وقد أفاض الشيخ في هذا الموضوع، وبين كثيراً من معالمه، ووضح كثيراً من ملابساته.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عنوان هذا الدرس: فر من الحزبية فرارك من الأسد. في مساء السبت (18/ من شهر المحرم/ 1413هـ).
وقبل أن أبدأ أعلن حبي وسعادتي وفرحتي هذه الليلة لضيوف وأحبة وقادمين ووافدين، وفدوا من الرياض ومن القصيم ومن الشرقية والغربية، ومن بعض دول الخليج، ونرحب بكل مسلم حضر هنا أو لم يحضر عربياً كان أو أعجمياً يحمل لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: النَُّزّاع من القبائل) فهم الذين أتوا من كل حدب وصوب، اجتمعوا من القبائل، من الأصقاع، من المدن، من الشعوب، من الأقطار، لا على سبب ولا على نسب، إنما على رابطة: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وهذه المحاضرة (فر من الحزبية فرارك من الأسد) لها مناسبة: فإنا لا نعلم حزبية شرعية إلا حزباً واحداً مؤيداً بالله عز وجل وبرسوله عليه الصلاة والسلام وهو حزب الله: أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22]. فمن انتسب لحزب آخر أو تعصب لحزب آخر، أو اتخذ غير هذا الحزب، أو جعل حزباً داخل هذا الحزب ففرق بين هذا الحزب، فتولى بعض هذا الحزب وعادى بعضه وأحب بعضه وأبغض بعضه؛ فقد نكث ميثاق الله وقد عصى الله.
فكان لزاماً علينا أن يكون حزبنا واحداً وهو حزب الله، فليس عندنا من يوجب، ولا يجوز لأحد أن يوجب لأحد أن ينتسب لحزب ويوالي عليه ويعادي عليه، ويحب له ويبغض له، غير حزب الله عز وجل الذي ذكره الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وإنما أتت هذه الحزبيات مع نقص العلم الشرعي الموروث عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام، ومع كثرة الأهواء والاختلافات وشهوات الأنفس والمقاصد السيئة والأمراض وقلة البصيرة والمعرفة، فكان حقاً على الدعاة وطلبة العلم أن يبينوا ما هو الأسلم في هذه الطريقة.
واعلموا حفظكم الله أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يوجب على الأمة أن تتبع مذهباً من المذاهب، ومن قال للناس أو لعبد من العباد: أنه يجب عليه أن يكون حنبلياً أو شافعياً أو مالكياً أو حنفياً؛ فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ومن أوجب على أحد الناس من العباد أن يكون إخوانياً أو سلفياً أو تبليغياً أو سرورياً يوجبه وجوباً فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإن الله لم يسمنا إلا مسلمين، وارتضى لنا سبحانه وتعالى اسم المسلم: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78] وسمانا رسولنا صلى الله عليه وسلم باسم السنة، فنحن أهل السنة ليس لنا اسم إلا هذا الاسم، لا نعرف إلا بهذا الاسم، وليس لنا شارة ولا حزب إلا حزب السنة يجمعنا عربينا وأعجمينا، شرقينا وغربينا، أحمرنا وأسودنا وأبيضنا، تحت اسم أهل السنة.
يقول الشاطبي: سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار. وروي هذا عن الشعبي فإن الهوى ما سمي هوى إلا أنه يهوي بصاحبه إلى النار والعياذ بالله.
ويدخل الهوى عند العباد في عبادتهم، فتجد بعضهم يعبد مع الله غيره، أو يخترع عبادات ما أنزل الله بها من سلطان بهواه، ويدخل الهوى مع أهل العلم، فتجد بعضهم يفتي بالهوى، أو يقول قولاً بالهوى ليس بالعلم، ويدخل مع أهل السياسات الشرعية، فتجد بعضهم يحكم بالهوى، وينفذ أحكام الله بالهوى أو أحكام غير الله عز وجل فَيَضل ويُضل.
وأصل الضلال اتباع الظن والهوى، قال سبحانه وتعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23].
ونزه الله رسوله عليه الصلاة والسلام من الهوى، فقال: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:1-4].
وأنذر داود عليه السلام وحذره أن يتبع الهوى فقال: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26] إلى آيات أخرى كثيرة أخبر الله فيها أن الهوى هو أصل الشقاء وأصل الردى والبلاء.
ومتبع الهوى لا بد أن يضل سواء في الأخبار أو في الأحكام، فإن الله سبحانه وتعالى إذا ترك العبد وهواه أضله الله ضلالاً بيناً، فقد قال الله سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طـه:124-126].
وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه يقول: {اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فأهلك} أو كما ورد في الحديث.
قال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما تعرفون. رواه ابن بطة في كتاب الإبانة، واللالكائي في كتاب السنة، والدارمي.
ومعنى هذا: أن الذي يثق بنفسه فيجلس مع أهل الأهواء لا يؤمن عليه أن يلبس عليه.
وأهل الأهواء كالعلمانيين والحداثيين والخوارج والرافضة والمرجئة والقدرية ومن في نفسه هوى وشهوة خفية هذا لا تجلس معهم ولو كنت تقول: إني سوف أنصحه؛ فإنه يعديك ولا محالة كما سوف يأتي.
وقال غيرهم: لا تجالسوا أهل الأهواء فإنكم إن لم تدخلوا فيما دخلوا فيه؛ لبسوا عليكم ما تعرفون. رواه ابن بطة.
والمقصود: أنهم يلبسون الحق الذي معنا، فيشككونك فيما أنت عليه، وقد رأيت شباباً من أهل السنة منا، جلسوا مع الرافضة، وكان قصدهم أنهم يعيدون هؤلاء، وأولئك أكثر منهم جدلاً وثقافة، وبعضهم حجج في مذهبهم، فيجلس الشاب الذي في الثانوية أو في كلية الشريعة أو أصول الدين إلى هذا الحجة المليء بالهوى والضلال والغي، فيريد أن يرده، فيلبس عليه الحق الذي عند أهل السنة، فيأتي ويقول: والله ما أدري عن صحة الأحاديث التي في البخاري والترمذي، عن خلافة أبي بكر وعمر، فلا بد أن يتحقق منها، فانظر كيف ترك في قلبه مرضاً والعياذ بالله.
وقال ابن عباس: [[لا تجالسوا أهل الأهواء، فإن مجالستهم ممرضة للقلوب]] رواه ابن بطة أيضاً.
ولذلك مر أحد السلف فوضع إصبعيه في أذنيه، قال: لئلا أسمع كلمة من صاحب هوى فتقع في قلبي.
وتقدم ثور بن زيد أحد رواة البخاري ومسلم وكان فيه قدر، فأتى يسلم على سفيان الثوري، فنفض سفيان يده وقال: المسألة تؤدي للدين. يقول: لو كان غير الدين كنت سلمت عليك، لكن ما دام الدين فلا أسلم عليك، ولما مات أتى سفيان الثوري فاعتق الصفوف وخرج ليراه الناس ولم يصل عليه، لئلا يصلوا على هذا المبتدع.
وقال إبراهيم النخعي: لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان من القلوب، وتسلب محاسن الوجوه، وتورث البغضاء في قلوب المؤمنين. رواه ابن بطة أيضاً. أي: أن الله يسلب نور العقل بسبب الجلوس مع أهل الهوى وأهل الزيغ والانحراف.
والذين يريدون الجدل والخلاف بين المؤمنين وينقلون الكلام بين طلبة العلم، فيسبون هذا ويتتبعون سقطات هذا وغلطات هذا ويجمعونه، وربما سجلوه وربما كتبوه وينسون محاسنه وينسون مواقفه؛ فهؤلاء من أهل الهوى؛ لأنهم يريدون أن يحل الجدل محل العمل أو محل الكتاب والسنة.
وقال مجاهد بن جبر: لا تجالسوا أهل الأهواء؛ فإن لهم عرة كعرة الجرب. أي: حكة كحكة الجرب. ذكره ابن بطة. فإن صاحب الهوى يترك في قلبك أثراً فتحتك من هذا الأثر فيدمي قلبك وهو هواه والعياذ بالله!
وقال محمد بن علي: لا تجالسوا أصحاب الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله.
ويلحق بذلك أيها الإخوة: من يشغل الناس بتوافه المسائل، أو المسائل التي ليس فيها علم، كمسألة دوران الأرض فيقيم المجلس ويقعده على هذه المسألة التي لا ينبني عليها عمل، ولا يسألنا الله عنها يوم القيامة، وليس فيها معتقد، ولم يتكلم فيها الصحابة، وكمسألة هل السحاب من البحر؟ وهل يتبخر البحر؟ مع أنه حقيقة تبخره الشمس بإذن الله في كلام طويل، ومسألة كروية الأرض، مع العلم أنها كروية، لكن هذه المسائل التي هي من الجدل وهي تمنع عن العمل فحذار من هذه. قال سبحانه وتعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً [النساء:140].
قال مصعب بن سعد: لا تجالس مفتوناً فإنه لن يخطئك منه إحدى اثنتين: إما أن يفتنك عن دينك فتتبعه، وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه. ذكره ابن بطة أيضاً.
فالحذر الحذر من مجالسة هؤلاء، وإذا سمعت أحداً يخوض في آيات الله، يضرب بعضها في بعض، أو في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو ينتهك حرمات أهل العلم، أو يخالف بين الدعاة، أو يأتي بنقل لعالم ليضرب به قول عالم آخر، فهذا من أهل الهوى فانفض يديك منه.
قال يونس بن عبيد رحمه الله: أوصيكم بثلاث: لا تمكنن سمعك من صاحب هوى، ولا تخلُ بامرأة ليست لك بمحرم ولو أن تقرأ عليها القرآن، ولا تدخلن على أمير ولو أن تعظه. رواه ابن بطة.
وقال أبو قلابة يوصي أيوب السختياني: يا أيوب! احفظ عني أربعاً: لا تقل في القرآن برأيك.
لا يتحدث أحد رأيه بالقرآن، ولا يتخرس برأيه فإن كتاب الله محفوظ إلا ما ظهرت عليه الدلالة أو أيدته لغة العرب.
وإياك والقدر، وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمسك. كمن يقول الآن: هل الأفضل من كان مع علي أو من كان مع معاوية؟ وهل الأفضل الذين كانوا في حزب علي أو في حزب معاوية؟ فهذا ممن يدخل في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يحبه الله.
ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك فينبذوا فيه ما شاءوا.
وقال أبو الجوزاء وهو من أئمة التابعين: [[لئن تجاورني القردة والخنازير في دار أحب إليَّ من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء]].
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها |
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجوّع |
أراها وإن كانت تسر فإنها سحابة صيف عن قليل تقشع |
وله من القصائد أخرى، لكن قصائده بعد أن تحول إلى مذهب الخوارج كانت سيئة وظالمة وآثمة كقوله لما قتل ابن ملجم علياً رضي الله عنه يمدح ابن ملجم يقول:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا |
إني لأذكره يوماً فأحسبه من خير خير عباد الله ميزانا |
فرد عليه شاعر أهل السنة فقال:
يا ضربة من شقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا |
إني لأذكره يوماً فألعنه وألعن الكلب عمران بن حطانا |
فاستوى البيت وركب هذا البيت وأحسن شاعر أهل السنة.
وبعضهم دخل ليرد على الشيوعية فألحد والعياذ بالله، ككاتب من القصيم، وهو عبد الله القصيمي، وقد كان ذكياً لماحاً له كتاب صراع بين الإسلام والوثنية، أراد أن يرد على الشيوعيين الكادحين في عدن، ويرد على نظرية كارل ماركس، فالعياذ بالله اطلع على كتبهم فألحد، وخرج من القصيم وهو الآن يقيم في القاهرة وعمره ما يقارب ثمانون سنة، ملحد لا يصلي ولا يسجد، ويكفر بالمصحف ويسب الدين وأهله، وله كتب في ذلك، قال سبحانه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثـية:23] وقد ناداه العلماء وخاطبوه واتصلوا به وكاتبوه، لكن طبع الله على قلبه والعياذ بالله، فهو في الثمانين فما اهتدى وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119] قال بعض أهل العلم: هذه لأهل الأهواء.
فإن بعض الناس إذا حضر مجالس أهل الخير تمظهر بأنه من أهل الخير وناقش معهم المسائل العلمية، وأظهر لهم حب السنة فإذا خلا مع الشياطين من الإنس سب أهل الخير وأهل العلم وأهل الدعوة فهو من جنس هؤلاء: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:14-15] وقد دل على ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر أبو داود وأحمد بأسانيد صحيحة أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {من سمع بالدجال فلينأَ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث من الشبهات، وفي لفظ: مما يرى من الشبهات} فالدجال من سمع به فلينأ عنه، ليبتعد وليفر عنه، ولا يثق بإيمانه، فإن الدجال يشبه على الناس، حتى إنه يأتي إلى الخربة فيقول: أخرجي كنوزك فتخرج بإذن الله كنوزها، ويقول للسماء: أمطري فتمطر، ويضرب الرجل ويشقه نصفين ويحييه بإذن الله، وهذه فتنة.
وكذلك قال أهل العلم: كل من صار على منهج الدجال؛ فالواجب على الإنسان أن يبتعد عنه وأن يتجنب الجلوس معه.
وقد رأيت بعض الناس تأثروا ببعض الكتابات وببعض الأشرطة التي نشرها بعض العلمانيين حتى إنه عنده علم وعنده سنة وعنده خير كثير فشبه عليه خاصة فأصبح يصدقهم ويرتاح لهم، وأصبح يشكك في الخير الذي يحمله أهل الخير.
قال أهل العلم: وعلى المسلم ألا يناظر هؤلاء إذا علم منهم الهوى. كما قال بعضهم: "كلامهم ألصق من الجرب وأحرق للقلوب من اللهب"، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبونهم فجالسوهم على سبيل الإنكار والرد عليهم، فما زالت بهم المباسطة وخفي المكر ودقيق الكفر حتى مالوا إليهم.
وذكر أن محمد بن السائب كان من أهل السنة فقال: نذهب ونسمع من هؤلاء شيئاً؛ فما رجع حتى أخذ بها وعلقت بقلبه والعياذ بالله.
ذكر ذلك بعض أهل العلم في كتبهم قالوا: والهوى كل ما خالف الحق وللنفس فيه حظ ونصيب ورغبة، فيميل بصاحبه إلى الشهوة والشهرة وحب الظهور، وإلى الانصراف عن الحق والعياذ بالله.
وكانوا يشهدون أن الرسول عليه الصلاة والسلام سوف يبعث وأنه من العرب، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين، قال سبحانه: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ [المائدة:70].
وقد ذم الله الكفار العرب بأنهم اتبعوا أهواءهم: فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [القصص:50].
و أمية بن أبي الصلت كان يبشر برسول يبعث وكان يظن أنه هو الرسول ولما بعث الله محمداً عليه الصلاة والسلام كفر، وأخذ يسب الرسول صلى الله عليه وسلم بالقصائد ويحرض عليه، وقالوا: بل كان يسب من قتل في بدر من المسلمين أو من حضر في بدر من المسلمين ويمدح المشركين والعياذ بالله، فقال صلى الله عليه وسلم: {آمن لسانه وكفر قلبه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ومما يجب على المسلم أن يعلمه: أن الهوى أصل الضلال وهو أصل الكفر وعليه أن يسأل الله الهداية، وقد صح عند مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقوم من الليل, فيقول: {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون}.
فإذا هدى الله العبد سدده، وفي صحيح مسلم: {اللهم اهدني وسددني}.
وقد قص الله علينا أخبار الأمم الذين تفرقوا بسبب الهوى، وحذرنا الله سبحانه وتعالى من شبههم وحذرنا من طريقهم، بل قال أهل العلم: إذا كان التمذهب سبباً للخلاف والفرقة فإنه يحرم، إذا كان كونك حنبلياً وذاك حنفياً وذاك شافعياً وهذا مالكياً سبباً للخلاف والفرقة فإنه يحرم، أيضاً: إذا كان كونك إخوانياً أو سلفياً أو تبليغياً أو سرورياً سبباً للفرقة والخلاف بين المسلمين فإنه يحرم، قال سبحانه وتعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الأنفال:46]. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105] وقال سبحانه وتعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] وقال جل ذكره: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] وقال سبحانه: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة:118] وقال سبحانه: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43].
فقد حذره سبحانه من الخلاف وحذر أمته كما حذر الذين من قبله من الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأخبرنا عليه الصلاة والسلام أنه سوف يقع الخلاف بالأمة وسوف يتبع بعضنا بعض الذين من قبلنا من اليهود والنصارى، كما قال صلى الله عليه وسلم عند البخاري والمسند لـأحمد: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟} والقذة: ريشة السهم، وهو ما يشبه رصاصة البندق، والمعنى: أنا سوف نتبعهم في كثير من أمورنا، وقد وقع ما قال عليه الصلاة والسلام، فمنا من اتبعهم في المناهج، ومنا من اتبعهم في الزي، ومنا من اتبعهم في الأخلاق، ومنا من اتبعهم في المعتقد، ومنا من اتبعهم في السلوك، ومنا من عصم الله فلم يتبعهم: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
ومنهم من ينتسب مثلاً إلى الإخوان أو إلى السلفيين أو إلى التبليغيين أو السرورين أو إلى جماعة، فيقول: الحق في هذه الجماعة، وهذه هي المقصودة، حتى بعض المنتسبين من الجهلة يقول: هي المقصودة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة}. وبعضهم كتب كتاباً المتساقطون في الطريق، وهم الذين خرجوا من الجماعة فيقول: هؤلاء ضلوا وسقطوا في الطريق، مع العلم أنه قد يظهر للإنسان أن المصلحة أن يخرج من الجماعة، أو أن من المصلحة ألا يتبع هذه الجماعة فقد تحبسه من علم أو دعوة أو قد لا يناسب هو الجماعة أو يكون الخير له ألا ينتسب لها.
فأقول: هذه الجماعات فيها خير ونصر بها الحق، لكن لا يجوز لأحد أن يقول: كل الحق في هذه الجماعة وغيرها باطلة، أو يقول: هذه الجماعة هي الجماعة التي يرضى الله عنها وغيرها يغضب الله عليها، أو يقول: كلما جاء من هذه الجماعة فهو الصحيح، حتى إن بعضهم لا يسمع إلا لأشرطة من كان من دعاة جماعته، ولا يحضر إلا لخطباء جماعته، ولا يقرأ إلا لجماعته، ولا يطلع إلا على ما يكتبه جماعته أو كتبه جماعته، ولا يمدح إلا لمن انتسب إلى جماعته، وبالمقابل تجده يقدح في خطباء الغير وفي شعرائهم ودعاتهم وعلمائهم وهذا من الهوى، وفيه حظ من قوله سبحانه وتعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113]. ومن أوجب على الأمة أن تتبع مذهباً من المذاهب أو جماعة من الجماعات -قلت لكم-: يستتاب هذا فإن تاب وإلا قتل وهي كفتوى شيخ الإسلام في بعض المسائل التي شابهت هذه المسألة بالقياس.
وقال عليه الصلاة والسلام: {لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتى بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك} رواه البخاري في كتاب الاعتصام.
فأخبرنا عليه الصلاة والسلام أنه سوف يقع من أمته من يفعل ذلك.
ومن الناس من يتحزب لشيخ فيقول: هذا الحق مع الشيخ وعليك بسماع أشرطته ولا تسمع لغيره، وبعض الناس يتعصبون لشيخهم من أقليمهم أو من مدينتهم أو داعية من محلتهم، ويتنقصون الدعاة الآخرين، وهذا من الظلم والعدوان، بل على الإنسان أن يقبل الحق من أي أحد سواء كان من الشمال أم من الشرق أم من الغرب أم من الجنوب، من العرب أم من العجم، فإن دين الله عز وجل موزع في الناس.
وقال ابن تيمية: ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون، غير أن فرعون قدر فأظهر وغيره عجز فأضمر. وهذا كلام جيد. يقول: كل نفس تحمل ما تحمل نفس فرعون لكن فرعون قال: أنا ربكم الأعلى وغيره استحيا من الناس، وإلا فإن النفوس محشوة بحب الرياسة وحب العلو في الأرض وحب التعالي على الأقران، إلا من عصم ربك ومن هذب الله عز وجل بالإيمان والعمل الصالح.
كان ابن عمر يسجد عند المقام عند الكعبة ويقول: [[اللهم إنك تعلم أني ما تركت الخلافة إلا من مخافتك]]. والله يقول: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
وفي صحيح مسلم: {أن
ورأيت في ترجمة إبراهيم بن أدهم من تواضعه ومسكنته ومن ترك العلو والكبر أنه مر بدارة في بغداد، فخرجت امرأة بصحن من رماد تريد أن ترميه في الزبالة وهو حار فيه جمر، فرمت بالصحن بما فيه من رماد فوقع على رأس إبراهيم بن أدهم الزاهد العابد الكبير، فأخذ يحتحت الرماد، فخرج أهل المحلة وأهل الحارة يعتذرون منه، فقال: لا عليكم، من استحق النار وصولح على الرماد فهو ناج بإذن الله. يقول: أنا أخاف من نار جهنم وما دام المسألة مسألة رماد فالمسألة فيها خير.
قيل لـأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرئاسة. فهي خفية تخفى على الناس وقد تخفى على صاحبها، وقد ذكرها ابن تيمية في المجلد السادس عشر من الفتاوى، وهذا كلام صحيح، فإنك قد تجد العبد يصلي الصلوات الخمس ويقوم الليل ويصوم النوافل وهو يحب أن يترأس على زملائه، ويحب أن يكون دائماً المقدم، حتى تجد أنه تنشأ حب الرئاسة وحب العلو في الأرض مع الطلبة، فتجد أحدهم حتى في الابتدائية يحب أن يكون عريفاً على الطلاب ويحب أن يكون هو قائد المنتخب، ويحب أن يكون هو مشكل المجموعة والمدير حتى في الحلقات الصغيرة، ويحب أن يكون صاحب المسئولية، وهذا من حب الرئاسة في قلبه، حتى ذكروا عن بعض الزهاد أنه بلغ به حب الرئاسة وحب التصدر إلى أن سفك دماء الأمة كما فعل محمد بن عبد الله بن تومرت وهو رجل فيه ربانية وفيه تأله كثير، وكان زاهداً عابداً من أهل المغرب، وقد ذكره الذهبي وترجم له ترجمة طويلة وكان يصلي الليل ويبكي من خشية الله عز وجل، وركب في سفينة إلى الإسكندرية ما معه إلا ثوب ومعه إبريق يحمل فيه ماء ومعه عصا، وكان لا يرى منكراً إلا غيره، فكان يضرب الخمر ويكسر جرار الخمر وهو راكب في السفينة، فأخذوه ورموا به في البحر بإبريقه وبعصاه فركب في خشبة حتى صعد إلى جزيرة، فأتى إلى أهل الجزيرة، فأنكر عليهم فأعادوه في البحر فركب في قارب آخر فأدخلوه إلى تونس، فدخل في مسجد في تونس فوجد أهل البدع فضربهم بعصاه فحبسوه في تونس، ثم أخرجوه إلى المغرب فأنكر في المغرب، فحبسوه مراراً كثيرة ثم ذهب إلى جبال في أقصى المغرب، واعتصم بتلاميذه ورباهم ثم أسس دولة الموحدين هو بنفسه، حتى يقول:
والله والله لو نفسي مشردة ما كنت عن ضرب أعناق الورى آبي |
بأبيات طويلة، يقول: والله لو عرضت لي أعناق الورى وأعناق الظالمين لضربتها جميعاً، فأوصله هذا الأمر إلى أن أخذ المخالفين له، حتى ممن خالف في بعض الأمور فكان ينكسهم في الآبار على رءوسهم حتى ماتوا، بعض المسلمين حتى من أهل الأهواء أو البدع لكنهم مسلمون في الجملة، وكان إذا خالفه مخالف أخذ السيف وضربه فقسمه نصفين، وله كتاب المرشدة وأمره إلى الله عز وجل، إنما ذكرته مثالاً لأمثلة العباد الزهاد الذين قد يحبون العلو في الأرض والله المستعان.
قال سبحانه وتعالى فيمن اتبع هواه وطلب العلو وحسد وبغى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ [البقرة:91].
فعليك إذا أردت أن ترد على شخص أو طائفة أن تعترف بما لهم من الحق، فمثلاً: إذا أردت أن ترد على الحنابلة فلا تتهم الحنابلة بالجمود، ولا ترد على أئمتهم، ولا تطلق لسانك وقلمك في أعراضهم، بل تقول مثلاً: الحنابلة من أحسن الناس معتقداً، وهم المحافظون على معتقد أهل السنة، وفيهم علماء أجلاء، وفيهم زهد وورع، لكن أخطئوا في هذه المسألة أو أخطأ فلان منهم في هذه المسألة، وكذلك الشافعية، وكذلك المالكية، وكذلك الأحناف، وإذا أخطأ رجل من جماعة الإخوان فلا تسب جماعة الإخوان جميعاً وتقول: هذه الجماعة فيها كذا وكذا فهذا من الظلم والعدوان.
وإن من أفرى الفرى أن يسب الشاعر القبيلة بأسرها فإن هذا لا يجوز، وأقول لكم: هذا لا يجوز، وحتى لا يجوز أن تتخذ القبائل سلماً للمعاداة وللتناحر والتباغض، فمثلاً تسب القبيلة بأسرها، هذا لا يجوز، يعني: خالفك رجل من القبيلة أو أساء إليك رجل من القبيلة؛ فإنه لا يجوز لك وحرام عليك أن تقول: القبيلة كلها فاجرة أو آثمة أو بخيلة أو جبانة، فإن هذا من الظلم والعدوان، وهذا مما ينبغي أن يذكر به الناس كثيراً.
وكذلك الشعوب لا ينبغي أن تقول مثلاً: الشعب الفلاني كله آثم أو كله جبان أو كله خائن أو كله مارد، فإن هذا من الظلم؛ بل تذكر الأشخاص الذين لهم فجور، مثلاً على سبيل المثال: شعب العراق فيه حزب البعث الكافر وصدام المجرم، وحزبه حزب البعث فلا يجوز لك أن تقول: كل عراقي آثم وكل عراقي فاجر، فإن فيهم من أهل السنة وفيهم علماء وفيهم عباد وفيهم دعاة وفيهم صالحون وفيهم شهداء، بل عليك أن تميز هذا من هذا، فتخرج الحي من الميت: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [النساء:135] وقال سبحانه: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].
فذمها صلى الله عليه وسلم لما قال هذا: يا للمهاجرين، ولما قال هذا: يا للأنصار، مع العلم أن اسم الأنصار واسم المهاجرين اسمان شرعيان وردا في كتاب الله عز وجل وفي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن لما استخدما استخداماً خاطئاً منع ذلك سبحانه وتعالى، ولذلك لا يجوز أن يستدعي الإنسان حزبه، أو فئته، أو طائفته على فئة من المسلمين الأخرى بهذا الطريق؛ فإن هذا محرم؛ لأن هذا طريق للتفكك وللقتال وللتشاحن، قال: وقريب من هذا ما حصل لـسلمان يوم أحد لما رمى أحد المشركين وقال: (خذها وأنا الفارسي -و
ونحوه ما رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب العصبية نحو هذا.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: روِّينا عن معاوية بن أبي سفيان أنه سأل ابن عباس فقال: أأنت على ملة علي أم على ملة عثمان -لأن معاوية يميل إلى عثمان -؟ قال: لست على ملة علي ولا على ملة عثمان، لكن أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين. وهذا عندما دخل عنده وقت المنازعات، ووقت ما حصل بين الأمة غفر الله للجميع. ذكره ابن بطة في الإبانة واللالكائي.
وكان السلف يحذرون من الأهواء، ويقول أحدهم: ما أبالي أي النعمتين أعظم: أن هداني الله للإسلام أو جنبني هذه الأهواء.
فنعمة الله عليك أن لم يجعلك مبتدعاً، لا خارجياً ولا رافضياً ولا قدرياً ولا جبرياً ولكن جعلك سنياً حنيفاً مسلماً والحمد لله.
ولا يجوز امتحان الناس: هل أنت إخواني أو سلفي أو سروري أو تبليغي؟ وما هي جماعتك التي تنتسب إليها؟ ولا بد لك من جماعة، بل جماعتك جماعة أهل السنة والجماعة، وهي الجماعة التي يرضاها سبحانه وتعالى، ويرضاها رسوله صلى الله عليه وسلم.
بل على المسلم أن يقول: أنا مسلم متبع للكتاب والسنة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: والله تعالى قد سمانا بالقرآن: المسلمين.. المؤمنين.. عباد الله، فلا نعدل عن الأسماء التي سمانا الله بها إلى أسماء أحدثها قوم وسموها هم وآباؤهم، فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بهذه الأسماء، ولا يوالي عليها، ولا يعادي، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان، والواجب على كل من يتكلم في أمر من أمور الدين أن يكون مخلصاً لله متجرداً له سبحانه وتعالى متبعاً للسنة، فلا يتكلم بالهوى، ولا يريد بكلامه مقصداً آخر، بل يريد أن يعبد الناس لرب العالمين.
ويا شباب الإسلام! ويا دعاة الحق! ويا طلبة العلم! ويا رواد الصحوة! ويا أيها الصالحون! المقصد من الدعوة تعبيد الناس لرب العالمين، وأن يكون الناس عباداً لله، فيعلموا الدين الخالص الذي بعث به رسولنا عليه الصلاة والسلام.
وقد يوجد الخلاف ظاهره العدل والإنصاف وباطنة الشهوة والتشفي والحقد والعياذ بالله، فتجد بعض الناس يرد على بعض الناس يقول: لأقيم الحق، ولأنصر العدل، ولأبين الخطأ، ولكن قصده التشفي والعياذ بالله، وقصده أن يظهر ما في قلبه من عداوة، وقصده أن ينتقم من ذاك، وهذا خطأ لا يؤجر عليه العبد.
قال ابن الجوزي: وقد رأينا بخيلاً عبداً للدرهم والدينار، حضرته الوفاة وعنده ذهب وفضة، وكان ناقماً على أبنائه، أي: مبغضاً لأبنائه، ما يريد أن يرثوا منه شيئاً، فأخذ آجرة عظيمة -طوبة- فجعل فيها الذهب والفضة ثم طين عليها ثم أمر أن تدفن تحت رأسه في القبر لتموت معه. يقول سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35] فيريد يقرب الأمر حتى لا يكون هناك مشوار في أخذ الذهب والفضة وتكون قريبة وحامية يلسع بها في نار جهنم والعياذ بالله.
ومنهم من يقصر على نفسه فيعبد الدرهم والدينار ويوالي عليه ويعادي، ويكون ليله ونهاره. وأقاصيصهم عجيبة في هذا، والملك لله.
قال سبحانه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثـية:23] قال سيد رحمه الله: ومنهم من يتخذ الكرة هوى، فتجده يوالي عليها ويحب ويبغض. بل والله إن بعضهم ترك الصلاة من أجل أن يحضر مباراة، ومنهم من يوالي على النادي حتى يضارب عليه، ومنهم من يلبس زي النادي ذاك، فإذا كان النادي أصفر صار صفارياً، أو أزرق صارت سيارته زرقاء، وعلمه أزرق، وكل شيء فيه أزرق، وعينه زرقاء. وتجد بعضهم أصفر في كل شيء حتى حذاءه صفراء، وأظافره يصفرها؛ لأنه صفراوي، وما أدري ما ألوان الأندية، لكن على الأندية، وتجد بعضهم يقتحم ويضارب، وقد أخبرنا بعض الثقات ممن لا يشك في كلامهم أن بعضهم ضارب في سبيل الكرة حتى كسرت يده، فانظر إلى هذه التضحية.
ومنهم من كان هلالياً وامرأته نصراوية، فلما غلب الهلال النصر؛ قامت واحتجت فاحتج فاحتجت فاحتج فطلقها، وهذا قد ورد بأسانيد بعضها يسند بعضاً، ولها متابعات وشواهد واعتبارات.
فإذا علم هذا فعلى الإنسان أن يتقي الله، قال عليه الصلاة والسلام: (من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه فله من عمله النار) رواه الترمذي والدارمي وابن ماجة، وذكره الدارمي في باب: التوبيخ لمن طلب العلم لغير الله عز وجل. فنعوذ بالله من سوء المقاصد، بل على الإنسان أن يطلب العلم ليرفع الجهل عن نفسه؛ وليعبد الله على بصيرة وليعلم الناس.
فمباهاة العلماء: أن يظهر أنه يعرف ما يعرفون، فتجد بعضهم يتكثر بالمسائل كما يقول ابن تيمية، حتى تجد المسألة فيها خلاف بسيط، أو قولان لأهل العلم، فيقول: فيها سبعة أقوال، ثم يورد الأقوال، وتجده يزبد ويرعد كأنه جمل هائج والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) وبعض الجهلة يقول: هذه المسألة اختلف فيها العلماء، وهو لا يدري أن للعلماء أصلاً فيها خلاف، وبعضهم إذا سأل في مسألة قال: فيها قولان، حتى إذا أخطأ في قول وإذا له قول آخر احتياط. حتى أن جاهلاً سألوه: ما رأيك في المسألة الفلانية؟ قال: فيها قولان، قالوا: والأخرى؟ قال: فيها قولان، قالوا: ما رأيك في الله عز وجل؟ قال: فيه قولان. وهذا مذكور في كتب أهل العلم ممن ذكره كثير منهم في التاريخ.
ومماراة السفهاء: هو مجادلتهم ومحاربتهم ومجاراتهم في السفه، فإن السفيه ليس لك أن ترد عليه، ولك أن تهجره وتتركه، وأن تعرض عنه، فإنه ممن يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً.
وأما صرف وجوه الناس: فهو الذي يحب المدح والثناء بالعلم وبنشره والعياذ بالله. وفي الحديث الآخر: (من طلب علماً مما يبتغى له وجه الله تعالى، لا يطلبه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا؛ لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة سنة) وهذه الزيادة أي: زيادة: (وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة سنة) في موطأ مالك في كتاب: اللباس، باب: ما يكره للنساء لبسه، وغير الزيادة فإنها عند أبي داود وابن ماجة وأحمد والدارمي بأسانيد صحيحة.
وقال أبو عثمان النيسابوري: من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمرَّ الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛ لأن الله يقول: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]. إن تطيعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تهتدوا، فأطلب من إخواني أن يمروا السنة على ظاهرهم، وإمرار السنة على ظاهرك أن تكون متزيناً بالسنة كقصر الثياب وإعفاء اللحية وقص الشارب والسواك، كعلامات أهل السنة الذين يظهرون بها، والباطن أن تكون متبعاً في معتقدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، متقلداً لواجبات الإسلام كالخوف والرجاء، والرغبة والرهبة والإنابة، وغيرها من أعمال القلوب، فاتباع الهوى نوع من الشرك، كما قال بعض السلف: شر إله عبد في الأرض الهوى. وقد تعوذ السلف من الهوى؛ لأنه قائد يقود صاحبه إلى النار والعياذ بالله.
فكل من تكلم في مسألة أو موضوع بدون علم أو بدون أثارة من علم أو بدون نية حسنة، تجده يناقض نفسه، ويأتي برأي تافه ويتعسف ويلوي النصوص، وقد قال سبحانه وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] وتحكيم الرسول عليه الصلاة والسلام أن يُرضى بسنته ظاهراً وباطناً، وأن تحكم أخلاقه عليه الصلاة والسلام وسلوكه وأفعاله وما ورد عنه عليه الصلاة والسلام، وأن يكون الحاكم في أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تجعله شيخك وإمامك ومربيك وأستاذك، وأن تتعلم على يديه كأنك حضرت أصحابه رضوان الله عليهم، وكأنك جاورتهم، فلا تقبل القول إلا إذا كان عليه شاهدان من الكتاب والسنة، ولا تقبل الأمر إلا إذا كان عليه بينة من بينات محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تقبل الأمر إلا إذا كان موافقاً لسنته صلى الله عليه وسلم.
وقال النووي: روِّينا في كتاب الحجة بسند صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) مع العلم أن ابن رجب وبعض أهل العلم يضعفون هذا الحديث، لكن معناه صحيح، فإنه لا يؤمن أحد من الناس حتى يكون هواه تبعاً لهوى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من رغب عن سنتي فليس مني) وكان يقول: (خذوا عني مناسككم) وكان يقول: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فعلى العبد أن يحكم الرسول عليه الصلاة والسلام، فلا يحكم أباه، ولا شيخه، ولا أستاذه، في أي أمر من أمور دينه، قال سبحانه: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء:59] فعند التنازع علينا أن نرد إلى الكتاب والسنة وأهل العلم: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7].
قضية أبينها لكم بضرب مثل ردت إلى غير أهلها، مثل قضية: التطرف، هل عند المسلمين.. هل عند أهل الصحوة.. هل عند الدعاة.. هل عند طلبة العلم.. هل عند الملتزمين والمتدينين تطرف؟ من الذي يفتي في هذه المسألة؟ نسمع كثيراً من الناس هم عوام -صراحة- لا يملكون كتاباً ولا سنة، وليس عندهم شريعة، يحكمون على الشباب بالتطرف، نقول: من نسأل؟ نسأل العلماء: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7] فنذهب إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وإلى فضيلة الشيخ محمد الصالح بن عثيمين وإلى الشيخ الفوزان وإلى الشيخ عبد العزيز آل الشيخ والشيخ اللحيدان والشيخ ابن جبرين والشيخ البراك والشيخ ابن قعود وغيرهم من مشايخنا وعلمائنا فنقول: هل هؤلاء الشباب فيهم تطرف؟
هل مثلاً: من أعفى لحيته، وقصر ثوبه، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وصام وصلى ودعا، هل هو متطرف؟
هل رأيتم في شبابنا تطرفاً؟ ما هو التطرف؟
إنا نسمع من إعلام الشرق والغرب اتهام الشباب بالأصولية والتطرف، هل هم متطرفون أم لا؟
فإن أفتونا وأخبرونا أن عندهم تطرفاً قبلناه وصدقنا، وإلا فلا نسأل غيرهم، ولا يجوز لأحد أن يتحدث غير هؤلاء في هذه المسائل، وقس عليها من أمثالها.
أيضاً: هذه الجماعات التي في الساحة لك أن تتعاون معها إذا أصابت، وإذا أساءت فعليك أن تجتنب إساءتها، حتى ولو لم تكن أنت في الجماعة، فمثلاً: أحسن السلفيون في مسألة، أو في كتاب، أو في مشروع، فقم معهم وأسندهم، أحسن الإخوان في مسألة قم معهم وأسندهم وعاونهم، أحسن التبليغيون في مسألة قم معهم وأسندهم وعاونهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم، وفي حديث عند الترمذي بسند فيه كلام: (لا يكون أحدكم إمعة، إذا أحسن الناس أحسن وإذا أساءوا أساء، ولكن وطنوا أنفسكم، إذا أحسنوا فأحسنوا وإذا أساءوا فاجتنبوا إساءتهم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
قال بعض العلماء: فليحذر من لم يتبع الرسول في أقواله وأعماله ظاهراً أو باطناً أن يطبع الله على قلبه، وأن يزين له سوء عمله فيراه حسناً، فيزداد شراً على شر، أو يصيبه الله بعقاب عاجل مؤلم لا يتخلص منه مع ما أعد له في الآخرة من النكال والإهانة.
وقال ابن كثير: فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام أن تصيبهم فتنة أي: في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة، أو يصيبهم عذاب أليم أي: في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك، ثم ذكر الحديث في الصحيحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله؛ جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل ينزعهن، ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها) رواه البخاري في الرقاق باب: الانتهاء عن المعاصي، ومسلم كتاب: الفضائل، باب: شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته.
وهذا له تفسير عند أهل السنة: أنهم الذين خالفوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد وضح لهم الأمر واستبان لهم لكن ركبوا رءوسهم وأشربوا الهوى في قلوبهم.
قال سبحانه وتعالى محذراً الأمة من الفرقة والخلاف: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1].
وقال سبحانه: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً [الروم:31-32]. قيل: شيعاً: أحزاباً وفرقاً وطوائف، وقال سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159] فأمر الله عباده أن يتقوه بفعل ما أمرهم به من الاجتماع على دينه، متحابين متعاونين على الخير، وألا يموتوا إلا وهم مستسلمون له سبحانه، منقادون لأمره، متبعون لرسوله، محبون لشرعه، كارهون لما خالف نهجه سبحانه وتعالى.
هذه من المسائل التي اختلف فيها الناس قديماً وحديثاً: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213] وإنما قلت هذا؛ لأن بعض الناس يجعل من نفسه حكماً في مسائل الخلاف، فقوله أو ما وافق قوله في وجهات النظر أو في المسائل الخلافية هو المعتبر، بل بعضهم حتى في مسائل الفروع التي اختلف فيها أهل العلم: كضم اليدين على الصدر، والجهر ببسم الله، والقراءة خلف الإمام في الجهرية، وغيرها من المسائل، فيجعل قوله هو الصحيح وقول غيره هو الخطأ، وفي مسائل أخرى فمثلاً: هل فقه الواقع ضروري أو غير ضروري؟ مع العلم أنه من قال: ضروري فلا يكفر، ومن قال: غير ضروري فلا يكفر، وأن الناس ليسوا مكلفين أن يُمتحنوا في هذا، هل فقه الواقع من الشريعة؟ هل علينا أن نتعلم فقه الواقع أو نتركه؟ هذه ليست من مسائل الاعتقاد، ولا أجمع عليها العلماء، وهي وجهات نظر، فعلى العبد إذا لم يأت منه خير أن يكف شره عن المسلمين.
فقد اختلفوا في مسائل كثيرة مذكورة في كتب أهل العلم، ومن استعرض المغني يجد أن مسائل الإجماع في المسائل الفرعية قليل، وأنَّ أكثرها مختلفون فيها، ومع ذلك تحابوا وتصافوا وتجاوروا وتزاوروا ولم تأت بينهم ضغينة. فمن الصحابة من ضم يده اليمنى على اليسرى على صدره، ومنهم من ضمها تحت السرة، وهذا لم يعب على هذا، ولم يبغض هذا، ولم يعاد هذا، ومنهم من أفطر في السفر، ومنهم من صام في السفر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، ومنهم من كان يحرك إصبعه في التشهد ومنهم من كان لا يحركها، ولم يعب هذا على هذا، إلى مسائل أخرى.
حتى في بعض مسائل المعتقد، فإن منهم من رأى أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه لما عرج به عليه الصلاة والسلام، مع العلم أن الراجح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، ومنهم من قال: إنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، ولم يعب هذا على هذا، ولم يسب هذا هذا، ولم يعاد هذا هذا، فلماذا نختلف على مسائل كهذه.
وقد سمعت أن بعض الناس في بعض المسائل في التراويح تغاضبوا في بعض الأحياء، وتهاجروا من أجل أن إماماً صلى بهم إحدى عشرة ركعة، وكانوا يرون أن يصلي بهم ثلاث عشرة ركعة، فبعضهم ترك صلاة التراويح، وذهب إلى مسجد آخر وهجر أهل هذا المسجد، وهذا من الجهل؛ فإن إحدى عشرة ركعة سنة، وورد في بعض الألفاظ ثلاث عشرة ركعة، والراجح إحدى عشرة ركعة، ولو اجتمع الناس على الأمر المرجوح لكان خيراً.
وقد ذكر الشيخ علي الطنطاوي أثابه الله: أن أناساً في بلد من البلدان تضاربوا في المسجد في صلاة التراويح، يقول بعضهم: ثلاثاً وعشرين ركعة، وبعضهم إحدى عشرة ركعة، فاختصموا وتشاجروا وبعضهم أخذ عصياً، وبعضهم تحزب في طرف المسجد فحضر عالم من العلماء، قالوا: ما رأيك يا شيخ نصلي ثلاثاً وعشرين ركعة أو نصلي إحدى عشرة ركعة؟ قال: أرى أن تغلقوا المسجد ولا تصلوا في هذه الليلة، هذا الأحسن، وصدق في فتواه فإن دخولهم بيوتهم وتركهم للتراويح على اجتماع القلوب وعلى الخير أحسن من أن يجمعوا وهم متناحرون على رأي من الآراء أو يبقوا في خصام وجدل.
وقس على ذلك زكاة الحلي فإن بعض الوعاظ دار في المساجد وقام بعد الجمعة حتى في مساجد أبها وحذر الناس وقال: انتبهوا أيها الناس لا يضللونكم الذين قالوا: إن في الحلي زكاة، بل ليس فيها زكاة. وهل هذا تضليل؟! وقد أفتى كثير من علماء الإسلام بأن فيها زكاة، وهي فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وأفتى بعضهم بأن ليس فيها زكاة. أما الذي يحذر الناس من هذه الفتوى فما أصاب، ولماذا هذا الجدال؟! ولماذا إشغال الناس بهذه المسائل؟ والمعاداة والموالاة ليستا من دين الله، قال الشاطبي: كل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها، ولم يورد ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة؛ علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت وجلبت العداوة والتنابز والتنافر والقطيعة؛ علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء، وأنها التي عني الرسول صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً [الأنعام:159] فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها، ودليل ذلك قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [آل عمران:103] فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى، فالإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين. ذكره في الموافقات وفي الاعتصام.
الجواب: لأهل العلم في هذه المسألة قولان:
ذهب أهل الرأي الأحناف والثوري رحمهم الله: إلى أن النية ليست شرطاً في الوضوء، والوضوء من باب التنظيف، فلو غسلت أعضاءك على سنة الوضوء، ولم تنو أنه وضوء؛ جاز لك عندهم أن تصلي به الصلوات، عند الأحناف والثوري وأهل الكوفة، وقالوا: هو ليس عبادة إنما هو تنظيف لنفسك.
وذهب الإمام أحمد والأوزاعي وأبو عبيد وابن المنذر والليث بن سعد: إلى أنها شرط، وهو الصحيح، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات} فلا بد لمن أراد أن يتوضأ من نية، وهو الذي وافقت عليه النصوص، وهو الراجح في المسألة، فإذا غسلت أعضاءك كالوضوء ولم تنو به الوضوء لا يجزئك حتى تنوي أنه وضوء، فمن اغتسل تبريداً أو توضأ تبريداً لا لنية الوضوء فلا يجزئه بل لا بد من النية.
الجواب: هذه هي أيضاً مما اختلف فيها أهل العلم وإنما أبينها لطلبة العلم:
فقد ذهب مالك والشافعي: إلى أن غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء مستحب، وأن من فعل ذلك فلا شيء عليه، أي: من أدخلهما قبل أن يغسلهما.
وذهب الإمام أحمد وهو قول للإمام علي بن أبي طالب ولـأبي هريرة ولـابن عمر ولـابن المنذر ولجمع من أهل العلم: إلى أنه يجب غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وهو الصحيح، دل على ذلك الحديث الصحيح: {إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
الجواب: لا لم أرده ولم يفهم الناس إن شاء الله، بل حزب الله المذكور في القرآن: أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22].
الجواب: فيه أحاديث كثيرة موضوعة ومكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأرى أن طريق الهجرتين ومدارج السالكين ورياض الصالحين والترغيب والترهيب تغني عنه، وفيه بعض اللفتات الجميلة.
الجواب: ليس فيه بأس أن يعمل أحد مع جماعة إسلامية تريد الله والدار الآخرة؛ بشرط ألا يوالي على هذه الجماعة ولا يعادي، وبشرط ألا يوجب على الناس أن يتبعوا هذه الجماعة، أو يقول: إن هذه الجماعة هي المصيبة وغيرها مخطئة، أو أن جماعة المسلمين تنحصر في هذه الجماعة ومن شذ عنها شذ في النار، فهذا لا بأس أن يتعاون معه، لكن المسلم يتعاون مع الجميع فيما يحسنون ويتجنب الإساءة في الجميع.
الجواب: تنصحه وتبين له الحق وتدعو له بالرشد والصواب.
الجواب: كان هناك وعد أن تكون هناك محاضرة، وقد دللتكم على بعض المحاضرات ككتاب الدكتور ناصر العمر، ومحاضرة للدكتور محمد عبده يماني قديماً يبين أضرار البث المباشر وماذا سوف ينقله للناس إلى غير ذلك، فعسى أن أجمع بعض الوثائق وبعض المعلومات وأذكرها لكم إن شاء الله.
الجواب: لا يجوز له أن يترك عمله ليحضر هذا الدرس، فإن أذن له رئيسه والمسئول عنه حضر، وإلا فليبق في وظيفته لأن ذاك واجب وهذا نافلة، ويمكن أن يصله الشريط الإسلامي إن شاء الله ويستمع للمحاضرة أو الدرس.
الجواب: لا. كلٌ بحسبه وبنفعه وفائدته، إن كنت تناقش هذه المسائل للنفع والفائدة في المجلس وهناك من يستفيدون أو طلبة علم متخصصون، أو وراءها فائدة فلا بأس، أما تأتي إلى أناس لا تتسع عقولهم لهذه المسائل، وتأتي إلى أناس لا يعرفون الوضوء كأعرابٍ وجهلة وتخبرهم عن ثاني أكسيد الكربون ومكونات الهواء ونسبة الهيدروجين والنيتروجين غيرها فإن هذه طلاسم، وهذه لا تصلح أن تتحدث بها وهي مضيعة للوقت [[حدثوا الناس بما يعرفون هل تريدون أن يكذب الله ورسوله]] فحدث الناس بما يعرفون، وبعضهم قد يتكلم في هذه المسائل ليتبجح وليظهر أن عنده علماً، حتى إن بعضهم يتكلم ويرطن الرطانة مع والديه العجوزين يتكلم لهما بالإنجليزي، يقول الشيخ محمد الغزالي الداعية الكبير، على أن هناك بعض الملاحظات لا يسلم منها البشر وقد بينت في كتب للفضلاء، لكن لفتات تعجب، يقول: كنت أستمع إلى صوت أمريكا مرة في الليل، وهناك برنامج عندهم ما يطلبه المستمعون، فسمعت رجلاً من العرب من بلد عربي يدرس هناك، أرسله أبوه عجوز وأمه في بادية في خيمة ينامون على زبالة، وقد أرسلوه يدرس هناك، فيقول له المذيع: ماذا تريد أن تهدي لأهلك في بلدك العربي؟ قال: أغنية شادية، قال: فعجبت لهذا الرجل خرج من بلاد محمد صلى الله عليه وسلم من بلاد الرسالة، وكان ينتظر منه أن يدعو أولئك إلى الإسلام وأن يدخلهم في دين الله زرافات ووحداناً، فذهب هناك ووالداه ينامان على قمامة وزبالة في خيمة مقطعة في الصحراء يهدي لهم أغنية شادية، وهذا فكر هابط، فقصدي: أن معلومات الناس، أو فهم الناس، أو مواقف الناس، أو إدراك الناس مختلفة، هم درجات عند ربك.
الجواب: صدقت، مؤسس دولة الموحدين ابن تومرت، ودولة المرابطين يوسف بن تاشفين، نعم، ومن الموحدين عبد المؤمن بن علي فهو قائد جيشه في الأخير، وكان في قرية مع عجوز، أمه عجوز تطعمه فقد مات أبوه، وأتى ابن تومرت يزور القرية يدعو إلى الله، فقد كان داعية كبيراً ربانياً، فوجد عبد المؤمن بن علي هذا كبير الجثة نائماً والنحل أقبل عليه من كل جهة، قال ابن تومرت: سوف يقبل عليه الجيش ويلتف كما يلتف به النحل، ثم أيقظه وعلمه القرآن وأخذه ورباه معه، فقاد جيشاً ما يقارب ثلاثمائة ألف ودخل قريته، فلما دخل قريته خرجت العجائز على سطوح المنازل يزغردن وينشدن، وتقول عجوز وهي تصيح: هكذا يدخل الغريب، فوقف الشعراء، فيقول الشاعر في عبد المؤمن هذا:
ما هز عطفيه بين البيض والأسل مثل المؤيد عبد المؤمن بن علي |
قال: احذف القصيدة وابق هذا البيت، واملئوا فمه جوهراً. فملئوا فمه جوهراً، فهذا من أخبارهم وأثاب الله الأخ، فـيوسف بن تاشفين ولي من أولياء الله وعابد فيه خير كثير.
أسأل الله أن يجمعنا بكم في دار الكرامة، وأن يؤلف بين قلوبنا، وأن يجمعنا على الحق، وأن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، وأن يجعلنا من أتباع رسوله، وأن يثبتنا على الحق حتى نلقاه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر