أما بعـد:
جئت بالحب إليكم والسلام حاملاً أزكى التحيات العظام |
في البكيرية أحبابي ولي إخوة فيها وأصحاب كرام |
كم بها من مقرئ أو عالم يشبه البدر معالي التمام |
رفعوا الإسلام في أرض الهدى ورووا الحكمة عن خير الأنام |
أما محاضرتي فعنوانها: حوار بين تقي وشقي.
الناس صنفان: تقي وشقي: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7].. هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19].
العيون قسمان:
عين عرفت الله ودمعت من خشيته، وتدبرت آياته، وتفكرت في مخلوقاته.
وعين نظرت إلى الحرام، وأعرضت عن هدي خير الأنام، وتصفحت المعاصي وأطلّت على الحرام، فهي العين الباكية يوم العرض الأكبر على الله.
والقلوب اثنان:
قلب عرف الله وامتلأ بلا إله إلا الله، وأحب رسول الله وسار على منهج الله، فهو قلب سعيد.
وقلب أعرض عن الذكر والتلاوة، والصلاة والمعرفة، والنهج السديد، وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو قلب منكوس.
والآذان أذنان:
أذن استمعت إلى الوحي، وإلى التلاوة والحديث، وإلى الدعوة والخير والذكر والبر، فهي أذن سعيدة.
وأذن أعرضت واستمعت إلى الغناء، والفحش، وإلى البعد والانهيار، وإلى كل ما يغضب الرب فهي أذن شقية.
والألسنة لسانان:
لسان نطق بالحكمة، وقال الخير، وذكر المولى، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر.
ولسان تكلم باللعنة والزور، والاستهتار والاستهزاء، والغيبة والنميمة، فهو لسان خاسر.
لسانك لا تذكر بها عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن |
وعينك إن أبدت إليك معايباً لقومٍ فقل يا عين للناس أعين |
أما عناصر هذه المحاضرة:
فمنها: إبراهيم عليه السلام في حوار حار مع النمرود بن كنعان.
موسى وفرعون في مناظرة ساخنة في إيوان فرعون.
محمد صلى الله عليه وسلم يحاور فاجراً.
مسيلمة الكذاب كذاب اليمامة يعترض على حبيب بن زيد أحد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
الأسود العنسي دجال اليمن يتحدث مع أحد الأبرار فيفحمه هذا البار الراشد.
ثم ننتقل إلى رجل هو من المسلمين وهو الحجاج مع عالم هو سعيد بن جبير لنسمع إلى حوار بين الاثنين.
وفي الأخير مع ربعي بن عامر أحد الصحابة وهو يدخل على رستم قائد فارس.
حوار بين تقي وشقي.
ما أحسن الهداية، وما أجلَّ أن تعرف الله، وما أعظم أن تتعرف على الواحد الأحد، سبحان الله كم فَقَدَ من فَقَدَ الله! وماذا فات من وجد الله! وسبحان الله كم هي القلوب التي أعرضت عن الله!
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا |
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا |
والنحل قل للنحل يا طير البوادي ما الذي بالشهد قد حلاَّكا |
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا |
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا |
فالحمد لله العظيم لذاته حمداً وليس لواحدٍ إلاَّكا |
ذكر ابن الجوزي: أن رجلاً رأى عصفوراً يأتي بقطعة لحم فينقلها من مكانٍ في المدينة ويرتحل بها إلى رأس نخلة كل يوم، فتعجب هذا الرجل؛ لأن العصفور لا يعشعش في النخل، فتسلق النخلة فرأى حية عمياء، كلما اشتهت الأكل أتى هذا العصفور بقطعة لحم، فإذا اقترب فتحت فمها فيلقي اللحمة في فمها. سبحان من دلَّ العصفور ومن دلَّ الحية على رزقها!
فيقول: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258]. اسمع الكذاب، اسمع الدجال، اسمع الملعون الذي ينكر أعظم الآيات في الدنيا، ولذلك وجد في الساحة من تزندق واستهزأ بالقيم وتوحيد الألوهية والربوبية، إي والله وجد ذلك! عجباً لهم كيف يكفرون! وعجباً لهم لا يؤمنون! أفي الله شك؟! أفي آياته لبس؟! أفي ما أنزله من الكتاب والسنة غبش؟! حتى يستهزئ بعضهم بالقيم والأخلاق والدين والكتاب والسنة: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:65-66].
فسكت إبراهيم لا سكوت العاجز المتقهقر المنهزم، ولكن: قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258] قال: كيف؟! فأتى برجل مسجون قال: هذا أحييته تركته لوجوهكم، وأتى برجل آخر فذبحه قال: هذا أمتُّه.
إنه كذاب، والله ما هذا بالإحياء والإماتة، قال إبراهيم عليه السلام: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258] إن كنت صادقاً أنك إله فأتِ بالشمس من المغرب فإن الله يأتي بها من المشرق: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258] انهزم وخاب وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258] إي والله: إن أوراقهم تحترق فليس لهم حجج ولا براهين، دجالون كذابون مفترون على الله.
هذا جدال وحوار ومناظرة بين تقي عرف الله وهو إبراهيم، وبين شقي وهو النمرود وماذا كانت النتيجة؟ هل سكت النمرود؟ لا. لقد جمع حطباً وأجج ناراً، وأمر الجنود بأخذ إبراهيم وقال: قيدوه وألقوه في النار فإلى من يلتفت إبراهيم؟!
يا واهب الآمال أنت حفظتني ومنعتني |
وعدا الظلوم عليَّ كي يجتاحني فحفظني ونصرتني |
فانقاد لي متخشعاً لما رآك منعتني |
من يمنعك إلا الله؟! الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174].
يقول ابن عباس كما في صحيح البخاري: (حسبنا الله ونعم الوكيل كلمة قالها إبراهيم حينما ألقي في النار، فجعلها الله برداً وسلاماً، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم يوم قيل له إن الناس قد جمعوا لكم).
ألقوه في الحبال، وشدوا إبراهيم في القيد، وحملوه في المنجنيق، وأشعلوا له ناراً، وأتاه جبريل في الساعة الحرجة، والساعات الحرجة يعرفها بعض الناس منَّا، إذا أتت عليه مشكلة أو قضية يتمنى أن الجن يساعدوه، وبعض الناس ضعاف العقول والإيمان يستعين بالجن، حتى إذا مرض ابنه في البيت يذهب إلى المشعوذين والسحرة والكهنة، فينسى عقيدته وإيمانه، ومبادئه ومنهجه.
جاء جبريل إلى إبراهيم وهو مقيد بالحبال، لا إله إلا الله موقف ما أصعبه، ومقام ما أرهبه! قال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا وأما إلى الله فنعم، فحملوه فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، ووقع في النار فكانت برداً وسلاماً، فسبحان من أنجاه وحماه ووقاه! لأنه تقي، وسبحان من رد الخبيث الخسيس! لأنه شقي. أتدرون بماذا عذب الله النمرود؟ ذكر بعض أهل العلم أن بعوضة دخلت أنف النمرود فتغذت على دماغه حتى أصبحت كالعصفور فكانت تفرفر في رأسه فيجد انزعاجاً وألماً وعذاباً وخيبة، لا تسكت هذه الفرفرة والقرقرة حتى يُضرب بالنعال أو بالكرابيج على رأسه، وفي الأخير ضرب فذهب مخ رأسه:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار |
أيها الأخيار: ليس العمى عمى العينين ولو أنه عمى ظاهراً، إنما العمى عمى القلب: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد:19]. تجد بعض الناس عيونه كعيون الثور، لكنه لا يفهم، ولا يعي، ليس عنده قلب ولا حياء، مثل أبي جهل ينظر ويبصر، وعبد الله بن أم مكتوم أعمى بعيونه، ولكن قلب ابن أم مكتوم يعي ويبصر، وقلب ذلك الفاجر أعمى، فيقول الله في أبي جهل: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [الرعد:19] والذي يعلم أنما أنزل من عند الله: ابن أم مكتوم. أما أبو جهل فهو أعمى عن الحق.
يقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في عمى ابن أم مكتوم عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [عبس:1-2]. وهذا الأعمى أبصر الهداية، يقول الله للرسول عليه الصلاة والسلام، كأنه يقول: مالك تأتي إلى الثيران في الحضائر وإلى المجرمين وإلى الفجرة الذين تدحرج عيونهم وهم لا يعرفون القرآن، ولا الهداية، ولا النور، وتُعرض عن الصالحين ولو كانوا فقراء عمي في الظاهر لكنهم في الباطن مبصرون: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس:1-10].
أما تدري أن هذا الأعمى سوف يكون منارة من منارات الأرض تستقبل نور السماء! ولذلك عاش ابن أم مكتوم حتى أتت معركة القادسية وحمل ابن أم مكتوم الراية وهو أعمى وقُتل في المعركة شهيداً، وأبو جهل قتل وسَيُدَهْدَهُ على وجهه في النار.
ابن عباس ترجمان القرآن، حبر الأمة وبحرها، العلامة الكبير، الذي قال له صلى الله عليه وسلم: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل}. لما كبر وبلغ السبعين عمي، فقال له بعض الحساد: أحسن الله عزاءك في عينيك يا ابن عباس! كلمة حق أريد بها باطل، يستهزئ أو يستهتر، فرد ابن عباس وعرف أن الرجل مستهزئ مستهتر فقال:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور |
قلبي ذكيٌ وعقلي غير ذي عوجٍ وفي فمي صارم كالسيف مشهور |
هكذا الهداية، وهكذا الإشراق واللموع، ما دام أنه عرف الله فلا يضره ذهاب البصر، إنما المشكلة ذهاب البصيرة.
إذاً، فإبراهيم عرف الله؛ فحاور هذا، فسعد في الدنيا والآخرة، وأضل الله ذاك الشقي لأنه لم يعرف الهداية.
أيها الإخوة: لا ينقصنا خبز ولا مربى ولا خضروات ولا ميرندا، إنما ينقصنا الهداية والالتجاء، ينقصنا زيادة الإيمان، وكيف نعرف طريقنا، ينقصنا دعاة ينزلون إلى الساحة، لا ينقصنا شهادات فقد أصبحت براويز معلقة في البيوت، ولا ينقصنا دنيا فقد مات أكثرنا في المستشفيات من التخمة وكثرة الأكل، يقول الشافعي:
تموت الأسد في الغابات جوعاً ولحم الضأن تأكله الكلاب |
ما سمعنا بأحدٍ في هذه الفترة مات جوعاً هنا، ولكن سمعنا أن قلوباً تموت جوعاً وتموت ظمأً وفقراً، وتموت قحطاً وجدباً. فهل من غيث، ولا غيث إلا (الكتاب والسنة)؟
إنه رجل دجال جمع القصور والأموال حتى تكبر وتجبر، فوقف على المنبر يقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] ويقول لأهل مصر: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24]. فيصفقون له ويقولون: تبقى وتسعد وتسلم عينك، لعنه الله في الدنيا والآخرة وقد فعل، يقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] فأجراها الله من فوق رأسه.
قال تعالى لموسى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:24] موسى يعرف أن حرس فرعون ستة وثلاثون ألفاً يقول بعض الرواة: على القصر ستة وثلاثون ألف حارس، وموسى جاء من الصحراء معه عصا يرعى الغنم والضأن: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25]. هذا في أول طريقه إلى فرعون لدعوته، كيف أتكلم؟ ولكن أسعده الله فطلب شرح صدره، ذاق الناس اللذائذ لكن لم يجدوا كحلاوة الإيمان حلاوة، أكلوا الأطعمة، ولكن لم يجدوا لها طعماً بلا إيمان، جلسوا على المشروبات والمرطبات والمشهيات ولكن لم يجدوا لها طعماً يوم فات الإيمان: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25].
يقول الله للرسول عليه الصلاة والسلام: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1]. فتِّش في صدرك، كيف كان قبل أن نشرحه؟ أما كان ضيقاً؟! أما كان حرجاً؟! أما كان متصادماً؟! ففتِّش في حناياك وابحث في خفاياك، أما شرحنا لك صدرك؟! أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ الله [الزمر:22] أيستوي إنسان يأتي إلى صلاة الفجر بنشاط مع شخص لا يقوم إلا لصلاة الظهر؟! أيستوي إنسان يقرأ القرآن بحب مع إنسان إذا أتى إلى الصلاة كأنه يجرجر في الحديد أو يساق إلى السجن أو المذبحة؟! يقول سبحانه وتعالى عن الذين تضيق صدورهم بالصلاة: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142]. يقوم أحدهم إذا سمع الأذان فيجلس يستخير ويحرك عيونه ربع ساعة هل يقوم أو لا؟ الشيطان يسحبه إلى الفراش والله يدعوه إلى المصلَّى، فيتوضأ ويأخذ وقتاً طويلاً حتى يقيم الناس الصلاة، ويأتي يدردر أرجله، ويقف في طرف الصف كأنه نخلة منكوسة على جدار! وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4]. لا حياء، هل يستوي هو ومن ينشرح للدين؟! ويحب ويتلذذ بسماع القرآن، ويهش للرسالة الخالدة، ويجلس مع الدعاة، ويحب طلبة العلم، ويحب زيارة العلماء، ولسانه دائماً رطبة بذكر الله؟!
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس |
هل يستوي هذا مع إنسان لم يشرح الله صدره، أحسن شيء عنده أن يسمع الأغنية، يعيش في الهيام والخيال، يقول: دعنا من ذكر الموت، دعنا من التزمت والتشدد، يريد محرمات، وكأنها حلال وأما الطاعات فتشدد وتزمت؟!
نقول له: اجلس معنا، قال: لا. له كتب خاصة من كتب الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وله مجلات غير المجلات، ومجالس غير المجالس.
وقال موسى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي [طه:25-27]. أريد يا رب أن أكون داعية، أريد أن أكون خطيباً أرجُّ قلب الفاجر، وفي هذا درس: أن على طلبة العلم أن يتعلموا الخطابة والكتابة، ويتعلموا الأدب، ويتعلموا فنَّ الكلمة وروعة الخطاب، وفن المقام والكلام والالتزام، وأن يتعلموا السحر الحلال في الكلمات والجدال، ليحولوا أحوال الناس من حال إلى حال.
قال تعالى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:27-28]. لأن في لسانه شيئاً فحل الله عقدته، ولكن قال: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي [طه:29-30] فجعل الله له ذلك في آخر الآيات، قال: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36] وذهب موسى وهارون، وقال الله لموسى وهارون وهما في الطريق: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:43] أي: تجاوز الحد، لكن اسمع أدب الدعوة: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] لأن القلوب لا تلين إلا لكلمة حبيبة، والآذان لا تستمع إلا إلى الحب والصفاء، والقلوب والأرواح لا تنقاد إلا بالحكمة.
انتبها -يا موسى ويا هارون- لا تجرحا شعور الفاجر، وليس فاجراً مثل الفجار، بل دجال، ذبح الأنفس، وشرب الدم، وسوَّد وجه التاريخ، وداسه تحت قدميه: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].
قال سفيان الثوري: "القول اللين الذي أمر الله به موسى وهارون أن يكنيا فرعون أي: يدادعوانه بالتكنية، يا أبا فلان، أنت إذا رأيت زميلك وحبيبك وناديته بكنيته يبتهج ويهش ويبش، يقول الشاعر:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه فالسوءة اللقب |
كذاك أُدِّبت حتى صار من خلقي أني وجدت ملاك الشيمة الأدب |
فدخلا عليه، وكانت كنيته كما قال سفيان الثوري (أبا مرة) مرَّر الله وجهه في النار، وقد فعل، يقول موسى: يا أبا مرة إن أردت أن يبقي الله عليك شبابك وملكك وصحتك فأسلم لله رب العالمين، فقد سمعنا عنك الخير، وهذا أسلوب دعوي من السحر الحلال، وهو لم يسمع عنه إلا النار، ولم يسمع عنه إلا اللعنة والسخط والبغض، فقال له موسى: أنت مثلك يصلح الناس، ومثلك إمام يقتدى به، فأسلم وقل: لا إله إلا الله، فأتى الفاجر. واسمعوا إلى الحوار: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه:49]. لا إله إلا الله، أنكر الله، أنكر من خلق السموات والأرض أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:17-22] والله سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى: هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:1-2] ويقول: يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8].
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه:49]. وهنا لو قال موسى: ربي الله، لقال فرعون: هو الله، وإن قال: ربي ربي، لقال: أنا ربك، فماذا يقول؟! فأتى بجواب مبهت مسكت دامغ، يقول الزمخشري صاحب الكشاف: لله دره من جواب كالصاعقة) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] هذه مواصفات لا تكون إلا في الواحد الأحد، ولا يدعيها أحد أبداً، حتى يذكر ابن تيمية أنه لا ينكر الصانع أحد، حتى فرعون يوم قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] قاله في الظاهر أما في الباطن فيعلم أن هناك إلهاً، ويعلم أن في السماء إلهاً، وأن من خلق السموات والأرض هو رب قادر حكيم سميع بصير، حتى يقول له موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء:102] يا مجرم والله إنك تعلم أن الله خلق السموات والأرض فلا تكابر!
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] خلَقه ثم هداه لمعيشته، وهداه لكل شيء، هدى النملة أن تأتي إلى الجحر فتنقل حبة لتخزنها للشتاء، هدى النحلة أن تسافر مئات الأميال والكيلو مترات وتأخذ الرحيق وتجعله في الخلية، هدى الثعبان كما يذكر مثل صاحب كتاب الإنسان لا يقوم وحده كريسي موريسون الأمريكي يقول: ما للنحلة تهاجر مئات الأميال وتعود إلى خليتها؟ من دلها؟ أعندها إريال؟ فيرد عليه سيد قطب: لا، بل علمها الله: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:68] سبحان الله! ما أعظم الله! وما أجلَّه! ولكن ما أكثر من لا يتعرف على الله سبحانه!
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] ولهذا لما لم يستطع فرعون أن يعاند هذا الدليل، راوغه بقوله قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى [طه:51] أي: ما للناس يموتون ولا يعودون؟! ما رأينا آباءنا وأجدادنا، هذه كلمة يقولها كثير من الملاحدة والزنادقة، كـلينين وماركس وهرتزل وأمثالهم وأذنابهم وعملائهم، كلمتهم هذه يقولون: يموت الإنسان ثم يتحلل ولا يعود، لا والله، والله لتبعثن كما تستيقظون ولتموتن كما تنامون: أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات:9-10] وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
وانظروا أيها الإخوة كيف كان جواب موسى لفرعون عندما قال له: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى [طه:51] فكأن من المناسب أن يكون الجواب وما دخلك أيها المجرم من هذا الكلام؟ لقد تجاوزت حدودك؛ لكنه أجاب عليه بكلام مؤدب، كما أمره الله عز وجل: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىَ [طه:44] فقال: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52] فدمغه، وأزهق روحه، وانتصر عليه في الحوار في ديوانه وتحت سقف قصره، كما انتصر عليه في القتال في البحر يوم نصره الواحد الديان، إذاً حربه برية بحرية، ونظرية علمية، وميدانية قتالية، وهذا هو الجدل العلمي العملي الذي عاشه موسى عليه السلام في حياته الدعوية وانتصر، فهو التقي الذي دمغ الفاجر الشقي.
يقول عبد الله بن سلام والحديث في الترمذي وعبد الله بن سلام من اليهود لكنه أسلم يقول: (لما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس، فكنت فيمن انجفل، فاجتمعوا عليه في السوق فتبينت وجهه، فلما رأيت وجهه، عرفت أنه ليس بوجه كذاب). وجهه كالقمر ليلة أربعة عشر.
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبئك بالخبر |
وجهه وجه صادق مخلص، وجهه رائع وجميل.
قال: (فلما رأيت وجهه سمعته يقول: يا أيها الناس -اسمع الكلمات، حتى الكلمات كالدرر- افشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام). وراوي الحديث هو نفسه عبد الله بن سلام.
فقال عبد الله بن سلام: (يا رسول الله! أسألك عن ثلاث آيات لا يعرفها إلا نبي -لأن
الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقرأ ولم يكتب: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48] هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [الجمعة:2] لم يقرأ ولم يكتب أو يدرس في مدرسة أو في كتاتيب أو في جامعة.
فالرسول عليه الصلاة والسلام لم ينتظر كثيراً فلقد أتاه الوحي: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:4-5].
قال: ( أما أول ما يأكل أهل الجنة إذا دخلوا الجنة فإنه زيادة كبد الحوت، قال: صدقت، قال: وأما أن يشبه الولد أباه، فإذا أتى الرجل زوجته فعلا ماؤه ماءها أشبه أباه، فإن علا ماؤها ماءه أشبه أمه، قال: صدقت، وأما أول علامات الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، قال: صدقت، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم يقول: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت -أي: أهل زور وفجور- إذا علموا أني أسلمت بهتوني، فلا تخبرهم بإسلامي وأدخلني هذه المشربة -غرفة خلفية- واسألهم عني، فأدخله عليه الصلاة والسلام في الغرفة وأغلق عليه ونادى اليهود، فأتوا وجلسوا، قال: يا معشر يهود! كيف
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا |
{ أتى
فيقول عليه الصلاة والسلام: (يا أيها الناس: إني مرسلكم إلى ملوك الدنيا فلا تختلفوا عليَّ، قالوا: سمعاً وطاعة، قال: قم يا
بنتم وبنَّا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا |
نكاد حين تناديكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا |
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا |
وذهب ووصل إلى مسيلمة، فقال مسيلمة: (من أنت؟ قال:
[[
يقول أهل السير كـموسى بن عقبة: كان خبيب بن عدي قبل أن يُقتل يقول: [[اللهم أبلغ عنا رسولك ما لقينا الغداة، السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا رسول الله]] هو في مكة والرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة، فأخذ صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظة يقول: (وعليك السلام يا
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي |
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أجزاء شلوٍ ممزع |
كان عمر بن الخطاب يعانق أبا مسلم الخولاني ويقول: [[مرحباً بخليل هذه الأمة، أو بالرجل الذي أشبه الخليل]] أو كما قال، لماذا؟ لأنه تقي وذاك شقي.
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19]. والدائرة دائماً تقع على الأشقياء الذين لم يعرفوا الله تبارك وتعالى.
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر |
قلن: تعرفن الفتى قلن: نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر |
ليس بقمر، لكنه قمر في الظلم والانحراف وسفك الدماء، الحجاج بن يوسف هذا له قصص لا بأس أن نورد بعضها، يقول طاوس بن كيسان عالم اليمن: كنت جالساً عند مقام إبراهيم عليه السلام في الحرم، وبينما صليت ركعتين عند المقام، جلست انتظر وأنظر إلى الناس يطوفون، وإذا بجلبة السلاح، وإذا بوقع الرماح والسيوف، فالتفت فإذا هو الحجاج وحرسه قد دخلوا الحرم - الحجاج الذي قتل مائة ألف نفس، يقولون عنه: أنه رئي بعد مامات في المنام أن الله قتله بكل نفس قتلة واحدة، إلا بـسعيد بن جبير العالم العابد الزاهد قتله سبعين مرة- قال: فلما أتى الحجاج جلس، وإذا بأعرابي أتى من اليمن -يحمل إيماناً وعقيدة- يطوف، فنشبت حربة لأحد حراس الحجاج في ثوب هذا الرجل اليماني، فوقعت على الحجاج فقبضها الحجاج وقال للرجل: من أين أنت؟
قال: من أهل اليمن.
قال: كيف تركت أخي؟
قال: من أخوك؟ -يقول للحجاج: من أخوك؟-
قال: أخي محمد بن يوسف.
ومحمد بن يوسف ظالم مثل الحجاج وكان والياً على اليمن.
قال: تركته سميناً بطيناً.
قال: ما سألتك عن صحته لكن سألتك عن عدله؟
قال: تركته غشوماً ظلوماً.
قال: أما تعرف أنه أخي.
قال: يا حجاج! أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله، قال طاوس: والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت من هذه الكلمة.
موقف الحجاج مع سعيد بن جبير موقف عجيب، وسعيد بن جبير أحد الصالحين العلماء الذين نشروا العلم والحديث، وكان أمة من الأمم، قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين، وكان الحجاج يبحث عنه، ولما اصطاده بعد ثمان سنوات وقيل أكثر، أدخل عليه، وقصته معروفة ذكرها صاحب تحفة الأحوذي في أول شرحه على الترمذي في المقدمة.
دخل سعيد بن جبير، فقال له الحجاج: ما اسمك؟ يعرف أنه سعيد بن جبير عالم المسلمين.
قال: أنا سعيد بن جبير.
قال: بل أنت شقي بن كسير.
قال: أمي أعلم إذ سمتني.
قال: شقيت أنت وشقيت أمك، والله لأبدلنك في الدنيا ناراً تلظى.
فقال سعيد: لو أعلم أن ذلك إليك لاتخذتك إلهاً.
قال الحجاج: عليَّ بالمال، فأتوا بأكياس الذهب والفضة فنثروها بين يدي سعيد بن جبير ليفتنه.
قال سعيد بن جبير: يا حجاج! إن كنت اتخذت هذا المال ليمنعك من عذاب الله فنعم ما فعلت، وإن كنت اتخذته رياءً وسمعة وصداً عن سبيل الله فوالله لا يغنيك من الله شيئاً.
قال الحجاج: عليَّ بالمغنية - جارية وهي تغني الأغنية وبدأت تُروَّج من عهد الحجاج، بدأ العزف على الموسيقى، وبدأت الجواري وهو تاريخ قديم لما يسمونه بكواكب الشرق وكم في الشرق من كواكب لكنه ظلام دامس! ينتهي بكوكب تسمى كوكب الشرق، يوم أتت إسرائيل بطائراتها ودباباتها تسحق الأجيال والألوف المؤلفة، والناس يصفقون لـكوكبة الشرق.
قال للجارية: اعزفي -يذبح عالم المسلمين سعيد بن جبير محدث الدنيا وتغني الجارية!- فانطلقت تعزف فبكى سعيد بن جبير.
فقال الحجاج: طربت -أي: تبكي من الطرب- لأن بعض الناس يبكي عند سماع الطرب؛ لكن وقت الموت ليس ساعة طرب: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34-36]. قال: طربت فتبكي؟!
قال سعيد: لا والله، والله ما بكيت إلا أني تأملت في جارية سُخِّرت لغير ما خلقت له -أخلقت تغني؟ كلا. بل خلقت تسجد لله، خلقت تعبد الله، خلقت تعرف طريقها إلى الله.
قال: خذوه، يعني: خذوا سعيد بن جبير وولوه إلى غير القبلة، وقال: والله لأقتلنك قتلة ما قُتل بها أحد من الناس.
قال سعيد: يا حجاج بل اختر لنفسك أي قتلة تريدها، والله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله بمثلها فاختر لنفسك.
قال: ولوه إلى غير القبلة.
قال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].
قال: أنزلوه أرضاً.
قال: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55].
قال: اقتلوه.
قال سعيد: [[لا إله إلا الله محمد رسول الله، خذها يا
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت |
إنه ملحد زنديق، لم يعرف الله، يقول: جئت من بطن أمي، وخرجت إلى الحياة، وأكلت خبزاً وفاكهة وتفاحاً وبرتقالاً.
جئت لا أعلم من أين! ولكني أتيت!! |
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!! |
أي: رأيت الناس يمشون فمشيت، ورأيتهم يخرجون فخرجت، لبسوا الثياب فلبست الثياب، ركبوا السيارات فركبت السيارة، وهذا حمار؛ لأن الذي لا يفهم لماذا خلق فهو حمار، قال:
جئت لا أعلم من أين! ولكني أتيت!! |
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!! |
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت!! |
كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري!! |
ولماذا لست أدري؟!! لست أدري!! |
ما الفرق بين هذا وبين أحد الوعاظ الذي يقول لأحد خلفاء بني العباس، يعظه ويذكره لقاء الله، فيقول لخليفة الدنيا:
ستنقلك المنايا عن ديارك ويبدلك البِلى داراً بدارك |
فدود القبر في عينيك يرعى وترعى عين غيرك في ديارك |
فيغمى على الخليفة من كثرة البكاء حتى يرش بالماء، أي فرق بين هذا النتاج وهذا النتاج؟!
أو المؤمن الآخر الذي يقول:
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حيٍ |
ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شيّ |
إي والله، هذا حوار يستمر أبداً بين الأديب والأديب، بين الشاعر والشاعر، بين العالم والعالم، بين الزعيم والزعيم، بين أديب مؤمن، وأديب فاجر متهتك، بين عالم مؤمن مخلص، وبين عالم ملحد، بين شاعر عرف الله، وشاعر تنكر لمبادئه وأصالته وإيمانه، فهو حوار بين تقي وشقي، فأين مقامنا من هذا الحوار؟ وأين موقفنا يا عباد الله؟ وأين هو صفنا؟! هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19].
اللهم فإذا قسمت الناس فريقين، ووزعتهم فرقتين وطائفتين، فاجعلنا في السعداء.
اللهم فإذا وزعت الناس على واديين وعلى منزلين، وذي شعبين فاجعلنا في شعب أهل الإخلاص والصدق يا رب العالمين!
اللهم فإذا رضيت على قوم فاجعلنا معهم، وأبعدنا عن أهل الغضب والسخط يا رب العالمين!
اللهم اجعلنا في موكب إبراهيم، ونوح، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم ولا تجعلنا مع القوم الظالمين النمرود، وفرعون، ومسيلمة، والأسود العنسي، وأمثالهم من أعداء الله.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين!
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر