سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
عنوان هذه المحاضرة: أمريكا التي رأيت
وفي مقدمة هذا اللقاء بعد هذا السفر، أقول لكم كما قال أبو الطيب المتنبي:
يا من يَعزُّ علينا أن نفارقَهم وجدانُنا كلَّ شيء بعدَكم عدمُ |
إذا ترحَّلْتَ عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون همُ |
أنتم أحبابنا، وكأننا حين رأيناكم -بعدما رأينا تلك الوجوه الغبراء الشوهاء- رأينا الصحابة:
ما زرت أمريكا فليـ ست في الورى أهل المزار |
بل جئت أنظر كيف ند خل بالكتائب والشعار |
لنحرر الإنسان من رِق المذلة والصغارْ |
وقرارنا فتحٌ مجيـ ـدٌ نحن أصحابَ القرارْ |
ورأيتُ أمريكا التي نسجوا لها أغلى وسامْ |
قد زادني مرأى الضلا ل هوىً إلى البيت الحرام |
وتطاوَلَت تلك السنو ن فصار يومي مثل عامْ |
ما أرضهم أرضاً رأيـ ـتُ ولا غمامهمُ غمامْ |
عناصر هذه المحاضرة:
1- آيات الله في الكون في طريق الرحلة: البحر، الليل، الكون، القمر، النجوم.
2- جمال الطبيعة هناك، وما أغدق الله عليهم من النعم: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:44-45].
3- الأمن في أمريكا.
4- هل تعيش وأنت قارَّ العين هادئ البال أم لا؟
5- الاضطراب.
6- الرحمة فيما بينهم.
7- الديون الباهظة.
8- سذاجة الأمريكان وفساد أمزجتهم.
9- مستوى الذكاء عندهم.
10- وضع الأسرة هناك.
11- حقائق وأرقام تكشف عن الوضع في أمريكا.
12- البطالة.
13- شبابنا في أمريكا.
14- وضع الكنيسة هناك.
15- قصائد قيلت في أمريكا لمن يهوى الشعر ويتذوق الأدب.
16- شعورنا يوم هبطنا مطار جدة.
والسفر إلى البلاد الكافرة لثلاثة أسباب جائز:
السبب الأول: أن تطلب علاجاً ما وجَدْتَه في بلاد المسلمين.
السبب الثاني: وأن تطلب علماً ليس موجوداً عند المسلمين، كعلم التكنولوجيا، وعلم المادة الذي سبقونا فيه بمراحل.
السبب الثالث: وأن تدعو إلى الله على بصيرة، بشرط أن تكون واثقاً من إيمانك ومن دينك.
المراجع لهذا البحث مع المرئيات التي رأيتُها بعيني وأنقلها من هناك:
أولها: (موجز عن تاريخ أمريكا) مترجم، لـهنري ماجرو، وترجمه دكتور عربي.
ثانيها: (أمريكا التي رأيتها) لـمختار المسلاتي، وهو ليبي داعية يقيم في لوس أنجلوس بـكاليفورنيا، ويسلم على يديه كل يوم خمسة أو ستة من الأمريكان.
ثالثها: (الولايات المتحدة الأمريكية) لـمختار المسلاتي أيضاً.
رابعها: (أمريكا من الداخل) للدكتور صلاح الخالدي، ونقل أكثرَه من كتاب الشيخ الأستاذ سيد قطب رحمه الله: (أمريكا التي رأيت).
ذهبنا من الرياض بعد صلاة العشاء، وهبطنا في مطار جدة وتوقفنا ساعتين، ثم طرنا متوكلين على الواحد الأحد، فيما يقارب الساعة الحادية عشرة، وكانت المسافة بين جدة ونيويورك ثلاث عشرة ساعة، لا توقُّف في الرحلة أبداً، معلق أنت بين السماء والأرض، وأنت تنظر في كون الواحد الأحد: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات:47-48] ولن ترى الأرض ولن ترى السماء كمثل ما تراها وأنت في هذه الرحلة.
أصبحَت المدن كأنها رءوس الدبابيس تحتنا.
أصبحَت النجوم تتلألأ كأن كل نجمة تقول لك: لا إله إلا الله.
أصبحَ الكون يطل بإشعاعاته من نافذة الطائرة، مرة تمر بك كذا، ومرة كذا.
دخلنا على سماء المحيط، فمكثنا على الماء ما يقارب السبع الساعات، ماء تحتنا، اليابسة قليلة، والماء مغدق، والليل عجيب، نحن نطارد الصبح؛ لأننا يوم خرجنا الحادية عشرة كنا نذهب نحو المغرب، فنحن نطارد الصبح ويطاردنا، فتأخر الصبح ما يقارب ست ساعات، وصلينا خمسة فروض في الطائرة، ومكثنا في هذه الرحلة نقرأ آيات الله في الكون، وتذكرنا قوله سبحانه وتعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20] وقوله: فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الانشقاق:20] وقوله: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36] مَن الذي جمَّل هذا القمر؟ مضيفة من مصر كانت عندها شهادة جامعية، ذهبت في زيارة لـأمريكا قبل أشهر، فلما رأت الكون في الليل أعلنت إيمانها وتابت وعادت وأصبحت داعية.
إن هذا الكون يفرض عليك أن تؤمن بالله، وأن تعلم أن لا إله إلا الله، ومشت بنا الرحلة لا يحفظنا إلا الله في حَدِيْدة بين السماء والأرض، لو توقف مسمار أو سلك لهبطنا؛ ولا ينقذنا إلا الواحد الأحد.
أخذنا الجوازات ودخلنا في المطار، فقابَلَتْنا ثلاث فتيات يضحكن من زِيِّنا، وهو معهود عندهم، وقد يرونه خاصة في مطار نيويورك؛ لكن هكذا وُفِّقْنا بفتيات مغرضات، أما الحجاب فلا تسَل، وأما غض البصر فلا تسَل: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110].
والعجيب من المفاجآت المضحكات: أنَّا لما نزلنا كنا أربعة: الدكتور سعود الخنيسان، والدكتور عبد الله الطريقي، والشيخ سلمان العودة، وأنا، فتجاوزنا الخط الأحمر؛ لأننا مستعجلون نريد أن نسافر، وهم لا يعذرون بذلك، فهم يعرفون النظام، وهذا الذي افتقدناه نحن وكسبوه هم، وهو من ديننا لكن أخذوه وتركناه، أتينا نحن كأنا نتعامل في القرى أو مع القبائل بالعِصِي، أخذنا الجوازات وقلنا: نحن مستعجلون، وترجم لنا مترجم وقال: عندهم سفر، فكلٌّهم هزَّ رأسه والتفت بعضهم إلى بعض متضايقين، وقالوا: عودوا وراء الخط الأحمر وقِفُوا ساعة، فانتظرنا ما يقارب ساعة، فعندهم لا يتقدم أحد ولا يتأخر، ولا يعرفون الواسطة، وهذه منقبة، والحق أن نتكلم بالعدل كما قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] فالعدل مطلوب، فالواسطة في مثل هذه الأماكن ليست عندهم.
أخذنا الجوازات، وخرجنا في ساحة شركة بانام، فلما توقفنا رأينا هذه اللحوم البشرية وهي تموج أمامنا، الرجل يأخذ المرأة فيقبِّلها وما عليه، وعندهم في العرف الأمريكي -وقد ذكره هنري هذا- أنك ليس من حقك أن تنظر إلى الأمريكي، ولا تنظر إلى أحد من الناس، اذهب في أمرك، وعُد إلى مكانك، واشتغل بخاصة نفسك، ولا تتدخل في شئون الآخرين، وإذا نظرت إليهم استنكروا ذلك، هذه اللحوم البشرية تعيش كالبهائم، لا مبادئ ولا أخلاق ولا سلوك، ترى اللوعة والله، ترى القلق، ترى الحزن ولو كانوا يضحكون، يقبِّل الرجل المرأة وتقبِّله وهو أجنبي وهم يضحكون، ومع ذلك ترى اللوعة والأسى، والقلق والاضطراب في محياهم: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126].
والأمريكان يشعرون بعتوٍّ وجبروت على العالم، كأن هذا الكون ملكهم، وكأننا نحن دخلاء في هذا الكون، كأنهم يسيرون الدنيا بمن فيها.
ثم طرنا بواسطة شركة بانام لا حياها الله ولا بياها، وكان هذا الطيار كأنه يسوق هايلوكس -إي والله- نحن في ضباب، ولكن كادت عقولنا أن تطير، وقد ذكرتُها في القصيدة، يهوي بنا المطب فيأخذه في كيلو، فكادت عقولنا أن تطير، فتمسكنا، وكان الأمريكان يضحكون ويصفقون له، وكأنه يعبث حالماً يسمع التصفيق له؛ لأن هذه الشركة معروفة بالعباطة -كما قالوا- فتُبْنا من أن نركب بواسطتها مرة ثانية، ولما نزلنا في واشنطن كأنَّا خرجنا من القبور أحياءً بعدما متنا، عرقنا يتصبب، ونحن ننتفض من هذه الفضيحة، وهذه المشكلة التي ركبنا فيها، فلما أخبرنا زملاءنا قالوا: أسأتم كل الإساءة! أتركبون مع شركة بانام؟! لا يركب فيها إلا العُبطاء أو اللاهون أو الذين يريدون أن يتفسحوا ويتفرجوا.
نزلنا في فندق ريجيسون في واشنطن، وكان من التعليمات التي يعرفها من يذهب إلى هناك: ألا تفتح باب غرفة الفندق إذا دخلْتَ حتى تعرف من الناظور من الذي طرق عليك، فهم في إرهاب وخوف، قد يدخل عليك رجل بخنجر فيقتلك ويأخذ ما معك، أو قد يدخل عليك من يطلق عليك الرصاص، ثم لا محكمة ولا قضاء، ولا شيء، لا تعرفه ولا يعرفك، فكلما طرق طارق فزع الواحد منا، فيَنْظُر أحدنا في الناظور، ويقول: مَن؟ وماذا تريد؟ ولغتنا رديئة، فما عندنا لغة، والذي يذهب بلا لغة إلى هناك يكون أبكم أصمَّ، حتى أنني طلبت مرة من الفندق أن أتحدث إلى البلاد هنا تليفونياًً، فكانت تكلمني امرأة وتسألني وتقول لي: bless! number your?، أو كلاماً مثل هذا، أي: من فضلك! أعطني رقم غرفتك، فأنا ما عرفتُ رقم الغرفة، فقط ضربتُ التليفون عليها في وجهها، مثل بعض الناس إذا جاءوا عندنا وهو لا يعرف لغتنا يقول: بطنك يؤلمني، أو رأسي يؤلمك، فلا يعرف التعبير فيأتي بالضمائر، فلذلك ما حصلت على مكالمة حتى أتى أحد الإخوة من السفارة، فأعطانا التليفون لنتحدث.
خرجنا من هناك ما يقارب ثلاثة أيام ما سمعنا أذاناً، ولا قرآناً، ولا توجُّهاً، وما سمعنا تسبيحاً، ولا ذكراً لله، أمة كالغنم، كالبهائم، وهم من أشد الناس عملاً، ينطلقون الساعة السابعة ولا يعودون إلا مع صلاة المغرب، في عمل كالآلة، الأمريكي مبرمج كالثور، يذهب من بيته إلى عمله ثم يعود في المساء، والعجيب أن أساتذة الجامعات عندهم لا يعرف أحدهم الولاية التي بجانبه، ولا حدودها ولا أخبارها، هذا يقين، ولكن دخلنا المركز الإسلامي في واشنطن فسمعنا (الله أكبر) فكأن قلوبنا عادت وحييت بعدما ماتت:
الله أكبر هل أذناي تسمعها إن كان ذلك يا فوزي ويا طربي |
فهو من أحسن ما يكون، وصلينا مع شباب دُعاة كالنجوم، شباب من بلادنا، ومن البلاد العربية والإسلامية، يحملون (لا إله إلا الله) الليبي بجانب التونسي، والمغربي بجانب السوداني، والعراقي بجانب الكويتي، والسعودي بجانب المصري، ما بينهم ضغائن ولا أحقاد، كلهم يعتزون بدين الله، وسوف يأتي الحديث عن هذا في بيان الشباب.
بعدها ذهبنا لحضور المؤتمر في كلورادو بـدنفر، وله أخطاء وأعاجيب، وحضره ثلة من الدعاة الأخيار، وكانت قاصمة الظهر التي شلَّت المؤتمر يوماً من الأيام: مقتل الدكتور عبد الله عزام، فأتى الخبرُ أهلَ المؤتمر بواسطة إذاعة مقوية تتبع إذاعة هيئة الإذاعة البريطانية في أمريكا، حيث أخبرت بقتل عبد الله عزام، وأتى رئيس المؤتمر: الشيخ محمود مراد، ببيان رهيب كأنه يتقطع دماً، ثم قام أمام المؤتمر فقرأ البيان بعد صلاة المغرب، فبكى وأبكى حتى سمعنا بكاء النساء المسلمات من وراء الحجاب، وهذه علامة القبول إن شاء الله، وأبلغ برقية للشيخ سياف من ذاكم المؤتمر.
إذاً: لا أمن إلا للمؤمن، أما الكافر فحرام عليه الأمن، وحرامٌ عليه أن يهجع، والله قلوبنا كأننا عقدناها على ورقة، وهو شعور متبادل، فنسأل الناس في بعض الولايات إذا انتقلنا من مكان إلى مكان، فيسألون في كل دقيقة: مَن معك؟ مجتمع خبيث، فيه المجرمون، فيه السكارى، فيه أهل الدعارة، فيه الزنوج الذين تغلي قلوبهم، فيه فرق مبتدعة، فيه أهل الغارات، فيه أهل الأحقاد، فأنت تتوقع كل يوم متى يعتدي عليك، وقد نصحني بعض الشباب -لأنني ذهبت وحدي مرة- أن أترك هذه الغترة؛ لأنها سوف تعرفني عند بعض الناس، فكنت أخلعها أحياناً وأبقى هكذا، ومع ذلك ما اطمأن قلبي: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].
ركبت من دنفر في كلورادو إلى واشنطن وحدي، فذهب معي بعض الشباب إلى المطار، ولأني لا أجيد اللغة كتبوا في ورقة عنوان السفارة وتليفوناتها في واشنطن، وسوف يستقبلني رجل هناك، والعجيب أن أمريكا هذه التي يعرفها الإخوة قارة، السفر من الولاية إلى الولاية أربع ساعات أو خمس أو ثلاث، مثلما تطير من الرياض إلى الجزائر، فطرت من دنفر إلى واشنطن وحدي، ولما أصبحتُ في الطائرة تأخرَتْ الرحلة ساعة ونصف، وذهب الزملاء، وأتى موزع الخمر، فالخمر يشرب كالبيبسي، وأنا خائف من بعض الصينيين بجانبي والأمريكان أن يسكروا ثم نصير في حَيْص بَيْص، حتى أنني لا أدري ما هي الكلمات التي أتعامل معهم بها، ما هي الكلمات التي يمكن أن أتعامل بها شَفَقَةً وعطفاً حتى يفرج الله هذا الهم، وكنت دائماً أدعو بالأوراد، وصليت وأنا واقف في الطائرة، فكنتُ أنحني، فكان يتضاحك صينيان بجانبي من هذا المنظر العجيب، أنا لم أدرِ أين القبلة، أهي في اليمين أم في اليسار أم هي فوق أم تحت؟ لكن توكلت على الله، وعملت بالحديث؛ فصليت الظهر والعصر جمعاً وقصراً، فكانت الأنظار تلتفت وهم يضحكون بجانبي، لا يدرون ماذا أصاب هذا الإنسان.
ولما مشيتُ كانت التعليمات أنك إذا لم تجد أحداً يستقبلك فانتظر عشر دقائق ولا تتحرك، أو تسأل البوليس، أو تسأل صاحب شركة، فلما نزلنا ما عسى من يستقبلني! فوقفتُ وخلعتُ هذه الغترة والطاقية والتجأت إلى جندي أمريكي، وما قلت له شيئاً، بل أعطيته الورقة، وقلت له: (بْلِيْزْ) خُذْ.
(بْلِيْزْ) إبليس في رءوسهم/ و(وِيْلْكَم) ويلٌ لهم ومن بؤسهم |
يقول الشيخ علي الطنطاوي: ما حفظت إلا ثلاث كلمات بالإنجليزية:
(بْلِيْزْ) التي معناها: من فضلك تعني: (إبْلِيْس).
(وِيْلْكَمْ) التي معناها مرحباً تعني: (وَيْلَكُم).
وكلمة ثالثة نسيتُها.
دخلنا في لوس أنجلوس، وهذه أكبر مدن أمريكا وأكثرها سكاناً، سكانها ثلاثة عشر مليوناً، وهي من أكبر مدن العالم، وتطوف كأنك في أمواج من البشر من كل فج، ومع ذلك جلستُ فيها أربعة أيام مع أحزاب وأصحاب يخبروننا كل يوم بشيء، حتى يقول المسلاتي الداعية الليبي الذي يسكن في لوس أنجلوس يقول: أمر عجيب في لوس أنجلوس، قلنا له: ماذا حدث؟ قال: في لوس أنجلوس بـسان فرانسيسكو، الآن عندهم بند في القانون يجيز أن يتزوج الرجل من الرجل والمرأة من المرأة، وقد تزوج في سان فرانسيسكو أكثر من أربعين ألف رجل بأربعين ألف رجل، وأكثر من خمسين ألف امرأة بخمسين ألف امرأة، والزلزال وقع في سان فرانسيسكو.
ما وقع للإنسان شيءٌ عجيب! عندهم أفلامٌ، الكلب فيها يجامع المرأة، وهو يُعرض على الناس، وتنتجه شركة إيطالية.
يقول المسلاتي: وبلغ من خوفهم أن الطفل إذا ذهبت أمه لتُداوِم وتؤدي عملها، يأخذ سكيناً ويبقى عند الباب، لا ينام؛ لأنه يتوقع متى يطرق عليه عصابة، وبعض الأمهات ماذا تفعل؟ تأتي الأم فترفع سماعتها دائماً وتتصل بابنها حتى ينتهي الدوام؛ لأنها إن تركت العمل ماتت، وإن واصلت في العمل فابنها ربما يكون ضحية، وبعض الأبناء يقولون: لا نُجيبُ مِن وراء الباب، لنوهم أنه ليس أحدٌ موجوداً، وإذا سأل الطارقُ الطفلَ: هل أبوك موجود؟ قال: نعم. موجود ولكن في دورة المياه، ليوهم السارق واللص أنه وراءه.
وفي نيويورك منهم عشرون ألفاً لا مأوى لهم، فلا ضمان اجتماعي، ولا رعاية، ولا صدقة، ولا تكافل، أتظن أن الأمريكي يخرج حقيبته ويتصدق عليك؟! والله إنك لتموتن في الشارع ولن يحملك أحد، ولن يتصدق عليك أحد، ولن يطعمك أحد، هذه الفرقة طالت شعورهم وأظفارهم، وفيهم من البشاعة ما الله به عليم، كالحيوانات، عندهم كراتين ينامون عليها وسط هذه المدينة، وناطحات السحاب بجانبهم، والبنوك، والمال، والشركات السياحية، والدنيا، ومع ذلك يأخذ أحدهم القمامة ونحن نلحظه، فيفرقها ويلقيها ويبعثرها، ثم يخرج الكيك المنتن فيأكله.
مررنا بشيخ كبير عمره أكثر من مائة، سقط حاجباه على عينيه الزرقاوين، وهو أكبر أمريكي، وقد طالت أظفاره ولحيتُه، وهو يأكل ونحن بجانبه ننظر إليه من السيارة، وكأنه لا يرانا، أصبح كالحيوان الكبير أو الكلب الفحل، لم يعد يحس بشيء، أقسمت عليه، وعنده ثوب فيه من الوسخ ما الله به عليم، فقال: عندي أحد عشر ولداً، ومع ذلك لا يلتفتون إليه، فمن أين يلتفت الولد للوالد إن لم يكن لديهم شريعة من السماء؟ والمرأة تذهب إلى المطعم هي وزوجها -وقد رأيناهم- فتحاسب عن نفسها ويحاسب الزوج عن نفسه، وترتفع المعاملات القضائية، الزوجة تشكو زوجها، ويشكوها زوجها في أشياء بسيطة، فكان السبب في قيمة الفنايل أو المناشف أو الصابون الذي في البيت وتأتي المحاماة بأمور، من أين يأتي التكافل الأسري وما عندهم إسلام ولا إيمان؟! فهم يعيشون في هذا المستوى.
أما الاضطراب: فإنني سمعتُ قصصاً ورأيتُ أعاجيب، منها: أن أحد أبناء البلاد العربية رحمه الله رحمة واسعة، ذهب بسيارته، وقد كان طيب القلب، يظن أنه في بلاد الإسلام، وعندهم هناك في العرف العام في كثير من الولايات ألا تُرْكِب أحداً، ما لك وللناس، ففي أوكلاهوما قبل سنتين حين سافرنا إليها، وقف رجل تعطلت سيارته يؤشر للسيارات من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر في الثلج، ثم توفي بعد صلاة الفجر، لا تقف له سيارة، إذا تعطلت سيارتك البوليس يقف لك، أما أن تتحرى من أمريكي أو أحد الناس أن يقف لك فلا؛ لأنه يتصور أنك إرهابي معك المسدس تريد قتله، فأتى طالبٌ مسلم يدرس هناك، فمر بأمريكي فأشار إليه الأمريكي، فركب معه، فلما أركبه ذهب به إلى خارج المدينة -مدينة ريفر تايمز أو ما يشابهها- فأخرج هذا الراكب خنجراً وذبح هذا الطالب وأخذ سيارته.
وطالب آخر طُعِن، ثم سلِم ونجا، ولكن أُخذت عليه سيارتُه، وهذا الراكب قد تراه ضعيفاً أو كفيفاً أو كبيراً في السن، ومع ذلك لا تأمنه، فمعه عصابه تنتظره خارج المدينة، يشير لك وسيركب معك، فإذا وصلتَ إلى خارج المدينة تلقفتك العصابة، وذبحوك كما يذبحون الشاة، ومَن يطالب بدمك؟ ومَن تشجب؟ وإلى مَن تتجه؟ قال سبحانه: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110].
أما الرحمة فلا رحمة، يتعاملون بالدولار، إذا لم يكن عندك مال فمُت في الشارع، قال سيد قطب رحمه الله: دخلتُ واشنطن في مستشفى هناك أتعالج، ودخل رجل في المصعد، فضرب برأسه، فخرج الدم من أنفه وأغمي عليه وأخرج لسانه، فسحبه الأطباء الأمريكان يريدون علاجه، لكن قبل أن يعالجوه بحثوا في جيوبه هل فيها دولارات، فما وجدوا شيئاً، فسحبوه كالبهيمة، وأخرجوه من المستشفى.
الذي ليس عنده دولار لا يعيش هناك أبداً؛ لن تلقى علاجاً ولا طبيباً، ولا متصدقاً ولا محسناً ولا مطعماً، مجتمع يعيش بالدولار وبلا رحمة.
صحيحٌ أن أمريكا عندها مصادر: عندها بترول، عندها معادن، عندها زراعة، ولا إله إلا الله كم أنعم الله عليهم بها! مساحات هائلة، لكن هذا للدولة وليس للأفراد شيء، العجيب أن أكثرهم إن لم أقل كلهم مدينون، سيارة أحدهم جديدة، ولكنه مديون للبنك، وبيته مديون به، وثوبه دين عليه، حتى يأخذون هناك أثواباً، فيعطوا الفنايل بالأجرة، لك أن تلبس لباساً يوم عيد الكرسمس (عيد الميلاد) فتلبسه جميلاً وترده بعد أن تستأجرها ليلة، وكل هذا بالدين، ولذلك يقولون: بعضهم أفلس، فأخذوا بيته وسيارته، وأودعوه في السجن مثل الكلب، فهم يتعاملون بالربا، تشتري شيئاً بمبلغ من المال ديناً، فتذهب سنة فيضاعفونه، وسنة فيضاعفونه، ثم إذا لم تستطع أخذوا من التأمين في الحبس فيبقى الإنسان في الحبس.
إذاً هم يعيشون في اضطراب ولوعة وقلق لا يعلمه إلا الله.
يأتي الأمريكي في الصباح أحياناً بلباسه الداخلي الذي يستحي الإنسان أو الحيوان أو الحمار أن يلبسه، فلو كان الحمار يلبس شيئاً ما لبسه، يأتي بلباس غرفة النوم، سروال قصير، قصير جد قصير مع فانيلة علاقية فيخرج أمام الناس، ويسعى ويجري. ولذلك لما دخلنا رأيناهم يجرون على الأرصفة شبه عُراة، الرجال والنساء شبه عُراة، ما على فروجهم إلا خيوط، فذلك منظر عجيب ينبئ على أن هذه المجتمع بلغ حد البهائم، ويلبس الواحد منهم لباساً عليه من الصور والتعابير والطيور ما الله به عليم، هذا يدل على فساد الأمزجة.
أنا أعرف أن غالبية الناس يقولون: الأمريكان من أذكى الناس، ولا يمكن أن يكون الأمريكي إلا ذكياً، الذي يُعرف ويُنقل مثلما نقله مختار المسلاتي: أن العقول المنتجة ليست من أمريكا أصلاً، إنما استوردت، والعجيب أنهم يقولون: إن عقل الأمريكي كالبيضة، لا يعرف ما وراءه، ولذلك الدكتور في الجامعة لا يهتم حتى بالصحف اليومية، ولا يدري ما العالَم فيه، بل يهتم بمادته، ويعود إلى بيته، ومن بيته إلى هناك، حتى أنه لا يعرف الولاية التي بجانبه، وهذا أمر معلوم.
حدثنا محمد بن حيدان، وهو شاب يدرس في لوس أنجلوس، ثقة، بسند جيد، أن أستاذاً سورياً يدرس في الثانوية في لوس أنجلوس، قال: فدخلتُ على الأستاذ أريده فوجدته يشرح على السبورة لطلبة الثالث الثانوي وهم أمريكان، يشرح لهم ويقول: ¾ + ¼ = كم؟ كيف تكون؟ ثلاثة أرباع + ربع كم يساوي؟ قال: و½ + ½ = كم؟ قال: فيجلسون هكذا ينظرون في السبورة، قال: فضحكتُ أنا وقلت: أجادٌ أنت يا أستاذ؟ أن تطرح مثل هذا السؤال؟! قال: ولماذا؟ قلت: لأنهم طلبة من طلبة الثالث الثانوي، عندنا يدرسون هذا في الابتدائي، فضحك السوري وقال: والله هؤلاء بُهْم، أتعرف البُهْم؟ قال: والله مثل البُهْم، في مستوى البُهْم، فهم في هذا المستوى، ولذلك طلبة الإخوة السعوديين الذين رأيتُهم أنا هناك، كل واحد منهم يأخذ المركز الأول وهو نائم، فباستطاعته وهو نائم أن يأخذ المركز الأول، ما وجدتُ طالباً، وما سألتُ طالباً يدرس في المدارس الأمريكية إلا إذا قلتُ له: كم ترتيبك؟ قال: الأول، ولو كان أحدهم عندنا لربما كان راسباً، هذا أمر معروف، وما نزلنا ولاية إلا أخبرني الإخوة بهذا.
قالوا: أما دراستهم فعجيبة، مستواهم عجيب، لماذا؟ يقول مختار المسلاتي: الأمريكي يجلس أمام التلفاز سبع ساعات، الأمريكي الذي يومه وليله يجلس أمام التلفاز سبع ساعات، فتجد ولده دائماً هكذا، فقد ينام ويقف صباحاً عندهم، رأيت التليفزيون في واشنطن يحتوي على ثماني عشرة قناة، هذا من القديم، وإلا فبعض التليفزيونات -كما ذُكر لي- فيها أربع وخمسون قناة، منها: قناة خاصة بالجنس، ليس فيها إلا فاحشة الزنا، وقناة خاصة بالأخبار، وقناة خاصة بدرجات الحرارة، وقناة خاصة بالأموال والتجارة، وقناة للإعلانات، فيبقى هذا الطالب المشدوه أمامه ثم يأتي الصباح، فإذا سألوه: ¾ + ¼ = كم؟ لا يدري، من أين له أن يدري، ولذلك قال بعض المفكرين منهم: أمريكا تتحطم بعد خمسٍِ وثلاثين سنة، فنسأل الله الذي حطَّم روسيا وفضحها أمام العالم أن يحطم أمريكا ويفضحها أمام العالم، قولوا: آمين.
أما وضع الأسرة هناك فقد مرَّ شيء من هذا؛ وهو على كل حال وضع لا يُرضي، نسبة الطلاق في زواج الأمريكان (80%) فمن يتزوج يطلق، والعجيب عندهم وهذا أمر معروف عند كثير منكم، أن الرجل يأتي بصديقته فيدخل بها البيت، وتأتي امرأته بصديقها وتدخل به، الأمر مكشوف، فأصبح شيئاً مألوفاً عندهم، والفاحشة كأي أمر معتاد، يستحي من ذكرها الإنسان، وإلا فالنسب موجودة من ذكر الزنا والفواحش التي طمَّت وعمَّت عندهم.
نقلاً عن المجلة العربية، العدد: (148):
1- (22%) دخلوا مصحات عقلية بسبب شرب الخمور: فاثنان وعشرون من كل مائة من الأمريكان في المصحات العقلية، بسبب الخمور.
2- (42%) حوادث السيارات بسبب الخمر: وهم إذا ساقوا في المناطق التي تعتبر خارج الولاية، يسوقون في غاية الجنون، وهم أهل الخمور.
3- (21%) من الأطفال يولدون نتيجة علاقات جنسية غير شرعية (زنا): وحتى عقودهم زنا من أولها إلى آخرها؛ لكن بدل أن يكون الزوج مع الزوجة يذهب إلى غيرها.
4- (58%) يعتقدون أن الدين هو الكفيل لحل المشكلات المعاصرة، لكن أي دين؟! الدين الإسلامي مشوه عند الأمريكان، يظنون أن الدين هو دين الخميني هذا، ولذلك إذا أتى الواحد من المسلمين قالوا له: أنت خميني؟ فلا يعرفوا إلا أنك تتكلم باسم الخميني، يظنون أن الدين هو الإرهاب، وبعضهم صوَّر الإسلام لَمَّا ذهب إلى هناك تصويراً سيئاً والعياذ بالله، وهو من أبناء العرب والمسلمين، وهؤلاء نسبتهم (20%) أما (80%) من شبابنا فمستقيمون أحسن منا، فقبل أربع سنوات أو خمس سنوات كان الإسلام مشوَّهاً، يذهب الطالب من هنا إلى هناك، فإذا هو أخبث من الأمريكي؛ لأنه حين يذهب، ينظر إلى الخمر وإلى هذه البطالة وإلى هذه الأمور فينبهر، يقولون لشاب في أمريكا: غض طرفك، قال: والله بصري يعمل كش، يقول: لم يعد عندي رادع، لم يعد عندي فَرْمَلَة، أي: أنه مشتعل، لا إيمان لديه، لا رادع لديه من (لا إله إلا الله) ولا رصيد لديه من التوحيد، فذهب فأصبح -والعياذ بالله- جيفة قذرة، وأصبح كالحيوانات، فنظر الأمريكان إليه وقالوا: أمسلمٌ هذا؟ يكذب ويزني ويشرب الخمر ولا يفي بمواعيده، فشوَّه الإسلامَ؛ ولكن هناك شباب آخرون رفعوا الإسلام، والإسلام الآن ينتشر؛ لكن ببطء، والسبب هو الإرباكات التي أتت من بعض الطوائف المبتدعة، وبعض الذين طمس الله على قلوبهم.
يخبرني أحد الإخوة اسمه جار الله الغامدي في توسان بـأمريكا، وهو سعودي من الباحة، اتصل به مساءً في الليل، فقال له: مَن؟ قال: رشاد خليفة، قال: أأنت الرسول الذي اسمك رشاد خليفة؟ قال: نعم. قال: معك جبريل عليه السلام، يقول: أريد أن أكلمك. فهؤلاء شوَّهوا الإسلام بتصوُّراتهم، ولذلك الإسلام يمشي بطيئاً عندهم جداً.
عندهم سواجارت، وهو أكبر خطيب في أمريكا، إذا خطب على الشاشة يُبكي الأمريكان جميعاً، تنهلُّ دموعهم، وهو أكبر راهب، وهو خطيب يأخذ القلوب، ينزل الدرج (السُّلَّم) ويصعد، ويخطب بين الشجر، ويصرخ، ويحرك شفتيه، ويحرك عينيه ويديه حتى يأخذ القلوب وهو راهب كنيسة وقسيس، ومع ذلك أسقطه الله سقطة ما بعدها سقطة، نقلوا له أفلاماً وهو مع فتاة يزني بها في فندق، فسقط الدين عندهم تماماً.
الكنيسة تحولت إلى خمارات وبارات ودور للدعارة، وأول من يزني الرهبان والقُسس، يزنون بفتيات الناس، هذا وضع الكنيسة، فلذلك انفض الأمريكان من الكنيسة وقالوا: هذا ليس بصحيح وليس بدين، أين العدل؟ أين الصدق؟ أين الأمانة؟ وما بقي لهم إلا الإسلام، لكن لِيَعْلم مَن ينشر الإسلام أن المستقبل للإسلام، وسوف يصل الإسلام إلى قلوب الناس، وسوف يورث الله الأرض للمسلمين كما قال عز وجل: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].
الشيوعية عاشت اثنين وستين أو ثلاثاً وستين سنة وأعلنت فشلها، والإسلام ألف وخمسمائة سنة، وكل يوم وهو يزداد، وكل يوم وهو يكبُر، كل يوم وهو يعظُم؛ لأنه يدخل خفية إلى القلوب.
شاب من شبابنا سافر إلى بلاد الغرب؛ لكن سافر وقلبه ممتلئ إيماناً، فلما ذهب إلى هناك كان يقوم مع صلاة الفجر في يوم قارس البرد، وهو يسكن مع عائلة، فتقول عجوز له: لماذا لا تنام؟ قال: ديني يأمرني أن أقوم في هذا الوقت، قالت: أخر الصلاة عن هذا الوقت، قال: لو أخرتُها ما قبلها الله، فهزَّت رأسها وقالت: هذه إرادة تكسر الحديد.
وأنا أعرف شباباً كانوا هنا؛ وكان بعضهم لا يصلي في المسجد، ولستُ أدري هل يصلون في البيت أم لا؟ تحولوا الآن إلى دعاة من الدعاة، وكنتُ أقول لبعضهم: أأنت فلان؟ قال: نعم. أنا فلان هداني الله، أتيتُ إلى هذه البلاد فما وجدتُ إلا الدين، فاستعصمتُ بالدين واحتميت به، وبعضهم له دروس يشرح للطلبة المسلمين والأمريكان المسلمين هناك.
دخلنا في لوس أنجلوس في مسجد بـريفر تايمز، يسمى مسجد ابن تيمية، فوجدنا رجلاً كث اللحية، ولحيته تبلغ سرته، وإذا هو متأثر وتكاد دموعه تهراق، وإذا هو يتفق مع رجل أمريكي مسلم يترجم له ويدعوه إلى الإسلام، قلتُ: من هذا؟ قالوا: هذا رجل روسي رأى المسلمين يذهبون إلى المسجد، فأعجبه هذا الالتزام والصلاة؛ فأتى يريد أن نخبره عن الإسلام، وهو روسي من روسيا.
الناس بحاجة إلى دين، لكن من يخبرهم عن الدين.
يهودي بجانب المسلم في واشنطن قدم فيه شكاية من أجل شجرة، فذهب وما انطلق منه إلا بآلاف الدولارات حتى سامحه، فمعنى المحاماة أن مالك سوف يكون نهباً، وبإمكان الإنسان أن يمر بك في الشارع، لا يعرفك ولا تعرفه، فيرفع عليك قضية، ويقدم فيك شكوى وينظر فيها القاضي، وربما يسجنك القاضي بسبب المحاماة، أين العدل؟!
ودخلتُ في بورت لاند، وبورت لاند هذه من ولاية أوريفر، وهي من أجمل ما خلق الله في الدنيا، هي جنة في الدنيا بمعنى الكلمة، واكتبوا هذا الخبر، ويعرفه الطلبة الذين درسوا في أوريفر، جذع الشجرة في أوريفر طوله عشرة أمتار، وأخشابهم من هناك، تمر التِّرِلاَّت في الصباح، وهي تنقل من هذه الأخشاب والأشجار والغابات، بعض الشجر يقال: إن ميلادها قبل ميلاد عيسى عليه السلام، وهي من أجمل بقاع الأرض، وفيها طيور، وزهور، وأشجار، وماء غادق، وظل وارف، وشيء عجيب؛ لكن في بلاد كفرت بأنعُم الله، فنزلنا في بورت لاند، وبعد صلاة العشاء اجتمع بنا ثلة من الشباب ما يقارب الستين شاباً، أتدرون ما هؤلاء الشباب؟ إنهم شباب اجتمعوا في بلاد الغربة، وبينهم من الإخوة ما الله به عليم، حتى إن بعضهم إذا أراد أن يداوم في الصباح يأخذ لباس أخيه ولا يجد غضاضة من ذلك، وبينهم من العناق والأخوة ما الله به عليم، فجلسنا في ليلة من الليالي التي لا أنساها في حياتي، وكان هناك شاب مغربي من فرنسا، وكان معرضاً عن الله فهداه الله، فأصبح مستقيماً وأسمعنا قصائد باللغة الفرنسية، وتُرْجِمَت إلى العربية، ومعنا ليـبـي أسمعنا قصائد بالنبطية باللغة الليبية، ومعنا فلسطينيون وعراقيون وتونسيون ومن كل بلاد المسلمين وهم في إخاء عجيب، جمع بينهم هذا الدين:
إن يكد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد |
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدَّر من غمام واحدِ |
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالدِ |
القصيدة الأولى في الرحلة الأولى:
عائض
هوالقرني
أحمد ربي وهو لي وليُّالعجلان
أكرم به مع العلا جذلانِطارق المنصور
منسعداً
وأبا عبيدة
عبد العزيز الغامدي
ابن عزيز
صاحب المحامدِعبد القادر بن طاشي
ذو القلم السيال في انتعاشأما في الرحلة هذه فقلتُ:
طرنا لـأمريكا لأجل المؤتمرْ في رحلة فيها العناء والضجرْ |
طيارة قد حَمَلَتْنا مسرعهْ ونحن من أرض السلام أربعهْ |
منا الخنيسان سعود المحترمْ بالعلم والفضل يلوح كالعلمْ |
ثم الطريقي شيخ علم وتقى بالنبل والمجد إيمانه ارتقى |
ومعنا سلمان بن عودهْ أبو معاذ ذو الوفاء والجودهْ |
كان النزول في مطار كندي والثلج فوق الأرض مثل اللبدِ |
ثم إلى واشنطن ذهبنا الله كم ضقنا وكم تعبنا |
في شركة بانام أركبونا طاقمها في الجو عذبونا |
تهوي بنا كأنها حُدَيَّا تعلَّقت بسقفها يديا |
وفي كلورادو قد اجتمعنا فيها نفعنا الناس وانتفعنا |
العلم والفكر جميعاً والأدبْ وحضر الأصحاب من كل حدبْ |
وبعده طرتُ إلى توسانِ وانعقدت من هيبة لساني |
وزرتُ سمبي في آيسون وقدْ قابَلَنا من الشباب محتشد |
وبعدها طرت إلى لوس أنجلوس عند الذين نورهم مثل القبسْ |
أعني شباباً حملوا الإيمانا كرمهم عن أهلنا أنسانا |
ذاك اللحيدان جزاه المولى براً وتوفيقاً على ما أولى |
وقد دخلنا وسط المدينةْ والرعب فيها رافعاً أنينهْ |
النهب والقتل بلا حسابِ واضطرب الناس من الإرهابِ |
عاشوا حياة الذل والمهانهْ وقلة التوفيق والخيانهْ |
يا كم سمعنا من حكايا الانتحارْ دولتهم بعد قليل في انهيارْ |
لأن من لم يعبد الله الصمدْ يعيش في هم وغم ونكدْ |
إن لم يكن في جيبك الدولارُ أصابك الهلاك والدمارُ |
والله لن تلقى بها مَن يرحَمُكْ فكلهم في الشهوات منهمِكْ |
وأريزونا زرتُ فيها اخواني بها بساتين من الأفنانِ |
صحراؤنا أجمل عندي منها فلا تحدثني أخيَّ عنها |
لما رَحَلْتُ بـأمريكا عن الحسن وضعتُ شكوى الهوى في هيئة الأمم |
الحسن: هو الحسن الأهدل.
لما رَحَلْتُ بـأمريكا عن الحسن وضعتُ شكوى الهوى في هيئة الأمم |
يا مجلس الأمن أشكو ساجناً فطناً أحل سفك دمي في الأشهر الحرُمِ |
والشطر الأخير لـشوقي، وهذا تضمين وليس سرقة.
يا مجلس الأمن أشكو ساجناً فطناً أحل سفك دمي في الأشهر الحرُمِ |
إذا احتكمتُ إلى الفيتو ليوقفه رمى بلحظٍ إلينا غير محتشم |
يا بوش قد جئت من أرض القداسة ما أمسي بديني ولا داهنتُ في قيمي |
رأيتُ واشنطن الشمطاء قد نشرت ثوباً من الظلم يحمي هالة الظُّلَمِ |
أستغفر الله! فيها نخبة شرفت بهم رواسي العلا في الأفق في الأجمِ |
أبناء من فتحوا الدنيا بعزتهم من سيد قرم أو فارس كلِمِ |
زالت همومي بهم والله وارتفعت روحي وسارت إلى مغناهم قدمي |
أنا الغريب بأرض كلها كُتَل من أبشع الناس أو عبادة الصنمِ |
همُ عبيد الخنا والزور ما احتكموا لملة أو رأوا نوراً على علمِ |
لم يظفروا بتعاليم الرسول ولا عاشوا على سنة الإسلام مِن قِدَمِ |
الجنس معبودهم والفسق مبدؤهم والمال دستورهم يا خيبة النُّظُمِ |
في صحبة الله طرنا من مرابعنا على بساط من التوفيق مبتسمِ |
فينا سعود الخنيسان الذي نظَمَتْ ألطافهُ ونما في العلم مِن قِدَمِ |
وابن الطريقي في الأعماق منزله من صاحب وافي الأوصاف والكرمِ |
وابن عمك سلمان العلا بطل أبو معاذ كمي بز كل كمي |
يا سائلي عن بلاد الكفر معذرة يبكي يراعي ويبكي في الكلام فمي |
نعم رأيت بها الآلات جاثمة وللمصانع أبواب من النغمِ |
نعم رأيت الصواريخ التي صَنَعَت الموت في متنها كالدم في العلمِ |
لكنني لم أرَ التوفيق يصحبهم في عالم الروح أرسال من النعمِ |
ناديت لما رأيت الصبح يغمره يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم |
أولاً: ليس عنده لغة يمكن أن تنقذه، وبعض الناس استطاع بلا لغة أن يمشي من مكان إلى مكان.
ثانياً: في يد مَن أنت؟ في يد مجتمع لا يتحاكم إلى أمر الله.
ثالثاً: يفقد إخوانه وأصحابه، فلا تنظر إلا في وجه كافر أو كافرة، وملحد وملحدة، ومعرض ومعرضة، فهم كالغنم تماماً أو كالبهائم، بل البهائم والأنعام أهدى منهم سبيلاً.
فمشينا من هناك، وكان بنا من الفرح العظيم ما الله به عليم، لسان حالنا يقول: نعود إلى مهبط الوحي، إلى أرض الرسالة وأرض الإسلام، إلى أرض السلام، والقرآن، إلى أرض محمد عليه الصلاة والسلام، إلى أرض أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، إلى أرض خالد وطارق وصلاح الدين، إلى أرض مالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة، إلى أرض ابن تيمية وابن القيم، إلى أرض النبلاء والشهداء، والعظماء والكرماء والأتقياء.
فلما قربنا من جدة، وأخبرنا الكابتن بوصولنا، شعرنا كأننا عشنا بعدما متنا، أصبح أطرف الناس في جدة كأنه عندي من الصحابة، وأصبحت الأسفار قريبة، وأول ما نظرنا إلى إخواننا الذين سجدوا لله وأعلنوا ولاءهم له؛ حمدنا الله عزَّ وجلَّ على أن جعلنا مسلمين، وحمدنا الله على أنه لم يحولنا إلى تلكم الأمة: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110] لقد انسحقت هذه الحضارة، يقول سيد قطب عن أمريكا: لا تصلح أمريكا إلا أن تكون ورشة للعالم، صحيح أن فيها مسامير وطائرات، وفيها صواريخ، ومصانع، وفيها تكنولوجيا وتقدم حضاري، وفيها أمور عجيبة؛ لكن ليس فيها أمن ولا سكينة، ولا عدل ولا اطمئنان، ولا إيمان ولا مراقبة، ولا تكافل ولا رحمة؛ لأنها التحقت بالكفر: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110].
في أمريكا تنظر إلى الغنى الفاحش، إلى السحاب، وإلى الفقر الفاحش إلى التراب.
في أمريكا تنظر إلى جمال الطبيعة، جميلة جد جميلة، ولكنك تنظر إلى القُبح في أهلها، تنتقل إلى الحديقة وتنظر إلى زهورها وأشجارها، فتحمد الله وتزداد إيماناً، وتريد أن ترتاح، فتنظر إلى الرصيف، فتجدهم يتسافرون كالكلاب، فتنقبض روحك، وينقبض جسمك، ويقشعر كيانك من هذا الوضع.
وهناك قوم مؤمنون ودُعاة، وعدد المسلمين في أمريكا أكثر من خمسة ملايين مسلم أو أكثر، مدينة ريفر وايت فيها مائتان وخمسون ألف يمني، بأطفالهم وبأهاليهم، وكأنهم في قلب صنعاء، وهناك مساجدهم ومجالسهم، واجتماعاتهم ودروسهم، أمر عجيب! وفي مدينة واحدة ثلاثون ألف فلسطيني أكثر الناس ذكاءً هم ستة، من مصر العربية: فاروق الباز الذي أنزل مركبة الفضاء، ورجل مصري آخر نسيتُ اسمه الآن، وأربعة غيرهم يدخلون معهم، بل هم أذكى بكثير ممن اكتشف بعض المكتشفات، هناك دعاة مؤمنون، خرجوا وهم لا يعرفون من الإسلام شيئاً، خرجوا ملاحدة شيوعيين، ففروا إلى أمريكا، ولما وصلوا اعتنقوا الإسلام والإيمان، وأصبحوا دعاة، تجد الواحد بلحيته البهية وطلعته؛ كأنه نجم في غيهب الليل.
وصلينا المغرب في توسان، فاجتمع معنا أناس عراقيون، فألقيت في عشر دقائق كلمة عادية، فسالت دموعهم على لحاهم، وقلتُ: ما لكم؟ قالوا: ذكرتنا بالبيت الحرام، وذكرتنا بالقرآن وبالصحابة وبالرسول، ونحن نعيش غربة.
فإذا أردت أن تدخل إلى قلوب المسلمين هناك فقل له: أتيتُ من بلاد الإسلام، تركتم الأهل والأوطان، تركتم الإخوان والخلاَّن، تركتم الأصحاب والأحباب، وأنتم بين ملاحدة وزنادقة، أنتم في غربة ووحشة، فستأتيك الدموع تنهمر من الكلام ما لا يعلمه إلا الله:
بكت عيني غداة البين دمعاً وأخرى بالبكا بخلت علينا |
فعاقبت التي بالدمع ضنت بأن أغمضتها يوم التقينا |
وادَعْنا بعض الناس، وهم طلبة من جدة في بعض الولايات، فوقفوا معنا في المطار، ثم اعتنقناهم واعتنقونا، فما كادوا أن يتركوننا، وضج بكاؤهم في صالة المطار، وبقيت دموعهم ودموعنا هناك، ولكن عسى الله أن يجمع بيننا وبينكم وإياهم في الجنة:
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا |
بِنْتُم وبِنَّا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفَّت مآقينا |
قال رجل هندي: بماذا توصيني؟ فأخرجتُ له المصحف وقلت له: أوصيك بهذا، فبكى حتى جلس.
ويقول أحدهم وهو مغربي: والله لقد خضنا كل شيء، جربنا الرأسمالية، جربنا الإلحاد، جربنا الشيوعية، جربنا العلمانية، فما وجدنا إلا الإسلام: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22] وقال سبحانه: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125].
الجواب: المؤتمر مؤتمر القرآن والسنة، وعُقد في كلورادو بـدنفر، واجتمع فيه الناس الشباب، وجُمع له الكثير من العلماء والدعاة من العالم الإسلامي، حضره من أفغانستان: الشيخ محمدي وهو من قادات المجاهدين، ومعه أبو صهيب مراد بن مجاهد، وحضره من اليمن: داعيتان، منهم: الشيخ عبد المجيد الريمي، داعية وشاعر ولبق وحكيم، والشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، المحدث الشهير صاحب الكمبيوتر، وحضره: محمد إسماعيل من مصر، والشيخ جميل وزن، والأسماء التي ذكرتها من السعودية، ومن مصر حضره بعض المفكرين، ولا يخلو بلد عربي أو مسلم إلا وفيه داعية أو عالم حضر.
أما المهمة في المؤتمر، فمدته أربعة أيام، واليوم الخامس انتهى، محاضرات دينية وشرعية واجتماعية وعقدية، وفي المساء: حفلات سمر، وأمسيات شعرية، وخواطر بعد الصلوات، ندوات مشتركة للدعوة والفكر، دروس جانبية للرجال والنساء، دروس في الفقه، في العقيدة، في الحديث، في التفسير، وكان المؤتمر رائعاً جد رائع، يميزه العلمية في القضايا التي طُرحت فيه، والشباب وحضورهم الطيب، وروح الإخاء التي سادت المؤتمر، وبعد أن انتهى المؤتمر وزعونا، ووزعوا الدعاة هؤلاء على ولايات، يقومون على الأندية وعلى المتاجر وعلى المراكز الإسلامية، ويلتقون بالشباب ويدعون إلى الله عزَّ وجلَّ، والمدن التي زرتها أنا ما يقارب إحدى عشرة مدينة أمريكية، مكثت في بعضها يوماً، وبعضها يومين، وبعضها ثلاثة أيام، وهكذا.
الجواب: نعم. لبست هذه الملابس، لكنني أضطر أحياناً إلى خلع هذه الغترة والطاقية، وقبل سنتين سافرت، فكان من نصائحهم لنا أن نلبس اللباس الأفرنجي هذا، فلبسنا ليلة واحدة في كلورادو، ثم عدنا فرأينا أنه لا داعي له، ولو أن هذا يلفت النظر، خاصة في بعض الولايات، أما بعضها فالأمر عادي، ما كأن هناك أي شيء، لكن إذا كنتَ لوحدك، فالخوف الخوف، خاصة وقد كنا نشعر أننا وحيدون وغرباء.
الجواب: أنا درستُ الإنجليزية في المعهد العلمي ست سنوات، لكن والحمد لله لم أعد أعرف كتابة اسمي، وأعرف بعض الكلمات لكنها لا تغني ولا تكفي، أما دراسة لغة الدعوة ليكون الداعية داعية بلغتهم، فهذا أمر صعب، يقول لي بعض الطلبة الذين درسوا ست سنوات أو سبع: لغة الدعوة هذه لغة الديانة، لغة العاطفة لا يستطيعها إلا خواص، مثل الداعية عندنا الآن، تجد من يتكلم بالعربية ويؤثر بها طبقة قليلة، لكن بقية الناس لا يستطيع أن يتكلم بنفس التأثير، ونفس الحماس، ونفس العاطفة إلا بعد فترة، ولذلك قد يضيع الإنسان عمره بدون أن يحصل على طائل.
ولمن أراد أن يتعلم اللغة الإنجليزية فلها مدارس خاصة ومراكز، وسمعنا ونحن في لوس أنجلوس أن في بروكسل معهداً يعلم اللغة الإنجليزية في ستة أشهر؛ بشرط أن تتفرغ وتقدم لهم ثلاثين ألف دولار، ثم يعلموك اللغة الإنجليزية ستة أشهر.
الجواب: أقول لك ما قال سيد قطب: أمريكا لا تصلح لقيادة البشرية، ولا تصلح لتوجه الإنسانية، أمريكا تصلح ورشة للعالم، تصنع السيارات، تصنع الأسلحة، تصنع الطائرات، أما أن تقود العالم فلا؛ لأنها كفرت بالله، وأعلنت كفرها، وكل شيء بقضاء وقدر، ولو سبقنا لفتح أمريكا نحن لكانت أمريكا كلها مسلمة، لكن سبقنا الإنجليز وفتحوها قبلنا، فنسأل الله أن يفتح لنا أبواب الجنة، وأن يهيئنا لخدمة هذا الدين.
أنت كنز الدر والياقوت في هذه الدنيا وإن لم يعرفوكْ |
محفل الأجيال محتاج إلى صوتك العالي وإن لمن يسمعوكْ |
الجواب: نعم. إي والله، العجيب أن هذا الرجل سيد قطب رحمه الله، وأنا متأثر به في الظلال، يجعل جبهة المسلم عالية، خلال سنتين عرف جو أمريكا وعظمة أمريكا، فوجد حقارة ومهانة، فكان دائماً يقول في قوله تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [آل عمران:139] قال: نحن الأعلون سنداً ومتناً، الله ربنا، والوحي مصدرنا، والرسول صلى الله عليه وسلم إمامنا، والكعبة قبلتنا، فأي ناس أشرف منا؟ لا أحد.
بعض المفكرين المسلمين الآن ينهار أمام حضارة أمريكا، بعضهم في شريط محاضرة يقول: القوم هناك في أمريكا، القوم في بريطانيا، القوم هناك. لا والله، القوم هنا، الإسلام هنا، الأبطال هنا، الشرفاء هنا، أما هناك فالضياع، ولذلك عرفهم سيد قطب وآكلهم، وشاربهم وذاقهم، ثم قدم فيهم قواعد استعلاء، تمشي وجبينك مرتفع.
الجواب: أنا أقول لكم: إن بعض الأمور تشكر ولو كان من كافر، وأمرنا أن نكون عدولاً، أمريكا من أحسن الأجواء أو من أحسن الأماكن مناخاً للدعوة الإسلامية، ومن أخصب الأراضي، لأن هناك بإمكانك أن تستأجر قناة في التليفزيون فتتكلم عن الإسلام، إذا كانت عندك دولارات، فاستأجر ما شئت، بإمكانك أن تستأجر في صحيفة وتبث عن الإسلام، تأخذ منبراً، تتكلم للناس، تدخل الجامعة.
مختار المسلاتي الداعية الليـبـي أخذ طالباً في جامعة لوس أنجلوس، وفي الفسحة يأخذ أكواباً من الشاي ويوزعها على الأمريكان، ويجلس يحدثهم عن الإسلام، ويعود كل يوم بخسمة يخرجهم من الظلمات إلى النور، فأنت هناك استأجر لك مكاناً، ولك أن تأخذ قناة تستأجرها في التليفزيون، وتخرج بغترتك وبمشلحك وبشتك وتتكلم عن الإسلام، والله يهدي على يديك من يشاء، لك أن تتكلم، ليست كـروسيا، روسيا ذبح، روسيا نار، روسيا دمار، ولذلك اليوم قرأتُ في الشرق الأوسط أن سخروف الذي توفي قبل ثلاثة أيام أو أربعة لما عارضهم بكلمة ذبح مثل الكلب، وهو الذي اكتشف لهم الذرة، والقنبلة الذرية السوفيتية، أما أمريكا فبالعكس يُشكرون على هذا، فلك أن تتحدث وتناقش، وتتكلم عن دينك بطلاقة وحرية، لكن في حدود، وهناك العجيب أنك إذا نظرت في الشارع، ستجد الصيني والياباني والعربي والهندي والبرازيلي، ظلمات بعضها فوق بعض.
الجواب: طيبون ونجوم ومصابيح دُجى، وهم أكثر في الاستقامة منا، ومنهم من يقوم الليل ويصوم النهار؛ لأنهم يقولون: ما صاننا بهذا المجتمع إلا كثرة النوافل.
الجواب: سجلت تسجيلات الرائد في الرياض ما وقع في المؤتمر في دنفر من محاضرات وأمسيات ودروس، وإن شاء الله تصل إلى أبها، وهذه مسئولية تسجيلات الأمير في أبها فتأخذها من الرائد في الرياض، وهو أكثر من اثنين وعشرين شريطاً من الدعاة والعلماء.
الجواب: سمعتُ آخر أخباره، لكني ما رأيته، ولكنه يتنقل من ولاية إلى ولاية، وأظنه الآن في أفريقيا.
الجواب: لا ما ارتحتُ نفسياً، بل ضقتُ نفسياً.
الجواب: لا. بل عندهم (80%) ممن يتزوج يطلق، وهذا موجود في كتاب أمريكا التي رأيتها لـمختار المسلاتي.
الجواب: حدِّث ولا حرج، كل ما في الدنيا من ديانة، ففي أمريكا عيِّنة منها، كل ما في الدنيا من صلاح أو خراب عندهم عيِّنة منه، من أهل السنة عيِّنة، من الرافضة عيِّنة، من البوذية عيِّنة، من السيخ عيِّنة، من الهندوك عيِّنة، من الإسماعيلية عينة، من الباطنية عيِّنة، من الشيوعية عيِّنة، من الرأسمالية عيِّنة، من العلمانية عيِّنة، كل ما في الدنيا وما تتصور منه عيِّنة، ومن يدعي النبوة، والإنسان ينحط إلى درجة الحمار، الشذوذ الجنسي، الالتزام، الصلاة، قيام الليل، الدعاء، فأصبحت كلها كالحديقة فيها الشوك والورد، فحدِّث ولا حرج.
الجواب: أما نصيحتي أولاً لمن أراد أن يسافر إلى أمريكا فلا يسافر إلا مضطراً، مثلما يضطر إلى أكل لحم الميتة، وهذا هو الاضطرار، والحمد لله الأمور أصبحت ميسرة، وأصبحت كثيرٌ من الإمكانيات موجودة في بلادنا، لا تضطر الشاب إلا في النادر للسفر، وإذا أراد أن يسافر فليتحصن بالإيمان، وبطاعة الواحد الديان، وليسافر بزوجته، وإلا فسوف يدخل إذا سافر بلا إيمان وبلا زوجة في لخبطة، وإن استطاع أن يأخذ أربع زوجات معه فليفعل.
أما تعلم اللغة فأنا أنصح أن يُتعلم اللغة هنا، ولا يتعلم هناك؛ لأن الأسئلة التي تردنا في الولايات التي نزلناها مرعبة، يقول شافيلي: تعلمني الدكتورة وهي شابة وفتاة أمريكية خليعة داعرة زانية تعلمني؛ وليس عليها شيء، ما على جسدها إلا شيء بسيط، وتدور أمامه عند السبورة في خلوة محرمة، فكيف يصح هذا التعليم؟! ويتعلم الإنجليزية ليكون داعية ينفع المسلمين؟! الفتاة تجلس بجانبه على الكرسي وتمد رجلها على رجله، ثم يريد أن يكون داعية، بل يجب عليك أن تتعلم هنا، عندنا أقسام للإنجليزية هنا في جامعة الملك سعود، وما من جامعة إلا وفيها قسم، فتتعلم هنا، ثم تذهب لتكون داعية، بعض الناس يذهب من هنا، وهو ما أثر في بيته، ويقول: أريد أن أدعو في أمريكا، وهذا ليس بصحيح، بل الأقربون أولى بالمعروف، وإنما يذهب الإنسان في مثل هذه الجولات لأمور، بمستوى طبقة محددة من الناس بكلام محدد ولمهمة محددة، ثم يعود، وهناك أناس صالحون فيهم الخير.
الجواب: أنا قلت في أثناء المحاضرة: حضارة أمريكا المادية بإمكان الإنسان أن يكسبها، الوثني الأفريقي، والأحمر الخواجة، والبلشفي الروسي، كلهم يشتركون، ولا علاقة لهم بالدين، وحضارتهم على مستوى عالٍ فهي تصل بهم إلى السماء، وقد قال كثير منهم، ومن استطاع أن يراجع ما كتبه صاحب الإنسان لا يقوم وحده، والإنسان ذلك المجهول وصاحب دع القلق وابدأ الحياة ليعرف أي حضارة سوف تنهار فيها؛ لأنهم فقدوا حضارة الإيمان والروح, فقدوا الأمن والسكينة، فقدوا الطمأنينة، فقدوا كيف يعرف الإنسان أن يعيش في عالم الغيب والشهادة، فقدوا حياة المستقبل، فقدوا الطريق إلى الله عزَّ وجلَّ، أصبحوا كالبهائم، بل البهائم أهدى منهم سبيلاً.
الجواب: أما الأمريكان فأنا تصورت من سؤال الإخوة وبعض المفكرين الذين جلستُ معهم أن في بعض الولايات الذين يشتغلون بالسياسة يتصورون أن العرب لا شيء، كالأطفال، وأنها دول نامية، ورجعية، ومتخلفة، وأما بعض الولايات فلا يشتغلون بالسياسة، ولا يعرفون حتى الصحف اليومية، عندهم الأمر عادي، فدائماً متعوِّد على أن يمر بهندي وباكستاني وعربي وياباني وصينيي فالأمر عادي، ولذلك بعض الولايات يركزون النظر فينا، وبعضهم لا يتأثر، مثل ما هو حاصل عندنا، ففي جدة -مثلاً- من كثرة من ينزلها صاروا لا يستغربون مرور الخواجات، لكن في تهامة لو مرَّت من عندهم الخواجة لتعثروا ووقفوا، فهذه تختلف بنسب بين الولايات.
وفي الختام: نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرينا وإياكم الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر