أمَّا بَعْد..
فمعنا في هذا الدرس بابٌ من أبواب كتاب الجمعة، وهو (باب السواك) وما ورد فيه، وفيه إحدى وعشرون مسألة:
فضل السواك، عند الوضوء وعند الصلاة، وعند دخول البيت، وعند القيام من النوم، وبين الناس.
تسوكه صلى الله عليه وسلم في مرض موته.
التسوك بسواك الغير.
صاحب سواكه صلى الله عليه وسلم والمتكفل به من الصحابة.
الأراك خير السواك.
التسوك بالإصبع وما ورد فيه.
السواك للصائم وتفصيل هذه المسألة وتحقيق ما ورد فيها من خلاف.
بنو إسرائيل وتركهم للسواك.
التيامن في السواك.
غسل السواك.
فضل ماء السواك.
متى يتأكد السواك؟
ثم التسوك بالريحان وشجر العطور، وما ذكر أهل العلم في ذلك.
ثم أسنانه صلى الله عليه وسلم من آثار التسوك، وما ورد في شمائله في هذه الشعيرة.
فوائد السواك.
متى يجتنب السواك أو متى يترك؟
ثم نختم الباب إن شاء الله بالأحاديث الصحيحة في باب السواك، والأحاديث الحسنة، والضعيفة.
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقبُ |
ولكن قال الشيخ الضال، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يواريه بالتراب، لا غسل، ولا تكفين، ولا صلاة، ولا تشييع، ولا استغفار، لأن مصيره سيء. أما علي رضي الله عنه فبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضع من ثدي النبوة، ويسمع الحكمة ويلقنها للناس.
خرج مرحب اليهودي من حصنه في المدينة، في خيبر ولمع بسيفه وسط المسلمين وقد ألقى الدروع عنه، وهو يناشد المسلمين.. من يبارز؟ من يبارز؟ ومرحب هذا يهودي ماكرٌ فاجر ولكنه من أشجع الناس، أخذ يرتجز ويلاعب سيفه بيده ويقول:
أنا الذي سمتني أمي مرحب شاكي السلاح بطل مجرب |
إذا الحروب أقبلت تلهب |
فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن توسم في أصحابه وكلهم أحجم لأنهم يعرفون الخطر، ولأن المسألة معناها أن ينهزم الإنسان أو يقتل في مثل هذا المكان أمام الناس، الذي يتواجد فيه جماهير تشجع وتنظر جميعاً رجالاً ونساءً وأطفالاً إلى المتبارزين الاثنين، فقال صلى الله عليه وسلم: {من يبارز؟} فقال علي رضي الله عنه: أنا يا رسول الله، فسكت صلى الله عليه وسلم، فقال: في الثانية: {من يبارز؟ فقال: أنا، فقال الثالثة: من يبارز؟ فقال: أنا، قال: اخرج} فخرج وسل سيفه وهو شابٌ كالأسد وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة كليث غابات كرية المنظرة |
أكيلكم بالسيف كيل السندرة |
فلما التقى هو ومرحب، اعترضت بينهما شجرة وأخذا يتصاولان كالليثين فرأى علي رضي الله عنه أن من الحكمة أن يقطع دابر الشجرة ليبقى ذاك مجرداً في العراء، فقطعها علي رضي الله عنه بأول ضربة ثم ثنى الثانية فقتل بها مرحباً، فكبر الناس.
ولذلك يقول محمد إقبال في هذا المشهد:
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا |
أم من رمى نار المجوس فأطفأت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا |
ومن الذي باع الحياة رخيصةً ورأى رضاك أعز شيءٌ فاشترى |
وعاد رضي الله عنه وأرضاه منتصراً.
فلما أراد الله عز وجل أن يرفع قدره رزقه الشهادة في آخر حياته، خرج يصلي صلاة الفجر وهو بـالكوفة في العراق، فأخذ يوقظ النائمين في المسجد، وأتى إلى الخارجي الخبيث، اللعين عبد الرحمن بن ملجم، وهو قد وضع سيفه تحت بطنه عمداً ونام عليه على بطنه فركله علي رضي الله عنه برجله ولا يدري أنه سوف يقتله، وقال: [[قم إن هذه ضجعة يبغضها الله، إنها ضجعة أهل النار]] أي: نومة أهل النار على وجوههم، فقام الرجل، وأما علي رضي الله عنه فقام يصلي سنة الفجر فقام هذا الخبيث بسيفه الذي قد سمه شهراً كاملاً، أدخل السيف في السم حتى أصبح السيف أزرقاً، ثم أتى إلى جبهة الإمام فضربها بالسيف فقال علي رضي الله عنه: [[الله المستعان! إنا لله وإنا إليه راجعون! الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157]]] فحمل إلى بيته ووضع على فراشه، فأُتي بـعبد الرحمن بن ملجم هذا القاتل، فقال علي رضي الله عنه: [[ما لك قاتلك الله قتلتني؟ قال ابن ملجم: إني أقسمت أن أقتل بهذا السيف شر الناس! قال علي: والله لنقتلنك بهذا السيف فأنت شر الناس]] فقتل ابن ملجم بسيفه لأنه شر الناس، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـعلي في حياته صلى الله عليه وسلم: {أتدري من أشقى الناس؟ قال: لا يا رسول الله، قال: أشقى الناس عاقر الناقة والذي يقتلك}.
ولما أُتي لـعلي بلبنٍ رضي الله عنه وأرضاه وهو مريض قال له ابنه الحسن: [[يا أبتاه! اكتب وصيتك فإنا نخاف أن تموت هذه الليلة لأننا نرى المرض قد اشتد عليك]] فقال علي: [[والله لا أموت هذه الليلة، والله لا أموت من المرض، ولا أموت حتى تدمى هذه وأشار إلى لحيته، ومن هذه وأشار إلى جبهته]].
رضي الله عن علي وعن أصحابه وأقرانه من الصحابة وحشرنا معهم في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.
الحديث الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة).
والحديث الثاني: حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثرت عليكم في السواك، أكثرت عليكم في السواك).
والحديث الثالث: حديث حذيفة قال: (كان النبي إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك).
وقد أسلفنا أن في هذا الدرس إحدى وعشرين مسألة:
والسواك أعجب وأجمل وأفيد من الطيب، ومن أنواع العطور، ومن جمال الملابس، ومن كل ما تجمل به الرجل أو المرأة، قال صلى الله عليه وسلم: {السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب} رواه الترمذي وابن خزيمة والإمام أحمد وهو حديث صحيح. مطهرة: مصدر أي أنه يطهر به الفم من الأذى والقذر والروائح كما سوف يأتي.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} وفي لفظ {عند كل وضوء} وذلك لفضله ولشدة ما ورد فيه.
وفي حديثٍ عند البيهقي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {صلاة بسواك خيرٌ من سبعين صلاة بلا سواك} وهذا الحديث ضعيف ولو أن ابن القيم يقول: لا مانع أن يكون هذا الحديث صحيحاً، وأن العبد إذا تسوك وأتى الله بروائح طيبة، وأزال الأذى من فمه يضاعف الله له الأجر والمثوبة، هكذا قال، ولكن الأحاديث لا تصحح بالاستقراء أو بالاستنباط ولا تصحح بالسياقات، ولا بالقرائن وإنما تصحح بالسند، والرجال، وبما قيل فيها على علم الدراية والرواية، فهذا الحديث ضعيف كما سوف يمر معنا.
وكنا كندماني جذيمة برهةً من الدهر حتى قيل لن يتصدعا |
وعشنا بخيرٍ في الحياة وقبلنا أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا |
فلما تفرقنا كأني ومالك لطول اجتماع لم نبت ليلة معا |
وهذه من أعجب القصائد، بل هي سيدة القصائد أو سيدة المراثي عند المسلمين، يقول: بكت عيني اليمنى -كان أعور-:
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم اسبلتا معا |
يقول نهيت اليمنى أن تبكي وقلت لها: افعلي كاليسرى لا تبكي، فبكت اليسرى قبل أن تتعظ اليمنى، إنما الشاهد أن عبد الرحمن دخل على عائشة في مرض موته صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم -وهذا في الصحيح- ما استطاع أن يتكلم صلى الله عليه وسلم؛ لأن المرض اشتد عليه صلى الله عليه وسلم فأخذ يبده نظره، يبده: أي يعمد بنظره إلى عبد الرحمن كأنه يقول: هات!
قلوب العارفين لها عيونٌ ترى ما لا يراه الناظرونا |
تكلم عليه الصلاة والسلام بعينيه فأتت عائشة فأخذت السواك من فم أخيها فقضمته قالت: {قضمته أي أزالت ما تسوك به، ولو لم تزله لتسوك عليه الصلاة والسلام من تواضعه ولينه ويسره ثم سلمته للنبي صلى الله عليه وسلم فأخذه بيده فتسوك كأشد ما كان يتسوك في الحياة الدنيا} فهو لم يتركه حتى في مرض موته صلى الله عليه وسلم، ولذلك يستحب ولو في أحرج المواقف أن تتعاهد هذه السنة المطهرة منه صلى الله عليه وسلم.
ولذلك عقد البخاري في كتاب الوضوء (باب استعمال فضل وضوء الناس. وقال أمر جرير بن عبد الله البجلي) أهله أن يتوضئوا بفضل سواكه أو كما قال.
وفي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: {أراني أتسوك بسواك، فجاءني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبر، فدفعته إلى الأكبر منهما} فهذا الأمر وارد، والرسول صلى الله عليه وسلم تسوك بسواك عبد الرحمن صهره صلى الله عليه وسلم ابن أبي بكر، فلا لائمة في ذلك، ولذلك عقد البخاري (باب: دفع السواك إلى الأكبر) يعني الأكبر فالأكبر، لكن قد تتأذى أو تأبى النفوس ذلك.
وفي المسند عن علي قال: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل يديه، ثم تمضمض واستنثر ثلاثاً ثم غسل وجهه ثلاثاً...} وقال في المضمضة {فتمضمض بإصبعه صلى الله عليه وسلم} وهذا الحديث قد مر معنا في دروس ماضية، وهذا الحديث يقبل التحسين، ولو أن بعض أهل العلم قد ضعفوه كما سوف يأتي.
الصحيح في ذلك أن الصائم يستحب له أن يتسوك أول النهار وآخره بالسواك الرطب واليابس، وأنه لا شيء فيه، ولا حرج، بل هو أفضل وهو السنة، والدليل على ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء أو عند كل صلاة} وجه الاستدلال بهذا الحديث في هذه المسألة أنه عمم المقال هنا، فهل هو في اختصاص الحال؟ أو اختصاص بعض الوقت؟ لأن العموم في الزمان كالعموم في الأفعال والأفراد. فعمم صلى الله عليه وسلم عند كل صلاة، ولم يقل إلا للصائم في أول أو في آخر النهار، والدليل الآخر: حديث عامر بن ربيعة، في سنن الترمذي، قال: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي ولا أعد يتسوك وهو صائم} هذا الحديث حسن رواه الترمذي، فدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يتسوك أول النهار وآخره، وأما حجة الذين قالوا بالسواك أول النهار وترك السواك آخره فلهم حجتان اثنتان: دليلٌ نقلي من المصطفى صلى الله عليه وسلم، ودليلٌ عقلي وهو تنظير، وهؤلاء هم الشافعية.
فعندهم حديث وهذا من باب النقل، وعندهم تنظير وهذا من باب العقل، والعالم إذا أعوزه الدليل النقلي فعليه أن يأخذ دليلاً عقلياً ليحاج به. وهذه مسألة في أصول الفقه.
فأما دليلهم النقلي فقوله صلى الله عليه وسلم: { استاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي}.
وأما دليلهم العقلي فهو التنظير، قالوا: يقول عليه الصلاة والسلام: {ولخلوف} قال القاضي عياض: بضم الخاء لا بفتحها (خُلوف) {ولـخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك} فقالوا: الخلوف هذا وهو رائحة من الفم، إذا تسوك العبد فإنها تزول، فلا يتسوك في آخر النهار، لأنه سوف يزول هذ الخلوف الذي يحبه الله.
والرد عليهم: أما بالنسبة للحديث الذي استدلوا به فلا يصح فقد رواه البيهقي وفي سنده من لا يعتمد، ولا يصحح حديثه ولا يقبل؛ لأن حديثه ضعيف ضعفه أهل العلم وعدد من الحفاظ، وأما قولهم إنه يزيل الخلوف، فالرد عليهم وهو رد ابن القيم حيث يقول: إن الخلوف يأتي من المعدة، ولا يأتي من الفم، والله ليس في حاجة -يعني لهذه الروائح التي يأتي بها العبد- بل الله عز وجل طيب يحب الطيب، جميلٌ يحب الجمال، يحب الروائح الطيبة، أما الخلوف هذا فإنه يأتي بسبب الجوع، ينبعث من المعدة إذا خلت من الطعام، فلا دخل للفم فيه، وهذا رد موجه، وصحيح يؤخذ به، فاقتضى أن السواك في أول النهار وفي آخره سيان، وهناك حديث {استاكوا إذا كنتم صياماً أول النهار ولا تستاكوا بعد العصر} لكنه ضعيف كأخيه السابق، وورد عند ابن ماجة: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستاك أول النهار وآخره} وقد علقه البخاري في صحيحه من كلام ابن عمر، قال: وقال ابن عمر: {كان صلى الله عليه وسلم يتسوك أول النهار وآخره} وهذا الحديث أورده البخاري معلقاً.
وللفائدة نقول: الحديث المعلق هو الذي سقط من أول إسناده مما يلي المحدث شيخه فأكثر، أو سقط السند كله فهذا معلق.
والمرسل -على المناسبة- هو: أن يُسقَط الصحابي من السند ويصل التابعي الحديث بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ومرسل منه الصحابي سقط وقل غريب ما روى راوٍ فقط |
والمنقطع؟ ما سقط من سنده راوٍ فأكثر، ويشمل المعلق والمعضل والمرسل ويشمل ما سقط منه السند كله أو سقط راوٍ واحد أو أكثر رواته فهذا يسمى منقطعاً.
والحديث المعضل؟ هو: ما سقط منه راويان بموضع ما على التوالي، يعني الرجل وشيخه، الرجل وتلميذه، فهذا معضل.
والحديث المقطوع -وهو غير المنقطع- وهو ما وقف على التابعي فمن بعده.
والموقوف: ما وقف على الصحابي.
والمرفوع: هو المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وما هو الحديث المدبج؟ نعم، هو أن يروي الرجل عن آخر والآخر عنه.
وما روى كل قرينٍ عن أخه مدبجٌ فاعرفه حقاً وانتخه |
وبقي فيه مسائل وأحكام، ولكن ليس هذا المقصود من الدرس وإنما توقفنا لأنه عرض لنا هذا العارض، فأردنا أن نوضحه أكثر.
نقول: إن الأصل استخدام اليمنى دائماً، الرسول صلى الله عليه وسلم يستخدم اليمنى دائماً، مثلاً يقولون: كتب الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة، هل ننتظر حتى يقولون كتب بيمينه صلى الله عليه وسلم، لا. لأن الناس يكتبون بأيمانهم، أو صافح صلى الله عليه وسلم وفد الأزد. هل يقال: صافحهم بيمينه صلى الله عليه وسلم؟ يمينه هذه لا دلالة لها إذا أتت كما يقول أهل العلم إنما هي للتأكيد، يقول عز من قائل: وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38] هل يطير الطائر بغير جناحيه، لكن هذه جاءت لا مفهوم لها إلا للتأكيد، ولا طائر يطير بجناحيه، وإلا فإنه لو قال: (ولا طائر يطير إلا أمم أمثالكم) لفهم بأنه بجناحيه فالمعهود أنه صلى الله عليه وسلم يستخدم اليمنى دائماً، فلا ننتظر حتى يقول لنا قائل: كان يتسوك بيمينه لأنه سوف يسألنا: وأين دليلكم أنتم أنه يتسوك بيمينه صلى الله عليه وسلم؟
لكن نقول المعهود الذي ينقل وهو معروف ومشهورٌ من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه يتسوك بيمناه، وأما اليسرى فإنها خلاف العادة، ولذلك لو أشار صلى الله عليه وسلم باليسرى، قال: رأيته أشار باليسرى لأنها خلاف العادة، أو قال: رأيته شرب واقفاً صلى الله عليه وسلم، لكن هل نقل إلينا؟ قال: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم أكل جالساً، لأنه معروف أنه يأكل وهو جالس صلى الله عليه وسلم، أو يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نام على جنبه، أجل أين ينام؟! أو رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يمشي على رجليه، لأنه معروف هذا، فاقتضى أنه ليس باليسرى فيبقى على اليمنى.
