إسلام ويب

واهتز العرشللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في هذه المحاضرة تقرأ قصة بطل من الأبطال، إنه سعد بن معاذ: إسلامه ، مواقفه البطولية ، موقفه من يهود بني قريظة ، وحكمه فيهم ، ووفاته ، وما حصل له من كرامات يوم وفاته من تشييع سبعين ألفاً من الملائكة لجنازته ، واهتزاز العرش لموته.

    وأشار الشيخ إلى دروس عظيمة وجليلة من سيرة هذا البطل الذي خلد التاريخ اسمه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

    1.   

    إسلام سعد بن معاذ

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته:

    عنوان هذه المحاضرة: واهتز العرش.

    نعيش اليوم مع صحابيٍ جليل ومجاهد نبيل، اخترناه لسبب عجيب ولنبأ غريب، اخترنا سيرته؛ لأنه عدو لليهود، ولأنا نعيش اليوم عداوة اليهود وبغيهم ومكرهم، فرشحنا هذا البطل الشهيد ليكون قصتنا، ولأننا مع جهادٍ دائم مع أعداء الله، فكان من الحكمة أن نتحدث عن مجاهد صادق، ومقاتل مقدام، صارت شجاعته حديث الركبان، وأصبحت بطولته مضرب المثل، فحيا الله أبا عمرو سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري، ويكفيه شرفاً وفخراً، وحسبه ثناءً ومدحاً أن عرش الرحمن اهتز له لما مات، وليس بعد ذلك فخر ومجد، وليس بعد ذلك علو ورفعة، وأملي من الواحد الأحد الذي قيض للإسلام من أمثال سعد بن معاذ أن يقيض من هذا الجيل ومن أصلابه ومن أبنائه ومن أحفاده عشرات من أمثال سعد، فليس ذلك على الله بعزيز، أسأله أن يردنا كما كنا أعزة أقوياء شرفاء بديننا وبمبادئنا، فلقد كان سلفنا خير أمة أخرجت للناس.

    عباد ليل إذا جن الظلام بهم     كم عابد دمعه في الخد أجراه

    وأسد غابٍ إذا نادى الجهاد بهم     هبوا إلى الموت يستجدون لقياه/sh>

    يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً     يشيدون لنا مجداً أضعناه

    سعد بن معاذ! حيا الله التضحية والبطولة، والمجد والفداء، اللهم أعني على أن أعطيه حقه من السيرة، وأن أقدمه لهذا الجيل المتوضئ الطاهر الطيب كما كان رضي الله عنه.

    أما قصة إسلامه وقصة حياته فلا يتسع لها المجال، ولكن هيا بنا: بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا [هود:41] ومع سعد بن معاذ.

    سعد يريد قتل مصعب بن عمير

    أرسل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مصعب بن عمير؛ الشاب المرفَّه، المطيب المعطر، الجميل الوسيم، الذي ترك الجمال والترف والبذخ والإسراف لوجه الله، أرسله يدعو إلى لا إله إلا الله، ووصل المدينة وأخذ الناس يستجيبون له؛ لقوة وصدق ما يحمل ونبل ما يحمل من الحق، وسمع به سيد المدينة سعد بن معاذ، قيل له: رجل من مكة أتى يغير دين الناس ومبادئ الناس، يحرف الشباب عن دينهم الأول؛ الدين الخرافي الوثني الشركي، فغضب سعد رضي الله عنه، وأخذ حربته، لكنه يريد شيئاً والله يريد شيئاً آخر؛ والله فعالٌ لما يريد، والله غالب على أمره.

    دعها سماويةً تجري على قدرٍ     لا تفسدنها برأيٍِ منك منكوس

    أخذ حربته يريد أن يقتل مصعب بن عمير سفير الإسلام، ورسول الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقبل والموت في حربته، والسم على حد الحربة، ورآه مصعب وكان مصعب حليماً رقيقاً رحيماً حكيماً، قال: أيها الرجل! لا تعجل. أي: لا تذبحني، لا تقتلني، اسمع كلمة. قال: قل، قال: اسمع مني فإن كنت قلت حقاً؛ فأنصت للحق، وإن كنت قلت باطلاً؛ فعليك بي، وكان العرب عقلاء حكماء وهذا سيد الأوس وهو من الأنصار رضوان الله عليهم.

    سعد ينطق بالشهادتين

    فركز سعد الحربة، ثم جلس مصعب يتحدث عن لا إله إلا الله وعن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ويقرأ القرآن، فدخل الإيمان مباشرة كالنور وكالبشرى، وكضوء الفجر إلى قلب سعد بن معاذ رضي الله عنه، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وكسب الإسلام رجلاً بطلاً، ومجاهداً وشهيداً عظيماً، بلغ به الحال إلى أن اهتز عرش ذي الجلال والجمال والكمال لموته، فجمعنا الله به في حسن المآل.

    فلما قال: لا إله إلا الله، قال: اذهب فاغتسل، فذهب فاغتسل، ودب الإسلام في عروقه، ودخل شرايين قلبه، وانتفض جسمه فخرجت كل ذرة من ذرات الشرك والوثنية والكفر والفجور.

    سعد ينطلق داعية في أهله وعشيرته

    وماذا يفعل الآن؟ هل يبقى لبيته ولبطنه ولأطفاله؟ لا. المسلم رباني عالمي، المسلم باع رقبته من الله، المسلم باع روحه من الله، المسلم دمه لله، رأسه وماله ووقته لله، أما الإسلام الهزيل الذي يعيشه المليار الآن، حتى يقول القروي:

    لقد صام هندي فدوخ دولة      فهل ضر كفراً صوم مليار مسلم

    وقال الآخر في هذه الأصفار المليار وزيادة!

    عدد الحصى والرمل في تعدادهم      فإذا حسبت وجدتهم أصفارا

    من كل مفتون على قيثارة      كلٌ وجدت بفنه بيطارا

    لكن سعداً ليس صفراً، سعد بطل، اغتسل وتوضأ وصلى، ثم ذهب إلى قبيلته.

    انظر إلى هذه الدعوة وهذا التأثير، قال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214].

    قال: اجتمعوا لي رجالاً ونساءً، ولا يدرون ما الخبر، وهو السيد المطاع والأمير المقدم رضي الله عنه؛ اجتمعوا رجالاً ونساءً.

    معناه: عندي بيان خطير، عندي إعلان عالمي، عندي أمر هام، عندي وثيقة ربانية.

    فاجتمع الرجال والنساء، فقام فيهم، وانظر البطاقة الشخصية وهو الآن يريد أن يستدرجهم رضي الله عنه ويكسبهم للإسلام، ويخرجهم من عبادة الوثن والكفر والزور.

    قال: كيف أنا فيكم؟ هذا السؤال الأول، ما رأيكم فيَّ؟

    قالوا: أفضلنا وسيدنا وأصدقنا وأكرمنا وأشجعنا.

    قال: أأنا صادق؟ قالوا: صادق ميمون النقيبة.

    قال: أأنا عدل؟ قالوا: عدل.

    قال: فإن كلام رجالكم وكلام نسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله وحده وبرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ما أعظمها من كلمة! جزاه الله عن الإسلام خيراً، وهكذا يفعل المسلم، موقف عصامي، أما تمييع الدين، وتمييع الولاء والبراء، ومصادقة كل فاجر وعدو للإسلام، وكل منافق وملحد، فهذا ليس من الدين، لا مجاملة لأبيض أو أسود.

    فسمعوا الخبر فقاموا، قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قالوها رجالاً ونساءً، فصاروا في كفة حسناته وفي ميزان بركاته رضي الله عنه وأرضاه.

    قال الراوي: وليس في بني عبد الأشهل رجل كافر، وذلك ببركة هذا الرجل.

    1.   

    موقف سعد بن معاذ في غزوة بدر

    وجاء عليه الصلاة والسلام فملأ المدينة نوراً وإيماناً ويقيناً، وكان من أول المستقبلين له في المدينة سعد بن معاذ، وسار مع الرسول عليه الصلاة والسلام كالسيف المسلول، تدرون كم عمره؟ عمره ثلاثون سنة يوم أسلم، ائتوني من أبناء الإسلام أبناء الثلاثين والخمسة والثلاثين والأربعين، أهل الملهيات والشهوات والمغريات والأغنيات، ائتوني بواحد فقط من المليار مثل سعد بن معاذ.

    كان ليله مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان نهاره جهاداً ودعوة وطلب علم وتضحية، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم مسدداً موفقاً، يضيفه، يكرمه، يتكلم بين يديه بالحكمة، وفي اليوم الفاصل، يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان.. من ينسى منكم بدراً؟! وهل بدر تنسى؟!

    بدر رفعت رءوسنا، وأوصلتنا السماء، وسحقت أعداءنا.

    بدر كتبت لنا تاريخاً، قائدها محمد صلى الله عليه وسلم، والقيادة العليا عند جبريل، وبيض الله وجه حسان حيث يقول:

    وبيوم بدر إذ يصد وجوههم     جبريل تحت لوائنا ومحمد

    ويقول الأصمعي عن بيته الشعري: هذا أشرف بيت قالته العرب.

    فيقول: أنتم يا أعداء الله يا مشركين! إن كان قائدكم الشيطان فقيادتنا العليا جبريل ومحمد عليه الصلاة والسلام.

    النبي صلى الله عليه وسلم يعده الله بإحدى الطائفتين

    حضر صلى الله عليه وسلم بدراً وقد وعده الله جلّ وعلا إحدى الطائفتين: إما عير أبي سفيان وعليها التمور والزبيب والثياب؛ وهذه يريدها الصحابة؛ لأنها سلامة وعافية: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7] أي: يأخذون البعير محملاً إلى المدينة، لكن الواحد الأحد يريد شيئاً آخر، يريد أن يستخلص شهداء، يريد أن يصاول الإسلام، يريد الصراع العالمي، يريد أن يظهر الصادق من الكاذب، يريد سبحانه أن يعلم من في قلبه حرارة للدين، أما الإيمان الميت الذي تعيشه الأمة الآن فليس من الدين.

    النبي صلى الله عليه وسلم يعرض الأمر على الصحابة

    حضر صلى الله عليه وسلم بدراً واستعرض الجيش، وقد أخبره الله ووعده إحدى الطائفتين، وإذا بالطائفة الثانية ذات الشوكة ألف من كفار مكة مدججين بالسلاح، وإذا هم بالوادي، مفاجأة كبرى، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر، لكن كلهم من أمثال سعد بن معاذ، الواحد منهم بألف، فقام صلى الله عليه وسلم يستشير الناس، يريد صلى الله عليه وسلم الأنصار، لأن المهاجرين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وفي صفه، فقد هاجروا معه، وتركوا الأوطان والإخوان والخلان والجيران معه، فهم مضمونون وورقة رابحة، شيك مسدد مدفوع القيمة من قبل.

    لكنه صلى الله عليه وسلم لا بد أن يعرض الرأي للجميع، قال: ما رأيكم أيها الناس - وهو القائد الأعظم الحكيم المعصوم يستشير الناس- ما رأيكم؟

    فوقف المقداد بن عمرو رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! صل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وأعط من شئت، وامنع من شئت، وحارب من شئت، وسالم من شئت، والله! لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] لكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون؛ فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له.

    فالتفت إلى الأنصار، ولا يتكلم في الأنصار إلا سعد الشاب، صاحب الثلاثين سنة، قال: يا رسول الله كأنك تريدنا؟ قال: نعم. فوقف كالعلم، وكان وسيماً جميلاً، وفصيحاً مليحاً صبيحاً، إذا تكلم بهر العقول، قال: يا رسول الله لقد صدقناك وآمنا بك، وعلمنا أن ما جئت به حق، يا رسول الله! اذهب إلى ما أمرك الله به، والذي نفسي بيده لو استعرضت بنا البحر وخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، يا رسول الله! إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، وعسى الله أن يريك منا ما تقر به عينك.

    فدعا له صلى الله عليه وسلم.

    فقام وأشار بالعريش، لتبقى القيادة الربانية العليا محمد صلى الله عليه وسلم في العريش؛ ليتلقى أوامر الله عن طريق جبريل، ووقف سعد ينافح عن الإسلام في الصف الأول، وانتصر الدين، وانتصر الحق على الباطل، وارتفعت لا إله إلا الله، وقاتلت الملائكة مع المسلمين، واشتبكت السماء مع الأرض، واشتبك الحق مع الباطل، وانتهت المعركة بألف إلى صفر، صفر للطاغوت ولهبل والصنم والوثن والكفر والمكر، وانتصر محمد صلى الله عليه وسلم وجبريل والحق والإيمان والإسلام، وعاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

    فلما وصل صلى الله عليه وسلم أتت الليالي ولا يزداد هذا الإمام -سعد بن معاذ - إلا رسوخاً في الإيمان، وقوة تصديق؛ لأن المسلم يزداد يوماً بعد يوم في الخير.

    يقول أحد تلاميذ الإمام أحمد: صحبت أبا عبد الله أحمد بن حنبل فكان يزداد مع الأيام خيراً.

    والواجب أن يكون غدك خيراً من أمسك، قال ابن تيمية: والعبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات.

    أنت اليوم إذا كنت عاقلاً بصيراً لست اليوم مثلما تكون بعد سنة؛ لأنك تسمع العلم وتقرأ الكتب، فالواجب أن تكون أحسن.

    1.   

    دور سعد بن معاذ في معركة الخندق

    استمر سعد رضي الله عنه، وجاءت معركة الخندق، وحصن الرسول صلى الله عليه وسلم النساء والأطفال، وحفر الخندق حول المدينة وتألبت قبائل العرب واليهود والمنافقين ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وسموا الأحزاب، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم فلَّ حدهم، وشتت شملهم، وأخزى كيدهم.

    فخرج سعد وأمه رضي الله عنها وأرضاها تنظر إليه، وهي تلقي عليه نظرة من الحصن، واسمها سبيكة بنت رافع، تتبسم له ويتبسم لها، فتوصيه، وتقول: لو سددت هذا المكان، يعني: درعه كان مفتوحاً من جهة، لبس الدرع أخذاً بالتوكل؛ لكن هي الأم تبقى الأم، فالأم هي الحنونة الرءوفة، والأم أنت ابنها الصغير ولو كان عمرك سبعين سنة، فتنظر برحمة تقول: لو سترت بالدرع، فيلتفت إليها ويقول:

    لبث قليلاً يشهد الهيجا حمل     لا بأس بالموت إذا حان الأجل

    يقول: أنا أطلب الموت في سبيل الله، أرجوكم دلوني على الموت، لا أريد الحياة؛ لأن الذي يريد الحياة والبقاء للأكل والشرب وليس عنده رسالة ولا مبدأ كالبهيمة، قال تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] والله يقول عن اليهود: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] يعيش حياة الذل والمهانة.

    ووصل وقاتل رضي الله عنه، وأتاه رجل مشرك رعديد، فأطلق سهماً وبقدرة القادر يترك السهم كل الجسم المغطى، ويأتي في هذه البقعة الصغيرة التي كانت أمه تخافها ولذلك لا تأخذ حرزاً غير حرز الله، ولا حصناً غير حصن الله، ولا كفاية غير كفاية الله.

    علي بن أبي طالب يوم الجمل قالوا: البس درعاً فضفاضاً، قال: أتظنون أن الدرع يمنعني من الموت فهذا درعكم، فخلعه رضي الله عنه، وخرج بالثياب، ثم قال:

    أي يوميَّ من الموت أفر     يوم لا قدر أم يوم قدر

    يوم لا قدر لا أرهبه     وإذا ما جاء لا يغني الحذر

    يقول: أنتم تظنون أن هذا الدرع يحميني، إن الحماية من عند الواحد الأحد، والحفظ من عند الله: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64].

    وأنتم تعلمون أن علياً لما جلس يقضي بين خصمين وكان متوكلاً، قالوا: الجدار يريد أن ينقض عليك، جدار هائل يريد أن يسجد على علي، قال علي: حسبنا الله ونعم الوكيل، فلما انتهى من الخصومة وقام هو والخصوم وابتعدوا سقط الجدار مكانهم.

    أتى سعد رضي الله عنه سهم، يقول سعد: من الذي أرسل السهم؟ يريد الاسم -البطاقة الشخصية- قال: أنا ابن عرقة، قال: عرق الله وجهك في النار، لأنه عدو لله، وكان الجرح في الأكحل، وكأن هذا الجرح في قلوب المسلمين ليس في سعد، فأخذه صلى الله عليه وسلم وضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب عليه الصلاة والسلام، وما أرحمه بالأمة! كان إذا أراد أن يصلي صلى الله عليه وسلم مر بـسعد وسلم عليه، وإذا انتهى من الصلاة مر بـسعد وسلم عليه، من هو هذا؟ إنه سعد بن معاذ، صاحب المواقف المشهودة، أننساه؟ لا. يمرض ويحترم ويحتفى به.

    تستمر الأحداث مع سعد رضي الله عنه وأرضاه وهو في الخيمة يتحرى موعود الله، يطلب الشهادة، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من طلب الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) يتمنى متى يموت شهيداً في سبيل الله، وإنها لأمنية غالية أسأل الله أن يحققها لي ولكم في سبيله.

    انتهى الأحزاب وفروا، وبقي أعداء الله إخوان القردة والخنازير الذين نقضوا العهد، ولا عهد لهم ولا ميثاق ولا كلمة أصلاً.

    نقضوا الميثاق ونقضوا الوثيقة التي كتبت بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، وظن إخوان القردة والخنازير أن الأحزاب سوف تنتصر على الرسول صلى الله عليه وسلم فمزقوها، وانظر إلى الخذلان، قالوا: ليس بيننا وبين محمد عقد ولا عهد، ومزقوا الوثيقة، وهذا كلام فارغ، وهم قد وقعوا عليها، وأشهدوا عليها، وأول ما واثقوا عليه محمداً صلى الله عليه وسلم: ألا يقاتلوه وأن يدافعوا عن المدينة، وفي الأخير كذبوا وخانوا وغدروا.

    1.   

    الهجوم على يهود بني قريظة

    فأتى جبريل من السماء للرسول صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم قد وضع اللأمة، بعد الخندق بعد الحصار والجوع، والخوف والمشقة، والضنا والسهر والتعب، قال جبريل: أوضعت لأمتك؟ قال: نعم. قال: وعزة الله وجلال الله ما وضعت الملائكة السلاح، أين يذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهذا القائد العظيم مأمور من السماء، قال: عليك ببني قريظة فقال: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فانطلق الصحابة، منهم من صلى في الطريق، ومنهم من ترك الصلاة حتى وصل.

    طوقهم صلى الله عليه وسلم وصاح بهم: انزلوا يا إخوان القردة والخنازير، اهبطوا.. تعالوا إلى هنا؛ لأنهم خانوا الله ورسوله، ونقضوا الميثاق، فتذكروا وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وما أحسن شجاعة الإسلام والإيمان يوم وصل بهم الحال إلى هذه العزة يوم طوقوا اليهود في بيوتهم وحاصروهم وأصبحوا في أضيق من ثقب الإبرة.

    اليهود يطلبون حكم سعد بن معاذ

    ضاق الأمر باليهود فتلمسوا من يساعدهم -أصلاً ليس لهم طريق إلى الواحد الأحد، الطريق مقطوع، وليس لهم طريق إلى الناس إلا بحبل من الله وحبل الناس وهو مقطوع- فما تذكروا إلا صديقاً واحداً فقط، وحبيباً وقريباً إلى قلوبهم، كان صديقاً وحليفاً لهم في الجاهلية، إنه سعد بن معاذ، كان يبايعهم ويشاريهم، لديهم اتفاقيات ينصرونه في الجاهلية وينصرهم هو وبني عبد الأشهل والأوس قالوا: لا ننزل إلا على حكم سعد بن معاذ، قال عليه الصلاة والسلام: ترضون بحكم سعد بن معاذ؟ قالوا: لا ننزل إلا على حكم سعد بن معاذ، قال صلى الله عليه وسلم: عليَّ بـسعد بن معاذ.

    فذهبوا إلى سعد بن معاذ وهو مجروح في المسجد، فأتوا به على حمار ولم يأتوا بالمواكب، نحن اليوم نمشي بالمواكب العظيمة ولا نساوي أظفارهم، وهو يركب حماراً وهو أعظم من مليون من المعاصرين.

    فوطَّئوا له الحمار وأركبوه، وأقبل رجلاه تخطان في الأرض كان طويلاً كالحصن، فلما وصل قال صلى الله عليه وسلم للجيش المدجج بالسلاح والقادة والكتائب: {قوموا إلى سيدكم فأنزلوه} فقام الصحابة جميعاً وأنزلوه من فوق الحمار برفق حتى وضعوه؛ لأنه سوف يصدر حكماً نهائياً في أعداء الله، يحفظ في التاريخ ويسجل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بل في الصحيح.

    سعد بن معاذ يصدر حكمه في اليهود

    فنزل سعد بن معاذ في الخيمة، وأخبره صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون حكمه، فمن إجلاله للرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه له وتوقيره قال: أيرضى من في هذه الناحية بحكمي؟ ناحية الرسول صلى الله عليه وسلم، فالآن سوف يصدر الحكم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أرضى. ولم يقل هو محمد صلى الله عليه وسلم ولا يا رسول الله، إجلالاً:

    أهابك إجلالاً وما بي رهبة     إليك ولكن في علاك تسجل

    قال: أيرضى من في هذه الناحية؟ -أي: محمد صلى الله عليه وسلم- تصوروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، محمد سيد الخلق قال: نعم. قال: وترضون بحكمي؟ -أي: اليهود- قالوا: نرضى بحكمك.

    قال: رأيي فيهم يا رسول الله! أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم، وأن تقسم أموالهم. فقال صلى الله عليه وسلم، تعليقاً على هذا الحكم: {والذي نفسي بيده! لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سموات}.

    النبي صلى الله عليه وسلم ينفذ حكم سعد

    وبدأ تنفيذ الحكم، وأنزل المقاتلة أمام الناس، والزبير وعلي جاهزان بالسيوف، فضربوا جمجمة سبعمائة في الخندق، وأخذوا الذرية والأموال، وهذا حكم الله، فحكم من غدرك وخانك وغدر بك وحارب ضدك بعد المواثيق والعهود؛ هذا الحكم، فهذه هي اللغة التي يفهمها اليهود، أما لغة السلام، لغة جميع القضايا، لغة دغدغة المشاعر فلا، بل لغة السيف. يقول المتنبي:

    من ابتغى بسوى الهندي حاجته     أجاب كل سؤال عن هلٍ بلم

    ويقول أيضاً:

    لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى     حتى يراق على جوانبه الدم

    1.   

    قصة وفاة سعد بن معاذ

    فبعد أن سفك صلى الله عليه وسلم دماء اليهود، وعاد سعد، هل ذهب يتنعم ويشاهد أفلاماً، ويطالع مجلات، ويروي قصصاً ويسمر؟ لا. ذهب إلى الخيمة ينتظر الشهادة، فتهبط عليه الشهادة تدريجياً، فساعات الصفر بدأت تقترب، الأيام تطوى، ليلقى الله ليوفيه أجره وثوابه، ويرفع منزلته ويعلي قدره، وأي حياة هذه الحياة؟!

    أيا رب لا تجعل حياتي أتت      على شرجع يعلى بخضر المطارف

    ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة     يصابون في فج من الأرض خائف

    إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى     وصاروا إلى موعود ما في المصاحف

    شهداء عند الواحد الأحد: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران:169-170].

    رجع سعد بن معاذ إلى الخيمة ينتظر الوفاة، وأخذ عليه الصلاة والسلام يكرر زيارته له ويجلس معه، وفي يوم من الأيام رفع سعد يديه إلى الواحد الأحد، إلى من يجيب الدعاء: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].. وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] رفع يديه، هل يسأل الله أن يشافيه ليعود للدنيا؟ وماذا يفعل بالدنيا، لا قصر ولا دار ولا مزرعة ولا وظيفة ولا منصب ولا ذهب ولا فضة، هل رفع يديه أن يعافى ليبقى في حياة لا تساوي شيئاً؟ يقول التهامي:

    حكم المنية في البرية جاري     ما هذه الدنيا بدار قرار

    طبعت على كدر وأنت تريدها     صفواً من الأقذار والأكدار

    وقال غيره:

    دار متى ما أضحكت في يومها     أبكت غداً تباً لها من دار

    بل يريد جوار الواحد الأحد.

    امرأة فرعون آسية أعقل من ملايين المسلمين الآن، تقول: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11] وهي في القصور والدور والذهب والحشم والخدم والجنود والأعلام والأقدام، ومع ذلك تريد جوار الواحد الأحد.

    فقام سعد يدعو، وكان موفقاً في الكلمات والعبارات والدعوات: اللهم إن كنت أبقيت بين رسولك صلى الله عليه وسلم وبين قريش حرباً فأبقني لها، وإن كنت أنهيت الحرب بين رسولك صلى الله عليه وسلم وبين قريش فاقبضني إليك.

    فلما انتهى من الدعاء انفجر الجرح مباشرة -لأن المعركة مع قريش انتهت- وسال، وحضر عليه الصلاة والسلام الدقائق الأخيرة في حياة هذا البطل الشهيد المجاهد، فحضر ومعه الوزيران الصحابيات الكبيران أبو بكر وعمر كما هو دأبه: دخلت أنا وأبو بكر وعمر.. خرجت أنا وأبو بكر وعمر.. جئت أنا وأبو بكر وعمر.

    ونظر إلى سعد، وأخذت نفس سعد ترتفع إلى الواحد الأحد: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:27-28].

    سبع سنوات في الإسلام قضاها فقط، هي خير عند الله من سبعة قرون لكثير من التافهين، ماذا فعلت أنت وأنا في عشرات السنوات تصرف من أعمارنا صرفاً؟ ماذا قدمنا؟ هل ضحينا؟ هل بذلنا؟ هل دعونا؟ هل تعلمنا العلم الصحيح؟ أين أيامنا؟ أين أوقاتنا؟

    دقات قلب المرء قائلة له     إن الحياة دقائق وثوان

    فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها     فالذكر للإنسان عمر ثاني

    بكاء النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لموت سعد

    تقول عائشة رضي الله عنها: كنت أنظر من وراء الباب، باب عائشة يطل على المسجد مباشرة، ومحمد صلى الله عليه وسلم يحكم العالم من غرفة، يرسل الهداية للدنيا من غرفة من طين، يدخل دينه القارات الست من غرفة.

    يقول سعيد بن المسيب: رفعت يدي فوصلت إلى سقف غرفة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    حتى خالد محمد خالد يقول معلقاً لما قال صلى الله عليه وسلم متواضعاً لأحد الناس ارتعدت فرائصة لما رآه: {هون عليك.. إني ابن امرأة كانت تأكل القديد بـمكة } سيد المتواضعين.

    أنا أمي آمنة بنت وهب كانت تأكل القديد، يعني: تخلطه بالملح من الفقر، قال خالد محمد خالد معلقاً: نعم أنت ابن امرأة تأكل القديد في مكة لكنك صاحب اللواء المعقود، والحوض المورود، والمقام المحمود، ودينك يدخل القارات الست.

    فهو أعظم إنسان خلقه الله.

    فجلس عليه الصلاة والسلام، وعائشة تنظر إلى سعد أمامهم، ونفسه تفيض والجرح ينزف، تقول عائشة: والله الذي لا إله إلا هو، إنني كنت أعرف بكاء الرسول صلى الله عليه وسلم من بكاء أبي بكر من بكاء عمر على سعد.

    أما أبو بكر الفصيح فكان يقول: واكسر ظهراه عليك يا سعد! واكسر ظهراه عليك يا سعد! واكسر ظهراه عليك يا سعد! ثم فاضت روحه.

    العرش يهتز لموت سعد

    انتهت حياته القصيرة وبدأت حياته الأخرى الطويلة الجميلة من الذكر الحسن، الخلود عند الواحد الأحد في الجنة، وأول إعلان للرسول عليه الصلاة والسلام عن سعد، عن هذه التضحيات والمكرمات، تأتي الآن الترجمة؛ وليست كتراجمنا نحن، فلان جمع فأوعى، فلان الدكتور، فلان الفيلسوف، فلان رئيس كذا، عميد كذا، أستاذ كذا، لا. ترجمة أخرى لا يسمع بمثلها، وتأبين لم ينقل مثله.

    أول كلمة للرسول صلى الله عليه وسلم يقول للناس وللعالم وللدنيا، تحفظها الكتب: {لقد اهتز عرش الرحمن اليوم لموت سعد بن معاذ} الدنيا بكت، الصحابة تأثروا، الجرح لا ينطفئ في القلوب، لكن أعظم من ذلك أن عرش الواحد الأحد الرحمن الديان المنان القهار الغفار الجبار جل في عليائه، الذي ما السموات السبع بالنسبة لعرشه إلا كسبع دراهم ألقيت في ترس، هذا العرش العظيم الضخم يهتز لموت سعد: {لقد اهتز عرش الرحمن لموت <p=1000293>سعد

    }.

    قال أهل العلم: وذلك فرحاً، ويا لها من خاتمة عظيمة! ويا له من مرد طيب! ويا له من منقلب حسن عند الله! إذ اهتز عرش الله لموت هذا الإمام العلم، الذي خلقه فصوره فشق سمعه وبصره، ثم رزقه الإيمان، ثم وفقه للجهاد، ثم قبض روحه ثم اهتز عرشه له، ثم أدخله جنات النعيم.

    بإمكانك أن تتخذ من سيرة سعد مثلاً لك ولأبنائك ولجيلك ولطلابك، فيبقى أمامك هذا الإمام تعلمه وتدرسه وتتأثر بسيرته إن كان لك قلب، إن كان فيك ذرة من حياء، إن كان لك ضمير: لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].

    ماذا أعد الله لسعد في الجنة

    أتى وفد من بلاد فارس بجبة لكسرى من حرير مخلوطة بألوان -وتصور ملك فارس ماذا يلبس- فلما رآها الصحابة تبرق مع الشمس، وكادت تعمي أبصارهم، فأخذوا يمسحونها بأيديهم ويلمسونها بأصابعهم، فيقول عليه الصلاة والسلام: {أتعجبون من هذه؟ والذي نفسي بيده! لمناديل سعد بن معاذ خير من هذه في الجنة} المناديل فقط -مناديل العرق- فكيف النعيم؟ كيف الدور؟ كيف القصور؟ كيف المنقلب؟ كيف النظر إلى وجه الباري سبحانه وتعالى؟ كيف الخيام؟ كيف الحور العين والطعام والشراب واللباس والعز والمجد والملك الكبير؟

    المناديل فقط خير من جبة كسرى التي شريت بالآلاف المؤلفة من الدنانير. فهذا شيء من طرف النعيم في الجنة.

    وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ} كل نائحة تبالغ إلا من تبكي على سعد بن معاذ فهي صادقة، أمه أرسلت دموعها، وشيعته وقالت:

    ويل ام سعد سعداً      كرامة وحدا

    وسؤدداً ومجدا     وفارساً معدا

    سد به مسدا     يقدمها ما قدا

    هذه بعض الكلمات قالتها تشييعاًِ على عادة العرب في رثاء أبنائهم، وجزاها الله عنه خيراً، وجزاها عنا خيراً أيضاً، فهي التي بإذن الله أوجدت لنا هذا البطل الذي صار شامة نفتخر به أمام الأمم هو وأمثاله من المهاجرين والأنصار، بنوا لنا مجداً رضوان الله عليهم لما صدقوا مع الله، فرفع قدرهم ومنزلتهم، وحكم جهادهم سبحانه، وعزَّ بهم دينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

    تشيع الملائكة لسعد بن معاذ

    من الكرامات لـسعد أن شيعه سبعون ألف ملك، وهذه في السير، وأنا أنقل أحاديث السير كما نقلها أهل السير من باب الرواية ولا نشترط فيها ما نشترط في حديث الحلال والحرام وأحاديث العقائد، ولكن نفعل كما قال الإمام أحمد حيث نقل عنه ابن تيمية في الفتاوى أنه قال: إذا أتى الحلال والحرام تشددنا وإذا أتت الفضائل تساهلنا، لكنني لا أتعمد أن أنقل حديثاً كذباً أو موضوعاً معاذ الله.

    فشيعه سبعون ألف ملك، وكان صلى الله عليه وسلم خير من شيعه إلى قبره؛ جعله الله روضة من رياض الجنة وهو كذلك بإذن الله.

    1.   

    دروس وعظات من سيرة سعد

    أما الدروس من هذه القصة:

    العمر المبارك ليس بكثرته

    فأولاً: العمر المبارك ليس بكثرة السنوات، فمن الناس من يعيش ثمانين أو تسعين سنة هباء منثوراً، تجدهم يأكلون ويشربون، وأغلوا الأسعار، وأفسدوا الهواء، وشربوا الماء.

    ليس لهم دور في الحياة ولا في العبادة ولا قراءة القرآن إنما هم ضياع في ضياع، بل منهم من بلغ الثمانين، وإذا سألته عن حياته فإذا هي هموم تافهة رخيصة لا تساوي ذرة، ولكن هذا الرجل عاش سبع سنوات في الإسلام، ومن الصحابة من عاش شهراً واحداً، ومنهم من مات في نفس اليوم الذي أسلم فيه فدخل الجنة.

    فليس العمر المبارك بكثرة السنوات ولا بطول العمر، بل قد يوفقك الله عزّ وجلّ فتحصل وتنتج في سنة واحدة من العطايا المباركة، والعبادة والنوافل، وقراءة القرآن، وطلب العلم، وحضور المناسبات الخيرة ما يفوق على مائة عام لغيرك، فهو توفيق من الله سبحانه وتعالى:

    قد يضيق العمر إلا ساعة      وتضيق الأرض إلا موضعا

    فساعة مباركة خير من ألف ساعة غير مباركة ولا جميلة.

    الصدق مع الله

    فالله الله في السرائر؛ فإن الله لما علم صدق نية سعد وإخلاصه؛ وفقه وألهمه وسدده في المواقف، ثم رزقه الشهادة؛ فكان مسدداً مهدياً حتى مات.

    فالله الله في الصدق معه، فإنه بقدر صدقك يمنحك الله الثبات في الأقوال والأفعال والتصرفات، ويحرسك سبحانه وتعالى بعين رعايته.

    التضحية بالنفس والنفيس

    إن كان عندك أحد أعز من الله ومن رسوله وأحب وأكرم؛ فأحسن الله عزاءك في إيمانك! فإنه لا زوجة ولا أهل ولا مال ولا أبناء ولا دار ولا وظيفة أفضل وأعز وأرفع من دين الله، فضَحِّ بها كلها لترتفع لا إله إلا الله محمد رسول الله.

    ويل لمن قدم شيئاً على الله وعلى رسوله، خسارة له.

    بعض الناس يحن لمزرعته، لاستراحته، لوظيفته، عبد الدرهم والدينار والخميصة والخميلة.. تباً له وسحقاً! ما عندنا أشرف من الدين.. من لا إله إلا الله.. من تمريغ الجباه لله الواحد الأحد:

    نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم     والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا

    جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا     في مسمع الروح الأمين فكبرا

    الأثر الذي تركه الرسول عليه الصلاة والسلام في أصحابه

    لا إله إلا الله! ليس في العالم مربٍ ولا مصلح ولا موجه ترك من التأثير في أصحابه وأتباعه كما فعل عليه الصلاة والسلام، لا إله إلا الله! ساعة واحدة يجلسها مع الإنسان فيحوله من الصفر إلى الألف، فيصبح مجاهداً شهيداً في سبيل الله!

    لا إله إلا الله أي تأثير هذا؟!

    يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع العرب ويربيهم، فالواحد منهم يطعن بالرمح في ظهره ويخرج من صدره فيقول: فزت ورب الكعبة!

    أما الثاني: فيكلمه الله كفاحاً بدون ترجمان، والثالث تغسله الملائكة، والرابع يقطعه مسيلمة الكذاب قطعة قطعة ويقول: لا أسمع شيئاً من كلامك، والخامس يهتز له عرش الرحمن.

    قدَّم عليه الصلاة والسلام وأثر في الناس وفي أصحابه تأثيراً؛ لأنه رسول معصوم، وهو أصدق الناس عليه الصلاة والسلام، وأخلصهم في التربية والعطاء المبارك، ولذلك من أراد أن يؤثر في طلابه وأصحابه وأمته وقومه، فليصدق مع الواحد الأحد ويخلص له العبادة وأن يتوجه إليه، فإنه الله الذي يأتي بالقلوب، وهو الذي يسخر الأرواح والنفوس للداعية وللمربي وللمعلم، وهذه رسالة أبعثها للأساتذة والمربين والمدراء والآباء والدعاة أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في إخلاصه وصدقه مع ربه، ولذلك جاء بهذه الثمرات التي أذهلت العالم وأذهلت كل الدنيا، ويقتدي صلى الله عليه وسلم في عمله بعلمه، وهو الأسوة الحسنة والقدوة المثلى صلى الله عليه وسلم.

    فضل الله وجوده وكرمه على عباده الصالحين

    الفضل لله، تظنون أن سعد بن معاذ متفضل على الله؟! لا. الفضل للواحد الأحد، هو الذي هداه وأعطاه ومنحه، ورغم أن سعداً جاهد وقدم دمه وروحه، لكن الفضل لله: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ [الحجرات:17] لا تظن أنك متفضل على الله يوم أتيت الليلة أو حضرت المحاضرة أو صليت أو صمت أو جاهدت، بل الفضل له وحده، يقول سبحانه وتعالى: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً}.

    وقد ذكر الشيخ سليمان بن عبد الله بن عبد الرحمن أثراً قدسياً أن الله يقول: {وعزتي وجلالي! ما اعتصم بي عبد فكادت له السموات والأرض إلا جعلت له من بينها فرجاً ومخرجاً. وعزتي وجلالي! ما اعتصم بغيري عبد إلا أسخت الأرض من بين قدميه، ثم لم أبال في أي واد من أودية الدنيا هلك} لأنه الفعال لما يريد، فالفضل والجود والكرم له، فاسأل الله من فضله، ولا تمن ولا تعرض أعمالك، واحتسب أعمالك على ربك؛ لأن بعض الناس يعمل كأنه خادم أو موظف، حتى إن بعضهم يعمل في الدعوة، فإذا سألته: لماذا لا تواصل؟ قال: يا أخي! نعمل مع أناس لا يقدرون الجهود ولا يعرفون تعبنا، وكأنه موظف في شركة. فأنت تعمل عند الواحد الأحد: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً [الفتح:29].

    أفتطلب فواتيرك من البشر وشيكاتك من الناس؟!

    تأثير الكلمة الطيبة ومكانتها في الإصلاح والصلاح

    لا تحتقر كلمة طيبة، فـسعد قال كلمات سجلها التاريخ، ونفع الله بها الدين، ونصر بها الإسلام، فكلمته في بدر هي خير من جيش عرمرم، وكلمته لما حكم في بني قريظة سجلها التاريخ، فلذلك لا تحتقر الكلام الطيب. إذا حضرت مناسبة فاختر أحسن كلام تنصر به الدين كله، إذا حضرت إصلاحاً قل الكلمة المصلحة، إذا سمعت نيلاً من عرض مسلم فدافع عنه وقل كلمة: {من ذب عن عرض أخيه المسلم ذب الله عن وجهه النار يوم القيامة} رواه أبو داود، فإلى متى تدخر الكلام الطيب إذا لم تقله في المناسبات؟ وإلى متى تحتفظ به وتخزنه؟! لأن الله يقول: فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا [المائدة:85] قولة واحدة لعن بها قوماً، وقولة واحدة رضي الله بها عن قوم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64] فلا تحتقر كلاماً طيباً، بل تكلم وأثر.

    ليس للمسلم أن يوالي أعداء الله

    وهذا نأخذه من فعل سعد لما أتى فنسي التحالف في الجاهلية مع اليهود، فلقد كان صديقاً وحبيباً لليهود قبل إسلامه، وكان معهم وكانوا معه، لكن بعد (لا إله إلا الله) أيصادق ويوادُّ اليهود بعد الإسلام والإيمان؟

    لا. المسلم يفاصل، فالمسلم موقفه ظاهر، إما كافر أو مسلم، أما تمييع القضايا وقول بعضهم: يا أخي! الناس عباد الله عز وجل، ولا يكون الإنسان متزمتاً ولا متشدداً، يا أخي! تألفوا الناس، وأنت تعلم العواقب، بل نحن نعلم العواقب فالمؤمنون في الجنة والكفار في النار، ونعرف العواقب، المؤمن رضي الله عنه والكافر لعنه الله، إسلام وكفر، جنة ونار: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7].

    فلا تمييع، بل ولاء لله عز وجل، ولذلك شرَّف الله سعداً لما قام في عشيرته وقال: كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله.

    أما الإسلام السلبي وإيمان المرجئة؛ أن يلتزم الإنسان ثم يبقى إسلامه لنفسه فقط، ولا يؤثر على إخوانه وأولاده، ولا على بناته وأسرته، ولا قبيلته وعشيرته، ويغسل يديه من الأنشطة الدعوية، ومن الجمعيات الخيرية، ويبقى منزوياً بحجة الوقار والورع البارد المظلم، فهذا لا ينفعه شيئاً.

    أيضاً: تمريض المسلم في المسجد لا بأس به، وهذا له أحكام، لكن استدل بها البخاري وغيره من قصة سعد.

    ففي المسجد قد ينام النائم للمصلحة وللجاجة، إذا لم يكن هناك ضرر، وقد يمرض أيضاً، وقد يستقبل فيه وفوداً، وقد تروى فيه أشعار للمصلحة الشرعية كما فعل حسان رضي الله عنه، وإنما فُعل بـسعد رضي الله عنه إكراماً له.

    إنزال الناس منازلهم

    قال عليه الصلاة والسلام: {قوموا إلى سيدكم} فصاحب الجهاد، والعالم وطالب العلم والداعية، والسلطان المقسط العادل يحترم، والشيخ الكبير والزاهد والعابد يوقر وينزل منزلته، أما أن تجعل الناس سواسية، أو تشرف وتحترم الفجرة، وتهين الطائعين وأولياء الله عز وجل فهذا خطأ وبعض الناس هكذا دنيوي بحت؛ فإذا جاء الفجرة أهل الدنيا احترمهم وقدرهم وشرفهم وعظمهم، وإذا جاء أهل الصلاح والإصلاح والولاية والخير وقيام الليل استهان بهم وقال: هؤلاء حمقى مغفلون، فهذا هو النفاق بعينه.

    فيشرف وينزل الإنسان منزلته.

    المقصد من الحياة

    الحياة للجهاد والدعوة فقط، فتكون أمنيتك في بقائك في هذه الحياة ليس لغرس الأشجار.

    أشجار من؟ وأزهار من؟ وبذور من؟ وقصور من؟ وهل بقيت لكسرى وقيصر القصور، أو بقيت للرومان وفارس، أو للدولة الأموية والعباسية والعثمانية؟! تبني لمن؟!

    يا عامراً لخراب الدار مجتهداً     بالله هل لخراب الدار عمران

    ويا حريصاً على الأموال تجمعها     أقصر فإن شرور العمر أحزان

    ولكن تطلب الحياة لتزداد إيماناً، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله}.

    روى أحمد في المسند بسند صحيح: {أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه رأى رجلين -أخوين- أسلما معاً، أحدهما قتل شهيداً في سبيل الله، والثاني تأخر عنه أربعين يوماً ثم مات موتاً طبيعياً، فرآهما في المنام في الجنة وإذا بينهما درجات، وإذا الذي مات حتف أنفه أرفع من الشهيد في سبيل الله بدرجات كثيرة فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص عليه القصة، قال: كم مكث بعده؟ -أي: بقي بعده في الحياة- قال: أربعون ليلة، قال: كم صلى من صلاة؟! وكم دعا الله من دعوة؟! وكم سبح من تسبيحة؟!} فأنتم في خير كل يوم يمر بكم غنيمة؛ تصلون فيها خمس صلوات، تسبحون، تقرءون القرآن، تتصدقون، تصبرون على الأذى، تصارعون الأحداث وتجاهدون.

    من تمنى الشهادة بصدق وجدها.

    فأنت إذا تمنيت على الله وعلم حسن نيتك وفقك، من علم، من جهاد، من دعوة، من شهادة، فاطلبوا الله فالخزائن عنده وحده، وهو الذي يلبي الطلب سبحانه ويجيب الأسئلة، فادعوه وألحوا عليه، فإذا علم منكم أنكم صادقون أعطاكم ما تمنيتم.

    كرامات الأولياء

    كرامات الأولياء لا نجحدها بل نقرها كما أقرها أهل السنة والجماعة، فإن الله يكرم الأولياء كرامات كما أكرم أبا بكر وكثر له، أما معجزاته صلى الله عليه وسلم فهي ما يقارب الألف كما هو معلوم، لكن أتكلم عن كرامات الأولياء الصالحين -وإكرام سعد بأن شيعه سبعون ألف ملك- وهذا سببه تفاضل الناس في الإيمان، فهل تظن أن إسلامي وإسلامك وإيماني وإيمانك كإيمان سعد؟ حاشا وكلا! وقد قال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:163].

    إنسان قدم نفسه ويتمنى الشهادة، وينام في خيمة في المسجد، وترك الدنيا من أجل مرضاة الله، وقام يعلن القطيعة لأسرته وعشيرته وقبيلته وذريته إن خالفوا أمره في اعتناق الإسلام، وقطع ما بينه وبين اليهود من أواصر.. تجعله مثل إنسان لا يأتي صلاة الفجر إلا دبراً.

    إن أردت أن ترى مستوانا الإيماني، فتعال معنا في مساجدنا في صلاة الفجر، وانظر إلى حالنا، إن أردت أن ترى مستوانا فاحضرنا لترى ما في الصف الأول؛ لترى أن كثيراً من المسلمين الذي يلقون الكلمات الطيبة والقصائد الرنانة في نصرة الدين، لا يحضرون الصف الأول.

    لا تلقي علينا كلمات ولا محاضرات.. نسألك بالله أن تحضر الصف الأول، ولا تفوتك تكبيرة الإحرام: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ [التوبة:105] فالمسألة عمل وصدق مع الله عز وجل.

    قال محمد بن واسع: إذا رأيت الرجل يتهاون عن تكبيرة الإحرام مع الجماعة في الصف الأول فاغسل يديك منه.

    والصحابة والسلف ما كانوا في الصف الأول فقط، بل في قيام الليل، في الثلث الأخير: {ينزل ربنا إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه؟! هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من مذنب فأتوب عليه؟! }.

    فقصدي من هذا: أن الناس متفاضلون في الإيمان بلا شك، وهو معتقد أهل السنة والجماعة، والإيمان يزيد وينقص.

    وأقول هذا لمن فهم من كلامي أني أقول: بعدم زيادة الإيمان، فأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه أنني معتنق لمنهج السلف وأهل السنة والجماعة، وكل قول قلته أو كتبته مخالف لمعتقدهم فأنا عائد عنه، بل الصحيح ما درسنا وتعلمنا وحفظنا وقلناه في محاضرات سابقة وكتبناه في كتب: أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية لقوله سبحانه وتعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً [محمد:17] وغير ذلك من الآيات والأحاديث.

    فنعترف أن إيمان أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أعظم من إيمان كل مؤمن من الأمة، وأن الناس متفاضلون بحسب جهادهم وهجرتهم وصدقهم وتضحيتهم.

    حكم البكاء على الميت

    البكاء على الميت عندنا بكاء رحمة لا نياحة وتسخط على القضاء والقدر، نبكي إذا مات الميت كما بكى صلى الله عليه وسلم على سعد وابنه إبراهيم وقال: {تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون}.

    وأقف وقفة مع استنتاجات وألمعية ابن تيمية رحمه الله، قيل له: الفضيل بن عياض ضحك لما مات ابنه، والرسول صلى الله عليه وسلم بكى لما مات ابنه، فأي الحالين أفضل؟ وهذا السؤال الأصل أنه لا يعرض، لكن لا بد أن يجيب العالم على أي سؤال يحصل.

    والفضيل بن عياض كان عنده ابن اسمه علي، وهو ولي من أولياء الله، فهو يشبه أباه، بل إن بعضهم قال: أزهد من أبيه، وكان زاهداً خاشعاً لله مخبتاً، وكان الفضيل بن عياض يقول للإمام في مكة: لا تقرأ من الزواجر؛ أخاف أن يموت ابني، ووقع ما كان يحذر.

    فالإمام في يوم من الأيام -وهذه القصة ثابتة- صلى في الفجر وقرأ: وَالصَّافَّاتِ صَفّاً الصافات:1] ثم استمر الإمام يقرأ إلى حين قال: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات:24-26] وهذا الخطاب لأهل النار.. وقفوهم: اسألوهم عن رسلنا الذين أرسلناهم، اسألوهم عن الحياة، اسألوهم عما أعطينا من النعم مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ [الصافات:25] أين آلهتكم؟ أين أحزابكم؟ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات:26] أي: لا نصرة، فسمعها علي بن الفضيل فوقع مغشياً عليه، فرفع إلى البيت فإذا هو قد مات، فأتى الفضيل ولما حضر إلى المقبرة ضحك رضاً بأمر الله.

    قال ابن تيمية: حال الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم وأكمل وأرفع من حال الفضيل فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع بين الرضا والرحمة، والفضيل ما استطاع أن يأتي إلا بالرضا، ولم يستطع أن يأتي بالرحمة. سدد الله ابن تيمية وغفر له.

    فالرسول صلى الله عليه وسلم رضي فقال: {ولا نقول إلا ما يرضي ربنا} ورحم فبكى؛ فهي رحمة من الله في الرسول صلى الله عليه وسلم.

    فالبكاء غير التسخط والنياحة؛ لأن بعض الإخوة الشباب إذا سمعوا شخصاً يبكي على ميت، قالوا: حرام لا يجوز. فهذا خطأ، بل يبكي وتدمع العين لكن لا تنح، ولا تلطم وجهاً ولا تشق ثوباً ولا تنتف شعراً.

    العيش عيش الآخرة

    عظيم ما أعد الله لعباده في الجنة -وقد أخبرتكم- لكنني أقول لكم مسألة: إذا تصورتم أي نعيم في مخيلتكم وذاكرتكم ومرت بكم مواقف من النعيم والعطاء واللذة والمتعة فاعلموا أن في الجنة: {ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر} واعلموا أنه قد صح في الحديث: {لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها} واعلموا أنه صح في الحديث: {أن الخيمة الواحدة للمؤمن في الجنة طولها في السماء ستون ميلاً، ويرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها، له في كل جهة منها أهلون، -أي: حور عين-}.

    وهذا مأخوذ من ذكر منازل سعد بن معاذ، وإنما أراد صلى الله عليه وسلم أن يبين عظم ما أعد الله لعباده المؤمنين، ويا حسرتاه! يوم نسمع الآيات البينات والأحاديث الثابتات عن نعيم الجنة وما فيها من فوز وخلود، ونعيم وقرة عين، ثم نتشاجر ونتناحر ونتخاصم على الجيفة! يقول عمران بن حطان شاعر الخوارج:

    أرى أشقياء الناس لا يسأمونها     على أنهم فيها عراة وجوَّع

    أي: الدنيا، فترى بعض التجار ينزل إلى الآن أكياساً من الأموال والأطعمة، وقد جاوز السبعين من عمره، وهو يعد المال فتفوته صلاة الجماعة.

    كم تأكل؟! كم تشرب؟! إلى متى؟! تنزل الأكياس وتحسب الفواتير، ومشغول الذهن، ويفتح شركات في الليل والنهار، ومشغول عن قول: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وليس من الذين يتلون القرآن ولا يتصدق بعضهم ولا يزكي، فهذا من أشقياء الناس تجده خادماً مسكيناً ضعيفاً هزيلاً. يقول:

    أرى أشقياء الناس لا يسأمونها     على أنهم فيها عراة وجوَّع

    أراها وإن كانت تسر فإنها      سحابة صيف عن قليل تقشَّع

    إجلال النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه

    إجلال النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه واجب شرعي، وأوصي نفسي وإياكم بتعزير الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوقير كلامه ومقامه الشريف، وعدم التعرض لجنابه الطاهر الطيب الرفيع بشيء من الاستهزاء -أعاذكم الله من ذلك- أو السخرية، أو المزح، أو اللهو، أو اللعب، إنما هو ليس بالهزل، ووقار ومقام تعظيم، فالله الله يوم يروى حديثه أو كلامه أو سيرته صلى الله عليه وسلم لا تشتغل بشيء من المزاح أو الأذى أو الاستهتار فإنه الكفر كل الكفر: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65].

    احذر! فبعض الناس شرير يقع على الأحاديث ويعلق عليها، يسمع قصة نبوية ويعلق عليها، فيكفر من وقته ويحكم عليه بالكفر الصراح.

    الله الله.. أُخذ ذلك من تعظيم سعد يوم قال سعد: أيرضى بالحكم من في هذه الناحية؟ هذا تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم بشر لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور:63].

    الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كمثلي ومثلك، إنه مؤيد معصوم يوحى إليه وينزل عليه الوحي، ويتكلم يوم القيامة ولا يتكلم أحد، لا نوح ولا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى ولا أي نبي عليهم الصلوات والسلام، الكل يعتذر، كل يقول: نفسي نفسي، وفي الموقف كل من خلق الله يريدون أن يفصل الله بينهم، فيذهبون إليه فيقولون: يا رسول الله! يا محمد! اشفع لنا ليفصل الله بيننا في هذا الموقف. فهل يعتذر؟ وهل يقول: نفسي نفسي؟ وهل يقول: عندي ذنب؟ يقول: أنا لها! أنا لها! ما أحسن الكلام! صاغ ذلك الموقف حافظ الحكمي الشيخ الجليل رحمه الله، وكان شاعراً مجيداً، وهكذا الشعر في خدمة الدعوة:

    واستشفع الناس بأهل العزم في      إراحة العباد من ذا الموقف

    وليس فيهم من رسول نالها     حتى يقول المصطفى: أنا لها

    ولست أنت ولا أنا ولا ابن فلانة، بل محمد صلى الله عليه وسلم، أبو القاسم يقول: أنا لها، فيشرفه الله في هذا المقام المحمود، فعليك أن تعرف حقوق المصطفى عليه الصلاة والسلام كما عرفها أصحابه رضوان الله عليهم، فكان إذا تكلم أصغوا وسكتوا وخشعوا وأنصتوا كأن على رءوسهم الطير، حتى روي: أن عبد الله بن رواحة جلس على الرصيف خارج المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم -في الظاهر- يريد من داخل المسجد، فقالوا له: لمه؟ قال: سمعته يقول صلى الله عليه وسلم: اجلسوا فما أمكنني إلا أن أجلس مكاني.

    فهو الامتثال لأمر الله ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، والاحترام والتوقير وكثرة الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وإجلال أمره، فليس أحد في العالم كائن من كان يقدم كلامه على كلام الرسول عليه الصلاة والسلام.

    اليهود هم أهل المكر والغدر والخديعة

    هي حادثة وقضية الساعة: خيانة اليهود ومكرهم وخداعهم ونقضهم المواثيق، فلا يوثق بهم قوم لعنهم الله وخذلهم كيف يوثق بهم؟ وهم العدو.

    ولذا أحببنا سعداً لأمور كثيرة منها: أنه عدو اليهود اللدود، كان صديقاً قبل لا إله إلا الله، لكن لما أتت لا إله إلا الله انتهى الأمر، فأصبح الموت لهم، فهو الذي حكم بقتلهم، وهو الذي أبادهم بحكمه بالسيف؛ فليس لهم إلا العداء، لأنهم قتلة الأنبياء والرسل.

    فهل توالي الذين يقولون: إن يد الله مغلولة؟! لعنهم الله.

    وهنا يقولابن تيمية: القرآن يأتي بالشبهة موجزة ثم يرد عليها رداً مبسطاً أو طويلاً مسهباً حتى لا يترك لها أثراً: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64] فقط.

    بخلاف ما يفعله بعض الدعاة والوعاظ حينما يأتي بالشبهة فيطولها كثيراً ثم يرد عليها يقول: وهذا لا ينبغي والله المستعان أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم؛ فيثبتها في القلوب ثم لا يزيلها؛ وهذا بخلاف أسلوب القرآن، حيث الشبهة فيه: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64] انتهى الكلام عن الشبهة، واسمعوا الرد: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64] الآية.

    علم أن اليهود أهل عداوة أبدية؛ لأنهم كفروا بالله، ولأنهم قتلة الأنبياء والرسل ثم يعلم أنهم ينقضون المواثيق، فليس لنا رجاء في يوم من الأيام أنهم سوف يصدقون وسوف يتقيدون بأي ميثاق، بل هم خانوا الله، فماذا تريد أن يكونوا معي ومعك؟ أو أن يصدقوا معي ومعك؟ بل هي الخيانة المستمرة، وطبع الغدر هو الخلق المستمر في أعداء الله عز وجل.

    فمن هذا المنطلق نشكر لـسعد بن معاذ موقفه الصلب الصامد مع اليهود، وبمثل هذه المواقف انتصر الإسلام، ولكن لما لاين أبناء المسلمين اليهود وصانعوهم وداروهم، ودخلوا في فلك الصلح معهم؛ وقعت الكارثة بالمسلمين والذلة والهوان والغلبة، ولكنا لا نزال نطمع.

    لا تهيئ كفني ما مت بعد     لم يزل في أضلعي برقٌ ورعد

    أنا تاريخي ألا تعرفه     طارق ينبض في قلبي وسعد

    فأملنا بالواحد الأحد.

    قد ينشأ لنا شاب ناشئ كـسعد بن معاذ -وليس على الله ببعيد- من المدارس التي تخرج حفظة القرآن، ومن الجامعات التي تحفظ البخاري ومسلماً.. ومن دور الرعاية.. المؤسسات الخيرية.. من الجمعيات الخيرية المباركة.. من المساجد الطاهرة العامرة، تخرج لنا جيلاً إسلامياً متوضئاً مصلياً مجاهداً، يدحر اليهود ويمزقهم، وينتصر عليهم بلا إله إلا الله محمد رسول لله.

    فلا يأس ولا قنوط، وإنما يبقى عندنا أمل بأن الدين الذي حمله سعد نحن نحمله إن شاء الله مع اختلاف المراتب، والقرآن الذي قرأه سعد هو بين أيدينا غض طري كأنما نزل اليوم، الرسول الذي هدى سعداً بإذن الله صلى الله عليه وسلم هو رسولنا، والقبلة التي اتجه إليها سعد نتجه إليها.. فماذا ينقصنا؟

    ينقصنا أن نزيل عنا الهوى والإعراض، والكسل والعجز، وأن نري الله من أنفسنا الصدق في إيماننا، نأخذ الكتاب بقوة، وانظر عبارة القرآن: خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12] لا هزل.. انتبهوا.. استيقظوا.. تثبتوا ثبتكم الله.. تقووا قواكم الله بإيمانكم.. بمبادئكم.. بدينكم.. بكتابكم.. بسنة نبيكم عليه الصلاة والسلام.

    فإذا علم الله منا ذلك؛ نصرنا وأيدنا وثبتنا، وإلا فإنه قد مرّ في العالم الإسلامي فترات كهذه الفترات التي نعيشها، كفترة التتار وفترة الصليبين حتى دخلوا بغداد وأخذوا الخلافة، وكسروا منابر المساجد، ومزقوا المصاحف، وهدموا المنابر، ومع ذلك أخرج الله من ينصر هذا الدين.

    قد أكون أنا وأنت في تقصير، فلا نصلح للجهاد الآن، ولا لكسب النصر والتضحية، فيأتي الله من أبنائنا وأصلابنا بأبطال، وإني لأراهم في مدارس تحفيظ القرآن، وإني لأراهم في جماعة التحفيظ التي تملأ مساجدنا والحمد لله، وإني أراهم في من يحفظ السنة المطهرة في الحرمين، كأنهم يقولون: المستقبل لنا: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود:81] والنصر لنا والغد المشرق معنا، والله مولانا.

    فلا يأس ولا إحباط، وأرجو أن يسحب كل إنسان مخذل أوراق الهزيمة النفسية التي يقدمها حين يقول: كيف ننتصر على الدول النووية العظمى والجيوش الجرارة؟ فنقول: لا. الواحد الأحد معنا: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14].

    فهو الذي مزقهم كل ممزق، وهزمهم في بدر وأحد والأحزاب وعين جالوت والقادسية واليرموك وفي حطين.

    فأعيدوا لنا من هذا الجيل، أخرجوا لنا من الإنتاج الجديد على شكل سعد بن معاذ، حفظوهم الكتاب والسنة لا الأغنية والمجلة الخليعة، ولا الفيلم الهابط ولا الضياع ودغدغة مشاعرهم بأن يكون مستقبلهم فلة وسيارة وزوجة، وأن يكون نجماً كروياً ولامعاً غنائياً، لا. بل نريد سعد بن معاذ، هؤلاء عظماؤنا وأبطالنا، وهؤلاء مجدنا وشرفنا، وهؤلاء هم قادة مسيرة النصر التي يقودها محمد صلى الله عليه وسلم.

    هذه سيرة هذا الإمام رضي الله عنه وأرضاه وجمعنا به في جنات النعيم.

    وفي الختام: أتوجه بالدعاء إلى الواحد الأحد؛ فأسأله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب؛ أن يوفقنا لما وفق إليه سعد بن معاذ، وأن يخرج منا جيلاً ربانياً صادقاً موحداً.

    أسأله أن يجمع كلمتنا، وأن يصلح ولاة أمورنا، وأن يرزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهم على الحق وتحذرهم من الباطل.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767964154