك بالله في وحدانيته وألوهيته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    إذاً يا أيها الإخوة! هذا صيام العيون، فالله الله! فلتصم عيوننا عن الحرام والخنا، وعن النظر إلى ما يغضب المولى تبارك وتعالى.

    صوم الألسن

    السم الزعاف هو هذا اللسان، القتل كل القتل في هذا اللسان، يقول سفيان بن عبد الله كما في الصحيح: {يا رسول الله! ما تخشى علي؟ قال: كف عليك هذا وأخذ بلسان نفسه صلى الله عليه وسلم} يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـمعاذ: {ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: كف عليك هذا وأخذ بلسان نفسه. قال: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على أنوفهم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟} والحديث صحيح.

    سبحان الله! ما أعدى اللسان، سبحان الله! ما أشد ضرر اللسان! لا إله إلا الله كم صرع اللسان من عظيم!

    احذر لسانك أيها الإنسان      لا يلدغنك إنه ثعبان

    كم في المقابر من صريع لسانه      كانت تهاب لقاءه الشجعان

    هذا اللسان عجيب! ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] إذا كنت تمزح أو تتكلم، أو تذكر الله، أو تأتي بفحش أو بباطل، أو لعن، أو هراء، أو غيبة، أو نميمة، أو جور، أو كلام باطل فالملائكة تسجل عليك كل ذلك قال تعالى: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

    وفي الأثر: {من صمت نجا} قال ابن مسعود: [[والله ما في الدنيا أحق بطول حبس من لسان]] أبو بكر الصديق، الصالح الزاهد، أبو بكر هو الإسلام، أبهة التوحيد، أبو بكر العظيم إذا ذكر العظماء، ليس الأخسة قَتَلَة الشعوب، وشربة دماء الإنسان مثل: نابليون وهتلر واستالين ولينين وماركس وأذنابهم.. لا، بل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي..

    أولئك آبائي فجئني بمثلهـم     إذا جمعتنا يا جرير المجامع

    يأخذ أبو بكر بلسان نفسه وهو يبكي ويقول: [[هذا الذي أوردني الموارد]] ويقف ابن عباس على جبل الصفا وهو يبكي ويقول: [[يا لسان! قل: خيراً تغنم أو اسكت عن شر تسلم]].

    هل قيدنا ألسنتنا؟ هل حاسبنا أنفسنا حين نتكلم في الأعراض وفي حرمات المسلمين، وفي لحوم عباد الله الموحدين؟ الكذب، الغيبة، الفحش، اللعن، البذاءة، قلة الحياء كلها من اللسان، حتى يقول الإمام الغزالي في الإحياء: "تسعة أعشار الذنوب من اللسان" العشر الواحد يوزعه على الأعضاء، أما تسعة أعشار الذنوب فمن اللسان، فهل آن للسان أن تصوم غداً أو بعد غد؟ تبدأ مرحلة من التربية بأن تلقنها درساً لا تنساه في الصيام.

    وأنا لا أستطرد كثيراً في هذه المسائل حيث لا يوجد مجال لسردها هنا، وإلا فبحوث اللسان تحتاج إلى محاضرة: الغيبة، النميمة، اللعن والشتم، الإسراف في المزح، الكذب، الهراء، الهمز واللمز، الاستهزاء، السخرية كل ذلك ذنوب وخطايا.

    مخازٍ لو جمعن على غوانٍ     لما أمهرن إلا بالطلاق

    أذن تأبى الخنا والزور

    وأما كيف تصوم الأذن؟ أو ما هي الأذن التي تريد الصيام؟

    هي أذن العبد الصالح، سبحان من ركب فينا الجوارح ثم يحاسبنا عليها! سبحان من جعل التقوى حفظاً له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى! سبحان من يعلم ما يصلح هذا العبد! وهذا الكتاب والقرآن الذي نزل ليصلح هذا العبد، فهو لم ينزل طباً ولا هندسة ولا فلكاً ولا تاريخاً ولا جغرافيا، نزل ليوجه هذا العبد في هذه المعمورة وهذه البشرية إلى الله.

    أبو الأعلى المودودي عليه رحمة الله، ذاك الذكي اللماع، العالم الباكستاني الذي يعتبر من صفوة المجددين في الفكر، له كتاب عنوانه "كيف تقرأ القرآن "؟ يذكر في غضونه يقول: نزل القرآن كتاب هداية من السماء. لم ينزل تاريخاً ولا نزل جغرافيا ولا طباً ولا هندسة ولا فلكاً، وقد وافقه سيد قطب في الظلال على ذلك.

    فيا إخواني في الله! إن من حق هذه الأعضاء أن تُحبسَ وأن تُحفظَ ليحفظنا الله عز وجل.

    ومما عرف من ذنوب الأذن السماع للباطل، السماع الشيطاني وابن تيمية في كتاب الاستقامة يقسم الاستماع إلى قسمين: سماع رحماني شرعي ديني، وسماع شيطاني طاغوتي إلحادي (أو كما قال) أو كفري أو فسقي أو فجوري على ذاك التفسير. فأما سماع أهل الإيمان فهو القرآن.

    كان عمر رضي الله عنه وأرضاه إذا أحس من نفسه قسوة جمع الصحابة، وقال: يا أبا موسى! اقرأ علينا، وكان يختار أبا موسى؛ لأن أبا موسى رضي الله عنه كان أندى الصحابة صوتاً، فصوته شجي، ونغمته ندية، فكان فيقرأ والصحابة ينكسون رءوسهم ويستمعون إلى القرآن، فتدمع عيونهم ويبكون؛ لا إله إلا الله! كيف عرف الصحابة القرآن؟ كيف عرف ذلك الجيل القرآن وكيف عاشوا مع القرآن؟ لأن القرآن تنزل في حياتهم، يفعل الواحد منهم حادثة فيأتي القرآن يفتيه فيها، يسأل سؤالاً فيأتي القرآن بجواب السؤال، يحضرون المعركة مثل بدر وأحد والأحزاب وحنين فينزل القرآن يخبرهم عن المعركة؛ فلذلك عاشوا حياة القرآن، ومن يقرأ في ظلال القرآن يجد عجباً عجاباً من سبك السيرة في مسار توحيد منهجي خالص.

    فيا إخوتي في الله! السماع الرحماني: سماع القرآن، والسماع الشيطاني: سماع الغناء، وأنا أعجب -والله- من كثير من الشباب في جزيرة العرب، جزيرة محمد صلى الله عليه وسلم، جزيرة أبي بكر وخالد بن الوليد سيوف الإسلام، وأسود المعمورة، وحكماء الدنيا، ويأتي مئات الشباب لا همَّ لهم إلا الأغنية الماجنة، كلما خرج من زيف هؤلاء المنتنين الراقصين المغنين الذين عطلوا مسيرة الأمة حتى في الجهاد والتضحيات، والبذل والعطاء.

    هل ينقصنا الغناء؟ أينقصنا خيبة؟ أينقصنا رقص وتطبيل؟

    انظروا إلى المذكرات التي يصدرها موشي ديان يقول: جيش إسرائيل لا يعرف الموسيقى ولا المرفهات. فما لنا نحن حياتنا كلها موسيقى وعزف وناي وأغنيات، ومقابلات مع المغنيين والمغنيات... النجوم اللامعة؟!! وهي نجوم مظلمة ما عرفت النور ولا عرفت الحياة، فالحياة مع أهل القرآن، مع أهل الإيمان، الحياة مع أهل الدين الذين يريدون الواحد الديان.

    فيا إخوتي في الله! لقد آن لنا أن ننهى أنفسنا عن ذلك؛ لأنه كما يقول ابن القيم: إنه بريد الزنا.

    وقال أهل العلم: ما استمع إليه إنسان وداوم عليه إلا أحب الفاحشة.

    كيف يرضى الإنسان أن تكون أذنه وبيته وسيارته دائماً أغاني وأغاني؟! عشق وهيام، وليته كلام سديد، ولكن -والله- ما هو إلا كلام قذر، تعرُّض للعصم وللذمم، وتعرُّض لحرمات المسلمين في البيوت، وانتهاك للمروءة وللشرف، يأنف بعض الكفار أن يستمع إليه.

    يقول عنترة بن شداد الجاهلي الوثني:

    وأغض طرفي إن بدت لي جارتي      حتى يواري جارتي مأواها

    لكن هنا أصبح الشباب ينظر إلى فتاة أجنبية ليس بينه وبينهما عقد قران، ولا كلمة الله الشرعية، ولا تم صلح الزواج، ويتوله بها، ويجعلها ليله ونهاره، وإلهه الذي يعبده ويحبه، ويسجد لها ويقول:

    يا من هواه أعزه وأذلني     كيف السبيل إلى وصالك دلني؟!

    الوصول على يسارك إلى جهنم!!

    يقول ابن القيم: دخل ثعلبان في بيت من نافذة صغيرة وهما جائعان -والثعلب كنيته أبو معاوية- دخل وهو جائع، فوجد هو ورفيقه دجاجاً، فسمى وأكل على الطريقة الإسلامية، حتى أصبحت بطنه أكبر من حجمه، وأكل رفيقه ثم أرادا أن يخرجا فما استطاعا، فقال لصاحبه وهو يحاوره: أين نلتقي إذا خرجنا من هذا المكان؟ قال: أموات في المزبلة. يقول: إن صاحب الدجاج سيكسر رءوسنا بعد قليل. فيقول ابن القيم كما في مدارج السالكين: إن الذي يضيع حياته في مثل هذا الغناء والهراء سوف يلقى جزاءه عند الله، ونحن لا نقول من عاطفة كما يقول بعض الناس: هؤلاء لا يعرفون إلا كلمة تحريم! وإلا فالعلماء والمثقفون والمفكرون بعضهم يحلل الغناء.. لا والله، والله ما استندوا إلى دليل لا عقلي ولا نقلي، بل جزم ابن تيمية وابن القيم وعلماء الإسلام كـالشافعي وأحمد ومالك وأبي حنيفة أنه محرم ولا يفعله إلا السفلة.

    قيل للإمام مالك: هؤلاء المطبلون كيف يكونون عندكم؟

    قال: عندنا سفلة الناس في المدينة يفعلون ذلك..

    نصب المنصب أوهى جلدي وعنائي من مداراة السفل

    اعتزل ذكر الأغاني والغزل     وقل الفصل وجانب من هزل

    ودع الذكرى لأيام الصبا     فلأيام الصبا نجم أفل

    اهجر الغادة إن كنت فتىً     كيف يسعى في جنون من عقل

    اتق الله الذي عز وجل

    واستمع قولاً به ضرب المثل

    اعتزل ذكر الأغاني والغزل

    وقل الفصل وجانب من هزل

    كم أطعت النفس إذ أغويتها

    وعلى فعل الخنا ربيتها

    كم ليال لاهياً أنهيتها

    إن أهنا عيشة قضيتها

    ذهبت لذاتها والإثم حل

    واتق الله فتقوى الله ما     جاورت قلب امرئ إلا وصل

    قال هذا ابن الوردي -بيض الله وجهه- في قصائد أهل الإيمان، قصائد أهل التوجه وأهل الأصالة.

    يد تمد بالإحسان

    ومما أوصي به في الصيام الذي يُعرف عند أهل التوحيد والإيمان: صيام اليد، وهو: أن تمد بالإحسان إلى الناس وتكف عن الباطل.

    كم من فقير؟ كم من محتاج؟ ولكن الشبعى لا يدرون أن هناك جوعى، والشبعان يظن أن الناس شبعوا كلهم، والريان يظن أن الناس رووا من الماء وهم -والله- يظمئون ويجوعون ولا يعلم بحالهم إلا الله.

    فيا أخي في الله! اعتق نفسك من النار بصدقة في رمضان، وحبذا أن يكون لك في كل يوم صدقة ولو شيئاً يسيراً من المال، أو من الطعام، تفطر صائماً، تروي عطشاناً، وتمد يدك ولو بجرعة لبن أو بجرعة ماء.

    وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل رجل في ظل صدقته يوم القيامة حتى يقضى بين الناس} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما أصبح صباح إلا وملكان يناديان يقول الأول: اللهم أعط منفقاً خلفا، ويقول الثاني: اللهم أعط ممسكاً تلفاً}.

    يا عباد الله! الصدقة الصدقة، يا إخوتي في الله! البذل البذل، فكم نعرف أناساً ممن لا يظهرون أنفسهم كما قال الله عنهم: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة:273] ترى ظاهره كأنه غني، وفي بيته ما لا يعلمه إلا الله، أسر طويلة كثيرة غزيرة لا تجد كسرة الخبز في الليل، يتقدمون بمعروضات ورسائل وخطابات تبكي عين اللبيب والحليم والرحيم، فهل من معطٍ؟ وهل من منفق في رمضان علَّ الله أن يتولانا وإياكم برحمته وبواسع بره؟؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {الناس عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله} ولعلك تعتق نفسك بدرهم تتصدق به ينفعك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

    الرِّجل! ما لها وما عليها!

    وأما الذي أوصي به: فهو الذهاب والإياب في رمضان وفي غير رمضان، لكن في رمضان على الخصوص، نعرف كثيراً من شبابنا -وأنا أركز على الشباب؛ لأن الشباب شعبة من الجنون- يمر بمرحلة خطيرة، مرحلة مدلهمة، مرحلة مظلمة، فلذلك يا أيها الإخوة! وجد كثيرٍ من الناس من يذهب ويأتي على غير طائل، بعضهم كأنه يشبر المدينة ويطوف حول المدينة سبع مرات يقول:

    حجي إلى الباب القديم وكعبة الـ     ـباب الجديد وبالمصلى الموقف

    والله لو عرف الحجيج مقامنـا     في زندرود عشية ما طوفوا

    أو شاهدوا جسر الحسين وشعبه     ما وقَّفوا لها أو وقَّفوا

    أحد الناس قيل له: حج، قال: لا.. أنا أحج في زندرود مدينة في شمال إيران - قال: كيف تحج؟

    قال: أطوف هناك بمحبوبي، هذا حج غلاة الصوفية المتهالكين، ولذلك وجد من الشباب من يذهب ويأتي على الإشارات بسيارته، دوران وذهاب في غير طائل، أليس لو جلس في مسجد فتدبر آيات الله لكان أحسن له؟

    أليس لو جلس مع أهله وأفادهم ونفعهم كان أولى له؟ أو أخذ كتاباً إسلامياً فاستفاد كان أحسن وأحسن، أو زار ثلة من الصالحين أو دعاة أو علماء فاستفاد منهم أما كان أحسن؟

    لا إله إلا الله كم ضاعت أوقاتنا! وكم ضيعنا من دقائقنا وثوانينا وساعاتنا

    دقات قلب المرء قائلة له      إن الحياة دقائق وثوانِ

    فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها     فالذكر للإنسان عمر ثانِ

    إذا مرت الدقيقة فوالله لا تعود إليك، أبداً فاغتنمها فهي خيوط عمرك.

    قال الغزالي: "العمر كالثوب إذا ذهبت لحظة ذهب خيط، فتذهب الخيوط حتى تبقى بلا ثوب" قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94] فالوقت الوقت يا شباب الإسلام! انظر إلى الخواجات! انظر إلى كتاب دع القلق وابدأ الحياة للأمريكي دايل كارنيجي ماذا يقول فيه؟ شيء عجيب!

    يذكر عن الأمريكان في حفظ الوقت وفي القراءة والاطلاع حتى -والله- لقد رأيناهم ورآهم كثير من الإخوة الذين ذهبوا إلى بلادهم وهو في القطار، أو السيارة، أو منتظر في الصالة، أو في الطائرة تراه يقرأ كتاباً ولا ينظر إلى الناس! أما العرب فتجدهم هكذا وهكذا!! يأخذون السيارات من طرف الشارع ويصلون بأعينهم إلى الطرف الآخر، حتى يأتي في المنام وتكاد رقبته تنفصل من كثرة ما نظر، يأخذ السيارة من هنا ويوصلها، ثم الثانية والثالثة إشارات وإشارات؛ ولذلك مثل ما يقول عدو الله موشي ديان: "لا يقرءون، وإذا قرءوا لا يفهمون". لكننا نكذبه، نعم! هم لا يقرءون، فيهم النادر الذي يقرأ لكن إذا قرءوا فهموا، أمة أمية.. هذا ليس مدحاً لكن هذا هو الواقع.

    فيا إخوتي في الله!! أما آن لنا أن نحفظ الأوقات؟ وحفظ الوقت له كلام طويل، وهناك بعض الكتيبات والأشرطة عن حفظ الوقت.

    1.   

    صيام الأعضاء الجوفية

    البطون الجائعة في مرضاة المولى

    أما البطون الجائعة في مرضاة المولى؛ فهي التي حرمت الحرام من الدخل الحرام من ربا ونحوه لا يحل لها، جاعت لمرضاة المولى، ذاقت الجوع، ولكنه طيب في سبيل الله.

    إن كان سركم ما قال حاسدنا     فما لجرح إذا أرضاكم ألم

    عدنا إلى أبي الطيب المتنبي! دخل على سيف الدولة بن حمدان فأنشده قصيدته التي يقول فيها:

    أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي     وأسمعت كلماتي من به صمم

    إلى أن يقول:

    الخيل والليل والبيداء تعـرفني     والسيف والرمح والقرطاس والقلم

    فغضب أبو فراس الحمداني ابن عم سيف الدولة فرمى المتنبي بدواة الحبر وذلك ينشد متحمساً فوقعت في جبينه، فإذا الدم ينزل فضحك سيف الدولة؛ فغضب المتنبي ولسان حاله يقول: كيف تضحك علي؟ لكن انظر إلى الاستدراك قال:

    إن كان سركم ما قال حاسدنا     فما لجرح إذا أرضاكم ألم

    إن كان يسرك أنه ضربني وأدمى وجهي فهذا ليس له ألم عندي، وهذا من أحسن الكلام! يأخذه الصالحون في قولهم: يا رب! إن كان يسرك الجوع أو يرضيك فلا أجد ألماً للجوع، ولا للظمأ، ولا للسهر، وينبغي دائماً وأبداً أن نتذكر هذه المبادئ، ما دام أن الله يريد أن تجوع في سبيله فجع واظمأ فإنه الأجر والمثوبة.

    أكباد ظمئت لتشرب من الكوثر

    كل الناس يوم القيامة ظمئ إلا من أرواه الله ببرد اليقين، ومن دخل قلبه الإيمان، ونأتي يوم القيامة كالغمام في يوم الزحام، وأمامنا ذاك الإمام العظيم يا له من إمام! محمد عليه الصلاة والسلام، فيشتد الكرب من النفوس، وتدنو الشمس من الرءوس، فلا إله إلا الله كم من محسور..! ولا إله إلا الله كم من مثبور..! ولا إله إلا الله كم من نادم..! ويرد الناس الحوض كالغمام فتردهم الملائكة سبعون ألف ملك، مع كل ملك مرزبة من حديد يذودونهم عن الحوض إلا أهل السنة، فيقول عليه الصلاة والسلام: {يا رب.. أمتي أمتي، فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؛ إنهم غيروا وبدلوا فيقول: سحقاً سحقاً} أي: هلاكاً هلاكاً، من أراد أن يشرب فليتبع سنة محمد صلى الله عليه وسلم، من أراد أن يشرب من ذاك الحوض المورود الذي من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً -نسأل الله أن يسقينا من ذاك الحوض، وأن يجعلنا ممن يبرد صدره بشربة هنيئة من ذاك الحوض، وأن يجعلنا ممن يبل صدى شفتيه بشربة من كف المصطفى عليه الصلاة والسلام- فمن أراد أن يشرب فليظمأ في ذات الله، وليحتسب الأجر على الله؛ فإنه سيشرب لا محالة إذا صدق في المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام.

    الصائمون في جلسة السحر مع رب العزة والجلال

    مما تعوده كثير من الناس أن يجعل السحر رياضة أو كرة، وأنا في نادٍ، القائمون عليه مسلمون مصلون صائمون، يريدون الخير -إن شاء الله- لهذه الأمة، لكن قلت في مناسبات وقال غيري من الدعاة في نادي الهلال وفي غيره: إن الرياضة نعتقدها اعتقاداً جازماً أنها وسيلة وليست بغاية.. هذا أمر، والرياضة إذا أصبحت عبادة فهي محرمة، والرياضة والكرة إذا صار فيها تحزبات فريق على فريق، وناد على ناد، وأصبح يشهر البغض والعداء والكلام البذيء والسب والشتم واللعن أصبحت محرمة.

    والرياضة والكرة إذا تركت من أجلها الصلاة أصبحت محرمة.

    والرياضة إذا تخلف أحد عن الصلاة بسببها أصبحت محرمة.

    والرياضة إذا كان اللباس الذي يتزاول بها قصيراً شفافاً يبدي العورة فهي محرمة.

    إذاً الرياضة حلال بشروط:

    1- ألا يكون فيها تحزبات؟

    2- ولا ترك ولا تأخير للصلوات.

    3- ولا إبداء للعورات، ولا سب وشتم بين المسلمين والمسلمات.

    حينها يكون لا بأس بوقتٍ للترويح والتنشيط وتدريب الجسد، وأما في السحر يوم ينزل الله في الثلث الأخير إلى السماء الدنيا في رمضان وفي غير رمضان فلا يكون، فإنه وقت استغفار، لا بأس أن تلعب ساعة أو ما يزيد عليها لكن عد إلى البيت لتتوضأ وتصلي ركعتين وتتناول المصحف، فحياة الكرة دائماً ليس بصحيح! حتى القائمون عليها لا يريدون هذه الحياة، أظنهم وهم عقلاء لا يريدون الأمة أن تبقى دائماً همها الكرة صباح مساء، مثل بعض الناس يوم أن سمع أن النشيد الإسلامي بلا ناي ولا طبل ولا دف ولا موسيقى مباح، فأكثر منه، والنشيد كالملح في الطعام، فإذا أتيت إلى الطعام وجعلته مالحاً، وأتيت بالدقيق وجعلته مالحاً خربت الوصفة ولا تصلح، ينشد في الباص وفوق الباص وتحت الباص! ينشد قبل الظهر وبعد الظهر، وفي العصر وفي السحر وقبل السحر، وقبل النوم وبعد النوم وفي النوم!! بعض الشباب عنده خمسون شريط نشيد وعنده شريط واحد قرآن! يحفظ كل موضة من الأناشيد، النشيد لا بأس به لكن بشروط ليس هذا مجال لبسطها.

    إذاً جلسة السحر تكون في الاستغفار، قال تعالى: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18] وقال سبحانه: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [آل عمران:17] ما أحسن السحر! لماذا خصص السحر؟ لأن الناس كلهم موجودون في الظهر والعصر، لكن الخواص لا يقومون إلا في ذلك الوقت، وهم معدودون على الأصابع، أخيار الناس يقومون نصف ساعة أو ثلث ساعة يجلسون فيها مع الله عز وجل، يبدون له همومهم وغمومهم وأحزانهم.

    دقائق الإفطار روعة وجلال

    في دقائق الإفطار روعة وجلال وصدق وصفاء، ومما يطلب من المسلم في رمضان أن يتهيأ للإفطار بدعاء، وللصائم دعوة لا ترد، ولا يصح أن يأتي الإنسان من عمله أو يقوم من نومه مباشرة ليأكل تمراً أو ليفطر على ماء دون أن يتهيأ تهيأً نفسياً لهذة الساعة.

    فيا أيها الإخوة! مما يطلب منا في دقائق الإفطار: وكثرة الدعاء؛ لأن للصائم دعوة لا ترد، وحبذا أن الإخوة الذين هم في مجموعة أو بيت أن يجتمعوا قبل الإفطار بربع ساعة، أو بعشر دقائق فيذكرون الله ويستغفرون ويدعون، أو يقرءون شيئاً من القرآن، فهي ساعة لا يمكن أن تتكرر فساعة بعد الإفطار لا تكون كساعة قبل الإفطار، قبل الإفطار وأنت صائم عابد جائع ظامئ في سبيل الله، وبعد الإفطار سوف تشبع أو تذهب، فعليك أن تغتنم هذه الدقائق.

    1.   

    التراويح والتوبة

    صلاة التراويح حشد هائل من المؤمنين

    أوصي إخواني -وأكرر الوصية- بحضور صلاة التراويح، واصطحاب أهاليهم، حتى النساء يجوز لهن حضور صلاة التراويح، وكثير من المساجد تحفل بالمصلين والمصليات، من المؤمنين والمؤمنات، فأنا أوصي إخواني بحضور صلاة التراويح والصبر؛ فإن الله يتجلى للعباد، لعله أن يجعلك من العتقاء في ليلة من الليالي، فلا تحرم نفسك هذا الفضل، نصف ساعة أو ما يقاربها فقط، ألا تصبر نصف ساعة؟! لقد وجد من الناس من يصبر في العرضات الشعبية ثلاث ساعات أو أربع ساعات، بل بعض القبائل يعرضون من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، وتجده لا يكل ولا يمل، لكن إذا طول الإمام وزاد ثلاث آيات قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" "إن منكم منفرين" وأتى بهذه الأحاديث، فنحن نقول للأئمة: لا تطيلوا ولا تشقوا على الناس، ونقول للمسلمين: صابروا نصف ساعة في جلسة وفي عبادة وفي سجود لله؛ فأوصيكم ونفسي بصلاة التراويح، لا تفوتكم صلاة التراويح، وخذوا إخوانكم وزملاءكم وجيرانكم وحثوا المسلمين فإنكم دعاة حق وخير وسلام.

    التوبة

    أما المسألة الأخيرة: رمضان مدرسة روحية تربوية، ثلاثون أو تسعة وعشرون يوماً نستقبله ضيفاً حبيباً، إن لم تتب فيه فمتى تتوب؟ وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من أدركه رمضان ولم يغفر له} والله إنها خيبة عظيمة وخسارة هائلة إذا دخل رمضان وخرج ثم لم يغفر لك في رمضان..

    مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيـام     يا حبيباً زارنا في كل عام

    قد لقيناك بحب مفعم     كل حب في سوى المولى حرام

    فاغفر اللهم ربي ذنبنا     ثم زدنا من عطاياك الجسام

    لا تعاقبنا فقد عاقبنـا     قلق أسهرنا جنح الظلام

    وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    1.   

    الأسئلة

    وصايا لشباب النوادي

    السؤال: ما هي نصيحتكم للشباب المنتمين إلى هذا النادي؟

    الجواب: أولاً: أسأل الله أن يبارك في هذا النادي والقائمين عليه، وعندي نصائح وهدايا من أخ محب لإخوانه في الله، أحببناكم في الله..

    آخيتمونا على حب الإله ومـا     كان الحطام شريكاً في تآخينا

    أولاً: أوصيهم بتقوى الله.

    ثانياً: معرفة الغايات وتمييزها عن الوسائل، فغايتنا الإسلام، وهدفنا رفع هذا الدين، ومقصدنا في الحياة هو: نصرة لا إله إلا الله محمد رسول الله، والوسائل الترفيهية لا بأس بها إذا لم تكن محرمة، إذاً فلابد من التمييز بين الغايات والوسائل.

    ثالثاً: بالمحافظة على الصلوات الخمس وعدم تأخيرها لأي مباراة أو لعبة أو تمرين أو مشاركة، الصلاة في أول وقتها رضوان من الله، لا يقبل الله الصلاة في غير وقتها، إذا خرج الوقت فقد لغا العبد وسها ولا يقبل الله صلاته، حتى قال بعض أهل العلم: من تعمد إخراج الصلاة عن وقتها فإن صلاته لا تقبل وهو في تلك الفترة كافر. نعوذ بالله! فهذه هدية أتت متأخرة فكيف تقبل.

    رابعاً: ثم أوصيهم باللباس الإسلامي الساتر، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـجرهد بن رزاح: {الفخذ عورة} والعورة من السرة إلى الركبة، ومن أراد كرة أو تمريناً أو مصارعة فله ذلك، ولكن عليه أن يستتر بستر الله، من السرة إلى الركبة.

    خامساً: أوصيهم بألا يجعلوا الأندية تحزبات ولا عداءً مريراً في الأمة والشعوب فيحملون هذا النادي على هذا.

    ويذوب بعضهم في حب بعض النوادي حتى يلبس لباس ذاك النادي وشعاره وسيارته، ويسبح بحمده ويصلي له، وقد يستيقظ على حبه وينام على حبه..! وهذا ليس بصحيح، هذا ولاء ممقوت ومنبوذ، التوحيد لله، العبودية لله، الحب لله، أما الميل النسبي فهذا أمر آخر.

    هذا ما يحضرني من الوصايا، وكذلك أن أزف إلى إخواني دعاء عسى أن يصلحهم الله عز وجل، فأسأله بأسمائه أن يصلح منا الظواهر والبواطن، والنوادي والمساجد، والأندية والمجامع، والأسواق والمحافل، والقلوب والبيوت إنه على كل شيء قدير.

    قصيدة أمريكا التي رأيت ونشرة الأخبار

    السؤال: فضيلة الشيخ! نأمل منك أن تتحف الشباب بقصيدتك التي ألقيتها في أمريكا (الجدية والهزلية) ولك جزيل المثوبة؟

    الجواب: هذا مما يناسب الأشعار والأسمار في مثل هذا النادي، فإن عند المسلمين من السمر المباح ومن الكلام اللطيف ما الله به عليم، وما دام أن هذه القصيدة قد طلبت وتكررت، والمكرر قد يكون ثقيلاً على النفوس ولكن..

    كرر العلم يا كريم المحيا     وتدبره فالمكرر أحلى

    وهذا ليس بعلم بل هو شعر فنقول:

    كرر الشعر يا كريم المحيا     وتدبره فالمكرر أحلى

    قصيدة جدية اسمها: (أمريكا التي رأيت) أذكر منها بعض الأبيات التي تخاطب الأمة الإسلامية، تخاطبكم أنتم يا فروع الإسلام ويا أصول الدين:

    يا أمة ضرب الزمان بها جموح المستحيل

    وتوقف التاريخ في     خطواتها قبل الرحيل

    سكبت لحون المجد في أذن المجرة والأصيل

    وسقت شفاه الوالهين سلافة من سلسبيل

    يا أمة ضرب الزمان بها جموح الكبرياء

    رأس الدعي على التراب ورأس عزمك في السماء

    لو كان مهرك يا مليحة من براكين الدماء

    لهفا إليك اللامعون وفر منك الأدعياء

    يا أمة كم علقوا بكيانها خيط الخيال

    وهي البريئة خدرهـا فيض عميم من جلال

    شاهت وجوه الحاقدين بكف خسف من رمال

    موتاً أتاتورك الدعـي كموت تيتو أو جمال

    يا أمة في عمرها لم تحي إلا بالجهاد

    كفرت بمجلس أمن من نصب المنايا للعباد

    القاتلي الإنسان خابوا      ما لهم إلا الرماد

    جثث البرايا منهم      في كل رابية وواد

    ما زرت أمريكا فليـ     ست في الورى أهل المزار

    بل جئت أنظر كيف ند      خل بالكتائب والشعار

    لنحرر الإنسان من رق المذلة والصغار

    وقرارنا فتح مجيد نحن أصحاب القرار

    ورأيت أمريكا التي نسجوا لها أغلى وسام

    قد زادني مرأى الضلا     ل هوىً إلى البيت الحرام

    وتطاولت تلك السنون فصار يومي مثل عام

    ما أرضهم أرض رأيت ولا غمامهم غمام

    أما القصيدة الهزلية فهي على بحر الرجز، وبحر الرجز حمار الشعراء! وعنوانها: (نشرة الأخبار في السفر إلى أمريكا):

    يقول عائض هو القرني أحمد ربي وهو لي ولي

    مصلياً على رسول الله     مذكراً بالله كل لاهي

    قد جئت من أبها صباحاً باكراً     مشاركاً لحفلكم وشاكراً

    وحملتنا في السما طيارة     تطفح تارة وتهوي تارة

    قائدها أظنه أمريكـي     تراه في هيئته كالديك

    يا سائل الأخبار عن أمريكا اسمع رعاك الله من يفتيكا

    وهذه أخبار هذي النشرة     مسافة السير ثلاث عشرة

    من الرياض عفشنا ربطنا     وفي نيويورك ضحىً هبطنا

    أنزلنا في سرعة وحطنا     وقد قصدنا بعدها واشنطنا

    ثم ركبنا بعدها سيارة     مستقبلين جهة السفارة

    منـزلنا في القصر أعني ريديسون     يا كم لقينا من قبيح وحسن

    في بلد أفكاره منكوسة     تثقله بصائر مطموسة

    يقدسون الكلب والخنزيرا     ويبصرون غيرهم حقيرا

    ما عرفوا الله بطرف ساعـة     وما أعدوا لقيام الساعة

    فهم قطيع كشويهة الغنم     جد وهزل وضياع ونغم

    من دمر العمال في بولندا ومن أتى بالرق في يوغندا

    من دمر البيوت في نزاكي من ضرب اليونان بالأتراكِ

    من الذي ناصر إسرائيلا     حتى تصب عنفها الوبيلا

    استيقظوا بالجد يوم نمنا     وبلغوا الفضاء يوم قمنا

    منهم أخذنا العود والسيجـارة     وما عرفنا نصنع السيارة

    إلى آخر هذه القصيدة.

    الاشتراك في النوادي بقصد الدعوة

    السؤال: كثير من الشباب جعل الكرة والاشتراك في الأندية وسيلة للدعوة إلى الله، فما رأيك في ذلك؟ وهل سلك النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه الطريقة أو قريباً منها؟

    الجواب: إذا رأى العبد المسلم أن المصالح أكثر من المفاسد في مشاركتة في أمر ما فله ذلك، وإذا رأى أن من الصلاح للدعوة الإسلامية أن يشارك في النوادي، وأن يدخل مثل هذه النوادي بشرط ألا يكون فيها محرمات تغضب الله فله ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم دعا في الحرم، وفي الحرم ثلاثمائة وستون صنماً، كان ينظر إليها ورآها ولم يكسرها، كان يقول لكفار قريش: {قولوا: لا إله إلا الله} قالوا: أما هذا فلا؛ (لأن لا إله إلا الله) تغير العالم، كان يرى الخمر يراق في الحرم، كان يسمع أن هناك زنا، لكنه كان يقول: {قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله}

    ودخل صلى الله عليه وسلم الأسواق كـعكاظ ومجنة وذي المجاز وخطب فيها ودعا إلى الله، فإذا رأى الشاب المسلم ووثق بدينه ووثق بأصالته ومبادئه وأنه سيؤثر على زملائه عن طريق النوادي فله ذلك وهو مأجور، وإذا خاف على دينه أو رأى محرمات فهو بالخيار، وهناك قاعدة يقولون فيها: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) والله يتولى والناس أعرف بأنفسهم، وكل ميسر لما خلق له.

    مسألة ترك الصلاة في غير رمضان

    السؤال: بعض الناس -هداهم الله- يصلون في رمضان وإذا انتهى رمضان تركوا الصلاة، ما حكم هؤلاء وهل يقبل صيامهم؟

    الجواب: أولاً: اعلموا أن من ترك الصلاة فقد كفر، يقول عليه الصلاة والسلام: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} ويقول: {بين المسلم والكافر ترك الصلاة} وتارك الصلاة كافر لا ينازع في ذلك بحال.

    ثانياً: أن بعض الناس وجد وسمع حديث: {رمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة، والعمرة إلى العمرة، كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر} هذا الحديث صحيح لكن في الصغائر أما الكبائر فلا، وبعضهم يترك الصلاة ثم يظن أن رمضان يكفر ذلك.. لا والله، الكفر لا يكفره شيء، الكبائر لابد لها من التوبة، ثم اعلموا أن رب رمضان هو رب الأشهر الباقية كشوال وشعبان، فاتقوا الله وليتق من يبلغه هذا ربه في أن يكون مؤمناً في رمضان، وفي غير رمضان، فإن الله يراه حين يقوم، وتقلبه في الساجدين.

    كيف يذكر الله في رمضان من لا يعرف القراءة

    السؤال: كيف يعمل الرجل الذي لم يتعلم القراءة تجاه القرآن وخاصة في رمضان؟ وهل وردت أذكار مخصصة في رمضان وإذا كان هذا فاذكرها لنا؟

    الجواب: الرجل الأمي الذي لا يقرأ شيئاً من القرآن.

    أولاً: عليه وجوباً أن يتعلم الفاتحة، ثم يقوم بما تقوم به صلاته؛ فإذا وصل إلى هذا الحد وهو لا يستطيع القراءة في المصحف، ويحفظ سوراً فليكرر ما معه من قرآن، ولو كرر الفاتحة فكم فيها من أجر، وكم فيها من عبر، وكم فيها من عظات! ثم يسبح ويهلل ويحمد الله، ويصلي ويسلم على رسول الله، ويكثر من الاستغفار، فهذا مشروع عظيم، ومسلك كبير في باب رفع الدرجات والحسنات عند الله الواحد الأحد.

    أما الأذكار في رمضان فمنها: عند الإفطار عليه أن يدعو؛ فإن للصائم دعوة لا ترد، وورد في حديث لكن في سنده ضعف ونظر عند بعض الأئمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر قال: {ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله} وورد في حديث أنه كان يقول: {اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت فتقبل مني إنك أنت السميع العليم} وقد تكلم في هذا الحديث، ولكن على كل حال: له شواهد، وعلى العبد أن يدعو بما تيسر علَّ الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.

    وفي الختام! أشكركم شكراً جزيلاً، وأشكر القائمين على هذا النادي، شكر الله لهم جهودهم، وأعاننا الله وإياهم، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767959306