والأمر الثاني: أنه من باب التكريم، فإن كان من باب التكريم فهو يستاك باليمنى وهو رأي النووي وابن حجر والشافعية، أنه باليد اليمنى وهو الذي يظهر والله أعلم، وهو من الأحسن والأطيب أن يتسوك خاصة عند الصلاة وعند قراءة القرآن باليمنى وعندما يقابل الناس لأن اليسرى لها مواطن، وإذا قابل الناس وهو يتسوك باليسرى فإن فيه شيء وفيه غضاضة، والأولى أن يتسوك باليمنى هذا ما ظهر لي في هذه المسألة.
ونقول: إذا كان في المجامع وعند الصلاة فإنه يتسوك باليمنى لطهارة اليمنى، ولأنه يقابل الناس، فكأنها الأحسن، ولو تسوك باليسرى فليس عليه شيء والمسألة أسهل من ذلك، لكن من باب مناقشة المسائل بالتعمق والتدقيق فيها، فإن بعض أهل العلم مثل ابن تيمية وهو شيخ الإسلام الذي لم تشغله القضايا الكبرى عن القضايا الصغرى بل تكلم فيها لأن بعض الناس الآن يقول: الناس صعدوا سطح القمر وأنتم محاضرة من المغرب إلى العشاء في السواك وما ورد فيه! وهذا نقول له: إن من جلالة هذا الدين أن يأتي بهذه الأحاديث كلها، ومعلم الخير صلى الله عليه وسلم عالج أكبر المسائل والمشاكل وأعظم مهمات الدين كما عالج هذه الصغار، أما هؤلاء فلم يجلسوا معنا ولم يصعدوا سطح القمر!
ثم إن بعض الناس يقول: المسألة ليست مسألة سواك، المسألة مسألة عقيدة.
لا. مسألة سواك وثياب ولحية وغيرها، هذا الدين كما أتى به صلى الله عليه وسلم، أما تكلم صلى الله عليه وسلم في أكثر من عشرين حديثاً في السواك؟ بلى، هل شغله التكلم عن السواك أن يبلغ دعوة الله، وأن يصلح الأمة ويجمع شملها ويرفع راية الجهاد؟ لم يشغله ذلك، فاقتضى أن يعطي كل مسألة حقها ولا بأس بالتخصص والتعمق حتى في صغار المسائل.
ففضل السواك يتوضأ ويغتسل به، وقد وضع جرير بن عبد الله سواكه في فضل ماء ثم توضأ به، وكذلك هي السنة، فلا شيء فيه بإذن الله، فليفهم ذلك، فالماء المستعمل الذي يخرج من المتوضئ إذا توضأ.. لك أن تتوضأ به أنت، وإذا وقع على وضوئك فلا يُبطل وضوءك وليس كما يقوله بعض أهل الفقه، أو بعض أهل المذاهب، لا، بل تتوضأ به وليس عليك حرج.
وعند الوضوء: إذا أتى يتوضأ إما قبل الوضوء وإما بعده، وكان بعض الصالحين إذا أتى ليتوضأ تسوك ثم توضأ.
وعند الصلاة: أي عند القيام إلى الصلاة أو عند الإقامة ليكون ملابساً للحالة الراهنة التي يقوم الناس فيها، إذا أقيمت الصلاة فليبدأ الإنسان بالتسوك.
وعند تلاوة القرآن: وفي بعض الأحاديث أن الملك من الملائكة إذا قام العبد يقرأ أو يصلي وضع فمه على فمه، فعليه أن يعتني بهذا الأمر.
وعند طول السكوت، لأن السكوت يغير رائحة الفم، فليتسوك.
وعند كثرة الكلام، لأن بعض الناس إذا جلس أزعج أو أرعد وأزبد، وتكلم طويلاً ولو لم يكن فيه فائدة، كالتحدث عن حادث سيارة، أو بيت سقط على أهله، أو رجل تزوج، فأتى بقصة الزوج من أولها إلى آخرها، من صلاة الفجر إلى قرب وقت صلاة الظهر، فاقتضى ذلك أن يتسوك وأن يتعاهد هذا، قالوا: من كثرة الكلام، وكذلك الجوع الشديد كالصائم.
وبعد الطعام، قال ابن عمر كما في كتاب الزهد للإمام أحمد: [[لئن أتسوك بعد الطعام خير لي من وصيف]] أي من خادم، ومن سنن الصالحين بعد الطعام ثلاثة أمور:
غسل اليدين، وحمد الله، والسواك والتخلل بالمخاليل، هذه وأما حديث {حبذا المتخللون من أمتي} فلا يصح حديثاً، بل إنه حديث ضعيف أو واهٍ مكسر الأضلاع.
تبسمت فأضاء الليل فالتقطت حبات منتثر في ضوء منتظم |
لا حرج أن ينشد ويقال ويستشهد به، ولسنا بأروع من ابن برير الذي عبأ تفسيره بهذه الشواهد ولا من الذهبي وابن تيمية.
يقول: يعني عجباً من هذا العقد التي انتثر فأضاء الليل لما تبسمت، فلما أضاء الليل قال: قامت تلتقط الدر وهي تتبسم في ضوئها، وهذه من قصيدة لـخالد بن يزيد من أعظم القصائد يسميها الذهبي: (الطنانة الرنانة).
فأسنانه صلى الله عليه وسلم كانت كأنها البرد، مما أعطاه الله، لأن الله كمل صورته باطناً وظاهراً، وأصلح مظهره ومخبره، فوجهه أحسن الوجوه، وفمه أحسن الأفواه، وأسنانه أحسن الأسنان عليه الصلاة والسلام، صلح باطناً وظاهراً.
محاسنه هيولى كل حسنٍ ومغناطيس أفئدة القلوب |
يزيل رائحة الفم، ويطرد النوم، وهذا مجربٌ بالاستقراء في الغالب، فمن غلبه النوم أو أراد أن يذاكر بعد صلاة الفجر فعليه أن يستخدم السواك كثيراً، فإنه ينشط ويطرد النوم؛ ولذلك القائم ليصلي في الليل عليه بالسواك.
وينهي البلغم، وهذا مجرب، لذلك أكثر الناس بلغماً الذي لا يتعهد السواك أي لا يستخدم السواك كثيراً.
ثم يعين على إخراج الحروف، ولذلك كان من السنن لمن يتلو القرآن أن يتسوك قبل أن يتلو القرآن ليعين على مخارج الحروف ويخرجها بقوةٍ وبرشد، كذلك يرضي الرب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للحديث المتقدم عند ابن خزيمة والترمذي وأحمد {مطهرة للفم مرضاة للرب}.
أيضاً يبيض الأسنان وهذا معروف لا يستشهد ولا يستدل عليه.
كذلك ذكر ابن القيم وكثير من الأطباء أنه يساعد على الهضم، فمن تعشى فأكثر وأغلقت الصيدليات أبوابها فليقم وليأخذ السواك وليدر في بيته وليستعن بالله وليكثر من ذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ليهضم طعامه، فهذا مجرب.
وتضاعف به الصلاة، وقد مر معنا الحديث الضعيف: {صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بلا سواك} رواه البيهقي وضعفه.
ويعين على التلاوة والذكر وهذا أمر معروف فإن الذاكر يستعين بالسواك على ذكر الله عز وجل. فهذه بعض فوائد السواك وإلا فهي كثيرة جداً ومن أراد التوسع فليرجع إلى كلام ابن القيم وابن حجر.
أولها: في أثناء الصلاة، فهو محرم في أثناء الصلاة، وإنما قلت هذا لينبه لأن بعض الناس قد يجهل بهذا الحكم، فيظن أن قوله صلى الله عليه وسلم: { عند كل صلاة} أي قبل الصلاة وأثناء الصلاة وبعد الصلاة، فيتسوك في الصلاة، وقد يأتي جاهل لم يسمع بهذا الحديث فيفعل ذلك، ولذلك تكلم بعض الناس في حياته صلى الله عليه وسلم في أثناء الصلاة، فالتسوك أثناء الصلاة محرم.
ثانيها: في أثناء استماع خطبة الجمعة، وهذا وارد عند كثير من الناس، الخطيب على المنبر وهو يتسوك بالسواك، وهذا من باب اللغو واللهو واللعب، والتشاغل عن الخطيب ولا يؤمن أن يفوت عليه أجر الحضور في الصلاة والخطبة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من مس الحصى فقد لغى} ومس الحصى ليس لأجلها إنما العلة التشاغل، والذي يأخذ السواك يوم الجمعة والخطيب يخطب كالذي يمس الحصى ويتشاغل ما الفرق بينهما؟ فلا يفعل في أثناء الخطبة، لكن للمسلم أن يتسوك بين الخطبتين، إذا جلس الخطيب يخرج سواكه ويستخدمه لأنه ليس وقت خطبة، ولا وقت استماع، فليتنبه لهذا الأمر، لأنه مشهور ونرى كثيراً من الناس أثناء الجمعة يخرج بعضهم سواكه ويتسوك وينظر إلى الصفوف، ويفكر، ويشرد ذهنه، فلا ينبغي له ذلك، لأن مس الحصى كالتشاغل بالسواك، هما سيان.
ثالثهما: في أثناء تلاوة القرآن، فله أن يتسوك قبل التلاوة لكن إذا أخذ المصحف وأصبح يقرأ القرآن فلا يتشاغل عنه بالتسوك، وهذا فيه كراهة؛ لأن فيه تشاغل وتلهٍ عن القرآن.
إذاً؛ هي ثلاثة مواطن:
1- في أثناء الصلاة وهو محرم.
2- في أثناء خطبة الجمعة واستماعها من المأموم وهو محرم أيضاً، وربما يكون فيه شقٌ من الكراهة، إن لم نقل بالتحريم، لكن التحريم وارد، لأنه كمس الحصى.
3- عند أو في أثناء التلاوة، وهو يتلو كتاب الله عز وجل نظراً لأنه ينافي التدبر، ويُتشاغل به عن سماع كتاب الله.
فالصحيح ما اتصل رواته بنقل العدل الضابط، الثقة عن مثله إلى آخر السند، وخلا من شذوذٍ وعلةٍ قادحة.
وأما الحديث الحسن: فهو ما رواه العدل الخفيف الضبط -ليس التام- عن مثله إلى آخر السند.
والحديث الضعيف: ما لم تكن شروطه كشروط الصحيح والحسن.
أ- الأحاديث الصحيحة في فضل السواك:
فأما الأحاديث الصحيحة في باب السواك فهي على حد علمي خمسة أحاديث وربما تزيد، لكن التي جمعتها خمسة أحاديث، فليتـنبه لها.
أولاً أحاديث عائشة ولها حديثان وحديث لـأبي هريرة، وحديث لـأبي موسى، وحديث لـحذيفة.
فأما حديث عائشة الأول: فقالت: {كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته بدأ بالسواك} رواه مسلم عن شريح بن هانئ، والحديث الثاني لـعائشة: قوله صلى الله عليه وسلم: {السواك مطهرة للفم مرضاة للرب} رواه الترمذي وأحمد وابن خزيمة، وهو حديث صحيح.
والحديث الثالث: لـأبي هريرة: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة،} وفي رواية: {مع كل وضوء} رواه البخاري ومسلم.
والحديث الرابع: حديث حذيفة: {كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك} رواه البخاري.
وحديث أبي موسى: {أتيت إلى رسول صلى الله عليه وسلم وسواكه على طرف لسانه وقد قلصت شفتاه وهو يتهوع يقول: أع أع} هذا الحديث صحيح رواه البخاري.
واعلموا أن السواك في الحمام لا بأس به، ولم يرد نهيٌ فيه، وهو من باب إزالة الأذى، فللمسلم أن يتسوك في الحمام.
هذه خمسة أحاديث صحيحه عنه صلى الله عليه وسلم تحفظ بطريق التبويب أو بطريق المسانيد، أن تذكر في هذا الباب تقول: لـعائشة حديثان، ولـحذيفة حديث، ولـأبي موسى حديث، ولـأبي هريرة حديث، فتبقى محفوظة إن شاء الله ومعلومة.
ب- الأحاديث الحسنة في فضل السواك:
وأما الأحاديث الحسنة في هذا الباب فهي ثلاثة أحاديث، هي في درجة الحسن.
الحديث الأول: حديث عائشة: {كان صلى الله عليه وسلم لا يستيقظ من نومٍ ليلاً أو نهاراً إلا تسوك} رواه أحمد، وأبو داود وسنده حسن.
والحديث الثاني: حديث عامر بن ربيعة الذي مر معنا: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي ولا أعد يتسوك وهو صائم} رواه الترمذي وأحمد وأبو داود ودرجته حسن.
الحديث الثالث: حديث علي رضي الله عنه وأرضاه قال: {توضأ صلى الله عليه وسلم فمضمض ودلك أسنانه بإصبعه عليه الصلاة والسلام} رواه أحمد وهو حديثٌ حسن.
جـ- الأحاديث الضعيفة في فضل السواك:
وأما الأحاديث الضعيفة بحفظ الله فهي أربعة أحاديث في كتاب أو في باب السواك.
أولها حديث {صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بلا سواك} رواه البيهقي والحاكم في المستدرك وفي سنده محمد بن إسحاق، وعلة محمد بن إسحاق التدليس، صاحب سيرة ابن إسحاق، وقد دلس في هذا الحديث، والتدليس: أن يوهم السامع أنه سمع هذا الحديث من شيخ قد سمع منه ولكنه لم يسمع هذا الحديث، فيقول: عن فلان، فيظن الناس أنه سمع هذا الحديث لأنه دائماً يسمع منه، فيدلس والتدليس هو التمويه والزخرفة.
والحديث الثاني: حديث عائشة الذي رواه ابن ماجة، وهو ضعيف عن عائشة {من خير خصال الصائم السواك}.
والحديث الثالث: {إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي} رواه البيهقي وسنده ضعيف، أو في سنده رجل ضعيف.
الحديث الرابع: قالت عائشة: {قلت يا رسول الله: الرجل يذهب فوه أيستاك؟ قال: نعم، قلت: كيف يصنع؟ قال: يدخل إصبعه في فيه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ويغني عنه حديث علي الحسن في التسوك بالإصبع، وهذا الحديث ضعيف رواه الطبراني، وفيه عيسى بن عبد الله الأنصاري ضعفه ابن حبان.
فلتفهم هذه الأحاديث الصحيحة والحسنة والضعيفة، ومن أراد أن يحقق مسألة فعليه أن يجمع النصوص ثم يصححها، ثم يجمع أقوال أهل العلم، ثم يرجح ثم يخرج بالقول الصحيح من المسألة هذا هو الصحيح.
وفي ختام هذا الدرس نتوجه إلى الله سبحانه أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن ينفعنا بما علمنا، وألا يجعل علمنا وبالاً علينا، وأن يهدينا سواء السبيل، وأن يفقهنا في ديننا.
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر