أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم عليه كلما تضوَّع مسكٌ وفاح، وكلما غرَّد حمام وصاح، وكلما شدا بلبلٌ وناح، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
إذا قيل أنتم قد علمتم فما الذي عملتم وكلٌّ في الكتاب مرتبُ؟ |
وماذا كسبتم في شبابٍ وصحةٍِ وفي عُمُر أنفاسُكم فيه تُكتبُ؟ |
فيا ليت شعري ما أقول وما الذي أجيب به إذْ ذاك والأمر أصعبُ؟ |
خطبتي هذا اليوم: إلى الموظف المسلم.
أيها الموظف المسلم: إن الله استرعاك على رعية، واستأمنك على أمانة، وحمَّلك مسئولية، يقول جل ذكره: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72] وكل ما كلفنا الله به من عمل فهو أمانة، الموظف مؤتمن، والمدرس مؤتمن، والتاجر مؤتمن، والعالم مؤتمن، والقاضي مؤتمن: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته).
أيها الموظف المسلم! إنك تختلف عن الموظف الكافر تماماً، إن الموظف الكافر يعمل من أجل الدنيا، ويراقب الناس، ويخاف الناس، لا يراقب إلا هذه الحياة الدنيا، أما أنت يا مؤمن! فإن رقيبك الله، وحارسك الله، يقول تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] ويقول سبحانه: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93] قال بعض المفسرين: عن لا إله إلا الله، وقال غيرهم: عن الإيمان، وقال ثالث: عن كل ما استرعاك الله عليه. وهو الصحيح.
يا أيها الموظف! فوالذي نفسي بيده ليسألنك الله الأحد في يوم تشيب فيه النواصي عن وظيفتك وعن عملك، يقول سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] إذا كانت الذرة الحقيرة تُسأل عنها عند الله! فما بالك بقوم ضيعوا الله في أعمالهم، ونسوا الله في وظائفهم، خرجوا من الدوائر في غير طاعة، ولم يصيبوا في أعمالهم، وحبسوا المؤمنين والمسلمين بأموالهم، يقول سبحانه: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30] قال أهل العلم: تجد النفس ما قدمت من خير وما قدمت من سوء.
فماذا تقول لربك أيها الموظف المسلم إذا نَشَر لك الصحُف؟! وعَرض عليك الصحائف، ورأيت معاملتك السوداء، وخروجك من دوامك، وتأخيرك للمسلمين، وتنغيصك لحياتهم.
ماذا تقول لله تبارك وتعالى؟! ولذلك جعل الله عزَّ وجلَّ من نفسه رقيباً على العبد، يقول سبحانه وتعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيبُ |
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليك يغيبُ |
إذا أخفيت عن المسئول، أو عن الأمير، أو عن الوزير، فما أخفيت عن عين الله.
من يفعل مثل هذا الفعل؟! من يترصد مثل هذا الترصد؟! من يخدم مثل هذه الخدمة؟! إنه الصديق الأكبر، ولذلك تولى عمر فأخذ درساً من أبي بكر لا ينساه [[ ولما مات أبو بكر، قال لأهله: خذوا هذه البغلة، وهذه الثياب، والله ما لبست من ثياب المسلمين، وما أخذتُ من طعامهم، واذهبوا بهذه البغلة والثياب إلى عمر بن الخطاب، وقولوا: يا عمر! هذه بقية ميراث أبي بكر، فاتق الله يا عمر في أموال الأمة، لا يصرعنك الله مصرعاً كمصرعي]] فلما تولى عمر أصابه عام وجاع مع المسلمين، فبقي جائعاً شاحباً حزيناً محتاجاً، يقول على المنبر يوم الجمعة وبطنه يُقَرْقِر من الجوع: [[قَرْقِرْ أو لا تُقَرْقِر والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من ولاه الله أمراً من أمر أمتي فاحتجب عن خُلَّتِهم وحاجتهم احتجب الله عن خُلَّتِه وحاجته يوم القيامة} والمعنى: مَن تولى أمراً صغيراً أو كبيراً فأوصد أبوابه، واعتذر بالمعاذير عن عمله، وعطل أعمال الناس، وأخر إجراءاتهم، وأخر مقاصدهم، ومعاملاتهم، احتجب الله عنه وعن خلته وحاجته ومسألته يوم العرض الأكبر، فلا يقضي الله له حاجة، ولا يؤثره برحمة، جزاء ما نكَّد على الأمة الإسلامية.
قال: والثانية؟
قالوا: وله يوم في الأسبوع لا يخرج إلينا فيه.
قال: والثالثة؟
قالوا: لا يخرج إلينا في ليل مهما طرقنا على بابه.
قال: والرابعة؟
قالوا: إذا أصبح في مجلس الحكم أُغمي عليه حتى يُرش بالماء. قال عمر وقد ترقرقت عيناه بالدموع: اللهم لا تخيب ظني في سعيد بن عامر، قم يا سعيد!رد على نفسك -هذا حكم ومناصفة، والرعية جلوس- قال سعيد: والله لوددتُ أن أستر هذا الأمر لكن ما دام أنهم تكلموا فأما قولهم يا أمير المؤمنين: أني لا أخرج إلا إذا تعالى النهار، فامرأتي مريضة وليس لي خادم، فأجلس في بيتي، وأصنع طعام إفطاري، وأصلي الضحى، ثم أخرج إليهم.
قال: والثانية؟
قال: وأما قولهم: لا أخرج لهم بليل، فقد جعلتُ لهم النهار، وجعلتُ لربي الليل أصلي وأدعو الله حتى السحر.
قال: والثالثة؟
قال: وأما قولهم: إن لي يوماً لا أخرج فيه إليهم، فيوم أغسل ثيابي فيه.
قال: والرابعة؟
قال: وأما الرابعة فإنني حضرتُ مقتل خبيب بن عدي في مكة وأنا مشرك وهو مسلم فما نصرتُه، فكلما تذكرتُ ذاك اليوم أُغمي علي، فتهلل وجه عمر وقال: الحمد لله الذي لم يخيب ظني فيك، قال سعيد بن عامر: يا أمير المؤمنين! والله لا أتولى لك ولاية بعدها أبداً.
ثم ترك الولاية وخرج، ولكن ما تركه عمر يخرج حتى حاسبه في الأموال وفي الخزائن وفي الأحكام، وعرض عليه الدواوين، فوجده ما أخذ درهماً ولا ديناراً، وإنما خرج كما دخل، بصحفة وشملة وعصا.
هؤلاء أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام.
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناهُ |
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناهُ |
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناهُ |
ونركب الجو في أمن وفي دعةٍ فما سقطنا لأن الحافظ اللهُ |
كن كالصحابة في زهد وفي ورعٍ القوم هم ما لهم في الناس أشباهُ |
عُبَّاد ليل إذا جنَّ الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراهُ |
وأُسْدُ غابٍِ إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ |
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيِّدوا لنا مجداً أضعناهُ |
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
أما بعد:
فإن الموظف المسلم إذا صدق مع الله كسب أموراً:
منها الدعاء له الذي هو من أعظم الأعمال عند الله، والثناء الحسن يرسله الله للمخلص الصادق، فيدعون له بالتوفيق والهداية، ويدعون له بالتسهيل كما سهَّل أعمالهم ومعاملاتهم، والموظف الصادق يسهل الله عليه الحساب يوم العرض الأكبر، وانتفاعه من ذلك العمل كما يسر على المسلمين أمورهم ييسر الله عليه أمره يوم الحساب.
وبعضهم إذا حضر كانت تصرفاته غير سليمة، لا يتعامل بالخلق الحسن، ولا بالرحمة، ولكن تجده معسراً معتباً شرساً متكبراً على عباد الله؛ وهذا لقلة الإيمان في قلبه؛ ولأنه ما عرف سيرة محمد عليه الصلاة والسلام ولا سيرة أصحابه.
ومنهم من يخرج أثناء الدوام فيترك وظيفته وعمله، ويخرج في أمور ذاتية شخصية لبيته ولأغراضه الخاصة، يخرج إلى المستشفى أو السوق، وما عمل عمله، فقد خان الأمانة إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
ومنهم من لا يراعي الله عزَّ وجلَّ في أعمال المسلمين، فيحيف، وربما ينسى الإنصاف في المعاملة؛ فيقدم قريبه وحبيبه ويُبعد هذا ويُقرب هذا لأمور دنيوية سوف يُسأل عنها يوم يبعثر ما في القبور ويُحصَّل ما في الصدور.
والذي ينتظر مراقبة المسئول الذي فوقه ولا يراقب الله ليس بمؤمن، أتراقب العبد ولا تراقب المولى؟! أتراقب الضعيف ولا تـراقـب القـوي؟! يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108].
وإذا خلوت برِيْبَة في ظُلْمَة والنفس داعيةٌ إلى الطغيانِ |
فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني |
أيها الموظف المسلم: استحل راتبك بالعمل الصالح الصادق، ارحم أمة محمد عليه الصلاة والسلام، اصدق مع الله؛ لتنال من الله عزَّ وجلَّ المثوبة والأجر، ومن المسئولين الشكر والثناء، ولتنال من أمة الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء.
وفقك الله، وسدد الله خطاك، وتولاك في الدارَين، وبصَّرك يوم تعمى القلوب.
عباد الله: وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: (مَن صلى عليَّ صلاة واحدة، صلى الله عليه بها عشراً) وقال عليه الصلاة والسلام: (أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليَّ، قالوا: يا رسول الله! كيف تعرض عليك صلاتنا؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء).
اللهم فصلِّ وسلم عليه ما ذكره الذاكرون وغفل عنه الغافلون، اللهم صلِّ وسلم عليه ما شَدَت الأطيار وما ترعرعت الأزهار وما تباسقت الأشجار، صلاةً وسلاماً دائمَين أبديين تصله في روضته صلى الله عليه وسلم.
اللهم وارضَ عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وما ترضاه، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق الأمراء والوزراء والمسئولين والموظفين والعلماء والقضاة لكل خير، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم فقههم في دينك، اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم يا رب العالمين!
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم تب عليهم وكفِّر عنهم سيئاتهم يا رب العالمين!
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر