وهل للمسلم أن يصلي في بيته، وما هو الأفضل في صلاة الجماعة؟ وفضل كثرة الخطى إلى المساجد، والأولى بالإمامة، وحكم صلاة المفترض خلف المتنفل، وحكم تسلسل الجماعة.
وأصلي وأسلم على محيي قلوب البشرية، ومعلِّم الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية، محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، ورضي الله عن كل تابع وصدِّيق، وعابد وزاهد وخيّر، وتاب الله على كل عاص، وهدى كل ضال، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعــد:
في روضة من رياض المصطفى صلى الله عليه وسلم، روضة تحيا فيها الأرواح، ومن أراد أن يحيي روحه وقلبه؛ فما له إلا بيوت الله عز وجل، ولهذا فللحديث الذي معنا في هذا الدرس صلة أيما صلة بموضوع المساجد وموضوع القلوب.
والحياة في الإسلام إنما هي حياة القلوب، والحياة الطيبة إنما هي في اللجوء لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وما تحيا القلوب إلا بذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك قال عز من قائل لائماً المعرضين عنه اللاهين عن ذكره، المتلاعبين بأوقاتهم: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].
ثم أتى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالرجاء وفتح باب النوال، فقال بعدها مباشرة: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد:17].
فكما يحيي الله عز وجل الأرض بعد موتها بالمطر، فكذلك يحيي هذه القلوب بالذكر، ولا تحيا قلوب العباد أبداً إلا بالكتاب والسنة، ومن أراد أن يحييها بغير كتاب الله عز وجل، وبغير سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنما هو يميتها ويهلكها ويفنيها، وفساد القلب كل الفساد هو أن يعرض عن الكتاب والسنة.
عناصر الدرس:
فمع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع حديث طاهر طيب عطر، تفوّه به أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم، ونقله إلينا العابد الزاهد القدوة أبو هريرة حافظ الأمة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (والذي نفسي بيده؛ لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم بالنار، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء معنا) متفق عليه، وزاد الإمام أحمد في المسند (والذي نفسي بيده، لولا الذرية والنساء لحرقت عليهم بيوتهم) وهذا حديث اتفق البخاري ومسلم على أصله، وانفرد الإمام أحمد في المسند بزيادة الذرية.
وهنا ثماني عشرة قضية، وهي من القضايا الكبرى في حياة المسلم:
أولها: ما حكم صلاة الجماعة؟
ثانياً: هل هي شرط في صحة الصلاة؟
ثالثاً: هل للمسلم أن يصلي الصلاة في بيته، ثم ما هو الأفضل في الجماعة، ثم فضل المسجد الأبعد، ثم لا يَؤُم المسلم مع وجود الإمام الراتب، ومن أولى الناس بالإمامة، ومن حضر فريضة وقد صلى الفريضة هل يصلي ويعيد ومن رأى متنفلاً هل له أن يدخل معه في النافلة.
كل هذه القضايا وغيرها سوف تطرق -بإذن الله- وسوف تكون مجالاً للدراسة في هذه الجلسة، ونسأل الله الهداية والسداد والتوفيق والعون.
الدليل الأول: استدلوا بقوله تبارك وتعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] ومعنى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] أي: صلوا مع المصلين، فهو من ذكر الشيء ببعض سببه، وإلا فالمعنى: فصلوا مع المصلين واركعوا مع الراكعين، وإلا لقال عزَّ من قائل: واركع مع الراكع، ولكن قال: مع الراكعين.
الدليل الثاني: واستدلوا من القرآن أيضاً بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102] وهذه في صلاة الخوف.
فقال الإمام أحمد ومعه ابن تيمية وابن القيم: ما دام الله عز وجل لم يعذر الناس في ترك صلاة الجماعة والسيوف على رءوسهم والرماح تأخذ من أجسامهم وأجسادهم، فكيف يعذرهم وقت الأمن والراحة؟! هذا لا يدخل في المعقول أبداً.
الدليل الثالث: واستدلوا على ذلك بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ [النور:36] ولم يقل (رجل): رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:37].
الدليل الرابع: واستدلوا بقوله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة:18] فمن لم يعمر مسجد الله وبيت الله، فلا يؤمن بالله واليوم الآخر.
الدليل الخامس: واستدلوا بالحديث الماضي -وهو متفق عليه- وهو قوله عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام -وفي لفظ: فأخلِف رجلاً يصلي بالناس- ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ,والذي نفسي بيده لو يجد أحدهم عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين... الحديث} والمرماتين: قيل: صفيحة الشاة، وقيل: كتفها، وقيل: هو بين الساعد والعضد، والحاصل أنه عضو من الشاة. يقول عليه الصلاة والسلام: والله لو أن هؤلاء المتخلفين عن المسجد يجد أحدهم قطعة من اللحم لأتى إلى الصلاة وإلى المسجد ليأكلها، أو دعي لمكان فيه وليمة لحضر؛ لأنه يريد العاجل من الدنيا وشبع بطنه.
فكيف يضيع الأجر العظيم عند الله؟ وهو علامة النفاق، فمن تخلف عن أجور الآخرة وأتى لأجور الدنيا فهذا من علامة النفاق.
الدليل السادس: واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود -وهو حديث صحيح- عن أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من ثلاثة في قرية أو في بادية لا يصلون جماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان} رواه أبو داود ورواه الإمام أحمد وسنده صحيح.
الدليل السابع: واستدلوا كذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لينتهينَّ أناس عن ودعهم الجمع والجماعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين}.
الدليل الثامن: ومن أدلتهم أيضاً: ما في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: {إن الله عز وجل فرض على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سنن الهدى وإن الصلاة من سنن الهدى، ولو أنكم تخلفتم كما يتخلف هذا المنافق في بيته؛ لخالفتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولو خالفتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لهلكتم، والذي نفسي بيده، لقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين من المرض حتى يقام في الصف} وهذا المكان في عهد الصحابة رضي الله عنهم.
ومن أدلتهم أيضاً: ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من سمع النداء ثم لم يجب فلا صلاة له إلا من عذر} روى هذا الحديث أبو داود في سننه، وابن ماجة في سننه، وابن حبان في صحيحه، وقال عبد الحق الأشبيلي الأندلسي: سند هذا ما وراءه في الصحة سند. وقد قبل شيخ الإسلام هذا الحديث في المجلد الثالث والعشرين من الفتاوى وصححه، وقبله ابن القيم، وقبله الحفاظ، وصححه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وهو حجة في أن من ترك صلاة الجماعة فلا صلاة له إلا من عذر.
وفي سنن البيهقي وهي من أدلة الجمهور، قول علي رضي الله عنه وأرضاه: [[لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد]] وبعض العلماء يرفع هذا الحديث إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وبعضهم يوقفه على علي، والصحيح أنه موقوف.
واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: {جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمى -وفي غير رواية
وقال ابن عمر كما عند البيهقي بسند جيد: [[كان الرجل إذا تخلف عن صلاة الجماعة اتهمناه في دينه]].
فالذي يتخلف عن صلاة الجماعة في المسجد وليس له عذر فهو متهم في دينه بلا شك، لما روى الترمذي بسند تكلم فيه أهل العلم؛ لوجود دراج بن أبي السمح وهو رجل ضعيف، قال: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من رأيتموه يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان} فمفهوم المخالفة في الحديث أن من لا نراه يعتاد المسجد فلا نشهد له بالإيمان.
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان أخشى الخلق لله، وأخوفهم لله فلم يترك صلاة الجماعة إلا من مرض أسقطه على فراشه خمس مرات، كلما وثب ليتوضأ سقط على فراشه من الإعياء، فلم يترك جماعة في حياته أبداً عليه الصلاة والسلام، وكان الصحابة بعده يتعاهدون الصلاة جماعة، فإذا تخلف الرجل سألوا عنه، فإما أن يكون معذوراً، وإلا فإنه معلوم النفاق، ويشهدون عليه بالنفاق.
ولذلك كان من أعظم الأعمال في الإسلام -أعظم من الجهاد، وأعظم من الصدقة، وأعظم من أن تهراق الدماء في سبيل الله، وأعظم من أن ينفق المرء ما له غِلقا غِلقاً في سبيل الله، وأعظم من أن يذهب كل ما عندك في طاعة الله- المحافظة على الصلوات الخمس في المسجد.
يقول عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم عن أبي هريرة: {ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط} قالوا: الرباط هو أعظم درجات الإحسان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا [آل عمران:200] فأعلى درجات الإحسان في الإسلام الرباط في المسجد.
قال تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].
وقال الأعمش وهو في سكرات الموت، وأبناؤه يبكون: لا تبكوا والذي نفسي بيده! ما تركت تكبيرة الإحرام مع الإمام ستين سنة. وقد ذكرها الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء.
وقالوا عن سعيد بن المسيب: أنه ما ترك صلاة الجماعة -أو ما فاتته- أربعين سنة، وما نظر إلى قفا أحد إلا قفا الإمام.
ومن هذه الأدلة قال أهل العلم: صلاة الجماعة واجبة، ولا يعذر أحد بتركها، ومن صلى وحده بلا عذر فقد أساء وأثم كل الإثم، وأمره إلى الله عز وجل.
وزاد شيخ الإسلام ومجدد الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: "صلاة الجماعة شرط في صحة الصلاة، فمن صلى وحده بلا عذر فلا صلاة له أبداً"، وقد ذكر هذا في الفتاوى، ونقلها عنه أهل العلم، وهذه من أعظم المسائل التي أوردها رحمه الله.
إذاً فصلاة الجماعة واجبة على كل مسلم ولا يعذر أحد بتركها، إلا من له عذر شرعي كما سوف تأتي الأعذار بإذن الله.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما وأرضاهما إذا خرج إلى المسجد يقارب بين خطاه حتى كأنه نملة، فقيل له: لماذا تفعل ذلك؟ قال: [[ما رفعت خطوة إلا رفع لي بها درجة، ولا وضعتها إلا حط عني بها خطيئة]].
وأفضل الجماعة كذلك ما كثر عدد مصليها، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وسنده حسن، قال صلى الله عليه سلم: {صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى} فإذا رأيت جماعة كثيرة فحاول أن تكون معهم.
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: " وإنما تفاضلت الجماعات لكثرة القلوب، وكثرة الدعاء؛ فان الله عز وجل يرحم الجمع العظيم، والقوم إذا اجتمعوا من المسلمين لا يشقى بهم جليسهم أبداً "، كما صح به الحديث، فكلما كانت الجماعة أكثر كانت أفضل.
فالذي ظاهره الإسلام تصلي وراءه ولا تسأل عنه، ولا تقل: ما عقيدتك؟ وكيف يستوي الله عز وجل على العرش؟ وماذا تقول في الأسماء والصفات؟ بل من ظاهره الإسلام وظاهره الستر تصلي وراءه. هذه من المسائل التي أقرها أهل السنة والجماعة.
أما رجل تبرع بالصلاة وهو مبتدع فليس لك أن تصلي وراءه، فهو إذا جاء متبرعاً ويريد أن يتقدم إلى المحراب فلك أن تؤخره، وألا تصلي وراءه؛ فإنه قد تدَّخل في مسألة لا حق له فيها، وليس له مقام في هذا الباب لا من الكتاب ولا من السنة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم توضأ ثم كشف الحجاب؛ فإذا الناس في الصفوف، فارتبك الناس؛ رسول البشرية ومعلِّم الإنسانية صلى الله عليه وسلم يصلي مأموماً اليوم، وهو لم يصلِّ في حياته إلا إماماً- فلما ارتبك الناس أخذوا يصفقون لـأبي بكر وأبو بكر مواصل، وذلك لسببين:
إما لأنه لم يلتفت، وقيل: لأنه لم يفهم لأنه لا يدري ما الذي حدث ومن الذي دخل، فأخذوا يضربون على أفخاذهم، فلمَّا طال الأمر وعلت الرجَّة في المسجد، التفت رضي الله عنه -وللمسلم أن يلتفت للحاجة في الصلاة ولو في الفريضة، وقد صح بذلك حديث- فالتفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه تبسم صلى الله عليه وسلم وقال: مكانك، فرفع أبو بكر يده إلى السماء ورجع القهقري ففتحوا له فرجة فدخل، فأتى عليه الصلاة والسلام فبنى على الصلاة -وهم لم يركعوا وإنما هم في الركعة الأولى- وصلى فلما انتهى صلى الله عليه وسلم قال للناس: {ما بالكم صفقتم لما دخلت؟ من رابه شيء فليسبح، فإنما التصفيق للنساء} فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يا أبا بكر! {ما منعك أن تصلي حين أشرت إليك} فقال المتواضع الصادق الصديق الزاهد رضي الله عنه وأرضاه: [[ما كان لـ
فالرسول عليه الصلاة والسلام حين تخلف صلى أبو بكر بالناس.
وعند ابن خزيمة عن المغيرة بن شعبة وأصل الحديث في مسلم أن الصحابة خرجوا في غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما قمنا لصلاة الفجر ذهب صلى الله عليه وسلم، للحاجة وأبعد في الخلاء عليه الصلاة والسلام -لأنه كان إذا ذهب ليقضي حاجته أبعد حتى لا تراه العيون- فلما توضأ الناس وأذنوا لصلاة الفجر خافوا من أن تطلع الشمس فأقام بلال الصلاة، فلما أقام بحثوا عن الرسول عليه الصلاة والسلام فلم يجدوه.
فقال عمر لـأبي بكر: تقدم يا أبا بكر فصلِّ بالناس، قال: لا والله، قال: تقدم أنت، قال: لا والله، قالوا: من يتقدم؟ فتقدم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، فصلى ركعة، فلمَّا كان في الركعة الثانية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى، فلما سلموا رأوا الرسول عليه الصلاة والسلام يكمل، فخجلوا أيما خجل، والتفتوا إليه فسلم وتبسم لهم وقال: {أصبتم وأحسنتم}.
فهو إقرار بالكلام وبالابتسام منه صلى الله عليه وسلم.
وصلى أبو بكر في مرض موته عليه الصلاة والسلام، تلك الأيام حتى توفي عليه الصلاة والسلام.
فللمسلم إذا تأخر الإمام وعلم أنه تأخر يقيناً أن يصلي بالناس وليتبرع، وينوي -إذا تقدم إلى المحراب- بعمله وجه الله عز وجل، وأن يحتسب أجره على الله، وأن يعلم أن في الحديث الصحيح: {أن من أمَّ قوماً وهم به راضون، أجلسه الله يوم القيامة على كثيب المسك على ميمنة الرحمن سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وكلتا يديه يمين} فإذا تقدم فليعتقد أن هذه دعوة، وأنه يريد الإفادة، وأنه يريد بها وجه الله عز وجل، فأعظم دعوة أن تتلو القرآن في الصلاة على الناس: وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [النمل:92] وإذا عُلم هذا فهذه الأعذار التي تبيح للمسلم أن يتقدم للإمامة إذا غاب الإمام أو مرض.
هذه المسألة عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا
فالإنسان لا يحبس نفسه ساعة طويلة وتفوته الفريضة، بل إذا علم أنه في جمع أو في مكان وأحرج، فليقم وليصلِّ الفريضة، ثم ينتظر ويصلي معهم نافلة ولا يقل: إني صليت، لئلا يحدث عليه إحراجات، ويحدث عليه تساؤلات؛ لأنه قد يقال له: أنحن كفار أو منافقون حتى لا تصلي معنا؟ فعليه أن يصلي الفريضة ثم يصلي معهم ويجعلها نافلة.
وقد قال عامر الشعبي: رأيت سعيد بن جبير وكثيراً من التابعين يصلون وراء الحجاج وهو يخطب على المنبر، فهو يخطب خطبة الجمعة ويلقي محاضرة مطوَّلة، يمدح فيها عبد الملك بن مروان وبني أمية، وخالاتهم وعماتهم وأصحابهم ودولتهم، فلما أطال عليهم تذمر هؤلاء التابعون فصلوا إيماءً وهم جلوس ثم صلوا معه نافلة؛ لأنه فوت عليهم الصلاة، ولذلك كان هذا من الرسول صلى الله عليه وسلم توجيهاً للمسلم على أن يحافظ على الصلاة في وقتها، ثم يصلي مع الناس نافلة.
فالمسلم إذا دخل مسجداً وقد صلى -في أي مسجد آخر- ومرَّ بجماعة وهم يصلون فعليه أن يصلي معهم وتكون له نافلة، ولا يقلْ: إني صليت، بل يدخل معهم ويكتبها الله له نافلة.
قال ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه عن أبيه: [[هي لله عز وجل يكتب الفريضة بما أراد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى]] وقال غيره وهو الصحيح: الفريضة الأولى؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {صليا فإنها لكما نافلة} أي: الثانية لكما نافلة، فالثانية هي النافلة والأولى هي الفريضة، هذه مسألة.
أولاً: المتنفل بالمتنفل: إنسان دخلت وهو يصلي صلاة الضحى، فهل لك أن تصلي معه صلاة الضحى؟ أو إنسان يصلي الوتر في آخر الليل هل لك أن تدخل معه لتصلي صلاة الوتر؟ الصحيح -الذي دلَّت عليه النصوص، وهو التحقيق من كلام أهل العلم- أن صلاة النافلة بعد إمام متنفل جائزة، وعلى ذلك دلت النصوص ومنها:
حديث ابن عباس في الصحيح: أنه قام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة يوم بات عند خالته ميمونة، فأخذه صلى الله عليه وسلم وأقامه عن يمينه فصلى به جماعة.
ومنها: حديث أنس قال: {زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت لنا، فقام يصلي بنا، فأخذت حصيراً قد اسودَّ من طول ما لبس -والحصير: الفراش من خصف- فنضحته بالماء، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم} وهي نافلة، فلك أن تصلي نافلة، لكن لا تجعلها دائمة، فإن من داوم على صلاة النافلة جماعة -غير التراويح- فقد ابتدع، فمن يأتي ويجمع الناس كل ضحى النهار، ويقول: صلاة الضحى، ويداوم عليها جماعة فقد ابتدع، لكن أحياناً وأحياناً، أو يجعل الوتر دائماً جماعة فقد ابتدع، لكن أحياناً وأحياناً.
ثانياً: وأما صلاة المفترض بالمتنفل الصحيح أنها واردة وثابتة، ويكفي فيها حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، أنه كان يصلي مع الرسول عليه الصلاة والسلام الفريضة، ثم يعود إلى قومه بني سلمة في قباء فيصلي بهم، فهي له نافلة ولهم فريضة.
ثالثاً: وأما صلاة المتنفل بالمفترض فالحديث الأول -حديث الأسود بن يزيد -: {فإنها لكما نافلة} فهم يصلون نافلة وهو مفترض.
والصلاة أربع صور:
الأولى: مفترض بمفترض.
الثانية: متنفل بمفترض.
الثالثة: مفترض بمتنفل.
الرابعة: متنفل بمتنفل.
وكلها جائزة والحمد لله ودلَّت عليها النصوص.
أما الفريضة: المفترض بالمفترض فهذا واجب.
وهذه المسألة -إعادة الصلاة مع المنفرد- دل عليها حديث أبي داود والترمذي وهو حديث صحيح، فأعد الصلاة مع المنفرد لتتصدق عليه.
يقول ابن تيمية رحمه الله: يقطعها مباشرة ولو كان في آخر لحظة من النافلة، أي: حتى لو كنت في التشهد وقد أقام، وتخاف أن تفوتك تكبيرة الإحرام فاقطعها مباشرة وقم للفريضة؛ لأن تكبيرة الإحرام مع الإمام في الفريضة أفضل مما عداها من النوافل.
فهذا رأي ابن تيمية، يقول: اقطعها مباشرة ولو كنت في اللحظات الأخيرة، ولا تتحرَّى وتقول: أتمها ثم أدخل معهم؛ لأن تكبيرة الإحرام سوف تفوتك.
ورأى قومٌ من أهل العلم أنك إن كنت في آخر النافلة وتستطيع أن تدرك الركعة الأولى فأكملها، وإن كنت لا زلت في أول النافلة ولا يمكنك الإدراك فعليك أن تقطع وتدخل.
وقد اشتهر بين الناس أنهم إذا أرادوا أن يقطعوا النافلة سلَّموا وهم وقوف، وهذا ليس من السنة، ولم يأت فيه حديث ولا أثر، بل يقطع الصلاة هكذا ويدخل، أما السلام واقفاً فمن أين؟
ورد السلام واقفاً في صلاة الجنازة فقط، أما في النافلة إذا أردت أن تقطعها فلا تسلَّم عن اليمين واليسار، بل اقطعها وأبطلها وادخل في الفريضة مباشرة.
وتفضيل التكبير على النافلة لحديث: {فإنه من وافق تكبيره تكبيرة الإحرام مع الإمام غفر الله له ما تقدم من ذنبه} وفي البخاري: {من وافق تكبيره تكبير الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه}.
فهذا الشخصية المكتملة تطلب من المسلم ألا يتبجح بشيء، ولا يستهين بشيء؛ لأنه قد تأتي طائفة في المجتمع يقولون: إن الناس يُقتلون، والإسلام يُنتهب، وأنتم في مسائل بمَ تدرك صلاة الجماعة؟ وكيف يُغتسل من الجنابة؟ وكيفية المضمضة والاستنشاق، وكم تحيض المرأة وكم تعتد؟ لكن من عظمة الإسلام أن يعالج هذه المسائل وأن يدقق معها، ثم إنه لا ينسى تلك المسائل الكبرى، فمن الذي أتى بهذه المسائل إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ومن الذي جاهد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ومن الذي حكم بالعدل إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد من هذه المسائل جميعاً، حتى المسائل الدقيقة في الحيض لا بد أن تدرس وأن تفهم للناس.
ثم المسائل الكبرى: مسائل العقيدة، مسائل الجهاد، مسائل توحيد كلمة المسلمين لا بد أن تدرس كذلك، فهذه كلها مطلوبة، وإنما ذكرت هذا؛ لأن مثلي من المقصرين قد يمرُّ على ترجمة ابن تيمية فيقرأ عنه في هذه الجوانب فإذا هو يعيش حياة فيها، وإذا هو في الجهاد، وإذا هو في الزهد، وإذا هو في العبادة فرضي الله عنه وأرضاه.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أدرك من صلاة الفجر سجدة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة، ومن أدرك من صلاة العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك الصلاة} وهذا لفظ مسلم، وفي لفظ: ركعة.
قال الأحناف: تدرك صلاة الجماعة بالتشهد، فإذا دخلت في التشهد قبل السلام فقد أدركت الجماعة، وقال أهل التحقيق من المحدثين وعلى رأسهم ابن تيمية: تدرك صلاة الجماعة بركعة ولا تدرك بأقل؛ فمن أدرك ركعة مع الإمام ومع الناس وهم يصلون فقد أدرك فضل الجماعة وأدرك الجماعة، ومن أدرك أقل منها فلم يدرك الجماعة، فلا بد من ركعة تدركها على الأقل لتدرك فضل الجماعة وأجرها.
ثم يقول ابن تيمية في المجلد الثالث والعشرين من الفتاوى: واعلم أنه ليس هذا مجال النيات؛ فإن من أتى من بيته متطهراً، وأتى والناس قد صلوا وخرجوا من المساجد وهو يريد صلاة الجماعة كتب الله له أجر الجماعة، وهذا صح فيه حديث، فهي على النية، والله يعلم حرص العبد على الخير.
والخلاف في هذه المسألة يفيد أموراً:
في مسألة -مثلاً- من صلَّى الجمعة فأدرك مع الإمام أقل من ركعة، فعلى قول الأحناف يعيد ركعتين وهي صلاة جمعة، وعلى قول ابن تيمية فإنه يعيدها ظهراً؛ لأنه صلَّى أقل من ركعة.
والراجح أن الصلاة لا تدرك إلا بركعة، ودليلهم حديث أبي بكرة في الصحيح: {زادك الله حرصاً ولا تعد} ودليلهم حديث البيهقي عن ابن مسعود -وهو ضعيف حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أدرك الإمام ساجداً فليسجد معه ولا يحتسبها، ومن أدركه راكعاً فليركع معه وليحتسبها} وقد ذكر هذا البليهي في السلسبيل، لكن هذا مع ذاك يؤيد أنها ركعة، ثم ابن تيمية ينظَّر تنظيراً علمياً؛ لأن الركعة هي آخر ما قامت عليه الأحكام، ولأن من ترك الفاتحة وأدرك الركوع نابت عن الركعة، فعلى هذا تدرك أقلها بركعة وهذا هو الصحيح إن شاء الله.
والسنة: إذا دخلت المسجد ورأيت الإمام على حال أن تدخل معه في أي حال كان، هذه هي السنة، فإذا دخلت والإمام يقرأ التشهد فادخل معه، وإذا دخلت وهو ساجد فاسجد، أو راكع فاركع، أما الذي اشتهر بين الناس أنه إذا كان متشهداً فإنه ينتظر حتى يقوم، أو كان ساجداً ينتظر حتى يقوم ويجلس، فهذا خطأ بل اسجد معه وادخل على أي هيئة كان، لكن لا تحتسبها ركعة إلا إذا أدركته في الركوع.
العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقسام، ولا بد أن نعرض الخلاف ثم الراجح إن شاء الله:
القسم الأول: قوم يقولون: يقرأ بالفاتحة في السرية والجهرية دائماً وهم الجمهور.
القسم الثاني: قوم قالوا: لا يقرأ في السرية ولا في الجهرية وهم الأحناف.
القسم الثالث: قوم يقولون: يقرأ في السرية وأما في الجهرية فلا يقرأ، وهو رأي ابن تيمية شيخ الإسلام.
أما دليل الذين قالوا: يقرأ في السرية والجهرية، فحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه المتفق عليه: {لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ولا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} والحديث الآخر في مسلم: {صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداجٌ خداج خداج} وقيل: خِداج خِداج خِداج أي: باطلة، فهذا دليل من قال يقرأ في السرية والجهرية.
وأما الأحناف فدليلهم على أنه لا يقرأ في السرية ولا في الجهرية وراء الإمام، حديث {من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة} وهذا الحديث رواه البيهقي، والدار قطني، وهذا الحديث ضعيف من جميع طرقه، يقول الشيخ عبد العزيز بن باز: تتبعته من جميع طرقه فوجدته ضعيفاً، فهذا لا يصح بحال. فهذا دليلهم، وقد ضعَّفه ابن حجر في بلوغ المرام وضعفه الأئمة مثل الدار قطني، والبيهقي، والحاكم، وابن حبان.
واستدل ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] قال: فالفاتحة قراءة فكيف تقرأ والإمام يقرأ.
إذاً فما هو الراجح في هذه المسألة وفي هذه الأقوال الثلاثة؟
أولاً: نبدأ بقول ابن تيمية: إذا صليت في الجهرية فلا تقرأ شيئاً وراء الإمام، لا تستفتح ولا تتعوذ، ولا تقرأ الفاتحة، ولا تقرأ سورة، وإنما تستمع لقراءة الإمام، إلا في حالة واحدة وهي إذا كنت لا تسمع شيئاً كأطرش فليقرأ الفاتحة، أو كنت في مكان لا تسمع قراءة الإمام فاقرأ، واستدل بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] وبقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا قرأ الإمام فأنصتوا} وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، وأبو داود وهو صحيح.
ورد عليه المحدثون وهو رأي الجمهور، وألف فيه البخاري كتاباً اسمه: القراءة خلف الإمام، وهو كتاب مجلد مطبوع، فقال: تقرأ، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} وقوله عليه الصلاة والسلام: {صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج خداج} أي: باطلة، فهذان الحديثان عامان في السرية والجهرية، واستدلوا كذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في سنن النسائي عن البراء بن عازب أنه قال: {صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سلَّم قال: هل قرأ منكم أحدٌ معي؟ قال رجل: أنا يا رسول الله! قال: ماذا قرأت به؟ قال: قرأت بسبح اسم ربك الأعلى، فقال صلى الله عليه وسلم: إني أقول مالي أنازع القرآن} أنازع أي: أجاذب؛ لأن من يرفع صوته خلف الإمام يشوَّش عليه، فلا يستطيع الإمام أن يكمل أو يقرأ، حتى إن بعض الأئمة إذا تنحنح المأمومون وأكثروا أخطأ في الصلاة، وهذا من التشويش والمنازعة.
فقال عليه الصلاة والسلام: {إني أقول مالي أنازع القرآن، من كان قارئاً فليقرأ بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} ولا يزد على ذلك، وهذا هو الرأي الموجه وهو الذي دلت عليه -إن شاء الله- هذه الأدلة الواردة، وقد رجَّحه كثير من العلماء الآن في اللجنة الدائمة للإفتاء، وإن شاء الله أنه هو الموجَّه، وأما ابن تيمية فيعتذر له، وهو مشكور ومأجور في المسألة، ومن ذهب إلى رأي ابن تيمية؛ لأن عنده حديثاً فهو مأجورٌ أيضاً.
ودخل عمر رضي الله عنه وأرضاه والناس يصلون جماعة، وإذا برجل رفع رأسه قبل الإمام فضربه بالدرة وقال: [[لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت]] فالمتابعة واجبة، ونهى عن صور ثلاث مع الإمام:
الصورة الأولى: أن تسابقه بالحركات هذه حرام، إلا من عذر كأن تسمع صوتاً، فتظن أنه كبر فتركع قبله، وعليك أن تعود بقدر ما ركعت، وتركع بعده، فالمسابقة حرام.
الصورة الثانية: التخلف الكثير حرام، كأن يكون هو في السجود وأنت لا زلت تقرأ الفاتحة ما ركعت، أو يكون قد قام يقرأ وأنت في السجدة الأولى.
الصورة الثالثة: المسايرة والموافقة: يكبر فتكبر معه سيان، وترفع فترفع سيان، هذه كذلك محظورة ومنهي عنها، والمطلوب المتابعة.
فهي صور أربع: المسابقة، والتخلف، والموافقة، والمتابعة، فالمطلوب في الإسلام المتابعة والثلاث الصور منهي عنها ومحرمة. فليعلم هذا.
هذه دلت عليها نصوص الحديث المتقدم، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم عن أنس: {يا أيها الناس! إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود} وقال البراء بن عازب: { ما كنا نضع رءوسنا على الأرض حتى يضع صلى الله عليه وسلم رأسه على الأرض ساجداً} فليعلم هذا.
أما سكوت الإمام إذا قال: (ولا الضالين، آمين) فحديث السكتات نصه عن سمرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: {حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين: بعد أن يكبر تكبيرة الإحرام، وقبل أن يركع} سمرة بن جندب هو صحابي جليل دخل العراق رضي الله عنه وأرضاه، مر النبي صلى الله عليه وسلم بقوم من الصحابة، فقال: {إن أحدكم يحترق بالنار، أو يدخل النار} وهم صحابة كلهم، فكانوا كلهم خائفين، وأتاهم من الخوف ما لا يعلمه إلا الله، منهم سمرة هذا، فأتى يوم جمعة يتدفأ، وقيل: يتجمر من البخور فعثر رضي الله عنه ووقع في النار فأراد أن ينقلب فما استطاع فمات وهو محترق، هذا سمرة صاحب الحديث، قال: [[حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين: بعد تكبيرة الإحرام وقبل أن يركع]] فأُخبر عمران بن الحصين رضي الله عنه وأرضاه وهو معه في العراق، فقال: [[كذب سمرة , كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان يسكت]].
فردوا الخبر لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، قال: ائتوا إلى السيد الإمام الشهم، سيد القراء وسيد المسلمين أبي بن كعب -والعجيب أن عمران الذي في القصة وأُبي كلاهما مبتلى في الحياة، أما عمران فمرض ثلاثين سنة بالمرض ما رفع نفسه عن الفراش حتى صافحته الملائكة على فراشه كما يقول ابن حجر في الإصابة، وأما أبي بن كعب فمرض بالحمى ثلاثين سنة، حتى ما أبقت له -بإذن الله- خطيئة لا كبيرة ولا صغيرة- فردوا الخبر إلى أبي بن كعب، فقال: [[صدق سمرة صدق سمرة]] قال أهل العلم: هذا الحديث مضطرب.
والمضطرب هو: أن يختلف الألفاظ وفيه اضطراب سند واضطراب متن، وممن ضعف الحديث الشيخ الألباني جزاه الله خيراً، وكثير من أهل العلم ضعفوا هذا الحديث، وبعضهم صححه، والصحيح أنه مضطرب، لأنه لو كان صحيحاً لتداعت الهمم والعزائم على نقله للأمة.
إذاً فليس للإمام سكتات، وابن القيم يستحسن في زاد المعاد يقول: لو سكت ليقرأ المأموم لكان حسناً، لكن أين الدليل؟
أما السكتة بعد تكبيرة الإحرام فصحيحة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسكت، ولم نأخذ دليلها من هذا الحديث، لكن من حديث أبي هريرة كما في البخاري { كان صلى الله عليه وسلم إذا كبر تكبيرة الإحرام سكت هنيهة، أي: برهة من الزمن، قال: فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد} فكان يسكت عليه الصلاة والسلام، وهذا سوف يأتي معنا في أدعية الاستفتاح.
إذاً فلا سكوت واجب، ولكن لو سكت لكان أحسن، فيقرأ المأموم بعد أن يقول الإمام: ولا الضالين آمين، وبعض الناس تسمعه وأنت إمام يرتل الفاتحة، ويقرأ بعدها سورة، فيفوته السماع، فعليه أن يقرأ الفاتحة سريعاً ثم يستمع إلى الإمام.
الجواب: معنى إسباغ الوضوء على المكاره هي: أن تعتني بإسباغ الوضوء في أوقات تكون هذه الأوقات كريهة على النفس، من باب قوله صلى الله عليه وسلم: {حفت الجنة بالمكاره}.
والمكاره فسرت بأنها إما أن تكون في شدة برد وأنت مع ذلك تسبغ الوضوء؛ فهذا علامة إيمانك وصدقك، وعلامة إرادة الثواب من الله عز وجل؛ فإن الوضوء في جوٍ باردٍ وشتوي أعظم أجراً من الذي يتوضأ بالماء الحار، علم بذلك أن المكاره من هذه الجهة، وقيل: الجروح التي في الرجل، والتي لا تمنع من الوضوء، فالمكاره هي التي تكون شاقة على النفس، فتسبغ الوضوء فيها، وينصرف إلى البرد أكثر ما ينصرف.
الجواب: الصحيح أنك تدخل مع الناس في صلاة العشاء، فتصلي؛ لأجل الجماعة، ثم تصلي المغرب بعدها؛ أفتى بذلك ابن تيمية شيخ الإسلام ومعه جماعة من أهل العلم؛ لأنه لم يرد نص يمنع هذا، ولئلا تفوتك الجماعة فادخل معهم وصلِّ ثم صل، ولأن الترتيب ليس بواجب للفوائت، وللعذر؛ لأنه وجدت لك الجماعة.
الجواب: نعم. يجوز أن تتبرع إذا رأيت أنك أقرأ من الإمام وأنك أكثر إفادة للناس، وتحتسب أجرك على الله عز وجل، بشرط ألا يجد الإمام في نفسه حرجاً أو ضيقاً؛ لأن بعض الأئمة يستحي، فيقدمك وهو لا يريدك أن تتقدم، فأنت تعرف بالقرائن والسياقات والملامح.
الجواب: من الحركات ما إذا تتابعت أبطلت الصلاة، قيل: ثلاث فما فوق، أما الحركة لحاجة فلك أن تتحرك لحاجة، كأن يحكك شيء في رأسك أو في جسمك فلك أن تحك بهدوء؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام ورد عنه هذا، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه حمل أمامة بنت بنته صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة في الصحيحين، وورد في حديث سهل بن الحنظلة الصحيح عند أبي داود أنه التفت صلى الله عليه وسلم إلى الشعب؛ لإنه أرسل طليعة قوم، وورد أنه فتح الباب في الصلاة عليه الصلاة والسلام لـعائشة، وورد عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: {اقتلوا الأسودين في الصلاة، الحية والعقرب} وابن عمر رضي الله عنه قتل الثعبان وهو يصلي، ثم عاد فأكمل صلاته.
فأنت إذا لمحت عقرباً أو حية -فإنه كما قال ابن مسعود: [[ما سالمناها منذ حاربناها]] فتذهب وتقتله إذا كان قريباً منك- ثم تعود لصلاتك، وحديث: {اقتلوا الأسودين} حديث صحيح، ومن الحركات في الصلاة أن يُسلِّم عليك مسلم فترد عليه بالإشارة، قيل لـبلال: {كيف كان صلى الله عليه وسلم يرد عليكم إذا سلمتم عليه؟ قال: كان يبسط يده وهو يصلي هكذا} والحديث أصله في مسلم وهو عند الحاكم من حديث أسماء وسهيل وبلال.
ومن أراد أن يعود إليه فليعد إليه في بلوغ المرام لـابن حجر، وليعد إليه في مظانه من الكتب التي هي أصل في رواية الحديث.
أما التشميت فليس بوارد؛ لأنه عطس صحابي منهم فشمته معاوية بن الحكم السلمي كما في صحيح مسلم، قال: رحمك الله، قال: فالتفت إليَّ الناس، فقلت: ويلي ماذا فعلت؟! فلما سلّم عليه الصلاة والسلام دعاه، وقال له: {إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي الذكر والتسبيح وقراءة القرآن} فعلم أنه أنكر صلى الله عليه وسلم التشميت، ولم ينكر على ذاك لأنه حمد الله.
الجواب: الأثر ليس بصحيح، وسنده: ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
الجواب: نعم. إذا رأيت أعمى يتردّى، أو كاد أن يتردى فاقطع صلاتك واذهب إليه، أو رأيت طفلاً وأنت في الصلاة ورأيته يحترق فاذهب واقطع صلاتك، فعل ذلك السلف وما أنكر أحد من أهل العلم هذه المسألة.
الجواب: على الإمام أن يراعي هذا الشخص المنفرد وحده ولا يراعي الكثرة، يقول عليه الصلاة والسلام لـعثمان بن أبي العاص، كما في سنن أبي داود، قال: قلت: يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، قال: {أنت إمامهم واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً} واقتد بأضعفهم، معناه: أضعف واحد في الجماعة، تقتدي به وتجعل صلاتك عليه، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا صلَّى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة} وفي رواية: {الكبير} فإذا كان فيهم ضعيف أو شيخ كبير، أو مريض فاقتد به واجعله هو قدوتك في الصلاة وإن أحب الناس التطويل؛ لأن الصلاة هي لهؤلاء حتى يستطيعون الحضور.
يقول عليه الصلاة والسلام: {إني لأدخل في صلاتي فأريد أن أطيلها؛ فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي} فهو يراعي حال المرأة عليه الصلاة والسلام، وحديث معاذ: {أفتان أنت يا
الجواب: الصحيح في هذه المسألة أن يقتدوا بواحد منهم ويصلون ويكون لهم إماماً، حتى ولو لم ينووا، يعتبر واحد منهم إماماً لهم فيقتدون بصلاته، ولو اقتدوا به فلما ركع ثم علم أنهم يريدون الاقتداء به فجعل نفسه إماماً صحَّ لسببين:
أولاً: إن صلاة الجماعة تقدم على صلاة الفرادى.
الأمر الثاني: أنه لم يرد من الرسول عليه الصلاة والسلام أي مانع في هذه المسألة، وقد أفتى بها ابن تيمية في الفتاوى هذه المسألة، فيجعلونه إماماً ويصلون بصلاته.
الجواب: نعم. صل العشاء خلف من يصلي التراويح مفترض بمتنفل؛ كما فعل معاذ رضي الله عنه وأرضاه.
الجواب: إن كان إماماً راتباً فصلِّ وراءه؛ لأنه تحمل أمر الأمة، وقد حُمِّل المسئولية وهو ضامن؛ لأنه راتب يلحق بأهل المعاصي وأهل البدع، وهذه فتوى كثير من أهل العلم، وإن كان متبرعاً فلا تصل وراءه، خاصة حليق اللحية؛ لأنه متلبس بالمعصية؛ ولأن وجود أهل السنة وراءه كيف يصلون به وهو ظاهر المعصية فلا تصل وراءه.
ذهب الأحناف إلى أن التنكيس ليس وارداً ولا جائزاً، والتنكيس هو: أن يقرأ في الركعة الأولى بآخر القرآن، مثلاً: سورة الناس، وفي الركعة الثانية يأتي من أعلى القرآن من عند سورة عم يتساءلون مثلاً، قالوا: لا يجوز؛ لأن المصحف وضعُه توقيفي على هذا الترتيب.
وذهب أهل العلم ومنهم الإمام البخاري وعلقه في الصحيح إلى أنه جائز وهو الصحيح لأسباب:
أولاً: لأن الترتيب ولو كان توقيفياً في المصحف فلا تتعلق به القراءة.
الأمر الثاني: أن هناك أدلة دلت على أنه قدم بعض السور وأخرت بعض السور، منها حديث حذيفة: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل
ثالثاً: حديث ابن مسعود: [[لقد أتيت المفصل الذي يقرأ به صلى الله عليه وسلم]] فكان يأتي بسورة من جزء عم في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية بسورة من تبارك.
ومنها حديث في البخاري في كتاب الصلاة تعليقاً إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه، قال البخاري: " وكان عمر رضي الله عنه يصلي بالناس، فقرأ في الأولى سورة الكهف، وفي الثانية سورة يوسف أو يونس "، فأين الكهف عن يونس ويوسف.
رابعاً: أثر عن بلال رضي الله عنه وأرضاه أنه جمع في الصلاة من سورٍ قدم بعضها على بعض، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: {كُل كثير طيب} فلك أن تنكس وأن تقرأ وأن تقدم، لكن الأولى على ترتيب المصحف، بشرط ألا تطيل الثانية أكثر من الأولى؛ لأن بعض الناس يأتي في الأولى فيقرأ سورة النصر، ويأتي في الثانية ويقرأ سورة ق، وهذا من قلة الفقه؛ لأنه لا بد في الركعة الأولى أن تكون أطول من الثانية، وأن تكون الركعة الثانية على النصف من الركعة الأولى.
لك أن تنكس، وأنا إنما ذكرت الأمر الجائز، ليس الجائز هو الأولى؛ لأن هناك فرقاً بين الأولى والجائز، فالجائز ما فُعل ليُبين أنه ليس مكروهاً ولا حراماً، والأولى ما فعل ليبين أنه يقدم على غيره، فالأولى أن ترتب، والجائز أن تنكس.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر