إسلام ويب

من آداب النبوة (2)للشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تواصلاً لما بدأه الشيخ من عرض لآداب الرسول صلى الله عليه وسلم من كتاب الأدب في صحيح البخاري، يتحفنا في هذه المادة بآداب أخرى هامة يستهلها بالحديث عن صلة الأخ المشرك.

    ثم ذكر قصة وفد بني تميم مستخرجاً منها بعض الفوائد والآداب، ونبه على المخالفات التي وقع فيها ذلك الوفد كما تكلم عن استحباب التجمل في الإسلام بما ليس محرماً.

    كما احتوت هذه المادة على باب آخر هو باب رحمة الولد وتقبيله، تكلم فيه الشيخ عن التعامل مع الأطفال ذاكراً مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم وتعامله مع الحسن والحسين رضي الله عنه.

    1.   

    شرح حديث البخاري في صلة الأخ المشرك

    الحمد لله الذي شرح صدور أهل الإسلام للسنة فانقادت لاتباعها، وارتاحت لسماعها، وأمات نفوس أهل الباطل بالبدعة بعد أن تمادت في ابتداعها، وتغالت في نزاعها، والصلاة والسلام على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أشهد أن الله حق، وأن وعده حق، وأن النبيين حق، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق.

    عباد الله: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:100-102].

    ومعنى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] أي: كيف تزيغون وعندكم الكتاب والسنة؟

    وكيف تضلون وبين أظهركم الكتاب والسنة؟

    إنه شيء عجيب مذهل، ونحن هذه الليلة مع آداب النبوة في الحلقة الثانية، مع المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يؤدب الناس بالأدب الذي أدبه الله به، فمع البخاري في مسيرته الرائدة الحافلة الموجهة، التي شقت طريقها ما يقارب أحد عشر قرناً في الأمة الإسلامية.

    يقول رحمه الله تعالى في كتاب الأدب (باب صلة الأخ المشرك): حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا عبد العزيز بن مسلم، قال: حدثنا عبد الله بن دينار، قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (رأى عمر حلة سيراء تباع، فقال: يا رسول الله! ابتع هذه والبسها يوم الجمعة، وإذا جاءك الوفود، قال عليه الصلاة والسلام: إنما يلبس هذه من لا خلاق له، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم منها بحلل، فأرسل إلى عمر بحلة، فقال: كيف ألبسها وقد قلت فيها ما قلت؟! فقال عليه الصلاة والسلام: إني لم أعطكها لتلبسها، ولكن تبيعها أو تكسوها، فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم) هذا الحديث له قصة وفيه قضايا.

    قصة هذا الحديث

    أما قصته فكما قرأناها؛ فقد كان عمر رضي الله عنه وأرضاه، يريد أن يظهر الداعية عليه الصلاة والسلام بمظهر الجمال والجلال والكمال، وكانوا يحبونه عليه الصلاة والسلام أكثر من أنفسهم، وفي صحيح البخاري أن عمر قال: {يا رسول الله! والله إنك أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي، فقال عليه الصلاة والسلام: لا يا عمر! -أي: ما وصلت تلك المنزلة التي أريدها منك، فالدين يريد منك أن تكون أكبر من هذا- فقال: لا. حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال: فو الله الذي لا إله إلا هو إنك الآن أحب إلي حتى من نفسي} وصدق، ونشهد الله أنه كان أحب إليهم من أنفسهم.

    وفي الصحيحين من حديث أنس، قال: قال عليه الصلاة والسلام: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما...}.

    فـعمر أتى بهذه الحلة، وهذه الحلة لـعطارد بن حاجب بن زرارة وهو تميمي، وفد المدينة بحلل يبيعها، وكانت هذا القصة في السنة التاسعة كما بين ذلك الحافظ ابن حجر، فأتى وفد تميم في السنة التاسعة، يريدون الإسلام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أرادوا الإسلام، وكانوا عقلاء دهاة نبلاء، وكان بنو تميم آنذاك قرابة عشرة ألف، وكانت تضرب من نجد إلى بادية السماوة في العراق.

    فقالوا: نريد أن نفد على هذا الرسول عليه الصلاة والسلام مسلمين، فاختاروا أحلمهم وهو قيس بن عاصم، وهذا قيس بن عاصم أحلم العرب، وهو: {سيد الوبر} كما قال عليه الصلاة والسلام، وفي أثر في سنده ضعف أن قيساً هذا لما وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: {يا رسول الله! دنا أجلي، ورق عظمي، ولاح شيبي؛ فأوصني بوصية جامعة، فقال له صلى الله عليه وسلم: يا قيس! إن مع الغنى فقراً، وإن مع القوة ضعفاً، وإن مع العزة ذلة، يا قيس! إن لكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، يا قيس! إن معك قريناً يدفن معك وأنت ميت، وتدفن معه وهو حي، فهو عملك فأقلل منه أو أكثر} فترقرقت دموع قيس بن عاصم وكان في السبعين.

    وقد عقد له البخاري ثلاثة أبواب في كتاب الأدب المفرد، وله حديث عند أبي داود في اغتسال المشرك إذا أسلم، وهو من سادات العرب، وهو أول من قتل الموءودة كما سلف معنا في الدرس الماضي، سامحه الله وغفر الله له فقد أسلم, وهو الذي يقول فيه الأول:

    عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما

    تحية من ألبسته منك نعمةً     إذا زار عن شحط بلادك سلما

    وما كان قيس موته موت واحد     ولكنه بنيان قوم تهدما

    مخالفة وفد بني تميم للآداب الإسلامية

    أخذ بنو تميم أحلم العرب وهو قيس هذا وعطارد بن حاجب خطيب العرب كان من بني تميم، وأخذوا شاعرهم وهو الزبرقان بن بدر، وأخذوا حكيمهم وهو عمرو بن الأشهل، فوفدوا سبعة، ثم طرقوا المدينة فدخلوا وقت القيلولة، والإسلام يعلم المسلم التربية الحسنة وحسن التصرف، ثلاث عورات لا يجوز الدخول فيها، قبل صلاة الفجر، وحين نضع ثيابنا من الظهيرة، وبعد صلاة العشاء، هذه أوقات لا يدخل فيها على أحد ولا يزار فيها أحد، فهي أوقات حرجة، خاصة بهدوء المؤمن وراحته مع أهله وأطفاله.

    ولكن هؤلاء لم يتعلموا تعاليم الإسلام، وما سكب في أرواحهم رحيق الإيمان، وما تدربوا في مدرسة القرآن، فأتوا بعد صلاة الظهر السبعة، وأتوا يصيحون من وراء الحجرات: يا محمد! يا محمد! يا محمد! اخرج إلينا، فما سمعوا راداً يرد، وفي الأدب المفرد للبخاري: {من بدا جفا} وقال تعالى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [التوبة:97] لأنهم تربوا مع التيوس والكلاب، ولذلك يقول الشاعر علي بن الجهم لما دخل على المتوكل يمدحه، وكان ابن الجهم بدوياً:

    مرحباً مرحباً قليل الخطايا     من كثير العطا قليل الذنوب

    أنت كالكلب في حفاظك للود     وكالتيس في قراع الخطوب

    فأرادوا قتله، فقال المتوكل: اتركوه، وأنزلوه في الكرخ سنة، وهو بلد جميل فياض ناعم في حضن بغداد، وفيه نهر دجلة يعانق نهر الفرات، فأنزلوه سنة ثم أتى بعد سنة، فاستفتح قصيدته الرائعة، التي يقول في أولها:

    عيون المها بين الرصافة والجسر     جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

    وهي طويلة، والمقصود أنهم أهل جفاء فقالوا: يا محمد! اخرج إلينا، فمدحنا زين وذمنا شين، فقال عليه الصلاة والسلام: {ذلك هو الله} أي: إن الله إذا مدح مدح، وإذا أثنى أثنى، وإذا ذم ذم، فالممدوح من مدحه الله، والمذموم من ذمه الله، والمحبوب من أحبه الله، والمكروه من كرهه الله، ثم أنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:4-5] ومع ذلك فالله يغفر ويرحم

    فخرج صلى الله عليه وسلم ورأي هذا الوفد وكأنهم النجوم، خيرة قومهم وقاداتهم، الواحد منهم يستطيع أن يقود قبائل من الناس.

    من تلقَ منهم تقل لاقيت سيدهم     مثل النجوم التي يسري بها الساري

    فقال عليه الصلاة والسلام: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد الإسلام، ولكن قبل أن نسلم بين يديك نشترط عليك شرطاً، قال: ما هو الشرط؟ قالوا: لا نسلم حتى نفاخرك وتفاخرنا، قال: كيف؟ قالوا: يأتي شاعرنا يفاخر شاعرك، وخطيبنا يغالب خطيبك، فمن غلب رأينا ذلك، وهذه سنة الجاهلية، إذا وفدوا عند الملوك تمادحوا وتفاخروا في حلبة المصارعة، ليروا المنتخب الذي يفوز بين يدي الناس حتى يرى الناس فضله.

    قال عليه الصلاة والسلام: حيهلا وسهلا، الأمر سهل، عنده خطيبٌ يمكن أن يدمرهم تدميراً، وعنده شاعر حسان بن ثابت لا يبقي في ميدانهم عوجاً ولا أمتاً، فنازلهم صلى الله عليه وسلم، وهذا عقد له البخاري أبواباً، وهو في أسد الغابة لـابن الأثير بأسانيد ثلاثة.

    مفاخرة وفد بني تميم عند الرسول صلى الله عليه وسلم

    فجلس صلى الله عليه وسلم في المسجد، وجمع الناس، وحضر الأطفال والنساء، فقال: ليقم خطيبكم، فقام عطارد صاحب الحلة، وهو صاحبنا هذه الليلة، وكان خطيباً مصقعاً كأنه الرعد يتقاصف، فأخذ المنبر وقام يمدح بني تميم، وبنو تميم قبيلة كبيرة عظيمة شهيرة، ولكن الفضل لمن رفعه الإسلام، والفضل بالتقوى، قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] فكانت أكثر قبائل العرب.

    فقام فمدح قبيلته فلما انتهى، قال عليه الصلاة والسلام: أين ثابت بن قيس بن شماس، وهو الذي قتل في اليمامة رضي الله عنه وأرضاه، فقام يرد على الخطيب، فقال: الحمد لله الذي رفع السماوات بلا عمد، وبسط الأرض في أحسن مدد، الذي خلق الإنسان في كبد... ثم أخذ يأخذهم بفواصل الكلام حتى كأنه الصواعق تنزل على رءوسهم وعرقهم يتصبب، ولما انتهى، قالوا: غلب خطيبك خطيبنا.

    ثم قام الزبرقان شاعرهم وقال:

    نحن الكرام فلا حي يضارعنـا     منا الملوك وفينا تنصب البيع

    فلما انتهى، قال صلى الله عليه وسلم: كيف أنت يا حسان؟ أتستطيع أن ترد عليه في الحال، أو نمهلك حتى تفكر؟ فالموقف صعب، يحتاج إلى مهلة، ويحتاج إلى تخمير الرأي، لكن حساناً كان من أشعر العرب فقام؛ فرد عليهم ارتجالاً بما يقارب ستين قافية من أروع الشعر، يقول فيها:

    إن الذوائب من فهر وإخوتهم     قد بينوا سنناً للناس تتبع

    يقول: المكرمات عند الرسول عليه الصلاة والسلام، وليست عندكم

    يرضى بها كل من كانت سريرته     تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا

    حتى انتهى، فقالوا: وغلب شاعرك شاعرنا فأسلموا، فجاء عطارد هذا بحلة من ديباج، وقيل: من حرير، فأراد أن يهديها مع حلة أخرى، فرفضها صلى الله عليه وسلم، فتعرض عمر رضي الله عنه وأرضاه للحلة، فرآها في السوق تباع، وكانت جميلة، ويريد عمر كل جميل للرسول عليه الصلاة والسلام، فأخذها من السوق وأتى بها إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! خذ هذه الحلة، تلبسها لصلاة الجمعة وللوفود، أي: لأنك قائدنا ومعلمنا ومربينا، وإذا استقبلت الوفود نريد أن تظهر بمظهر القوة.

    موقف الإسلام من الملابس وحكمه عليها

    فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر الجمال، ولم يقل له: أنا لا ألبس الجميل.. أنا متواضع.. أنا أريد الزهد، فالزهد لا يدخل في هذا، بل أقره على هذا المبدأ ولكن أنكر عليه الحلة التي من حرير، وقال: {إنما يلبس هذه من لا خلاق له} قال أهل العلم: من لا حظ له عند الله في الآخرة؛ لأن الكافر يأكل ويشرب بالحلال والحرام، ولكن يلقى الله ولا نصيب له عند الله.

    والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يحرم اللباس الجميل، وقد يظن بعض الناس أنه إذا استقام والتزم في الإسلام، فعليه أن يلبس ثوباً ممزقاً، وغترة قذرة، وأن عليه ألا ينظف حاله، ولا يظهر بالجمال، وهذه دروشة لا يعترف بها الإسلام، وأين الجمال إلا في الإسلام؟! وأين الروعة إلا في الإسلام؟! وأين النظافة إلا في الإسلام؟! وأين القوة إلا في الإسلام؟!

    أما رأيت الله كيف جمل الكون؛ وعند الترمذي بسند حسن: {إن الله جميل يحب الجمال} وعند مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال رجلٌ يا رسول الله: {إني أحب أن يكون لباسي جميلاً، ونعلي جميلة، أفمن الكبر ذلك يا رسول الله؟ قال: لا. إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس} بطره: رده ودحضه، وغمط الناس: أي: ازدراؤهم واحتقارهم.

    فالكبر لا يدخل في اللباس، والروعة لها مقام في الإسلام، ولذلك كان ابن عباس يلبس حلة بألف دينار كما في ترجمته، فقالوا له في ذلك، قال: أريد أن أظهر نعمة الله عليَّ، وأعز دين الله الذي أرسل به محمداً عليه الصلاة والسلام.

    وكان مالك بن أنس يلبس أحسن الحلل، وهو من أتقى الناس، فقالوا له في ذلك، قال: أريد أن أنصر هذا الدين بهذا اللباس، ليقف بمنظر الإسلام منظراً عزيزاً جميلاً يحبه الله ويرضاه.

    إذاً قال له صلى الله عليه وسلم: {إنما يلبس هذه من لا خلاق له} فعاد عمر بالحلة؛ لأنها محرمة، ولم يرد على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أتى يبين لهم، وأتى يعلمهم الحلال والحرام.

    وبعد فترة دعي عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام دائماً يعيش مع أبي بكر وعمر في مشاوراته وجلساته وسمراته، دائماً يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فهو يحب الشيخين حباً جماً؛ لأن بهم بني الإسلام بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

    وفي صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: {رأيت البارحة كأن الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، ومر علي عمر بن الخطاب بقميص يجره في المنام، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ -ما معنى ذلك؟ وما تفسير ذلك؟- قال: الدين} دين عمر رضي الله عنه يستره ظاهراً وباطناً، ولذلك من رأى عليه قميصاً في المنام، قال أهل العلم: فتأويله الدين، فإن رآه قصيراً فلقصر دينه، وإن رآه قذراً فلغش في تدينه، وإن رآه أبيض طويلاً فلصلاحه ولخيريته إن شاء الله.

    ويقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {رأيت البارحة كأنني أشرب من لبن، حتى رأيت الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم} أي: علم الخشية، وعلم قال الله ورسوله.

    ولذلك كان عمر من أعلم عباد الله بالله، والعلم في الإسلام معناه: الخشية، ولذلك كان يكفكف دموعه دائماً من خشية الله، لا يسمع الآية إلا ويتأثر، وذكر عنه المؤرخون أنه كان إذا صلى الفجر وقرأ سورة يوسف، لا يسمع الناس إلا نشيجه وبكاءه من القراءة، فهذا العلم هو الذي فسره عليه الصلاة والسلام يوم فسر اللبن في المنام، فلما أُتي الرسول عليه الصلاة والسلام بحلة، دعا عمر بن الخطاب، وقال: خذها، فقال: يا رسول الله أتيتك بحلة عطارد وقلت فيها ما قلت، واليوم تعطيني هذا الحلة فقال: {إني لم أعطك إياها لتلبسها، ولكن لتبيعها أو تكسوها} فلا يشترط في الهدية أن تلبسها، لكن بعها أو أهدها، قال أهل العلم: أي لغير الرجال المسلمين.

    وعند الإمام أحمد بسند جيد في المسند، وعند النسائي كذلك بسند آخر، عن علي رضي الله عنه وأرضاه، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وأخذ قطعة من ذهب بيده اليمنى، وقطعة من حرير بيده اليسرى، وقال: {هذان حلالٌ لإناث أمتي، حرامٌ على ذكورها} فليعلم هذا، فالذهب والحرير بأنواعه حلالٌ للنساء، خلافاً لمن قال: لا يجوز لبس الذهب إلا مقطعاً؛ لأن هذا الحديث متقدم، وخلاف إجماع أهل العلم في إباحة الذهب للنساء، فهذا أمر.

    1.   

    بعض قضايا الحديث

    فلما أُتي بالحلة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أعطاها عمر، قال: فأرسلها عمر إلى أخ له مشرك في مكة.

    وفي الحديث قضايا، أولاً:

    معنى حلة سيراء

    ما هي الحلة السيراء في الحديث؟ الحلة: لباس كالثوب، يلبسه الملوك، والأغنياء والوجهاء في العرب، وكانت تنسج في اليمن، ومنها ما ينسج في الشام بالقطن، وأجودها ما نسج في اليمن بالحرير، وكانوا لا يراعون ذلك، بل كانوا يلبسون ما حرم لأنهم بلا دين، ولذلك يقول حسان في الغساسنة:

    يمشون في الحلل المضاعف نسجها     مشي الجمال إلى الجمال البزل

    الضاربين الكبش يبرق بيضـه     ضرباً يطيح له بنان المفصل

    يغشون حتى ما تهر كلابهم     لا يسألون عن السواد المقبل

    حسان يمدح أولئك بالكرم، يقول: حتى كلابهم لا تنبح من كثرة الضيفان، وفي الأخير ارتاحت بحمد الله لم تعد تنبح من كثرتهم، ثم قال: يمشون في الحلل، وكان العرب يتمادحون بمن يجر إزاره، فلما أتى الإسلام نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال كما في الأحاديث الصحيحة: {إن الله لا ينظر إلى من جر إزاره خيلاء} وقال: {وما أسفل من الكعبين من الإزار في النار}.

    مشروعية التجمل للجمعة

    واللباس يوم الجمعة فيه إشارة إلى أن المعهود والمستقر عند الصحابة، أن الخطيب والمصلي يوم الجمعة عليه أن يلبس لباساً جميلاً، وهذا في أحاديث كثيرة، تدل على أنه يلبس أحسن ما يجد، بينها صلى الله عليه وسلم في أكثر من ستة أحاديث، فعلى المسلم أن يتجمل ليوم عيد المسلمين وهو يوم الجمعة ويلبس أحسن لباس.

    من هم الذين لا خلاق لهم؟

    القضية الثالثة: من هم الذين لا خلاق لهم؟ الذين لا خلاق لهم: الذين باعوا أخراهم بدنياهم.

    الذين لا خلاق لهم هم الذين ما عاشوا لا إله إلا الله، وما استظلوا بمظلة لا إله إلا الله.

    الذين لا خلاق لهم هم الذي ظنوا أن الحياة حياة بطون وفروج؛ فعموا وصموا عن لا إله إلا الله.

    الذين لا خلاق لهم هم البهائم والذين يعيشون في مسالخ البهائم، حياة مجون وسخط وسفه وزنا وربا وغناء، لا توجه، ولا ذكر، ولا تلاوة، ولا توبة، نعوذ بالله من ذلك.

    هؤلاء الذين لا خلاق لهم، لا يسألون عن الحرام ولا عن الحلال، فهم لا خلاق لهم يلبسونها في الدنيا، ولكن حرام عليهم -والله- أن يلبسوها في الآخرة، والجزاء من جنس العمل.

    من استمع الغناء في الدنيا حرمه الله سماع غناء الجنة، وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول من حديث ابن عباس، وحديث أبي هريرة: {إن في الجنة جوارٍ يغنين يقلن: نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنا له وكان لنا} ولذلك ينظم ابن القيم أثراً لـابن عباس؛ لأن ابن عباس سئل عن غناء أهل الجنة، قال: إذا اشتهى أهل الجنة غناء، أرسل الله عليهم في الجنة ريحاً باردةً مائسة، قال: فتحرك أغصان الجنة فيسمع لذلك صوت، يطربون له طرباً لا يجدون كلذته أبداً، قال ابن القيم في منظومته النونية الكافية الشافية للانتصار للفرقة الناجية:

    قال ابن عباس ويرسل ربنا     ريحاً تهز ذوائب الأغصان

    فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ     إنسان كالنغمات بالأوزان

    يا خيبة الآذان لا تتعوضي     بلذاذة الأوتار والعيدان

    وصدق رحمه الله.

    وكذلك من شرب في إناء الفضة، حرمه الله عز وجل الشرب في آنية الفضة وكذلك الذهب، وفي صحيح مسلم عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من شرب في آنية الفضة، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم} نعوذ بالله من ذلك، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة، ولا تشربوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة} فحق على الله عز وجل أوجبه على نفسه أن من ترك شيئاً له عوضه خيراً منه.

    فإني أدعو نفسي وإياكم لترك هذه المحرمات ليعوضنا الله خيراً منها في الجنة.

    حكم الهدية للمشرك

    والقضية الرابعة: الهدية للمشرك، هل يجوز أن يهدى للمشرك؟ لأن في حديث عمر رضي الله عنه أنه أرسلها إلى أخيه وكان مشركاً، قال أهل العلم: إن كان يطمع أن يسلم هذا المشرك فله ذلك؛ لأن هذا تأليفٌ لقلبه، وتحبيبٌ له في الإسلام، فأنت إذا رأيت من رجل ضال أو مشرك أوكافر أن فيه لمسات قبول، وفيه إقبال على الإسلام، فلك أن تتحفه وتهديه، ولك أن تهش وتبش في وجهه، علَّ الله يرزقه الهداية إلى الإسلام.

    ذكروا في ترجمة عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وأرضاه، قال الذهبي عنه في تذكرة الحفاظ: والله! إني لأحبه لما جعل الله فيه من الزهد والورع والجهاد، قالوا: كان له جارٌ يهودي، فكان ابن المبارك إذا اشترى لحماً بدأ باليهودي، فأعطاه قبل أن يعطي أهله، وإذا أخذ فاكهة بدأ باليهودي قبل نفسه، وإذا كسا أبناءه كسا أبناء اليهودي قبل أبنائه، فجاء بعض التجار إلى اليهودي، وقالوا: نشتري بيتك، قال: بيتي بألفي دينار، ألفٌ قيمة البيت، وأما ألفٌ فقيمة جوار عبد الله بن المبارك، فسمع عبد الله بن المبارك فتأثر من هذه الكلمة، فأعطى اليهودي ألف دينار وقال: هذا قيمة الدار ولا تبعها، ثم التفت ابن المبارك إلى القبلة، ورفع يديه، وقال: اللهم اهدِ هذا اليهودي إلى الإسلام، فأصبح الصباح وقد أتى إلى ابن المبارك، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فكانوا بأخلاقهم وبتعاملهم يدعون إلى الله عز وجل.

    وبعض الناس يخلط في مبدأ الولاء والبراء بين الود وبين حسن التعامل، إذا رأى الخواجة قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، اللهم دمره، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، وبعضهم إذا رأى الخواجة كان على النقيض من ذلك، حياه وبياه، وقام يهز أكتافه بين يديه، وأين هذه الآية من آيات الله التي أخرجها لنا، وقد أتى هذا من أمريكا ولندن، فهذا لا يُرتضى وهذا لا يُرتضى.

    أما الأول الذي قام أمام هذا بالعنف وبالغلظة، فهذا ليس في كتاب الله وليس في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله يقول لبني إسرائيل: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة:83] والناس هنا كلمة عامة، وحسن التعامل مطلوب حتى مع الكافر.

    ذكر الغزالي أن رجلاً كافراً صاحب ابن مسعود، فلما فارقه إلى طريق الكوفة، قال له عبد الله بن مسعود: روفقت بالسعادة أو كلمة تشبه ذلك، فقيل لـابن مسعود: أتقول هذا لكافر؟! قال: سبحان الله! رافقني ساعة، والله يقول: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة:83] ففرق بين المودة وحسن التعامل، فالمودة حرام؛ لأنها من الولاء والبراء.

    وعند أبي داود بسند صحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله؛ فقد استكمل الإيمان} فالمقصود أن الحب والبغض والعطاء والمنع يكون لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أما المودة فلا تكون إلا لوجهه، فلا يواد الكافر وهذا أمر، وأما حسن التعامل فهو أمر آخر، كأن تتبسم له عله يُظْهر إقباله للإسلام، وعله يرتاح لهذا الدين وهذا التعامل، وعلَّ الله أن يهديه.

    ولا يوجد نص واحد يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم عبس وبسر في وجه المشركين أو أغلظ لهم في الكلام، بل قال الله عنه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

    والمقصود أنه لا بأس بهذه الأمور تأليفاً للكافر ومنها الهدية، ولذلك أهدى صلى الله عليه وسلم في حنين لبعض الناس ممن لم يسلم بعد، أو ممن هو حديث عهدٍ بالدين، فأهدى لهم من مائة ناقة، يتألف قلوبهم عليه الصلاة والسلام.

    فإذا علمت أن هذا ألفةٌ للقلب فلك أن تهديه، ولك أن تقدم له خدمات عل الله أن يهديه ويرزقه الدخول في الدين.

    وبعض الناس لا يرضى ذلك فيأتي بهذا الكافر، فيبسط له البساط، ويرحب به، ويواليه، ويزوره، ويؤاكله ويشاربه، لا على مقصد الدعوة للإسلام، إنما هو معجب بالكافر لأنه أتى من أوروبا، فهذا لا ترضى طريقته، وهذا يرد عليه ويبين له أنه وهن في دينه، وهزيمة في عقيدته، وفشل في ولائه وبرائه، فعليه أن يتقي الله عز وجل، لا يوالي إلا من والى الله، ولا يحب إلا من أحب الله، ولكم أن تعودوا إلى المجلد العاشر من فتاوى ابن تيمية، وقد تكلم عن الولاء والبراء كلاماً طيباً، ومن أحسن ما تكلم به في مسألة أن الناس يوالَوْن بقدر ما فيهم من الطاعات، ويعادَوْن بقدر ما فيهم من المعصية.

    نفي التعارض بين الزهد واللباس الجميل

    ومن القضايا في هذا الحديث: أن اللباس الجميل لا يعارض الزهد، وقد مر هذا في غضون الحديث، فـالحسن البصري دخل عليه فرقد السبخي، فرأى عليه ثوب صوف ممزقاً، فأشاح الحسن البصري بوجهه، قال: لعلك ظننت أن الرسول صلى الله عليه وسلم حبذ الصوف، والله! إني أخاف عليك أن تفتتن بهذا اللباس أخوف علي ممن يلبس البرد، أي: الحلل، يقول: أخاف أن تفتتن باللباس الممزق، ويفتنك الله به أكثر ممن يلبس الجميل، وهذا موجود.

    وبعض الناس يلبس لباساً ممزقاً ليظهر بين الناس أنه زاهد ومتقشف، وهذه شهرة والشهرة ملعونة، ولكن أحسن الأمور أوسطها، وهو أن تلبس ما يلبسه مجمل جمهور الناس، فلا تلبس الغالي الذي يلفت نظر الناس، ولا تلبس الرخيص الذي يلفت نظر الناس.

    قال النووي في رياض الصالحين: ويكره أن يقتصر من اللباس على ما يزري به نفسه أو كما قال.

    ولذلك في سنن ابن ماجة بسند فيه نظر، قال: {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم لباس الشهرتين} ولباس الشهرتين: أن يشتهر الإنسان باللباس فلا يلبس إلا اللباس الراقي كبراً وعلواً وعتواً وتجبراً في الأرض، ولعن صلى الله عليه وسلم كذلك، إن صح هذا الحديث وقد تكلم عنه ابن القيم في كتاب اللباس- من يلبس الوضيع الممزق ليظهر نفسه أنه ناسك، ويعلم الله أنه ليس بناسك وإنه لَفاجر، ويظهر نفسه أنه زاهد وليس بزاهد، ويظهر نفسه أنه متقٍ وليس بمتقٍ، والتقوى ليست باللباس، وليست في المعطيات، وليست في الدور ولا في القصور، بل التقوى في القلوب، يقول عليه الصلاة والسلام: {التقوى هاهنا وأشار إلى صدره}.

    ولذلك قد يأتي يوم القيامة بعض الأغنياء، يدخلون الجنة لأحدهم قصر في الجنة كالربابة البيضاء، وبعض الفقراء يدخل النار، فلا يظن كل الفقراء أنهم في الجنة، وأن كل الأغنياء أنهم في النار، فإن الله عز وجل يعامل الناس بالتقوى، وابن تيمية يناقش مسألة: (هل الأفضل الغني الشاكر أو الفقير الصابر) وقد تكلم فيها العلماء بكتب ومجلدات، وأتى ابن تيمية فقال: ليس يفضل هذا لغناه ولا هذا لفقره، وإنما أفضلهما أتقاهما، فأفضل الناس أتقاهم لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا أمر.

    وقد انتهينا من قضايا هذا الحديث وليس هناك إلا قضايا فرعية لا يحتمل المقام أن نبسطها أكثر مما ورد.

    1.   

    فوائد من حديث تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم لولده إبراهيم

    ثم قال البخاري رحمه الله تعالى: باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، التقدير في الكلام محذوف، معناه تقبيل الوالد لولده ومعانقته، وقال ثابت عن أنس: (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه).

    أولاً: رحمة الولد ومعانقته وتقبيله، الرسول عليه الصلاة والسلام رحمة كما قال الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] ومن رحمته عليه الصلاة والسلام أنه كان يقبل الأطفال ويعانقهم ويمازحهم ويحملهم؛ لأن جبابرة العرب لم يكونوا يستصحبون الأطفال في مجالسهم، ولا كانوا يحملون الجواري على أكتافهم، بل كانوا يقتلون الجواري، فلما أتى الرسول عليه الصلاة والسلام بين لهم أن من الرحمة رحمة الأطفال، ولذلك من حقوق أهلك عليك وأطفالك عليك أن يكون لهم سعة من يومك وليلك ووقتك، تعانقهم، وتقبلهم، وتداعبهم، وتمازحهم؛ لأنهم يشتاقون لدخولك والجلوس معك.

    وهذا ما يفعله صلى الله عليه وسلم، حتى لا يعتذر أحدٌ أنه مشغول بوظيفته وعمله، فو الله لا يبلغ عشر معشار أعمال المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأمور الأمة تدار على كتفه: الجهاد.. الإدارة.. السياسة.. الإفتاء.. التعليم.. الخطابة.. تربية الناس.. إعطاؤهم وهدايتهم ودعوتهم.. هداية الناس، كلها على كتف المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك وجد وقتاً يأخذ فيه الأطفال ويداعبهم. فإذا كان على الدابة حمل هذا أمامه وهذا خلفه، وإذا جلس في المجلس وأتت المرأة تستفتيه، أخذ صلى الله عليه وسلم ابنها وقبله ومازحه وعانقه، فليعرف هذا، وليعلم هذا، وسوف يأتي بسط هذا.

    ترجمة موجزة لثابت البناني

    وثابت من التابعين، اسمه ثابت بن أسلم البناني من أتقى الناس، كان يقال في المثل: أتقى من ثابت البناني، وأزهد من ثابت البناني وهو من رجال البخاري ومسلم، ومن أكثر من روى عن أنس رضي الله عنه وأرضاه.

    وهذا ثابت أورد عنه أهل السير أنه سافر إلى خراسان في غرض له، فلما رجع قال له الناس: هل أعجبتك الحدائق والبساتين؛ لأن خراسان كانت من أجمل البلاد وهي في جنوب إيران، قال: والله ما كأني رأيت البساتين ولا الحدائق ولا الأنهار، ما أعجبتني إلا عجوز مررت بها تصلي ركعتي الضحى، وذلك أنه مر عليها، وقلبه مشغول بشيء آخر: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16] ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ [النحل:107] فبعض الناس يستحب الحياة الدنيا ويرتاح لبناء القصور ثم يقول: الحمد لله أن بنينا هذا القصر، وارتحنا ونلنا سعادتنا في الحياة الدنيا.

    أين أنت يا عبد الله؟ كيف ترتاح؟ الدنيا كلها أوصاب وهموم وأحزان وكربات، يموت ابنك، وتموت زوجتك، ويمرض جسمك وتموت، وإذا وصلت سبعين سنة فأنت بطل، لكن لا تصل، وما وصل السبعين إلا من قد ذهب بصره أو سمعه أو تساقطت أضراسه.

    يا متعب الجسم كما تسعى لراحته     أتعبت جسمك فيما فيه خسران

    أقبل على الروح واستكمل فضائلها     فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

    فالمقصود أن ثابتاً كان من أعبد الناس، بكى حتى قال بعض الناس: يوشك أن تختلف أضلاعه، وقالوا: مر بمساجد الكوفة فكان كلما مر بمسجد، دخل فيه فصلى ركعتين، فقال له الناس: مالك؟ متى تصل إلى بيتك إذا كنت كلما مررت بمسجد صليت ركعتين، قال: كلما مررت بمسجد تذكرت العرض على الله، وتذكرت الموت، فقلت: ربما أوخذ قبل أن أصلي ركعتين فأغتنم حياتي.

    يقول أنس: إنَّ في الناس مفاتيح خير وفيهم مفاتيح شر، فـثابت البناني من مفاتيح الخير.

    قال: (عن أنس) وهو أنس بن مالك خادم الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد مرت ترجمته في أكثر من مرة، وهو الذي قدمته أم سليم هدية للمصطفى صلى الله عليه وسلم، فما كان في التاريخ أعظم من هدية أم سليم للرسول صلى الله عليه وسلم، أهدت ابنها، وقالت: هذا ابني يخدمك يا رسول الله، فخدم المصطفى عليه الصلاة والسلام عشر سنوات، وهي أحسن سنوات عمره.

    حتى يقول: {خدمت الرسول عليه الصلاة والسلام عشر سنوات، والله ما قال لي في أمر فعلته: لِمَ فعلته؟ وفي أمر لم أفعله: لِمَ لَمْ تفعله؟} فكانت أرقى وأسعد حياته هي التي عاشها في تلك العشر السنوات.

    قال: {أخذ النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه} وهو إبراهيم بن محمد، ابن الرسول عليه الصلاة والسلام.

    والرسول عليه الصلاة والسلام رزق من البنات أكثر من البنين؛ لأنه لم يكن يشب له أبناء، بل كانوا يتوفون لحكمة أرادها الله، قال بعض أهل العلم: من هذه الحكم أنه خاتم الأنبياء والرسل عليه الصلاة والسلام، فلو ترعرع له ابن وشب، لكان نبياً، والله جعله خاتم الأنبياء، فرزق عليه الصلاة والسلام إبراهيم من مارية، فلما بلغ قيل: السنتين، وقيل: حولها، كان يذهب إليه صلى الله عليه وسلم في بيت مارية، فيأخذه ويقبله ويشمه ويعانقه، ويمازحه عليه الصلاة والسلام.

    الصبر على المصائب وفضل الاسترجاع

    وفي مرة من المرات دعي صلى الله عليه وسلم، لماذا دعي؟ قالوا: إبراهيم في سكرات الموت، سبحان الله! كان من أحب الناس إلى قلبه، وهو في السنتين، ليس بالكبير الذي تذهب محبته، ولا بالصغير الذي لم تبدأ محبته، لكن في سن كأنه لا يمشي إلا على كبدك أو قلبك، فأراد الله أن يجعل قلب الرسول صلى الله عليه وسلم خالصاً له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    أتى صلى الله عليه وسلم وإبراهيم في سكرات الموت فأخذه، ودموعه تهراق عليه الصلاة والسلام، وهو يقول: {تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون} أي: لا نتسخط على القضاء والقدر، فالله هو الذي أعطى، والله هو الذي أخذ.

    أُثر عن داود عليه السلام، وكان ملكه ملكاً عظيماً كما سماه الله عز وجل، والذي قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] داود قيل: كان له قبل سليمان أربعون ولداً، فصلى مرة من المرات؛ فأراد الله أن يبتليه، ويختبر إيمانه، ويرفع درجته، ويمحص يقينه، ويرى هل يشكر أم لا، فسلم داود من الصلاة؛ فوجد الأربعين أمواتاً جميعاً! قال: حسبي الله ونعم الوكيل، إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قال: اللهم أبدلني خيراً منهم.

    وفي صحيح مسلم عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أصيب بمصيبة فقال: اللهم اؤجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها} قالت أم سلمة: فلما توفي أبو سلمة زوجها وأحب الناس إليها، قالت: تذكرت هذا الحديث فقلته، قلت: اللهم اؤجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها، ثم قلت في نفسي -تقول هي في نفسها- من خير من أبي سلمة؟ قالت: فأبدلني الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم فتزوجها المصطفى صلى الله عليه وسلم.

    فلما قال داود عليه السلام: وأبدلني خيراً منهم، أبدله الله بسليمان، وجعله الله نبياً وأتاه الحكم، وكان فقيهاً عاقلاً عابداً من العباد الكبار، ملك الدنيا فلم يملك قبله ولا بعده ملك مثل ملكه! حتى يقول: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35] فأجرى له الله الريح، وسخر له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الجن والإنس والطيور والسباع والزواحف، وبسط قصته في موضع آخر.

    إنما المقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل إبراهيم وعانقه رحمةً به، والرسول صلى الله عليه وسلم كان من أرحم الناس.

    أتت ابنته زينب فأرسلت إليه أن ابنها قد حضرته الوفاة فليحضر، وهذا الحديث صحيح، وكان مشغولاً صلى الله عليه وسلم بوفد من الناس، فقال: {أرسلوا إلى زينب وقولوا لها: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فقالت زينب: والله ليأتين أبي} وتقوِّل على أبيها: أي: تدل بحبها مع أبيها، رضي الله عنها، والبنت لها إدلال على أبيها، تحلف عليه وتجزم عليه، والله ليأتين أبي؛ لأنها في مصيبة رضي الله عنها وأرضاها، وتريد أن يشاركها المصطفى صلى الله عليه وسلم.

    ولا بد من شكوى إلى ذي قرابة     يواسيك أو يسليك أو يتوجعُ

    فقام عليه الصلاة والسلام وقام معه الناس، انظر من رحمته صلى الله عليه وسلم حتى الوفد قاموا معه، ومنهم سعد بن أبي وقاص، ومعاذ، وذكر عبد الرحمن بن عوف، فوقف صلى الله عليه وسلم، فقال: ائتوني بالطفل، فأتوا به ونفسه تقعقع كأنها في قربة، فأخذه صلى الله عليه وسلم يحتضنه وهو يبكي عليه الصلاة والسلام، حتى سمع له نشيجاً ونحيبا.

    فيقول ابن عوف: {ما هذا؟ قال: رحمة جعلها الله في قلب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء} فالرسول عليه الصلاة والسلام من أرحم الناس، فهو يتبسم وقت التبسم، ويبكي وقت البكاء، وله لباس في كل حالة كما وصفه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالكمال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] قال بعضهم: إنك لعلى دين عظيم.

    فسيرته صلى الله عليه وسلم عظيمة كاملة، فمن أراد الاهتداء فعليه بها، فإنَّه صلى الله عليه وسلم الموجه الذي لا يضل أبداً.

    1.   

    حديث يبين فضل الحسن والحسين

    قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل -رجال البخاري ومسلم من أولياء الله، ومن العباد والزهاد، رفع الله قيمتهم وعبادتهم، ورفع ذكرهم بحفظهم لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم- قال: حدثنا مهدي، قال: حدثنا ابن أبي يعقوب عن أبي نعيم، قال: (كنت شاهداً لـابن عمر، وسأله رجلٌ عن دم البعوض، فقال: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق فقال: انظروا إلى هذا يسألني عن دمِ البعوض، وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هما ريحانتاي من الدنيا).

    القصة: يقول هذا الراوي: كنت عند ابن عمر، وبعض الروايات بينت أن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان في منى، فأتاه رجلٌ من أهل العراق، فقال: يا بن عمر! قتلت بعوضة، وهو محرمٌ، فانظروا ورعه، قتل بعوضة في الهواء، فقال: يا بن عمر! قتلت بعوضة فما علي؟ يسأل، يحذر أن تكون عليه بدنة، أو بقرة، أو دجاجة، فقال ابن عمر: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا، وفي لفظ: قاتلكم الله يا أهل العراق قتلتم ابن بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسألون عن بعوضة.

    وهذا أمر، قالوا فيه: إن ابن عمر رضي الله عنه أولاً تعجب، ولو أنه أفتى الرجل فيما بعد، لكن لم تذكر الفتوى، فلا بد أنه علمه لأنه لا يكتم العلم، لكن تعجب من هذا السؤال، ورع مظلم، وبعض الناس ورعه بارد كما قال الإمام أحمد.

    إذا ذكر الكافر الماركسي الملحد قال: أستغفر الله، لا تغتابوا أحداً في مجلسنا، وإذا أتى ذكر جاره، أو ذكر الدعاة، وبعض طلبة العلم، أو بعض الصالحين والأخيار وقع فيه، فإذا قيل له: استغفر الله، قال: أنا ما أغتابه ولكن أبين شيئاً موجوداً فيه، أما الملحد فأنا أستغفر الله، نبرئ ألسنتنا من أن نغتاب الملحدين، ريغان، وماركس، ولينين، وشامير، وأمثالهم من أعداء الله، فهذا ورع مظلم وبارد، فبعض الناس يتحرز في قطرات وفي أشياء ويركب من الذنوب أمثال الجبال.

    فهو يقول: أنتم قتلتم الحسين، أو نسيتم قتل الحسين، والجرح في كبد الأمة يوم ذبحتموه كما تذبح الشاه؟! ابن الرسول عليه الصلاة والسلام الذي يقول فيه وفي الحسن: (هما ريحانتاي من الدنيا) وصدق عليه الصلاة والسلام: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) كان الحسن عمره خمس سنوات يوم توفي عليه الصلاة والسلام أو قريباً من ذلك، وعمر الحسين قريباً من أربع، قيل: بينهما سنة.

    صورة من حب الرسول صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين

    ولذلك كان عليه الصلاة والسلام لا يجلس في مجلس أو في مجمع أو يرى أطفالاً إلا ويقول: عليَّ بـالحسن والحسين، وكان إذا أراد أن يخرج في ضاحية من ضواحي المدينة، سلم على فاطمة، وقال: علي بـالحسن والحسين، وفي سنن النسائي بسند جيد، عن أبي بصرة الغفاري، قال: {صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -إما الظهر وإما العصر- قال: فمكث صلى الله عليه وسلم ساجداً طويلاً -حتى في بعض الروايات أن هذا الرجل رفع رأسه ينظر أين الرسول عليه الصلاة والسلام، أي: أبطأ عليه في السجود؛ فرفع ينظر- قال: فلما سلم صلى الله عليه وسلم، قال: لعلي أبطأت عليكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: إن ابنيَّ هذين ارتحلاني} أي أن الحسن والحسين، صعدا على ظهره، رأيا المنظر، فصعدا على المصطفى عليه الصلاة والسلام، قال: {إن ابني هذين ارتحلاني فكرهت أن أوذيهما} فمكث صلى الله عليه وسلم حتى نزلا من على ظهره.

    وفي الصحيح: باب هل يقال سيد، فذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخطب الناس على المنبر، فأتى الحسن وعمره خمس سنوات وثوبه طويل فكان يعثر فيه، فقطع الخطبة عليه الصلاة والسلام ونزل وأخذ يشق الصفوف، حتى أخذ الحسن، وقبله، واحتضنه، وأجلسه بجانبه على المنبر، وأخذ يكلم الناس وهو يضع يده على رأس الحسن، يمرها ويقول وهو ينظر إليه: {إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين} وهذا في الصحيح، وبالفعل كان سيداً من السادات، أصلح الله به بين الفئتين العظيمتين، بين جيش علي بن أبي طالب، وجيش معاوية رضي الله عنهما، جيش العراق وجيش الشام التقيا، فكان جيش العراق مائة ألف، وجيش الشام ثمانين ألفاً، التقيا، وقصد الجيشين أن تسفك الدماء، وتضرب الجماجم، ويكون المعترك أحمر قانياً.

    فلما التقوا أتى الحسن رضي الله عنه، فتنازل عن الخلافة، وقال لـمعاوية: خذها لك (ول حارها من تولى قارها) وحقن دماء المسلمين، وكان سيداً حقن الله به الدماء.

    قصة مقتل الحسين رضي الله عنه

    فالشاهد: أن ابن عمر يذكر أهل العراق بقتل الحسين.

    والحسين بن علي رضي الله عنه خرج من مكة وعمره يناهز الستين يوم قتل، وكلمه ابن عباس وابن عمر ونصحاه ألا يخرج إلى العراق، قال: لا. العراق فيه الخير، وسينفع الله بخروجي، وكان الخليفة في ذاك الوقت هو يزيد بن معاوية، وهذا عبيد الله بن زياد، هو الوالي على الكوفة من قبل يزيد بن معاوية، وهذا عبيد الله بن زياد هذا نسأل الله العافية ضالٌ مضل، أمره إلى الله عز وجل، لا يروى عنه، فليس أهلاً لذلك وليس بثقة.

    يقول أحد العلماء: هل أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يروي عن عبيد الله بن زياد بعدما فعل بـالحسين، ما فعل، فأرسل عبيد الله بن زياد جيشاً يقارب ثلاثة آلاف أو أكثر، وقال: اعترض الحسين بن علي، إما أن تردوه إلى المدينة، وإما أن تقتلوه، لا تتركوه يصل أبداً إلى العراق، فالتقوا بـالحسين وكان معه أهله، منهم علي بن الحسين زين العابدين ابنه وكان من العباد الكبار، فالتقوا بـالحسين، قال: اتقوا الله أنا ابن بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، أتقاتلونني؟ وهم مسلمون! قالوا: أمرنا عبيد الله بن زياد، وأدمغتهم أدمغة حمير لا تفهم، وهو يقول: ابن بنت رسول الله وهم يقولون: أمرنا عبيد الله.

    قال: أقول: أنا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا تقولون لله يوم القيامة إذا قال: قتلتم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا ننتهي، إما أن تعود إلى المدينة، أو تأتي نسلمك إلى عبيد الله بن زياد!! قال: أما عبيد الله فو الله لا أسلم نفسي إليه؛ لأنه فاجر؛ نسأل الله العافية: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134].

    قال: اتركوني اذهب إلى يزيد، قالوا: ولا نتركك، قال: اسقوني من الماء، قالوا: ولا نسقيك، فحجزوه عن الماء في الصحراء، وبدأ القتال في اليوم الثاني بعدما فشلت المفاوضات، وكان الحسين من أشجع الناس، فأخذ السيف يقاتل، وأخذ أهل العراق يكبرون، يكبرون على أنهم قتلوه، فضربوه رضي الله عنه وأرضاه وقتلوه، حتى يقول الشاعر:

    جاءوا برأسك يا بن بنت محمد     متزملاً بدمائه تزميلا

    ويكبرون بأن قتلت وإنما     قتلوا بك التكبير والتهليلا

    يكبرون على أن قتلوك، وجدك الذي أتى بالتكبير إلى الناس، لو لم يأتِ عليه الصلاة والسلام للناس ما عرف التكبير والتهليل، يوم قتلوك يكبرون على أنهم انتصروا، وذهبوا برأسه رضي الله عنه وأرضاه إلى عبيد الله بن زياد، فأخذ عبيد الله بن زياد عصاً -انظر إليه نسأل الله أن يحاسبه بما فعل- أخذ عصا وجلس في ديوانه وحوله بعض الوزراء وقواد الجيش، وأخذ العصا يشير بها إلى أنف الحسين، ويتكلم لهم، فأتى بعض الصحابة يتباكون في مجلسه، قالوا: ارفع عصاك، والله الذي لا إله إلا هو لقد رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يقبل هذا الموضع الذي تضع العصا عليه، ويقول في الحسن والحسين: {هما ريحانتاي من الدنيا} فالمقصود هذا شاهد الحديث.

    قال ابن عمر: [[انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم]] وعند ابن كثير في ترجمة الحسين، أن ابن عباس كان في مكة يوم قتل الحسين، فقام ابن عباس في الظهيرة بعد صلاة الظهر يبكي، وهو في مكة، قال له أهله: مالك يا بن عباس؟! قال: قتل الحسين اليوم، قال: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو يقول: يا بن عباس! أما رأيت الأمة ماذا فعلت؟ قتلت ابني، هذا ذكره ابن كثير بأسانيد.

    فـابن عمر يذكر هذا، ويقول: تتورع عن قتل بعوضة، وأنتم ما تورعتم عن قتل البطل الشهير.

    قال: وسمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {هما ريحانتاي من الدنيا} يقولون: معناه هما تحفتاي من الدنيا، أو هما الشيء الذي آخذه من الدنيا؛ لأن الدنيا لا أحبها، ولا أريد بهجتها، لكن لو كنت أحب شيئاً من الدنيا فهو الحسن والحسين، وقال بعضهم كـالزمخشري في الفائق، ريحانتاي: معناها الباقة من الورد، فكأنهما أشبه بالريحان؛ كما قال أبو العتاهية:

    ياللشباب المرح التصابي     روائح الجنة في الشباب

    فيقول عليه الصلاة والسلام: هما أشبه بباقة الورد، فما أخذت من الدنيا إلا الحسن والحسين.

    1.   

    فضل تربية البنات والإحسان إليهن

    ثم قال البخاري رحمه الله تعالى: إن عروة بن الزبير أخبره -أخبر الراوي- أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته قالت: (جاءتني امرأة عندها ابنتان تسألني فلم تجد عندي غير تمرة واحدة فأعطيتها، فقسمتها بين ابنتيها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته، فقال: من ولي من هذه البنات شيئاً فأحسن إليهن كن له ستراً من النار) وفي لفظ: (من يل).

    عائشة رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق، المطهرة، المبرأة من فوق سبع سماوات كانت جالسة في بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم، فدخلت عليها امرأة تسأل من مال الله عز وجل، ومن عطاء الله، وكانت جائعة وابنتاها جائعتان، وكان بيته صلى الله عليه وسلم كبيت أحد الفقراء ليس فيه شيء، حتى تقول عائشة: ربما يمر علينا الهلال بعد الهلال لا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار، إنما طعامهم الأسودان التمر والماء، فكان عليه الصلاة والسلام في بيته متقشفاً، وربما يأكل اللحم إذا وجده والخبز والتمر، وكان يهدى إليه صلى الله عليه وسلم اللبن، فكان مع جيرانه صلى الله عليه وسلم من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم.

    فدخلت هذه، فبحثت عائشة في بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم، فما وجدت إلا تمرة واحدة، سبحان الله! نعيش اليوم في نعم جليلة، لا نستطيع شكرها، نسأل الله أن يبلغنا شكرها، وما حقها إلا أن نثني على الله بها، فإن الله إذا أنعم على العبد يريد أن يثني العبد على الله بنعمه، ويريد سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن تشكر؛ قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7] ويوم يرى الله العباد يأكلون ويتمتعون ويسرحون ويمرحون ثم لا يشكرونه يسلبهم النعم، ويبتليهم بالفقر والجفاف والجوع والحرب المدمر.

    فقامت فما وجدت إلا تمرة، فهل تقدم التمرة أم لا؟ ورد في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها ذات مرة ما وجدت إلا عنبة فأعطتها فقيراً، قال لها رجل: العنبة ماذا فيها؟ قالت: إن فيها ذرات كثيرة، والله يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلْق -أو طلِق، أو طليق-) أي: لا تحقر شيئاً من المعروف، ولا تظن أن هذا لا يحسب لك، حتى ولو أن تتبسم في وجوه المسلمين، وأن تهش وتبش، فإن هذا من المعروف.

    رحمة الأم بأبنائها

    فإذا عرف هذا فإنها قامت فأعطتها تمرة، فأخذت هذه المرأة التمرة، وانظر إلى حنانها، هي جائعة فقسمت التمرة قسمين، وأعطتها ابنتيها؛ لأنها لا تستطيع أن تعطيها واحدة أو تأكلها وتترك البنتين، فقسمت التمرة قسمين؛ فذهبت المرأة ودخل صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستغرب، كلما دخلت امرأة قال: من هذه التي كانت عندك. حتى يكون على معرفة بمن يدخل بيته، وعلى معرفة بأمته، وعلى معرفة بالرجال والنساء، حتى يعرف أحوال المجتمع وشئون الناس.

    وفي صحيح البخاري أن الحولاء بنت تويت، كانت تعبد الله عز وجل، حتى يقولون: كانت تربط حبلاً تتعلق به إذا فترت في قيام الليل، فلما ذهبت من عند عائشة، قال صلى الله عليه وسلم: من هذه المرأة التي كانت عندك؟ قالت: هذه الحولاء بنت تويت، صائمة، قائمة، عابدة، ناسكة، وذكرت عائشة من شدة عبادتها، فقال عليه الصلاة والسلام: {مه، عليكم من الأعمال بما تطيقون، فو الله لا يمل الله حتى تملوا} مه! أي: لتكف عن فعلها، نحن لا نحب التشديد في العبادة حتى يكره الإنسان العبادة وينقطع، وقد يخل بالواجبات: {مه؟! عليكم من الأعمال بما تطيقون، فو الله لا يمل الله حتى تملوا} وكان أحب العمل إليه ما داوم عليه صاحبه وإن قل.

    حث النبي على كفالة البنات خاصة

    فهذه المرأة لما خرجت، سأل صلى الله عليه وسلم عائشة عنها، قالت: هذه المرأة أعطيتها تمرة فقسمتها بين ابنتيها، فقال عليه الصلاة والسلام: {من ولي من هذه البنات شيئاً فأحسن إليهن كن له ستراً من النار} والبنات أمرهن عجيب، أضعف الناس قلوباً، وأكثر الأحاديث في البنات وتربية البنات؛ لأن الرجال أشداء وأقوياء، وباستطاعتهم إذا كبروا أن يشبوا ويقوموا بأنفسهم، أما البنات فلا بد لهن بعد الله من راعٍ.

    ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {من عال جاريتين فرباهن وأدبهن وأحسن تربيتهن، ثم زوجهن، كان جاري في الجنة} ويقول: {أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين} ويشير صلى الله عليه وسلم بإصبعيه.

    والعجيب أن الله تعالى رزق الرسول صلى الله عليه وسلم البنات وكبرن معه أكثر من الأولاد، فالأولاد لم يستمروا في حياته صلى الله عليه وسلم كثيراً، فكان له أربع عليه الصلاة والسلام: فاطمة أصغرهن، وأم كلثوم، وزينب، ورقية، والثلاث توفين في عهده صلى الله عليه وسلم وفي حياته، وبقيت فاطمة بعده ستة أشهر.

    قال بعض العلماء: من الحكمة في ذلك ألا يجدن خصاصة بعده صلى الله عليه وسلم، أو فقراً، أو مسكنة، أو أذى، أو شراً، فتوفين قبله صلى الله عليه وسلم، ثم لحقت فاطمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حضرته سكرات الموت، كانت فاطمة تقول -كما في البخاري - {واكرب أبتاه، قال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم} فأسر إليها كلمة، فقال عليه الصلاة والسلام: {أنتِ أول الناس لحاقاً بي} وقيل: أول أهلي لحاقاً بي، فسرت بهذه الكلمة، وقال: {ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين}.

    فقال عليه الصلاة والسلام: {من ولي من هذه البنات شيئاً فأحسن إليهن، كنَّ له ستراً من النار}.

    أحاديث أخرى في فضل رحمة الولد

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي

    جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: {من لا يَرحم لا يُرحم}.

    وفي حديث عائشة رضي الله عنها، جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تقبلون الصبيان فما نقبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة} أما الحديث الأول -حديث أبي هريرة فإن- الأقرع بن حابس وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن ذلك في السنة التاسعة، وهو من وفد بني تميم السابق، وهو سيد من ساداتهم، أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم يتألفه مائة ناقة في حنين، مع أناس آخرين من وجوه الناس وصناديد الناس، وترك الأنصار وهم الذين قاتلوا معه في الغزوات رضي الله عنهم وأرضاهم.

    فلما أعطى هؤلاء الذين دخلوا الإسلام قريباً اجتمع الأنصار، وقالوا: غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي هؤلاء، وسيوفنا تقطر من دمائهم ويتركنا، فذهبت هذه المقالة وشاعت حتى وصلت الرسول عليه الصلاة والسلام، فدعا سعد بن عبادة، قال: يا سعد ما مقالة بلغتني عنكم؟ قال: ما هي يا رسول الله؟ فأخبره، قال: هو كما سمعت يا رسول الله، قال: كيف أنت من هذه المقالة؟ أتقرها، أو تنكرها؟ لأنه كان سيدهم، قال: هل أنا إلا من قومي يا رسول الله، يقول دريد بن الصمة:

    وهل أنا إلى من غزية إن غوت     غويت وإن ترشد غزية أرشد

    أمرتهم أمري بمنعرج اللوى     فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

    قال: أنا منهم، قال: اجمعهم لي في الحديقة، وهي حديقة كبيرة كالبستان، فاجتمع الأنصار رضوان الله عليهم، قال: ولا يأت غيركم، أي: لا يدخل هذه الحديقة إلا الأنصار، فاجتمعوا، فقام عليه الصلاة والسلام، فأشرف؛ فسلم عليهم، قال: هل أحدٌ من غيركم معكم؟ قالوا: معنا فلان أمه منا، قال عليه الصلاة والسلام: {ابن بنت القوم منهم} ثم قام عليه الصلاة والسلام فتكلم، قال: {يا معشر الأنصار! أما أتيتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ أما أتيتكم فقراءً فأغناكم الله بي؟ أما أتيتكم متفرقين فجمعكم الله بي؟} فأخذوا يقولون: لله المنة، لله المنة، لله المنة، وفي بعض الألفاظ، لله المنة ولرسوله، فقال: {يا معشر الأنصار! والله لو شئتم لقلتم، فصدقتم وصدقتم، أتيتنا طريداً فآويناك، وأتيتنا شريداً فنصرناك، وأتيتنا فقيراً فأغنيناك} ثم رفع صوته صلى الله عليه وسلم وقال: {يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، والله لو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، رحم الله الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار} فأخذوا يبكون حتى اخضلَّت لحاهم، ثم قالوا: رضينا بالله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً ونصيباً.

    فـ الأقرع هذا صاحب المائة ناقة أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة فرأى صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن، فيقول الأقرع: تقبلون الأبناء عندكم؟ وكأنه اكتشف شيئاً جديداً!! أي: عندنا لا نقبل الأبناء، ويبشر الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: عندي عشرة من الأبناء ما قبلت واحداً منهم، ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما أشجعك! أو ما أصبرك! فيقول صلى الله عليه وسلم: {أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟! من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ} فالرسول عليه الصلاة والسلام يقبل الأطفال، وهو شاهد الحديث من الترجمة للبخاري.

    والأقرع بن حابس أعرابي من بني تميم فيه جلافة رضي الله عنه وأرضاه، وأسلم وحسن إسلامه، فالمقصود أن فيه جفاءً، ونحن نقدر كل من أسلم ولو صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة واحدة، لكن الجفاء ما زال فيه وفي أمثاله، وقد وصفهم الله بذلك: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4] هذا أمر.

    فقضايا الحديث تدور على أن من الرحمة ملاطفة الأطفال والأهل ومداعبتهم وممازحتهم، ولا يعارض ذلك التقوى؛ لأن بعض الناس يقول: كيف يكون المتقي متقياً، وهو يمازح في مجلسه الأطفال؟! أتقى الناس، وأخشى الناس، وأعلم الناس، وأخلص الناس مازح ولاعب الأطفال، وهو في التقوى لا يوصل إلى مرتبته عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    أحاديث تبين فضل الرحمة

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: (قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي

    جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من لا يَرحم لا يُرحم).

    وفي حديث عائشة رضي الله عنها، جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (تقبلون الصبيان فما نقبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة).

    أما الحديث الأول، حديث أبي هريرة؛ فإن الأقرع بن حابس وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم والظاهر أنه في السنة التاسعة، وهو من وفد بني تميم السابق، وهو سيد من ساداتهم أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم يتألفه مائة ناقة في حنين، مع أناس آخرين من وجوه الناس وصناديد الناس، وترك الأنصار وهم الذين قاتلوا معه في الغزوات رضي الله عنهم وأرضاهم.

    فلما أعطى هؤلاء المشركين الذين دخلوا الإسلام قريباً اجتمع الأنصار، وقالوا: (غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي هؤلاء الكفار، وسيوفنا تقطر من دمائهم ويتركنا، فذهبت هذه المقالة وشاعت حتى وصلت الرسول عليه الصلاة والسلام، فدعا سعد بن عبادة، وقال: يا سعد! ما مقالة بلغتني عنكم؟ قال: ما هي يا رسول الله؟ فأخبره، قال: هو كما سمعت يا رسول الله، قال: كيف أنت من هذه المقالة؟ -أتقرها أو تنكرها؟ لأنه كان سيدهم- قال: وهل أنا إلا من قومي يا رسول الله) يقول دريد بن الصمة:

    وهل أنا إلى من غزية إن غوت     غويت وإن ترشد غزية أرشد

    أمرتهم وأمري بمنعرج اللوى     فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

    قال: (اجمعهم لي في الحديقة ولا يأتي غيركم -وهي حديقة كبيرة كالبستان- فاجتمع الأنصار رضوان الله عليهم، فاجتمعوا، فقام عليه الصلاة والسلام، فأشرف؛ فسلم عليهم، قال: هل أحدٌ من غيركم معكم، قالوا: معنا فلان أمه منا، قال عليه الصلاة والسلام: ابن بنت القوم منهم، ثم قام عليه الصلاة والسلام فتكلم، فقال: يا معشر الأنصار! أما أتيتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ أما أتيتكم فقراءً فأغناكم الله بي؟ أما أتيتكم متفرقين فجمعكم الله بي؟ فأخذوا يقولون: لله المنة، لله المنة، لله المنة -وفي بعض الألفاظ، لله المنة ولرسوله- فقال: يا معشر الأنصار! والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم، أتيتنا طريداً فآويناك، وأتيتنا مخذولاً فنصرناك، وأتيتنا فقيراً فأغنيناك) ثم رفع صوته صلى الله عليه وسلم وقال: (يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ والله! لو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، فأخذوا يبكون حتى اخضلَّت لحاهم، ثم قالوا: رضينا بالله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً).

    فـالأقرع هذا صاحب المائة الناقة أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة فرأى صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن، فيقول الأقرع: تقبلون الأبناء عندكم، وكأنه اكتشف شيئاً جديداً!! أي: عندنا لا نقبل الأبناء، ويبشر الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: عندي عشرة من الأبناء ما قبلت واحداً منهم، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما أشجعك! أو ما أصبرك! فيقول صلى الله عليه وسلم: (أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك، من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ) فالرسول عليه الصلاة والسلام يقبل الأطفال، وهو شاهد الحديث من الترجمة للبخاري.

    والأقرع بن حابس أعرابي من بني تميم فيه جلافة رضي الله عنه وأرضاه، وقد أسلم وحسن إسلامه، فالمقصود أن فيه جفاءً، ونحن نقدر كل من أسلم ولو صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة واحدة، لكن الجفاء لا زال فيهم، وقد وصفهم الله بذلك: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4] فهذا أمر.

    فقضايا الحديث تدور على أن من الرحمة ملاطفة الأطفال والأهل ومداعبتهم وممازحتهم، ولا يعارض ذلك التقوى؛ لأن بعض الناس يقول: كيف يكون المتقي متقياً وهو يمازح في مجلسه الأطفال؟ أتقى وأخشى وأعلم وأخلص الناس مازح ولاعب الأطفال وهو في التقوى لا يوصل إلى مرتبته عليه الصلاة والسلام.

    بيان سعة رحمة الله سبحانه وتعالى

    وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، قال: {قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا. وهي تقدر على ألا تطرحه، قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها}.

    الرسول صلى الله عليه وسلم كان جالساً يوماً من الأيام وعنده سبي، والسبي: ما يؤخذ من الكفار، وفي السبي نساء فيهن امرأة ضاع ابنها في وسط السبي، وهي كافرة، فتذهب بثديها وفيه لبن تبحث عن طفلها، فلما وجدت هذا الطفل ألصقته ببطنها بحرارة وأسى ولوعة وحزن، فلما رأى الصحابة هذا المشهد أراد صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم درساًعن رحمة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فقال: {أترون أن هذه تطرح ابنها في النار} أي: أتظنون هذه تطرح ولدها في النار على ما رأيتم من رحمتها له، قالوا: لا يا رسول الله وهي تقدر على ألا تطرحه، بل تحاول كل المحاولة ويمكن أن تموت دون أن تطرحه، قال عليه الصلاة والسلام: {لله أرحم بعباده من هذه بولدها} سبحان الله! الله عز وجل أرحم بالناس وبعباده المؤمنين من هذه بولدها.

    ولذلك ذكر في ترجمة حماد بن سلمة، أحد الأخيار الصلحاء، أنه لما حضرته سكرات الموت، أتى بعض إخوانه يزورونه، فقال: حسنوا ظني بربي؛ لأن في الحديث: {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه} وهو حديث صحيح من حديث جابر، فقال له أحد العلماء: يا حماد! والله الذي لا إله إلا هو لو خيرت بين أن يحاسبني أبي وأمي، أو يحاسبني ربي، لاخترت حساب الله عز وجل، سبحان الله! فرحمة الله وسعت كل شيء، والحديث شاهد على هذا.

    فالمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يصور لهم أن رحمة الله أكبر مما يتصور الإنسان: {لله أرحم بعباده من هذه بولدها} فيا لرحمة الله عز وجل، لكن رحمة الله لعباده الذين يتقونه، ويريدون وجهه، ورحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لمن يطلب الرحمة صباح مساء، ولمن يكثر من التوبة والاستغفار.

    قال: {إذ وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار، قلنا: لا وهي تقدر على ألا تطرحه} العجيب أن الأم تجد تجاه ابنها من الرحمة ومن اللطف ما لا يجد أي أحد من الناس؛ لا أب ولا أخ ولا غيره.

    في الحديث الصحيح، حديث صهيب في القوم الذي فتنوا في سبيل الله عز وجل، وابتلاهم الله عز وجل، حيث أحرقوا في النار في الأخدود، قيل: إنهم من نجران، وكان آخر من أتى امرأة معها صبي بين يديها لا يتكلم، فاقتربت، فلما رأت النار خافت على ابنها؛ لأن قومها كانوا يوردون النار، وكان الملك يجمعهم بالجنود حتى يسقطوا في النار، فلما رأت النار وهي تضطرم أمامها، نظرت إلى ابنها فخافت عليه أكثر من نفسها فأحجمت عن النار، فأنطق الله هذا الابن وقال: يا أماه أقدمي؛ فإنك على الحق، فسقطت بابنها في النار.

    وللفائدة: فإن كثيراً من المفسرين ذكروا أن الله عز وجل كان يقبض أرواح هؤلاء المؤمنين قبل أن يصلوا إلى النار، فيقبضها في الجو، حتى لا تجد ألم وحرارة النار، ليسكنهم الله جنة عرضها السماوات والأرض، وهذه من الرحمة العظيمة.

    قال: {لله أرحم بعباده من هذه بولدها} وصفة الرحمة من أعظم صفاته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وله رحمة تليق بجلاله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وكل الصفات والأسماء تثبت له كما وردت، بلا تشبيه ولا تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل، فنقرها ولها كيفية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم بها.

    ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {جعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الرحمة مائة جزء؛ أمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً، وأنزل جزءاً واحداً في الدنيا، من هذا الجزء يتراحم الناس فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه أو أن تؤذيه} والتسعة والتسعون ينزلها الله عز وجل يوم القيامة.

    ولذلك ذكر ابن تيمية في كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام، أن المكفرات عشرة، يقول: من فاتته هذه العشر ولم يجد واحداً منها فليبكِ على نفسه، فقد شرد على الله شرود الجمل على أهله، أو العبد الآبق على سيده.

    منها، والشاهد في آخرها: المصائب المكفرة، والحسنات الماحية، ودعوات المؤمنين لك بالخير إذا أصلحت خلقك وأحسنت معاملتك، فدعوا لك بالخير، وشفاعتهم لك وقت الجنازة، وما تلقاه في سكرات الموت، وسؤال منكر ونكير في القبر، والهول بين يديه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يوم القيامة، وما تلقاه في العرصات، وشفاعة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فإذا لم تجد هذه تأتي رحمة أرحم الراحمين، بعد أن تنتهي هذه التسع، يقول الله عز وجل: ابحثوا لعبدي هل له حسنات، قالوا: لا حسنات، هل له مصائب في الدنيا؟ قالوا: لا مصائب، هل أتته سكرات الموت فخففت من ذنوبه؟ قالوا: ذنوبه أعظم، هل فتنة وعذاب القبر كفاه؟ لأن بعض الناس من المسلمين يكفيه عذاب القبر نعوذ بالله من عذاب القبر، ومن يتحمل العذاب ولو ساعة، بعضهم يعذب في قبره أسبوعاً أو شهراً أو سنة، وبعضهم يعذب حتى يبعث الله الناس ليوم لا ريب فيه.

    فيقول: هل كفاه عذاب القبر؟ فيقولون: ما كفاه، فإذا انتهت هذه، هل يدخل في الشفاعة؟ قد لا يدخل، فتأتي رحمة أرحم الراحمين، وربما لا يستحق رحمة أرحم الراحمين فيدهده على وجهه في النار، نعوذ بالله من ذلك.

    فهذه رحمة الله عز وجل التي أنزلها بين الناس وبها يتراحم الناس.

    وأرحم الناس بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

    فنسأل الله عز وجل أن يرحمنا برحمته، وأن يتولانا وإياكم في الدارين، وأن يجعلنا وإياكم ممن أحبه، وأحب رسوله، وأحب كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767945354