اللهم لك الشكر؛ لكن أحسنه وأجمله.
اللهم لك الثناء؛ لكن أكمله وأتمه.
اللهم لك المدح؛ لكن أبلغه وأحلاه.
والصلاة والسلام على الصفوة المصطفى، والأسوة المرتضى، والسيف المنتضى، والإمام المجتبى، ما هدى نوق، وقام سوق، وأُديت حقوق، وعلى آله ومن سار على منهجه إلى يوم الدين.
فتالله لو أن السماء صحيفة بها الشكر يُروى والثناء يرتبُ |
وأشجارنا الأقلام والبحر حبرنا ونحن طوال الدهر نملي ونكتب |
لما بلغوا في كنه شكرك ذرة ولو دبَّجوا فيك المديح وأغربوا |
أشكركم شكراً جزيلاً على حسن الضيافة والاستقبال.. أشكر دعاتكم وأمجادكم وخطباءكم، وأسأل الله أن يجعلني خيراً مما تظنون، وأن يغفر لي ما لا تعلمون.
عناصر المحاضرة:
-تحية السمو.
-بطاقة السمو.
-برقيات عاجلة.
-نفوس سمت شوقاً إلى الله.
-التعالي عن الصغائر والترفع عن الرذائل.
-تحدي المصاعب والانتصار على الأزمات.
-صعودٌ أبداً وتفوقٌ دائماً.
ولأن خطيبكم قال شعراً، ولأن مُقدمكم قال كلاماً جميلاً، فجزاء التحية تحيةٌ مثلها أو أحسن منها، اخترنا لكم هذا العنوان، ليوافق سموكم، ويناسب قدركم، ويحيي جهادكم، ويهتف بسجاياكم، ولأنكم من أهل السمو، فأحببنا أن نحدو لكم حداء الأبطال، وأن نُتحفكم يا صفوة الرجال، لتسافر الآمال إلى آفاق الجلال.
ولأنكم أبناء الفاتحين، وأحفاد المجددين، وسلالة القادة، وأتباع الأبرار، وبقية الأخيار، حرصنا على إلهاب هممكم الماضية، والإشادة بهاماتكم العالية، وعزائمكم السامية.
وهذه مقطوعة المسك من أريجها فوَّاح، والبلبل من نغمتها صدَّاح، يا أهل الفلاح والصلاح والنجاح.
كل شهم منكم رمز فتوه السما تروي إلى الأرض سموه |
همم لو أن للدهر بها معهداً لم يملك الدهر عتوه |
غيركم في لهوه قد جمحت نفسه يهوي بها سبعين هوه |
وأراكم صفوة صادقة فيكم الحق وآثار النبوه |
دعوة بل صحوة بل وثبة في صفاء ووفاء وأخوه |
حيث الشهامة مضروب سرادقها بين النقيضين من عفو ومن نقمِ |
وللرسالة أنوار مُقدسةٌ تجنو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَمِ |
وللأخوة آيات تنص لنا على الخفيين من حُكْمٍ ومن حِكَمِ |
وللمكارم أعلامٌ تُعلَّمنا مدح الجزيلين من باكٍ ومن كرمِ |
وللعلا ألسن تثني محامدها على الحميدين من فعلٍ ومن شيمِ |
1- الدأب في العمل.
2- محاولة التجربة.
3-تصحيح الخطأ.
1- أكل الطيب.
2- كف الأذى.
3- نفع الآخرين.
1- لا ترهب المواقف.
2- لا تتعاظم الخصوم.
3- لا ترض حياة الذل.
1- الدناءة.
2- الخسّة.
3- سقوط المنزلة.
1- عدم الإتقان.
2- ضعف البنيان.
3- هشاشة الأركان.
1- كفر الجميل.
2- خسة الطباع.
3- نجاسة الآثار.
1- الأمانة في النقل.
2- سمو الهمة.
3- حمل هم الدعوة.
قال أبو معاذ الرازي: " مسكين من كان الهدهد خيراً منه ".
والهدهد احتمل الرسالة ناطقاً أهلاً بمن حمل اليقين وسلَّما |
ما هي بضاعتك؟!
ماذا أعددت لذلك اليوم؟!
فيا ليت شعري ما نقول وما الذي نُجيب به إذ ذاك والأمر أعظمُ |
إنها نفوس تاقت إلى الله، وسمت إلى الحي القيوم!!
كنت أعددت طرحاً شعرياً لهذه المحاضرة، فتذكرت أني قدمت ألبوماً بعنوان: (القمم لأهل الهمم) فآثرت أن أُمازجه بكثير من الأدب، فسماحاً للقافية، وعذراً للبيت والروي، ولنسافر مع أدب؛ لكنه صادق، ومع شعر؛ لكنه مؤمن، ومع قافية؛ لكنها مسلمة.
وقف مجاهد مؤمن في عصر الصحابة على جبال الأفغان، على مشارف كابل، فقال:
فيارب لا تجعل وفاتي إن أتت على شرجع يُعلى بخضر المطارف |
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة يُصابون في فجٍّ من الأرض خائف |
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وساروا إلى موعود ما في المصاحف |
يقول: يا رب! لا تعدني إلى غرفتي الضيقة، إلى سريري المزين بالمطارف، إلى زوجتي الجميلة، لكن قطِّعني في سبيلك إرباً إرباً، وهذه في أبجديات الموحدين، وفي دواوين المخلصين، قالها طلحة وغيره، فيقول أحدهم مستلهماً جلال الله وعظمته، ثم تفيض دموعه ثم يقول: [[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]].
لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال فيه وقد رآه بذّ الهيئة رثَّ الثياب: {رُبُّ أشعث أغبر ذي طمرين، لو أقسم على الله لأبره، منهم
فأقسم على الله يوم تستر أن يُقتل شهيداً، فقتل شهيداً.
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وطعنة ذات فرغ تقذف الزبدا |
وقتل في مؤتة، والقبر هناك، ولكن سريره دخل إلى جنات النعيم، ورآه بعينيه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
وقِسْ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث حسن لـعمر وقد رآه لبس ثوباً أبيض قال: {البس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً} فرزقه الله سمواً في الدنيا؛ عدلاً في الرعية، ورحمة بالأمة، وزهداً في نفسه، ثم توفاه شهيداً في المحراب، وعلى ذلك سار السلف.
وانظر إلى بعض الصالحين، يُرسل نشيداً إلى الواحد الأحد، لكن ينظمه بحبات قلبه، يقول أولاً نثراً:
يا رب! إن أحبَّ كُثَيِّرٌ عَزَّة، وأحبَّ غيلان مية، فاجعل حبي فيك.
يا رب! إن أحب عنترة عبلة، وأحب قيس ليلى، وأحب الآخر سلمى، فاجعل حُبي لك وحدك، ثم نظَمَها شعراً فقال:
إذا كان حُبَّ الهائمين من الورى بـليلى وسلمى يسلب اللب والعقلا |
فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي سرى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى |
أُفٍّ على الوتر.. أُفٍّ على الناي.. أُفٍّ على الغناء.. أُفٍّ على الضياع.. أُفٍّ على حياة اللهو والغرام والهيام، إن لم تكن المحبة للواحد العلام، الذي بنى دار السلام، فلما انتهى من بنائها قال: تكلمي وعزتي وجلالي، قالت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2] قال: وعزتي وجلالي، لا يجاورني فيك بخيل.
هذه مسيرة الصالحين، ولكن ينحرف بعض الناس إلى هواه، إلى العيون السود، إلى الخدود، فيقول ابن زُريق في بغداد وهو هائم بامرأة:
لا تعذليه فإن العذل يوجعه قد قلت حقاً ولكن ليس يُسْمِعه |
ثم يقول: آه، ثم يموت.
سؤال نُقدِّمه لأهل السمو، وأهل العزائم والهمم؟!
قالوا الهوى والحب هل تعنو له أم أنت في أرض الهوى متجلد |
قلت المحبة للذي صنع الهدى فحبيب قلبي في الحياة محمد |
اللهم اجعله حبيبنا، بعد حبك لنا وحبنا لك يا أرحم الراحمين!
قال عز وجل: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54].. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119].
يقول ابن عمر وروحه تُسافر في مجمع من الناس، وقد حدَّثته بالخلافة وهو زاهد عابد، قال: [[قام فينا
أنست بوحدتي ولزمت بيتي فدام لي الهنا ونما سرور |
وأدبني الزمان فلا أبالي هُجِرت فلا أُزار ولا أزور |
فلست بسائلٍ ما عشت يوماً أسار الجيش؟ أم ركب الأمير؟ |
هذا الذي يقول:
يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما |
إلى أن يقول:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما |
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا مُحياه بالأطماع حتى تجهما |
ممن سمو البخاري صاحب الصحيح رحمه الله، يقول: " رأيت الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام، وكأنه يرفع خطوة، وأضع قدمي مكان قدمه، فسألت أهل العلم وأنا شاب، فقالوا: أنت تحفظ سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ".
ويقول: " ما اغتبت مسلماً منذ احتلمت! "
منذ أن احتلم ما اغتاب مسلماً، فقل لي بالله، يا من أكثر من الغيبة والوشاية والنميمة واستحلال الأعراض: كيف نُقارن بينك وبين البخاري؟!
وقال الشافعي صاحب الهمة العالية: " ما كذبت منذ علمت أن الكذب يضر أهله ".
ما كذب في هزلٍ ولا جدٍ ولا ليلٍ ولا نهار.
ويقول: " ما حلفتُ بالله صادقاً ولا كاذباً ".
وقد كان على كسرة الخبز، وامتلأ بيته باللخاف والجريد والصحف حتى كاد هو وأمه يخرجون خارج البيت وهو يطلب العلم، يقول وقد عُرضت له القناطير من الذهب من هارون الرشيد.
أمطري لؤلؤاً سماء سرنديب وفيضي آبار تكرور تبرا |
أنا إن عشت لست أعدم خبزاً وإذا مت لست أعدم قبرا |
همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا |
ما هو المجد إذاً؟
قال أهل العلم: المجد والسمو في ثلاث:
1/ أن تمرغ وجهك ساجداً لله.
2/ وأن تأكل الحلال.
3/ وأن تكون سليم الصدر، ثم لا يضرك ما فاتك من الدنيا، من دورها، وقصورها، وذهبها، وفضتها.
جلس مُحدِّث من المحدثين الكبار -ذكره الذهبي وغيره- فرأى ألف محبرة، وألف عمامة أمامه، كلهم يطلبون الحديث، مع كل عمامة قلم مع كل قلم محبرة مع كل محبرة كتاب مع كل كتاب دفتر؛ فدمعت عيناه، وقال: هذا والله الملك، لا ملك المأمون والأمين، ثم أنشد فرحاً:
إني إذا احتوشتني ألف محبرة يروون حدثني طوراً وأخبرني |
ناديت في الجمع والأقلام مشرعة تلك المكارم لا قعبان من لبن |
تلك المكارم لا قعبان من لبنِ وهكذا السيف لا سيف بن ذي يزن |
يقول: أنت السيف! أنت المنتصر بإذن الله، أنت فخر الإسلام! لا سيف بن ذي يزن الجاهلي المشرك.
حاتم قصة من البذل.. قصة من السمو.. قصة من الجود.. حاتم تهب الرياح النجدية فتلعب بالبيوت، وينضوي البخيل كالكلب في بيته؛ ويخرج حاتم، ويقول لغلامه: التمس لي ضيفاً، فإن أتيت هذه الليلة الشاتية -ليلة الجوع والفقر والجدب والقحط والسنة- إن أتيت بضيف فأنت حر وأنت طليق، ثم يقول له:
أوقد فإن الليل ليل قرُّ |
والبرد يا غلام برد صِرُّ |
إذا أتى ضيف فأنت حُرُّ |
يقول:
أمَا والذي لا يعلم الغيب غيره ويُحيي العظام البيض وهي رميمُ |
من هو؟
إنه الواحد الأحد.
لقد كنت أطوي البطن والزاد يُشْتَهى مخافة يومٍ أن يقال: لئيم |
فهل طوينا بطوننا لآلاف الجائعين في أفغانستان وفلسطين وفي كشمير وفي البوسنة؟
هل اقتصدنا في نفقاتنا؟
وهذا حاتم في الجاهلية يقول: والله إني أطوي بطني وأنام جائعاً، وأترك الخبز، وأترك اللحم؛ لئلا يُقال: بخيل، وهو لا يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً، فكيف بمن صلَّى الخمس، وصام الشهر، وحج البيت؟!
هذه من مدرسة حاتم.
يقول في أخلاقياته الشريفة التي ذكره بها صلى الله عليه وسلم: أنا من صفاتي أني لا أُسابق حتى بالبغلة، أُعلِّمها الإيثار، بغلتي لا أُقدمها تشرب الماء من الحوض قبل أصحابي، بل أعلمها الأدب، لئلا تشرب قبل بغال الناس، فقل لي عن نفسي ونفسك ونحن في دائرة الإسلام ودائرة السنة: هل آثرنا جيراننا والفقراء والمساكين؟!
واسمعوها نظماً من نظم حاتم:
وما أنا بالساعي بفضل لجامها لتشرب ماء القوم قبل الركائبِ |
ثم يقول في أدب آخر، أنثره ثم أنظمه، يقول: إذا مشيتَ مع قوم وأنت على ناقة، ومعك زميل يمشي على الأرض فاحذر! أرْكِبْه أو انزل معه، لا تركب وهو يمشي، أين الأخلاقيات؟! أين السمو؟! قال:
إذا كنت رباً للقلوص فلا تدَعْ رفيقَك يمشي خلفها غير راكبِ |
أنخها فأركبه فإن حملتكما فذاك وإن كان العقاب فعاقبِ |
وأنخها: أي: الناقة.
وقد جاء محمدٌ صلى الله عليه وسلم بالأخلاق ناصعة مشرقة طاهرة زكية لوجه الله، فقال في صحيح مسلم: {من كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، ومن كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له}.
حدثني دكتور البارحة في مكة قال: وجدتُ أن الثراء الفاحش مع قلة الدين والفسق، إنما هو طغيان على الأمة.
ثم قال: كان طالب في مكة من تشاد معه سيارة مهلهلة مفلفلة، كأنها من الحرب العالمية الأولى، ولا تساوي خمسة آلاف، وكان من حسن أدبه وسلامة صدره، يوصل إخوانه وزملاءه إلى حاراتهم بهذه السيارة، فأين أهل الشبع وأهل الغنى والثراء؟ الذين يعيشون فحشاً وظلماً وفسقاً في الضمائر، إنها القلة مع الجود، وليست الكثرة مع البخل، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيما يُروى عنه: {لا يُؤمن من بات شبعان وجاره جائع}.
أما عروة بن الورد، وقد ذكر قصته وأبياته عالمنا وشيخنا الإمام المجدد عبد العزيز بن باز رحمه الله في كتاب القومية العربية ويضربها لنا -مثلاً- فيقول عن عروة: هذا جاهلي وأنت طالبُ حديثٍ ويُقرأ عليك صحيح البخاري وصحيح مسلم صباح مساء، فاستشْهِد بهذا وانظر إلى هذه المُثُل- فيقول عروة:
أُوَزِّع جسمي في جسومٍ كثيرةٍ وأحسو قراح الماء والماءُ باردُ |
أتهزأ مني أن سمنتَ وأن ترى بوجهي شحوبَ الحق والحق جاحدُ |
يقول: أتهزأ مني لأنك سمين وأنا نحيف؟
نعم! أنا نحيف وأنت سمين، لكن -والله- طعامي يحضره سبعة وثمانية وأنت تأكل الكبسة وحدك، والكبش المُضَبَّى وحدك، فيقول:
أُوَزِّع جسمي في جسومٍ كثيرةٍ وأحسو قراح الماء والماءُ باردُ |
صُنِعَ للربيع بن خثيم طعاماً خبيصاً، والخبيص إذا أكلته رأيت مصر، فهو شيء مذهل، معه فستقٌ وزبيبٌ وعسلٌ ولبابُ البُرِّ ولحمُ الماعزِ الفاخرِ يُقَدَّم لك في جفنة، بعد أن تجوع ثلاثة أيام، فإذا أكلت قلت: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل!
قُدِّم للربيع بن خثيم العابد الزاهد وهو جائع، تكاد أضلاعه تختلف، فلما قدموا له الجفنة، وإذا بمسكين يطرق على الباب، وهذا امتحان وابتلاء من الله، إما أن يُقدمه للمسكين أو لنفسه، فقال: تفضَّل كُلْ! فقدم المسكين، فأكل أكل والي اليتيم ولاية السوء، قال: فصنع له أهله مرة ثانية خبيصاً وتعبوا، ولما قدموه ليأكل إذا بمسكين يطرق الباب، والربيع بن خثيم آية في الصدق والصلاح والطهارة والزهد، فقال: أدخلوه، فأكل، فلما أكل الثاني وقد كان أعمى، قال له أهله: والله ما يعلم هل هو خبيص أو لا؟ -أي: الأعمى- قال: لكنَّ الله سبحانه يعلم، فقالوا له: كيف؟
قال: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] ثم قال: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].
يقول أحد الخطباء في العصر العباسي: إذا أعجبتك وجبة شهية، فقدمها للفقير فإنك سوف تأكلها في الجنة، ولا تأكلها أنت، فإنك سوف تُلقيها في بيت الخلاء، وهذا من فقهيات سمو الهمم.
تنكر لي خصمي ولم يدرِ أنني أَعُّز وأحداث الزمان تهونُ |
فبات يريني الخصم كيف اعتداؤه وبت أُريهِ الصبر كيف يكونُ |
تلوت هذين البيتين على فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، فصحح لي مساراً في البيتين، لأن فيها خطأ فقلت:
تَنكَّر لي دهري ولم يدرِ أنني أعز وأحداث الزمان تهون |
وصدق ابن عثيمين وأنا معه، وأنسخ من الآن البيتين، وأرد كلمة (دهري) والبيتان في ديوانه، وأقول:
تنكر لي خصمي ولم يدرِ أنني أعز وأحداث الزمان تهونُ |
فرحم الله ابن عثيمين، ورحم الله المظفر الأبيوردي الشاعر الكبير المطبق.
وابن رشيد الأندلسي وعَظَ النصارى في الأندلس، فقيدوه فلطموه وجلدوه وحبسوه، فقال:
إن كان عندك يا زمان بقية مما يهان بها الكرام فهاتِها |
يقول: بقي القتـل تعال بالقتـل، حيَّا الله القتل في سبيل الله فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36].
قيل لـابن عباس: كيف حصلت على هذا العلم؟
قال: [[بتوسد ردائي في القيلولة، والريح تَسُفُّ على وجهي، وتهب عليه من الرمل ومن وهج الصحراء ثلاثين سنة]].
وقيل لـعطاء -وقد ذكر هذا الذهبي -: [[كيف حصلت على هذا العلم؟ قال: بتوسدي فراشي في المسجد الحرام ثلاثين سنة]].
لا يعرف بيته ثلاثين سنة، وهو يطلب العلم.
وأحدنا يدخل في الكلية سنتين أو ثلاثاً ثم يخرج وهو جاهل، ثم يرى أنه إمام الدنيا، وحافظ العصر، وخاتمة المجددين!! حتى يقول أحدهم:
ودخلت فيها جاهلاً متواضعاً وخرجت منها جاهلاً دكتورا |
يقول: كنت في الأول جاهلاً متواضعاً، أُسلِّم على رأس أبي، وأُقبِّل كف أمي، وأجلس مع زملائي، فلما درستُ أربع سنوات، تكبرت مع جهلي فصرت جاهلاً متكبراً أحمل شهادة الدكتوراه.
حتى إن أحدهم هنَّأ أحد الدكاترة وهو يمزح معه فقال:
يا شيخ قد سُمِّيت دكتورا والثور يبقى وإن ألبسته ثَورا |
وسامحونا على هذا اللغط الخطابي، فلا بد فيه من المسيرة، وأنا أحترم هذا اللفظ خاصة بعدما أعطيناه وإلا فقد كنا نهاجمه قبل، ونقول عنه: إنه لا يصلح، ويقولون: حامض يا عنب، فلما حصلوا عليه مدحوه.
وقيل للشعبي: بِمَ حصلت على هذا العلم؟
قال: بسهرٍ طَيَّر النوم من عيني، وبسهاد، وبتبكير كتبكير الغراب.
أطاعن خيلاً من فوارسها الدهرُ وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبرُ؟! |
إلى أن يقول:
فلا تحسبن المجد دُفَّاً وقَينة فما المجد إلا السيف والفَتْكة البكرُ |
إلى أن يقول:
وتركك في الدنيا دوياً كأنما تداول سمع المرء أنمله العَشْرُ |
لكنَّ الموحدين لهم نظام في الأمنية غير نظام المتنبي وأبي مسلم الخرساني والحجاج قاتلهم الله، أنت أمنيتك أن تموت على (لا إله إلا الله) ولو كنت غريباً وحيداً معزولاً كما في دفتر الزبيري:
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا |
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا |
لا يدرك المجد إلا سيدٌ فطنٌ لما يشق على السادات فعَّالُ |
لولا المشقة ساد الناسُ كلهمُ الجود يفقر والإقدام قتاَّلُ |
إن طريق السمو فيه مشقة وأول السمو يبدأ عندنا بصلاة الفجر، فمن لا يحضر صلاة الفجر فليس من أهل السمو ولا المعالي ولو زُفَّت له الدنيا، وصفقت له البنود، وهتفت له الجنود، وارتفعت عليه الأعلام، وسُدِّدت أمامه السهام.
أبداً أبداً.. تبدأ رحلتنا من صلاة الفجر، انطلاقتنا الكبرى من صلاة الفجر.. من تكبيرة الإحرام، من حديث جندب بن عبد الله البجلي في صحيح مسلم: {من صلَّى الفجر فهو في ذمة الله، فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه أدركه، ومن أدركه كبَّه على وجهه في النار}.
مِن المحراب ننطلقُ وللخيرات نستبق |
مِن صلاة الفجر، مَن لا يصلي الفجر جماعة بلا عذر شرعي فلا تظنه من أهل السعادة والسمو إلا أن يشاء الله.
طرق عليه جابر بيتَه في مصر فخرج الصحابي لـجابر بن عبد الله فسأله عن حديث الحوض؟ فأخبره، وقال: ادخل، وتفضل، حيهلاً بك وسهلاً، قال جابر: رحلتي إلى الله، والله لا أجلس أبداً وأعود، فمشى شهراً وعاد شهراً، غدوُّه شهر، ورواحُه شهر.
وموسى ضرب أروع الأمثلة في طلب العلم وهو نبي معصوم يُوحى إليه وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً [الكهف:60].
يقول الزمخشري المعتزلي، لكن أنت حوِّلها إلى سُنِّية سلفية هادية، يقول:
سهري لتنقيح العلوم ألذُّ لي من وصل غانية وطيب عناقِ |
في قصيدة ماتعة، يقول: لأن أسهر مع الأوراق ومع الكتب أحسن عندي من أن أُعانق امرأة جميلة، أو أخلو بجارية جميلة حلَّت، وإن تاقت نفسي.
فالسني خلوته مع صحيح البخاري وصحيح مسلم أحسن من ملك الدنيا جميعاً.
طلب شريك العلمَ أربعين سنة، قال: طلبتُ العلم والله ما كان زادي في اليوم إلا كسرة خبز، فحضر في مجلس فيه وزير عباسي، والوزير قد غاص في الركايا والكنبات والطنافس، فأتى شريك بحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال الوزير: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [المؤمنون:24] قال له شريك وكان سريع البديهة: من أين تسمع بهذا وأنت تأكل الخبيص، وتجلس على الطنافس، وتغنيك الجواري؟!
وهذا ليس من طريق أهل المعالي.
وشريك سريع البديهة! يقول لأحد خلفاء بني العباس، وقد عرَّض به الخليفة بقوله: أنت تحب علياً؟ قال: أُحبه حتى النخاع أو الدماغ.. أو كما قال.
قال: أُوَّاه من يوم عليك، أظنك زنديقاً؛ لأن المهدي إذا أراد نسف رأس رجل، أو جعله كأنه مخلوق بلا رأس، أو إعدامه بالمقصلة، قال: أنت زنديق.
قال: الزنديق له ثلاث علامات قال: ما هي؟
قال:
-يترك صلاة الجماعة.
-ويشرب النبيذ.
-ويستمع الجواري.
يقصده، قال: كأنك تعرِّض بي! أي: تلمِّح، قال: لا أُعرِّض بك بل أقصدك.
هذا من فقهيات شريك رحمه الله.
يقول ابن عبد البر عن نفسه: "مكثت مع كتاب التمهيد ثلاثين سنة".
اسمعوا الصبر يا أهل الصبر! ثلاثون سنة مع الكتاب، يكتبه ينسخه، يشرحه، ثم يقول:
سميرُ فؤادي من ثلاثين حِجة وصيقل ذهني والمفرج عن همي |
إلى آخر ما قال.
وقد نظَمت أربعة أبيات من باب التشبه كما يفعل الكتكوت أو الفرُّوخ الصغير من الدِّيَكة، إذا سمع ديكاً كبيراً يصيح فيقلده، فسامحونا على جهدنا وطاقتنا وضعفنا، فقد قلت قصيدة أكثر من مائتي بيت، هي مذكرة للحياة اسمها: (يوم يغني الدمع) قلت:
ثلاثون عاماً والكتاب مرافقي وقد صانني عن كل لهو وغفلةِ |
طبعاً كلكم يقرأ مثلما أقرأ، لكن الشاعر لا بد أن يقول كلاماً:
ثلاثون عاماً والكتاب مرافقي وقد صانني عن كل لهو وغفلةِ |
ثلاثون عاماً والدفاتر صحبتي وأُنسي دواتي واليراع مطيتي |
ثلاثون عاماً كلما قلتُ قد كفى لأرتاح في داري وأحصو معيشتي |
أبت همتي إلا صعوداً إلى العُلا إذا انهد جسمي صار في القلب قوتي |
فاحسبوها مزاحاً إن شئتم، ومَن أحْسَنَ بنا الظن فليَعُدَّها جِدَّاً.
دعاني أخي والخيل بيني وبينه فلما دعاني لم يجدني بقعدد |
فطاعنتُ عنه الخيل حتى تبددت وحتى علاني حالك اللون أسود |
حالك اللون أسود: أي: الدم.
وهذه من أرقى وأجمل القصائد، حتى أن أبا تمام جعلها في الحماسة.
طعان امرئ آسى أخاه بنفسه ويعلم أن المرء ليس بمخلدِ |
وخفف وجدي أنني لم أقل له كذبتَ ولم أبخل بما ملكَت يدي |
وجدي: أي حُزني على أخي.
فبكى هو وأمه حتى كادت روحه تذهب.
هذه من قيم الجاهلية؛ أما قيم أهل الإسلام فإنها متمثلة في سير الصالحين رضوان الله عليهم، في سبعة أسياف تُكسَّر في يد من؟
في يد خالد بن الوليد، وفي تسعة أسياف يُطعن بها محمد بن حميد الطوسي، فيقول له أبو تمام:
تردَّى ثياب الموت حُمراً فما دجا لها الليل إلا وهي من سندس خضرُ |
فتى كلما فاضت عيون قبيله دماً ضَحِكَت عنه الأحاديث والذكرُ |
أختم كلامي بقصة قصيرة في سمو الهمم عند بعض الناس:
عمر بن أبي ربيعة: شاعر غزل، يظن أن الدنيا اختُصِرت في امرأة، ويظن أن العالم يقف معه، ويبكي من أجل العيون السود، يظن أن الكون بأجمعه مُوَلَّه معه بفتنة النساء، ولم يدرِ بجنات ونَهَر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
حورٌ، وأرائكُ، ولباسٌ، ونعيمٌ، وأجلُّه النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى في دار الكرامة.
وابن أبي لهب: أيضاً شاعر في صدر الإسلام.
وابن عمر: من مدرسة محمد عليه الصلاة والسلام.
هؤلاء ثلاثة.
يقول ابن عبد البر: مر الثلاثة بالشيب، وقد أمر معاوية ألا يدخل أحد إلى الحرم إلا بإذنه، والجنود حرَّاسٌ على الأبواب، عندهم أمر من الخليفة معاوية ألا يدخل أحدٌ إلى الحرم؛ لأنه يريد أن يطوف هو قبل الناس؛ لأنه خليفة وملك، فمرَّ ابن أبي ربيعة في ظلام الليل، قال الحراس: من أنت؟
قال بجواب يحوي بطاقته الشخصية في بيتين:
بينما يذُكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر |
قال تعرفن الفتى، قُلن نعمْ قد عرفناه، وهل يخفى القمر؟! |
قالوا: تفضل.. ادخل! فدخل.
فأتى ابن أبي لهب، وهو شاعر ثانٍ، فقالوا: من أنت؟ قال، وهو أسمر:
وأنا الأخضر من يعرفني أخضر الجلدة من نسل العربْ |
من يساجلْني يساجلْ ماجداً يملأ الدلو إلى عقب القرَبْ |
يقول: أنا إن ترد كرماً فكرمٌ، وإن ترد لهواً فلهوٌ، وإن ترد طرباً فطربٌ، فأنا حر.
فأتى ابن عمر، قيل: وإذا الناس كنَفَتَيْه كالغمامتين، وإذا هو يُسأل فيقال له: نحرتُ قبل أن أرمي، فيقول: ارم ولا حرج، ويقال: حلقتُ قبل أن أنحر، فيقول: انحر ولا حرج، والناس يسألونه، قال معاوية: هذا -والله- هو الملك لا ملكي، اتركوه يمر، فمرَّ ابن عمر.
فهذه مدرسة محمدية سنية سلفية هادية، تعتمد على (قال الله.. وقال رسوله عليه الصلاة والسلام) وتلك مدرسة لاغية لاهية، تعتمد على أدب المسرح، والفن، والهيام والغرام، والقنوات، والأغنيات، والآهات والزفرات، وكل شيء يضيع عن الآيات البينات والأحاديث الثابتات.
ربنا اسلك بنا طريق محمد.
ربنا اهدنا لسبيل الخلفاء الراشدين.
ربنا احشرنا مع الصادقين.
ربنا اجعلنا مع الخالدين.
ربنا نريد جوارك.
ربنا ارحمنا.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا [آل عمران:147].
أخطأنا.. أسأنا.. تجاوزنا؛ لكنك رحيم، لكنك كريم، لكنك عفو، لكنك منان، لكنك رحمان، لكنك ديَّان، فعفواً منك يا ألله، ورحماك يا رب.
اللهم أكرم هذه الوجوه برحمةٍ منك، ومغفرةٍ منك، ونوائل طيبةٍ منك.
لكل وافد ضيافة، ولكل زائر رَفادة، ضيافتنا منك يا رب غفرانك، ورفادتنا رضوانك، وأنت الرحمان.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر