وفي هذا الدرس تحدث الشيخ عن شدة الموت وسكراته، وذكر أحوال بعض الذين ذاقوه من الصحابة والتابعين ثم تكلم عن أسباب تذكر الموت.
أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ومن واجب أهل الفضل علينا أن نشكر لهم فضلهم, ومن واجب أهل الإحسان أن نشكر لهم إحسانهم, فنشكر مدير هذه الثانوية بالغ الشكر, ونشكر الأساتذة الكرام، ونشكركم أيضاً لحسن استماعكم، ولتواضعكم أن تسمعوا هذه الكلمات, نسأل الله أن ينفع بها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
أما بعد:
فهذه الكلمة تدور حول الموت، وحين أخبرت بهذا الموضوع تذكرت أبياتاً في الموت للشاب العالم الزاهد حافظ الحكمي إذ يقول رحمه الله:
والموت فاذكره وما وراءه فما لأحد منه براءة |
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه |
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران |
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده |
وإن يكن شراً فما بعد أشد ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صد |
تالله لو علمت ما وراءكا لما ضحكت ولأكثرت البكا |
ومن هذه الذكرى يمر الإنسان في قافلة الموت, ويتذكر هذا المصير المحتوم, وهذه الساعة المقضية من الله على ابن آدم, ساعة الموت التي يذل فيها الجبار, ويذعن فيها العاصي, ويعود فيها المتمرد, ويتوب فيها المذنب.
ساعة الموت الأليمة التي يمر بها الملك والمملوك, والرئيس والمرءوس, والغني والفقير, وكان من الجميل بنا أن نذكر بعض قصص المحتضرين، وأخبارهم وأنبائهم؛ علّنا أن نتذكر هذا المصرع الذي لن يفوتنا أبداً, وسوف نمر به ولو طالت أعمارنا, ولو تمتعنا بالشباب والصحة, ولو زهت لنا السيارات والعمارات، ولو سكنّا في الشقق الفاخرة, ولو لبسنا الملابس الجميلة, ولو تمتعنا بالمطاعم, وجلسنا على الموائد, وتزاورنا وضحكنا كثيراً, فإنها سوف تمر بنا هذه الساعة التي تنسي ما قبلها, والتي يتذكر فيها الإنسان حسابه مع الله, ماذا فعل؟! وماذا قدم؟! وماذا عمل في تلك الساعات التي أفناها في القيل والقال, وفي اللهو واللعب, وفي الجلوس -الذي لا طائل من ورائه- في مرافقة أقران السوء, وأصحاب الانحراف الذين ما زادوه إلا ضلالاً وإعراضاً عن الله.
تلك الساعة لا بد أن نحسب لها حسابها من الآن, ولا بد أن نقف معها وقفة طويلة جداً؛ لنتذكر بماذا سنلقى الله سبحانه وتعالى وبماذا سوف نرد على الملكين؟ وماذا سنقول إذا طُرحنا في تلك الحفرة التي تعرفونها؟
ففي تلك الحفرة يتجرد الإنسان من كل شيء إلا من الأعمال الصالحة؛ يتجرد من المنصب فيدخل في قبره بلا منصب, يدخل بلا: يا صاحب الفخامة! ولا يا صاحب المعالي! ولا يا صاحب السماحة! وإنما يُدخل جثمانه في قطع بيضاء ويوسد في هذه الحفرة, ويتولى عنه الناس, ويدخل بلا سيارة وبلا إخوان وبلا خلان, وبلا زوجة, وبلا صاحب, وبلا قرين.
فإذا كانت هذه الحياة نهايتها هذه النهاية, فبدون كلفة ومشقة، وبدون هموم وغموم، الآن أنهيها, والآن أتجرع كأس الموت، والآن أرتاح من هذه الحياة.
وتوفي صلى الله عليه وسلم كما يتوفى الناس, ومات كما يموت الإنسان, ولكن بقي ذكره أبد الآبدين؛ لأنه أحسن العمل مع الله.
والإنسان يطمع في طول العمر, ويطمع في امتداد الأجل؛ لأن بعض الناس يرى أن هذه الحياة متعة, سكنى ومطعم، وملبس وزواج، وترق في المناصب؛ فيرى أن هذه الحياة أحسن من الحياة الأخرى, أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة, أولئك الذين ضلت أعمالهم, وأولئك الذين حبط مسعاهم وأولئك الذين خسروا الصفقة مع الله, فهم يريدون هذه الحياة فحسب.
وقف موسى عليه السلام فقال: يا رب! أريد عمراً طويلاً, قال الله سبحانه وتعالى: يا موسى! اختر ما شئت، وجاء ملك الموت -وهذه قصة صحيحة- فضربه موسى ففقأ عينه, فعاد ملك الموت إلى الله فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ففقأ عيني, فرد الله عليه عينه, وعاد ملك الموت ليقبض روحه, قال: يا موسى! تمنَّ ما شئت من العمر, قال: ثم ماذا؟ قال: ثم تموت, قال: الآن إذاً, فقبض روحه, ولذلك يقول أبو العتاهية:
نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح لتموتن وإن عمرت ما عمر نوح |
فإن كان هذا العمر, فلا بد من النهاية، ولا بد من المصير المحتوم.
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر |
فالتفت إليها وقال مؤنباً لها، ومؤسفاً لها، ومعارضاً لها في هذا الاستشهاد، لا والله كذب الشاعر وصدق الله: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] هذا الموقف ليس موقف قول شعر, وليس موقف محاضرات, فهذا موقف يقول الله سبحانه وتعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] ما معنى (تحيد)؟ أي: تفر, كلما أتاك المرض ذهبت إلى المستشفى, وذهبت إلى العيادة, وعرضت نفسك على الطبيب علّك تمتع, لكن إذا جاء الموت انتهى كل شيء: ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] هذا ما كنت منه تفر, وتحاول أن تلف, وتحاول أن تعرض, ولكن الآن لا منجى ولا ملجأ من الله إلا إليه, وانتهى كل شيء.
ولذلك الذكي كل الذكاء الذي يعد لهذه الساعة, ولا يغتر بالشباب, ولا يغتر بالصحة, فلا تقل: إني شاب وسوف أتخرج, وسوف أحضر بعض الرسائل, وسوف أتقلد بعض المناصب ثم أستعد للموت, فهذا هو الغباء كل الغباء, وهذه البلادة كل البلادة, ومن أعطاك عهداً من الله أنك سوف تستمر هذا العمر, ومن أعطاك من الله خبراً يقينياً أنك سوف تعيش حتى تتخرج, لا والله إن الموت معك, وإن الملك ليصاحبك، يقول سبحانه وتعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] أي: أن الموت معك لكن هناك معقبات تحفظك حتى يأمر الله, فإذا أتى أمر الله تولى عنك هذان الملكان الحافظان.
قد يأتي أجلك وأنت في الطيارة في الجو, وقد يأتي وأنت في السيارة, وقد يأتي وأنت على كرسي الدراسة تستمع وكلك آذان صاغية لما يقوله الأستاذ، وإذا بك تفاجأ وتنتقل إلى الدار الآخرة.
وعاد في فجر يوم السبت ليصلي بالناس, وكان من هديه رضي الله عنه أن يقرأ سورة يوسف، وابتدأ فيها حتى بلغ قوله تعالى حكاية عن يعقوب: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84] فضج بالبكاء رضي الله عنه، وقطع صوته في القراءة وبكى الناس خلفه, ولما ركع تقدم إليه ذلك المارد الفاجر أبو لؤلؤة المجوسي بخنجره الذي يحمل حدين مسمومين, وطعنه ثلاث طعنات, ولما طُعن قال: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. ثم هوى سريعاً في المحراب شهيداً في سبيل الله تعالى.
وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فأكمل الركعة الثانية, وصوته يقطعه البكاء لأنه علم أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد انتهى من الحياة, واستمر أبو لؤلؤة يطعن الناس يمنة ويسرة حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً, مات منهم سبعة وبقي ستة جرحى, وفي الأخير قام عمر رضي الله عنه وحمله الناس ودماؤه الطاهرة تنسكب على مناكبهم، وتنهمر على أكتافهم وهم يأخذونه إلى بيته رضي الله عنه, ويعزونه في نفسه وقد انتهى من الحياة.
ولما وضعوه على فراشه وعلى سريره في بيته؛ تقدم الصحابة يعزونه, وانظر إلى التعازي! وانظر إلى الكلمات الصادقة وحرارة الإيمان في تعازي الصحابة بعضهم لبعض!
يتقدم ابن عباس رضي الله عنه فيقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فيقاطعه عمر ويقول: لست للمؤمنين بأمير, إنني أصبحت من أهل الدار الآخرة اليوم, فيقول: السلام عليك يا أبا حفص! والله لقد أسلمت فكان إسلامك نصراً لله ولرسوله وللمؤمنين, وهاجرت فكانت هجرتك فتحاً, وتوليت فكانت ولايتك عدلاً. فبكى عمر رضي الله عنه من هذه الكلمات, وقال: إليك يا بن عباس! والله لوددت أن أنجو من الحساب كفافاً لا لي ولا عليّ, فانحرف ابن عباس رضي الله عنه يبكي.
ثم تقدم علي بن أبي طالب عليه رضوان الله, فقال: السلام عليك يا أبا حفص! والله لقد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته يقول: {جئت أنا و
ثم قال للناس: أيها الناس! أستودعكم الله وأوصيكم بتقوى الله, وقال وهو في مرض الموت: إني ما أتممت الفجر, الصلاة الصلاة.. وعيونه تترقرق بالدموع, فأتي له بلبن فشرب منه فخرج اللبن من كبده مع دمه رضي الله عنه وأرضاه, فقام وأكمل الركعة وهو في ذلك الظرف.
وفي تلك الساعة الحرجة -التي ينسى الحبيب حبيبه, والخليل خليله, وينسى الإنسان كل شيء يتقدم إليه شاب, مسبل لثوبه يجر إزاره في الأرض, فسلَّم على عمر رضي الله عنه وقبل رأسه وقال: أستودعك الله يا أمير المؤمنين! أحسن الله عزاءك في نفسك, فقال عمر: [[يا بن أخي! ارفع إزارك -يوصيه برفع الإزار وبتقصير الثوب في تلك الساعة- فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك]] فيقول: جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء, فيقول عمر: بل جزى الله الإسلام عني خير الجزاء, ثم ينتقل إلى الدار الآخرة.
فهؤلاء الأعلام لابد أن نجلس معهم ساعات ولابد أن نخلو معهم سويعات ولحظات, ونعطيهم الوقت الغالي من أعمارنا لنعيش معهم؛ لأن الذي يسكن مع من لا يتذكر سوف يبقى خامداً هامداً لا يتذكر الموت أبداً, ولا يستعد ولا تتغير حياته ولا ينقلب له منقلب, ولا يحسن العمل؛ لأنه يظن أن هذه الحياة أكل وشرب, وفلوس وزيارة, وشهادة ومنصب, ومال وولد, وهذا مغرور والله.
أما نحن لو سئلنا لقلنا: كنا نحب الحياة لنزور فلاناً أو علاناً, ولنركب السيارة الفاخرة, ونسكن في الشقة الوثيرة, ونتمتع بالمطاعم والملابس, ونتقلد المناصب, ونجمع الأموال, ونعتز بالأولاد, هذه حياتنا التي لا تفرق عن حياة البهائم إلا أننا ننطق ونعرف ونتكلم.
عمرو بن العاص أرطبون العرب وداهية الإسلام عمرو بن العاص الذي دوخ ملوك الكفر والكفار وقاتلهم حتى دخلوا في هذا الدين, حضرته الوفاة فإذا هو متجرد من دهائه وذكائه, ذهب الذكاء والدهاء, وإذا هو متجرد من منصبه وأمواله وأولاده, ذهب المنصب والمال والأولاد, وإذا هو متجرد من كل شيء إلا من العمل.
وكان معه أناس من وزرائه وأولاده وأصحابه, فحول وجهه إلى الحائط وبكى بكاءً طويلاً, فجاء ابنه عبد الله -الزاهد العابد عبد الله بن عمرو - فقال: يا أبتاه! مالك تبكي؟ -وأراد أن يحسن ظنه بالله عز وجل- يا أبتاه! أما صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أما ولاك غزوة ذات السلاسل؟ أما مدحك؟ أما صحبت أبا بكر وعمر؟ أما فتحت مصر , أما جاهدت أما فعلت؟ قال: فلما طال كلام عبد الله ابنه, وطال بكاء عمرو؛ التفت عمرو إلى الناس, فقال: أيها الناس! إني عشت حياتي على طباق ثلاث- يتكلم عن سجل حياته, يعيد لهم التاريخ مرة ثانية, من يوم ولد إلى هذه الساعة- كنت في الجاهلية لا أعرف الإسلام, وكان أبغض الناس إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, والله لو تمكنت منه لقتلته غيلة, ولو مت على تلك الحالة لكنت من أهل النار, ثم رزقني الله الإسلام فهاجرت من مكة إلى المدينة , فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجده فلما رآني؛ هش وبش في وجهي، بأبي هو وأمي, واستقبلني وقال: أهلاً يا عمرو! قال: فصحبته وأحسنت صحبته, والله ما كنت أملأ نظري منه صلى الله عليه وسلم حياءً منه, والله لو سألتموني الآن أن أصفه لكم -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم- لما استطعت, فيا ليتني مت على تلك الحالة! ولو مت على تلك الحالة لرجوت أن أكون من أهل الجنة, ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها وإن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, ثم قبض يده هكذا على لا إله إلا الله, قال ابنه عبد الله: فأتينا لنغسله فأردنا فتح أصابعه فما استطعنا فتحها, وبقيت مضمومة, فأدخلناه كفنه وأصابعه مضمومة, وأدخلناه في قبره وأصابعه مضمومة رضي الله عنه وأرضاه.
فالعدة كل العدة أن تستعد لهذا المصرع, والحزم كل الحزم أن تحفظ وقتك وأن تستعد بعمل صالح لهذا المصرع, والزكاة كل الزكاة أن تحفظ هذه السويعات التي تمر بك مرَّ الرياح والبرق الخاطف، أن تستغلها بما يقربك من الله.
الله الله! لا يغتر الإنسان بشبابه, ولا بفراغه ولا بصحته, فإن الله سبحانه وتعالى إذا أخذ أخذَ أخْذ عزيز مقتدر, وأنتم رأيتموهم ورأيناهم، شباب مترفون أقوياء منعمون, أهل أموال خرجوا من بيوت أهلهم وما ودعوا أمهاتهم ولا آباءهم, وعادوا أمواتاً, عادوا جثثاً هامدة؛ حتى ما استطاعوا أن يقولوا: السلام عليكم أيها الأهل والجيران وإلى لقاء, ما استطاعوا أن يقولوا: وداعاً, عادوا منتهين من هذه الحياة!
فالله الله لا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور!
أعدوا ما استطعتم من العمل الصالح, وهذه الدقائق تقول لك: إن الموت قريب:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان |
أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي |
إذا ليلة هرّمت يومها أتى بعد ذلك يوم فتي |
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي |
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي |
يسألونه ويقولون له: يا أبا سعيد! ما حكم كذا وكذا؟ فيقول: والله ما أدري ما تقول أيها السائل! يقول: كيف لا تدري وأنا أتكلم بالعربية؟ قال: والله لقد أنساني الموت كل شيء, ولذلك يقول الذهبي: كان سبب موت سفيان الثوري أن ذكر الموت فتت كبده, حتى عرض ماؤه على طبيب فقال: هذا الرجل لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام, هذا الرجل لا يتمتع بالحياة أكثر من ثلاث ليال, هذا رجل فتت ذكر الموت كبده, قرأ سورة التكاثر في العشاء, فبقى يرددها ويبكي حتى الصباح, وكان يبكي أهله وجيرانه من بكائه رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه علم علم اليقين, يقول الله سبحانه وتعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ [التكاثر:5] لأن علمنا بالآخرة علم ظن لا علم يقين, ندري أننا سوف نموت, وندفن الأجداد والآباء، والأمهات والإخوان، لكن هذا علم ظني نظري لم يتعمق في قلوبنا, وإلا لو تعمق في قلوبنا؛ لكنا أقبلنا على الله, واتجهنا إلى الله, وأتينا إليه بهمة وعزيمة, وحفظنا أوقاتنا مع الله, لكن نحن نعرف أننا مسلمون وأننا سوف نموت, ويقولون: هذه حياة والله غفور رحيم!! وهذه كلمات جوفاء.
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه -الخليفة الزاهد- صلى بالناس العيد, وكان خليفة لثنتين وعشرين دولة من دول الإسلام من سمرقند شرقاً إلى طنجة غرباً, ومن طاشقند شمالاً إلى جنوب أفريقيا جنوباً وهو الخليفة الوحيد في هذه المعمورة, صلى بالناس العيد وخرج رضي الله عنه، فلما مرَّ بالمقبرة؛ وقف وبكى بكاءً طويلاً, ثم قال: أيها الناس! هذه قبور الأحبة من بني أمية, هذه قبور أجدادي وآبائي، وإخواني وجيراني, هذه قبور أصدقائي, أتدرون ماذا فعل بهم الموت؟! ثم بكى طويلاً, فقال الناس: ماذا فعل يا أمير المؤمنين؟ قال: يقول -على لسان الموت-: يا عمر! إني فقأت الحدقتين, وأكلت العينين وفصلت الكفين من الساعدين, والساعدين من العضدين, والعضدين من الكتفين, والقدمين من الساقين, والساقين من الركبتين, وفصلت كل شيء على حدة, ثم بكى فبكى الناس جميعاً البر والفاجر.
هذه المواعظ التي تعطيك دروساً لا تنساها أبداً، أن تقف عند المقبرة, ولو في الأسبوع مرة واحدة لعشر دقائق لتتذكر أباك وجدك، وعمك وخالك، وأمك وجدتك، وتتذكر مصرعهم, هل تميز بين الغني والفقير, وهل تميز فضل الملك من المملوك, أين ذهبوا؟
لابد أن تقف هذه الوقفات وأن تخصص هذه الزيارات.
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً وقد صاروا أقل من القليل |
وابتعد عن الزملاء الذين يبعدونك عن الله, تريد أن تتقرب من الله فيبعدونك عنه, وتريد أن تتقرب من الجنة فيقربونك من النار, تريد أن تقترب من الهداية فيأخذونك إلى الغواية.
واجلس مع الصالحين، فعند الجلوس مع الصالحين تتنزل الرحمات من السماء, وتحفك السكينة, ويغشاك الله بفضل من رحمته, ويذكرك الله فيمن عنده.
ولذلك يمر الملائكة ثم يصعدون إلى الله فيقولون: يا ربنا! جلس أولئك القوم يذكرونك وفيهم فلان ما جلس إلا مجاملة معهم ليس منهم, قال الله سبحانه وتعالى: وله غفرت، قالوا: إنه ليس منهم, قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم, مثل هؤلاء يرحمك الله برحمتهم ولو كنت بعيداً عنهم, ومثل هؤلاء يدخلك الله معهم في رحمته.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يلقي خطبة في مسجده الميمون المبارك، والناس كلهم آذان صاغية لسماع خطبته، وفي أثناء الخطبة يدخل أعرابي فيقطع الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم, ويقول: {يا رسول الله! متى تقوم الساعة؟ فلم يقطع صلى الله عليه وسلم خطبته, واستمر في كلامه كالسيل المنحدر, فلما انتهى قال: أين تراه السائل عن الساعة؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: ما أعددت لها؟ -أي: العمل, فالذكاء ليس أن تسأل عن الساعة متى تقوم, وماذا يهمك حين يدمر العالم وينتهي، إذا كان موتك بعد لحظات أو أسابيع أو سنوات؟ ما يهمك أن تقوم الساعة, فإذا مت قامت ساعتك- قال: فما أعددت للساعة؟ قال: يا رسول الله! والله ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام, لكني أحب الله ورسوله, فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت} قال أنس رضي الله عنه راوي الحديث: فوالله ما أحببنا كلمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أحببنا هذه الكلمة, فنحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر ونرجو أن نكون معهم ولو لم نعمل بعملهم.
فالله الله بالجلوس مع الصالحين, والابتعاد عن الفسقة, والمردة, والمتهاونين بهذا الدين, والمتهاونين بالموت والحياة, ابتعدوا عنهم, واهجروهم ولو كانوا الإخوة الأشقاء من الأم والأب, يقول الشافعي رحمه الله:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة |
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة |
فيرد عليه الإمام أحمد فيقول:
تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم يرتجى نيل الشفاعة |
فأحِبَّ الصالحين, واجلس معهم, وعليك بهذه الأسباب, وتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما استطعت من النوافل؛ لأننا أصبحنا قوم كما يقول محمد إقبال: علفنا الأكل.
كان السلف الصالح علفهم الذكر, على حد تعبير محمد إقبال , وكان قربتهم إلى الله ومواردهم القرآن, والصيام والصلاة, وأصبحنا الآن علفنا الموائد الشهية, أكل وشرب وضحك وزيارات, إنهاء للوقت, وضياع للمعلومات, وضياع للصالحات, هذه حياتنا.
ولذلك قلَّ من تراه من المسلمين يصلي ركعتي الضحى التي هي صلاة الأوابين والتي تعادل 360 حسنة, والذين ينظر الله إليهم في الضحى وهم يتململون في صلاة الضحى، والناس في أعمالهم ومشاغلهم, فيغفر الله لهم.
قلّ من تراه منا يقوم آخر الليل ساعة السحر, حينما يخلون بالله وحين يناجونه, ويدعونه سبحانه وتعالى ويستغفرونه, قلّ من تراه من يتوضأ ويصلي ركعتين.
وقلّ من تراه يختم القرآن ويتعاهده كل أسبوع أو على الأقل في كل شهر, وقلّ تراه من يزور المقابر, ويجلس مع الصالحين والأولياء في كتب التراجم, إنما نشكو حالنا إلى الله سبحانه وتعالى, ونسأله سبحانه وتعالى أن يبدل حالنا بأحسن منها, وأن يردنا إليه رداً جميلاً, وأن يتولانا في من تولى, وأن يحلينا بالإيمان, وبحلية اليقين والإحسان, وأن يذكرنا المصير المحتوم, وأن يجعلنا ممن يستعد له الاستعداد الطيب, وأن يحفظ علينا أوقاتنا وأعمارنا وحياتنا.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر