إنها تجارة مع الله، ثمرتها جنة عرضها السماوات والأرض، أعدت للمتقين.
ومجالات هذه المتاجرة هي: الطهارة، الذكر، الصلاة، الصدقة، الصبر، قراءة القرآن، وغير ذلك من العروض المغرية التي يعرضها الشيخ في حديثه هذا.
أنتم صفوة الناس، ولا يحضر بيوت الله ولا يجلس فيها، ولا يتهيأ لسماع المواعظ، ولا يستفيد من الآيات والأحاديث إلا صفوة الناس، ولا يعرض عن اللغو ويذهب إلى مجالسة الصالحين إلا صفوة الناس، ولا يحب الدين، ولا يسعد بآيات رب العالمين، ولا يتبع سيد المرسلين إلا صفوة الناس.
عنوان هذه المحاضرة: (فرصة للاستثمار) والناس استثمروا أموالهم ومناصبهم وسيروا حياتهم في غير مرضات ربهم إلا القليل.
باسمك اللهم ثم الحمد لك والتحيات وتسبيح الفلك |
وصلاة الله للمختار ما سبح القمري وغنى بشرك |
هذه ألفاظه قد أينعت وقطفناها أخي المسلم لك |
فارعها سمعك حياك الذي جعل الكون على نهج الحبك |
أما الحديث: فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) رواه مسلم، وأحمد، والترمذي، والدارمي، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وابن ماجة، والبيهقي في كتاب السنن، والطبراني، وابن حبان، وابن مندة في كتاب الإيمان.
هذا هو الحديث الذي معنا هذه الليلة، وهو من أشرف أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام.
أما عناصره فهي:
الطهارة: في الكتاب والسنة، وفضل الوضوء، وطهارة الباطن والظاهر.
كلمة شطر ومعناها، هل هي مرادفة للنصف؟ ولماذا يكون الطهور شطر الإيمان؟
ما هو الإيمان عند أهل السنة؟ وما الفرق بين الإسلام والإيمان؟ وهل الإيمان يزيد وينقص؟
الحمد لله ما معناها؟ من هو المحمود؟ ما هو فضل الحمد؟
ما معنى تملأ الميزان؟ ما هو الميزان؟ هل هو محسوس؟ وهل توزن الأعمال فيه؟ ومعتقد أهل السنة والجماعة في الميزان؟
سبحان الله، ما معنى التسبيح؟ تسبيح الكائنات ما هو؟ فضل التسبيح، وتملأ ما بين السموات والأرض كيف تملأ؟
اتساع الميزان أو اتساع السماوات والأرض؟ وما معنى: (عرضها السماوات والأرض) عند أهل العلم، في قوله سبحانه وتعالى: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران:133]؟
(الصلاة نور) ما هو فضل الصلاة؟ وما هو النور؟ وما علاقة الصلاة بالنور؟
(والصدقة برهان) فضل الصدقة، وما معنى البرهان؟ سر أسرار الصدقة.
(الصبر ضياء) ما هي أقسام الصبر؟ ولماذا قال صلى الله عليه وسلم: (الصبر ضياء) وقال: الصلاة نور؟ وما الفرق بين النور والضياء؟
(القرآن حجة لك أو عليك) فضل القرآن، أمة القرآن، المذهب الاستعماري والغزو الفكري في تحطيم مبدأ أمة القرآن.
(فبائع نفسه) من الذي اشترى؟ ما هو العقد؟ متى تتم البيعة؟ ما هي السلعة المشتراة؟
آيات الشراء والبيع في القرآن، الصكوك التي وقعها محمد عليه الصلاة والسلام.
(معتقها) العتق الحقيقي، الرق الحقيقي، أسباب العتق.
(أو موبقها) معنى أوبق عند أهل اللغة، أسباب الهلاك، ما هي موبقات الأعمال؟
فنسأل الله عز وجل أن يثبتنا وإياكم، وأن يفتح علينا وعليكم، وأن يزيدنا توفيقاً وإياكم.
هذا الحديث بدأه عليه الصلاة والسلام بجمله المختصرة النافذة، وبعباراته البليغة التي شحذت الأمة العربية، فعلمتها البلاغة، ومعجزته صلى الله عليه وسلم من المادة التي أجادها العرب، فقد أجادوا الفصاحة، وهم أمة الشعراء والبلغاء، فأتى صلى الله عليه وسلم، فضربها من جنس جماعتها، وأورد سوقها بزها، فأتى عليه الصلاة والسلام فبزها.
الطهور هو: النقاء والصفاء، قال سبحانه وتعالى: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف:82] وقال سبحانه وتعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4] قيل دينك طهره من الأدناس، وقيل عرضك، وقيل ثيابك الظاهرة طهرها إذا أردت أن تصلي، واستدل أهل العلم بهذه الآية على وجوب تطهير الثياب، وأنها من شروط الصلاة، وقال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] وقال سبحانه وتعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الحج:26].
فالطهر دينه، والطاهر رسوله، والطاهر بيته، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، هذا الطهور، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الطهور الوضوء، وعند الترمذي: (الوضوء شطر الإيمان) وعند مسلم (الطهور) فرادف بينها صلى الله عليه وسلم، وسمي طهوراً؛ لأنه يطهر الأعضاء، فنصف باطن ونصف ظاهر، فالظاهر يطهر بهذا الطهور، والباطن عمارته بلا إله إلا الله، فتجتمع عند المسلم طهارتان: طهارة في الظاهر، وهي الوضوء والغسل، وطهارة في الباطن، وهي الإيمان الذي غرسه الله في القلوب.
أما شطر: فهو عند أهل اللغة نصف، يقال شطر الشيء نصفه، ويقال شطر للقسمين، ولو لم يكونا نصفين كثلث وثلثين، فتقول لهذا الجزء شطر وهذا شطر.
إذا مت كان الناس شطرين شامت بموتي ومثن بالذي كنت أفعل |
هذا هو الشطر، فالرسول عليه الصلاة والسلام جعل الطهور الظاهر شطراً ونصفاً، وجعل ذاك نصفاً، فصلى الله وعليه وسلم ما أبلغه!
أما الإيمان -إخوة الإيمان- ففيه ثلاث قضايا:
الأول: إذا ذكر الله الإيمان وحده دخل فيه الإسلام وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35] وإذا ذكر الإسلام مع الإيمان فالإسلام شيء والإيمان شيء آخر قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] فلما ذكر الإسلام والإيمان قال أهل العلم: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. وإذا ذكر الله عز وجل الإسلام وحده شمل الإيمان وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] يشمل الإيمان أيضاً، فخذها قاعدة لتفهم.
الثاني: الإيمان يزيد وينقص عند أهل العلم، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والمؤمنون متفاوتون في الدرجات، فأعلاهم بعد محمد عليه الصلاة والسلام أبو بكر، ثم يبدأ العد التنازلي حتى يصل إلى من ليس في قلبه إلا مثقال ذرة أو شعيرة أو حبة من خردل، والناس ينجون يوم القيامة على الصراط بحسب إيمانهم، ولا يثبت إلا من زاد إيمانه، ويدخل بعض المؤمنين النار، ثم يخرجهم الله من النار بما في قلوبهم من إيمان، أعاذنا الله وإياكم من النار.
وأما الإيمان فإنه درجات، ومن يفعل كبيرة قالوا: يخرج إلى درجة الإسلام، فأعظم الدرجات الإحسان ثم الإيمان ثم الإسلام، فكل محسن مؤمن وكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن ولا كل مؤمن محسن.
والله حمد نفسه ويحب المدح يقول الأسود بن سريع وهذا عند أحمد في المسند وعند الطبراني قال: {أتيت الرسول عليه الصلاة والسلام فقلت: يا رسول الله! ألا أنشد محامد حمدت فيها الله؟ -يعني: قصيدة نظمتها في الله- قال صلى الله عليه وسلم: أما إن ربك يحب المدح} ولذلك مدح الله نفسه، وأثنى على نفسه بنفسه، فوصف نفسه ونزه نفسه وقدس نفسه، وأثنى على نفسه، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام:1] وقال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [فاطر:1] وقال: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].
والحمد غير الشكر، فالشكر على صنيع.
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا |
فإذا قدم لك إنسان جميلاً قلت: شكر الله لك، أما الحمد فهو الثناء، سواءٌ لمن قدم لك جميلاً أولا، والله محمود لثلاثة أسباب:
أولاً: ما من نعم ظاهرة ولا باطنة إلا من الله قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53].
ثانياً: محمود لأفعاله، فأفعاله كلها كاملة وممدوحة وطيبة لا عيب فيها.
ثالثاً: أن أسماءه وصفاته كلها صفات حمد، فلا ينام، وليس ببخيل، وليس بجبان، ولا يختل صنعه، إنما صفاته كلها صفات حمد، حكيم عليم قدير رحيم تبارك الله رب العالمين.
ما هو الميزان؟
قيل: ميزان الأعمال التي تسجل فيه الحسنات في يوم العرض الأكبر، والصحيح عند أهل السنة أنه محسوس خلافاً لعلماء الكلام والمناطقة الذين قالوا: إن هذا الميزان وهمي، وليس ميزاناً محسوساً، وإنما ضربه صلى الله عليه وسلم للناس ليفهموا عنه ذلك، وهذا خطأ، بل الميزان محسوس ينصبه الله يوم القيامة، وله كفتان ولسان كما قال تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف:8] ويقول الله سبحانه وتعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] ويقول سبحانه وتعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:8-9] ويقول سبحانه وتعالى: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:1-11].
فيضع الله الحسنات في كفة، والسيئات في كفة، وفيه دليل لـأهل السنة أن الحسنات تصبح مجسمة، فيجسم لك الله حسناتك، وفي الصحيح: أن الله عز وجل يمثل العمل الصالح في القبر على صورة شاب مليح أو رجل حسن الهيئة، ويمثل أعمال المجرم والسيئ بصورة رجل قبيح الهيئة؛ فالله يجسم الأعمال، فتأتي الأعمال في أجسام، كالصدقة والصيام والحج وبر الوالدين وحسن الخلق، فيضعها الله في كفة، ويجسم الله الأعمال السيئة كالكذب والنفاق والغيبة والنميمة والربا والغناء، فيضعها الله في كفة.
ومن الذي يحكم على الميزان؟ من الذي ينظر للسان الميزان؟
الله الواحد الأحد لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر:17] وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
وورد أن الله عز وجل بعد نفخة الصعق ينادي: لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه ملك مقرب ولا نبي مرسل فيجيب نفسه بنفسه: لله الواحد القهار، وينادي سبحانه وتعالى: {أين ملوك الأرض؟ أين المتجبرون؟ أين المتكبرون؟} ثم هو سبحانه وتعالى ينصب الميزان، وهو الذي يراقب الميزان.
وورد عن ابن عمر في حديث صحيح: {أن رجلاً يأتي يوم العرض الأكبر، فيحاسبه الله، فيرى الرجل ويتيقن أنه قد هلك فيقول: خذوه إلى النار، فيأخذونه، فيلتفت الرجل فيقول: يا رب ما ظننت أنك تفعل بي هكذا، فيقول سبحانه وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي! غفرت لك!} وفي حديث ابن عمر الآخر: {أن الله سبحانه وتعالى يدني العبد فيضع عليه كنفه، فيكلمه سبحانه وتعالى سراً بينه وبينه فيقول: فعلت كذا يوم كذا وكذا قال: نعم يا رب! قال: فعلت كذا يوم كذا وكذا، قال: نعم يا رب! قال: فعلت كذا يوم كذا وكذا من المعاصي والكبائر قال: نعم يا رب! قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وغفرتها لك اليوم} وصح عنه عليه الصلاة والسلام: أن رجلاً من الأمة يأتي، فيرى أن سيئاته قد رجحت، وأن حسناته قد خف ميزانها فيرى أنه قد هلك، فيقول سبحانه وتعالى: ائتوني ببطاقة عبدي، فيؤتى ببطاقة مكتوب فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فتوضع في الكفة فترجح. ولا يرجح مع اسم الله شيء.
هذه من المعالم الخالدة في الميزان، ويقول سبحانه وتعالى: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [الرحمن:1-7].
ميزان في الدنيا وهو العدل، وهو الميزان الذي يتحاكم به الناس في الدماء والفروج والأموال والأشياء والذوات والمبيعات والمكيلات والموزونات، فالله أقام الدنيا على العدل، وجعل السلطان بالعدل، وأنزل السيف بالعدل.
وهناك الميزان الذي لا يحكم فيه إلا الله، ولذلك يقول: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] فلا يحكم إلا هو، ولا يظلم أحداً وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] فالأعمال توزن وتجسم، فعلى العبد أن يعتني ليرجح ميزانه عند من لا يظلم سبحانه وتعالى.
فسبحان الله معناها: ننزهك يا رب، فالتسبيح: التنـزيه والتقديس له، نسبحه: ننفي النقائص عنه، ولا يستحق المدح إلا الله، فإنه ليس في صفاته عيب ولا ثلم، أما النفي المحض الذي ليس فيه مدح، فليس من منهج أهل السنة؛ لأنه لا يفيد المدح، فإنك لو أتيت إلى البشر -ولله المثل الأعلى- وقلت لأحد ملوك الدنيا: يا من ليس يكنس الشارع! ويا من ليس يبخل! ويا من ليس يكذب! ويا من ليس منافقاً! فلا يعد ذلك مدحاً حتى تقول: يا أجود الناس! ويا أعدل الناس! ويا بركة العصر! فنحن إذا نفينا نفياً محضاً، فلا بد أن نثبت كمال الضد، فنقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ولذلك قال سبحانه: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات:180].
فوصف نفسه بالعزة، ونفى ما وصفه الناس مما لا يليق به سبحانه وتعالى، ثم قال: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات:181] فأثنى عليهم أنهم بلغوا الرسالة، ثم نسب المدح له، فلا يمدح في السراء والضراء إلا هو، تذهب العيون والأسماع والأبصار فنقول: الحمد لله، ويأتي الرسول صلى الله عليه وسلم خبر قتل الصحابة؛ فيأتي متأثراً باكياً نادماً فيه لوعة وأسى فيقول: الحمد لله على كل حال، ويموت طفله بين يديه فيقول: الحمد لله، وتموت بناته ويقول: الحمد لله، فلا يحمد على المكروه إلا الله، ولذلك لما دمر الأمم قال: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45] ولذلك لا يقال للبشر: دمرت بيتي شكر الله لك، ولا ضربت ظهري شكر الله لك، إنما ذلك في حق الله تعالى لا في حق البشر.
نعم. كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء:44] قال الرازي والغزالي: لا تسبح الكائنات بلسان المقال، وهؤلاء أشاعرة بل هم أساتذة الأشاعرة، ولكن ليس عندهم علم الحديث، وليسوا بصيارفة في بضاعة النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك ضلوا في بعض المسائل، مع أنهم أذكياء.
فقد كان فخر الدين الرازي ذكي الدنيا، وهو صاحب التفسير الذي لا يستطيع حمارٌ أن يحمله، يقولون: في تفسيره كل شيء إلا التفسير، وفيه خير كثير.
وأنا أستطرد في الحديث عنه قليلاً، كان واعظ الدنيا، إذا وعظ أبكى الملوك، كان يغمى على الملوك في مجلسه من الوعظ، ويرشون بالماء، وجلس مرة بعد صلاة الفجر يدرس في الشمال في خراسان، وكان الجو قارساً بارداً، فتجمدت حمامة من البرد ووقعت عليه، فقال أحد الشعراء:
كذب امرؤ بأبي علي قاسه هيهات يبلغ مستواه أبو علي |
ثم انتقل إليه في قصيدة أخرى وقال:
جاءت سليمان الزمان حمامة تسعى إليه بقلب صب واجف |
من أخبر الورقاء أن مكانكم حرم وأنك ملجأ للخائف |
وكانت من ألطف الأبيات، فيقول الرازي: الكائنات لا تسبح بألسنتها، فالحمام لا يسبح، والشجر لا يسبح بلسانه، والحجر لا يقول: سبحان الله، والمروحة عنده لا تقول: سبحان الله، إنما تسبح بلسان الحال، أي: أنها تشهد شهوداً ظاهراً أنَّ الخالق الله، ولذلك قيل للرسول عليه الصلاة والسلام: اقرأ وهو في الغار، فأين يقرأ؟ قال: في كتاب الكون.
إيليا أبو ماضي شاعر لبناني مسيحي مجرم، لكن شعره جميل، وله ديوان الجداول والخمائل، يقول:
وكتابي الفضاء أقرأ فيه سوراً ما قرأتها في كتاب |
فالكون كتاب الوحدانية، نقرأ في التل والرابية والهضبة، ونقرأ في الحمامة وفي الوردة وفي الزهرة وفي أشياء تدلك على الله.
وقال أهل العلم: نثبت التسبيح لها، ولعل لها لغة لا نفهمها نحن، تسبح بها، والله يعلم سبحانه وتعالى وأنتم لا تعلمون.
سخروف هذا العالم الروسي الذي نفي أيام برجنيف إلى سيبيريا أثبت أن للنبات ذبذبات، كان بعض علماء السلف يقول: النباتات تسبح، فأتى العلم الحديث يقول: النبات يطلق ذبذبات من الصوت لا يفهمها إلا النبات الآخر، فسبحان من خلق، فالعلم الآن يدعو إلى الإيمان، وكلما ارتقى العلم أثبت وجود الواحد الأحد، ولذلك العالم اليوم أحسن منه في الإيمان قبل سنة، وبعد سنة قد يكون أحسن مما هو عليه اليوم، والإسلام يزحف على العالم ليدخل الناس في دين الله أفواجاً.
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر كلاماً ما معناه يقول: عجباً لك إذا علمت أن كل كلمة بغرسة في الجنة وبنخلة، فكم يضيع عليك من النخلات؟! بعض الناس يتحدث ساعتين بالهرج والضياع والهراء والبغاء والفحش، وإذا طلبت منه أن يسبح قال: ساعة لربك وساعة لقلبك، والدين يسر، وليست الطاعة كل يوم.
وعند الترمذي: {أنه صلى الله عليه وسلم مر بإبراهيم الخليل -شيخ التوحيد- فقال: من؟ قال: محمد. قال: نعم. قال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح} ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يفتخر بالنسب إلى إبراهيم ويغتبط ويسر ويقول للناس: {أما عيسى بن مريم فأشبه الناس به
بسيفك أدرك المظلوم ثاره ومن جدواك شاد الملك داره |
وقبل هنئ الوزراء حتى نهضت بها تهنأت الوزاره |
أراد الحسدة في خراسان أن يشكوه للسلطان ويقولون: إنه مشرك، وهو الذي يعلم الناس التوحيد؛ لعل السلطان أن يعزله أو يقتله أو يحبسه، فماذا فعلوا؟ أتوا بصنم على صورة إنسان نحتوه من ذهب ثم دخلوا مسجد أبي إسماعيل، ووضعوا الصنم تحت السجادة، وذهبوا إلى السلطان والسلطان محمود بن سبكتكين أحد السلاطين الكبار، فقالوا: أبو إسماعيل الهروي يعبد الأصنام، قال: عجيب! قالوا: نعم. تحت سجادته صنم من ذهب يسجد عليه، قال للجنود: اذهبوا إلى السجادة وائتوني بالصنم، فذهبوا فوجدوا الصنم تحت السجادة، وأتوا بـأبي إسماعيل فأدخلوه وهو لا يدري ما القصة، فأخرج له الملك الصنم فقال: ما هذا يا أبا إسماعيل؟ قال: هذا صنم، قال: ما حكم عبادة الصنم؟ قال: ملعون من يعبد الأصنام، قال: وأنت تعبد الصنم؟ قال: سبحانك هذا بهتان عظيم! قال: فكاد قلب محمود أن ينخلع، فقال محمود: كذبتم وصدق، ثم جلدهم من مائة جلدة وأخرجهم.
هذا أبو إسماعيل الهروي يقول: عرضوا رأسي للسيف خمس مرات، والله ما طلبوا مني أن أعود عن مذهبي، لكن طلبوا مني ألا أسب المذاهب فما وافقت، ما وافق لأنه يحب لا إله إلا الله، كان ابن تيمية يحبه ويقول: عمله خير من علمه؛ لأنه أحياناً في منازل السائرين يأتي بالفناء والشهود وكلمات الصوفية، لكن إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
وله قصص عجيبة في هذا الباب:
أتوا بأحد تلاميذه ليقتله السلطان ظلماً؛ لأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلما قدموه للخشبة ليشنقوه فقيل له: قل: لا إله إلا الله، قال تلميذه: يقول لي شيخي أبو إسماعيل الأنصاري: لا تعلف الدابة في أسفل العقبة، أي أن لا إله إلا الله لا تنفع إلا عند المشنقة، قل لا إله إلا الله من قبل، ولا يترك الإنسان نفسه ولا يذكرها إلا إذا أتاه الموت أو أصبح على السرير الأبيض في وقت المرض، فالدابة إذا أردت أن تصعد من تهامة، وأردت أن تقويها، فلا ينفع أن تأتي في الصباح تعلفها الشعير حتى تسمن، بل اعلفها من قبل بمدة كافية، وهذا معنى كلامه، وهي من أبدع الكلمات.
فالبرهان هذا هو الشعاع الذي يلي الشمس، والشمس تسمى عند العرب: ذُكاء، ويسمى شعاعها: إِيَاك، وتسمى الشمس أيضا: الغزالة، يقول الشاعر:
غزالة أنت فجر الناس طراً وأنت الحاكم البطل المريع |
يمدح الخليفة، فغضب الخليفة لأنه لا يعرف العربية الفصحى قال: اسحبوا ابن الفاعلة يدعيني أنا غزالة، قال: الغزالة هي الشمس لكنه لم يفهم، ولذلك قالوا: لا بد أن تخاطب الناس بقدر عقولهم، فالشاعر بليغ، وهذا لا يفهم شيئاً في اللغة العربية، وشعاعها يسمونه إِيَاك ولذلك يقول أبو عبيد: لا يقرأ إِيَاك في الصلاة، إذا قرأت الفاتحة وقلت: إِيَاك نعبد وإِيَاك نستعين بطلت صلاتك؛ لأن إِيَاك تعني: شعاع الشمس، يعني: الشمس نعبد والشمس نستعين، فلا بد أن تشدد فتقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وتسمى: ذكاء.
ومن اللطائف والاستطراد ما جاء في الصحيح: أن الله رد الشمس ليوشع أحد الأنبياء، فقاتل الكفار، وبقي على الانتصار قليل، وكادت الشمس تغرب، قال: اللهم ردها لي، فردها الله.
والشيعة يقولون: رد الله الشمس لـعلي بن أبي طالب لما نام عن صلاة العصر، وهذا كذب، وذكره البغوي والطحاوي وبعضهم، ورده ابن تيمية وأتى أبو تمام به في قصيدة له فقال:
فردت علينا الشمس والليل جاثم وشمس بدت في جانب الخدر تلمع |
نضا ضوءها صبغ الدجنة وانطوى بطلعتها نور السماء المرجع |
فوالله ما أدري علي بدا لنا فردت لنا أم كان في القوم يوشع |
وهذا خطأ فما ردت لـعلي رضي الله عنه.
فمن معاني البرهان الشعاع، ومن معانيه الحجة القاطعة وقد قال تعالى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [الأنعام:148] وقال سبحانه وتعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111] وإنما سمي برهاناً؛ لأنه واضح مثل شعاع الشمس، ولأنه صادع، ولأن الناس يرونه.
أما الصدقة فلا تسأل عن حكمها، والصدقة إذا أطلقت في الكتاب والسنة فيقصد بها الزكاة المفروضة والنافلة، فقوله صلى الله عليه وسلم: {فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم} وقوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60] يعني: الزكاة، فهي تشمل هذا وهذا والحمد لله.
وأما فضل الصدقة: فهي مكفرة للخطايا، وهي توسع صدر العبد، وعدها ابن القيم في زاد المعاد من أسباب شرح الصدر، وكذلك وصف صلى الله عليه وسلم رجلين كريماً وبخيلاً، برجلين عليهما جبتان، فلا يزال الكريم ينفق فتتسع الجبة ولا يزال البخيل يمسك فتضيق عنه، فيقول أبو هريرة: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {فيجتهد أن يوسعها فلا تتسع} يعني الجبة من ضيقها، ولذلك نفوس البخلاء من أضيق النفوس؛ لأنهم ما بذلوا، ونفوس الكرماء من أشجع النفوس ويقولون: في الغالب تجتمع للكريم الشجاعة، وللشجاع الكرم، وغالباً يجتمع في البخيل الجبن وفي الجبان البخل، فتجد الشجاع دائماً كريماً؛ لأنه يجود بنفسه صباح مساء، يقول بعضهم:
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود |
وهذا في كرم النفوس، فيقول صلى الله عليه وسلم: {والصدقة برهان} دليل على صدق صاحبها في الإيمان، والمنافق لا يتصدق، وأبخل الناس في الأموال المنافق، فإنه يكدس الدنيا ولا ينفق أبداً؛ لأنه لا يؤمن بموعود الله، فهو ليس حريصاً على قيام الليل؛ لأن أخبار لقاء الله عز وجل وأخبار الكتاب والسنة ليست موثوقة عنده، وكذلك لا يتصدق لأنه يقول: عصفور في اليد ولا عشرة فوق الشجرة، ويقول:
خذ ما رأيت ودع شيئاً سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل |
ويقول سبحانه وتعالى: وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37] لذلك تجد المنافق يقول: أمسك مالك، ودع الإسراف والتبذير، ولا تضيف هؤلاء الضيعة من الناس، ولو افتقرت لما ضيفك منهم أحد، ولا ينفعك إلا مالك، وادخر درهمك الأبيض ليومك الأسود!! ويأتيك بهذه المقالات، ومن أحسن من كتب في هذا الجاحظ في كتاب البخلاء فقد أتى بالبدائع في بخل بعض الناس، حتى إن أحدهم يلقي محاضرة إذا قدم الطعام، منهم أحد البخلاء قدم تيساً محنوذاً، والتيس معروف، فأتى هذا الضيف يأكل منه، فقال له البخيل: يظهر أن أمه نطحتك، كأنه أخذ يلعب بالتيس لعباً، وكأنه يقطع من كبد المضيف، فقال له الضيف: وكأن أمه أرضعتك، يعني: لماذا تحن عليه؟ هل بينك وبينه نسب؟! الحمد لله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وذكر من قصصهم كثير وكثير ولولا أن الوقت لا يسمح لأوردت بعض القصص من أخبارهم والله المستعان.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ |
وهو من أجود ما يكون، وكرماء العرب اختلف فيهم، وأكرم الناس منذ أن خلق الله الخليقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي في القائمة بعده أبو بكر الصديق الذي دفع ماله في سبيل الله، وما دفعه ليشكر في الدنيا، وإنما يبتغي به وجه الله، وأثنى عليه ربنا في كتابه فقال: الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:18-21] من أجل أن يرضى يوم العرض الأكبر وسوف يرضيه الله تبارك وتعالى.
وأما بعض الكرماء فإنهم ينفقونها رياءً وسمعة وطلباً للمحمدة، ويعطيهم الله المحامد مثل حاتم الطائي، لا يخلو مجلس من ذكر حاتم، لكن ليس له في الدنيا إلا الذكر وليس له في الآخرة من خلاق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح ابن حبان لـعدي بن حاتم: {إن أباك طلب شيئاً فأصابه} طلب الذكر فأصابه، وكان حاتم هذا كريماً من فطرته.
وكان صلى الله عليه وسلم يستعرض الأسارى، فقامت امرأة متحجبة -بنت حاتم الطائي - فقالت: {يا رسول الله! إن أبي كان يقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، ويحمل الكل، ويعين الملهوف، أنا بنت
يقولون: كان حاتم وهو طفل يرضع من ثدي أمه، فأتت أمه بطفل آخر يرضع معه على الثدي الآخر، قالوا: فإذا رفع ذلك الطفل رأسه رفع حاتم رأسه، فإذا رضع رضع، هذا من ضمن ما ذكروا عنه، وأتاه أضيافه فما وجد قرى فنحر فرسه، إلى غير ذلك من الأخبار.
أرسله أبوه يرعى الإبل في البادية، فمر ضيوف فقال: من أنتم؟ قالوا: هل تضيفنا في هذه البادية فلم يضيفنا أحد؟ قال: هذه ضيافتكم وأعطاهم الإبل.
وكان حاتم نحيفاً؛ لأنه ما كان يأكل الطعام، كان إذا أتى الطعام دعا الناس جميعاً فأكلوا الطعام وبقي هو جائعاً، فقال أبياتاً من الشعر نسبت له ولـعروة بن الورد:
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بوجهي شحوب الحق والحق جاهد |
أوزع جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قراح الماء والماء بارد |
وإني امرؤ أعافي إنائي شركة وأنت امرؤ عافي إنائك واحد |
حتى ضرب به المثل، فقال الفرزدق:
على ظمأ لو أن في القوم حاتماً على جوده ضنت به نفس حاتم |
فالله المستعان!
وأما ابنه عدي فسيد من السادات، وهذا ليس من بحثنا في شيء.
الضياء: نور فيه حرارة، والنور: نور بلا حرارة، شعاع بلا حرارة، اسمع إلى كلام الله سبحانه وتعالى كيف فرق بين الشمس والقمر في الإضاءة، اسمع بلاغة القرآن قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس:5] فالشمس ترسل شعاعاً بحرارة، والقمر يرسل شعاعاً بلا حرارة، فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً [يونس:5] لذلك لا يقال: ضياء القمر، وإنما يقال نور القمر، ولا يقال: نور الشمس، وإنما يقال ضياء الشمس.
وقال بعضهم: وأما شريعة موسى فوصفها الله بأنها ضياء ووصف شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بأنها نور، فشريعة محمد صلى الله عليه وسلم مثل القمر، وشريعة موسى أشبه شيء بالشمس، فما هو السر؟ انظر إليه سبحانه وتعالى يقول عن القرآن: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء:48] وقال عن التوراة: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ [المائدة:44] ففيها نسبة من النور لكن هناك ضياء، أما شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول سبحانه: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة:15] وقال سبحانه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الأعراف:157]. قال أهل العلم: شريعة موسى فيها آصار وأغلال؛ فسماها الله ضياء؛ لأن فيها تكاليف تحرق، وأما شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها يسر، قال تعالى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8] وقال: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:1-2] فكانت ميسرة، فشريعته صلى الله عليه وسلم حنيفية سمحة، وشريعة موسى شديدة، كان اليهودي إذا أذنب يكتب على جبينه الذنب، إذا شرب الخمر في الليل خرج في الصباح مكتوب على جبينه شرب الخمر، وكان إذا أصاب البول بشرة أحدهم قطع البشرة، أما نحن فشريعتنا سمحة قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] وهناك رخص تناسب الإنسان وطموحه وأشواقه وآماله، فالمريض له رخصة، والمسافر له رخصة، وكذلك الحائض، والنفساء، والصغير، والنائم، والمجنون كل له أحكام، ولله الحمد والشكر.
قال: الصبر ضياء؛ لأن الصبر فيه مشقة.
لم يكن عنترة بن شداد الجاهلي الشجاع مسلماً، لكن كان يحطم الرءوس بسيفه، وكان من أشجع العرب، قال له أحد الناس: يا عنترة! جسمي أكبر من جسمك، فكيف تغلب الرجال ولا نغلبهم نحن، قال عنترة: أعطني إصبعك وأعطيك إصبعي، فأعطاه إصبعه وأخذ هو إصبع ذاك، فقال: عض إصبعي وأعض إصبعك، ليدلل له أن المسألة مسألة هل يصبر أم لا، فعض عنترة وعض ذلك، فما لبث ذاك أن قال: آه فانطلقت إصبع عنترة فقال: بهذا غلبت الرجال.
أقسمت أن أوردها حرة وقاحة تحت غلام وقاح |
إما فتى نال المنى فاشتفى أو فارس زار الردى فاستراح |
إذا سألت الله في كل ما أملته نلت المنى والفلاح |
بهمةٍ تخرج ماء الصفا وعزمة ما شابها قول آح |
فإذا قال الإنسان: آح، فهذا يعني أنه ما صبر، وكانت العرب تكره للإنسان إذا ضرب بالسيف أن يقول: حس؛ لأن هذا من أصوات ضرب السيف يقال للفرس: صه، يعني: انهض، والعربي الشجاع إذا ضرب بالسيف يكظم أنفاسه، ولا يقول شيئاً.
وهذا خبيب بن عدي لما صلب في مكة، ما قال حرفاً، وإنما أنشد قبل أن يتوفى بدقائق فقال:
فلست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي |
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع |
وحبيب بن زيد أحد الصحابة مزق جسمه مسيلمة الكذاب، فأخذ يقطع منه قطعة وقطعة وقطعة قالوا: فضم أسنانه بعضها على بعض، وما تلفظ بحرف، فهذا من أعظم الناس.
صبر على أقدار الله المؤلمة.
وصبر على أداء الطاعات.
وصبر على اجتناب المعاصي.
وأعظمها الصبر على أداء الطاعات وهو: أن تصبر على أداء الصلوات في أوقاتها، وعلى الوضوء، وقيام الليل، والصدقة، والصيام في الحر، والحج، وعلى تكاليف العبادة إن كان فيها تكاليف، فهذا صبر على الطاعات.
والصبر على الأقدار المؤلمة، أن تصبر على موت الطفلة، وموت الوالدة، والحبيب، أو على فقد بصرك، أو سمعك، أو البلاء في جسمك، أو أخذ مالك، أو ضرب جسمك، أو حبسك، فكل هذا من الصبر.
والصبر عن المعاصي أن تصبر على اجتناب الفواحش والمنهيات.
فهذه أقسام الصبر الثلاثة، وأسعدها وأحسنها الصبر الأول، وقد ابتلى الله عز وجل الخليقة بهذه الأصناف، فبعضهم يصبر على الطاعات ولا يصبر عن المعاصي، بعض الناس يقوم الليل من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، ولكن إذا عرضت له فتاة، لا يصبر؛ بل ينظر، وبعضهم يسمع الغناء، وهذا أخطأ في هذا الجانب، وأصاب في الآخر، وبعضهم يصبر عن المعاصي، ولا يصبر على الطاعة، فتجده لا يسمع محرماً، ولا يعصي الله عز وجل؛ لكنه من أسوأ ما يكون إذا قام للصلاة، وبعضهم يصبر على هذا ولا يصبر على الأقدار المؤلمة، فإذا أتاه جراح، أو ماتت بنته أقام الدنيا وأقعدها، وبقي يبكي سنة، ويتسخط على القضاء والقدر.
ويذكر أن أحد العوام من الناس الجهلاء بالشرع كانت له طفلة، وقد وكان عقيماً، ثم رزقه الله هذه الفتاة، وجاره عنده تسع بنات، فمرضت هذه البنت، وأشرفت على الوفاة، فأخذ يجلس عند الرصيف، ويقول: يا رب! هذه بنت، وفلان عنده تسع وتأخذها، سبحان الله! قالوا: فتوفيت ابنته فخرج -نسأل الله العافية- غاضباً ينظر إلى السماء، ويقول: أما على الضعفاء مثلي وأمثالي فتستطيع، وأما صاحب التسع فما تستطيع!!
ومثل ذلك القصائد التي مرت في الاعتراض على القضاء والقدر فلله الحمد، فله القضاء المطلق، ولا بد من الصبر، وأسعد الناس من إذا أذنب استغفر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، هذه منازل الربانيين الموحدين المحمديين صبر في البلاء، وشكر في الرخاء، واستغفار عند الذنب، وهذه في القرآن جميعاً، فأنت إذا فتحت الأبواب الثلاثة، وأعطيت كل باب منـزلته، أسعدك الله في الدنيا والآخرة.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (حجة لك) فإن من عمل بالقرآن دافع عنه القرآن يوم القيامة، وعند الحاكم في المستدرك: (يأتي القرآن والصيام يوم القيامة، فيقول الصيام: يا رب! منعته طعامه بالنهار، ويقول القرآن: يا رب! منعته نومه بالليل، فيستشفعان فيه، فَيَشْفَعَانِ فيه) ولا يزال القرآن يحاج عن العبد يوم القيامة ويقول: يا ربِّ أسهرته، يا ربِّ عمل بي، يا رب ترك نواهيه؛ حتى يدخله الجنة، وفي أحاديث صحيحة: وصف الرسول صلى الله عليه وسلم (سورة تبارك) أنها المنجية، أنجت صاحبها من عذاب القبر، ثلاثون آية حاجت عن صاحبها حتى منعته عذاب القبر؛ لأن ملائكة العذاب أتت إلى رجل في القبر، فأرادوا أن يدخلوا إليه، واقتربوا من وجهه، فأتت (تبارك) دون وجهه، ثم أتت إلى أقدامه فمنعته، وإلى جنبه فمنعته، فحاجت عنه، والمراد من قام بها وعمل بمقتضاها.
وأنا أرشدكم إلى كثرة قراءة سورة الملك تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] وأن تكرروها، ولو في اليوم والليلة مرة، وأن تسعدوا بقراءتها وأن تحفظوها أبناءكم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ( أو عليك).
فإنه يأتي لمن أبطل تعاليمه وأبطل مراسيمه، فهو يحجه ويدمغه ويكذبه، ويقول: يا ربِّ قرأني ولم يعمل بي وخالف أوامري، قرأ: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18] وهو يظلم، وقرأ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27] وهو يقطع، وفي القرآن لعنة المنافقين وهو ينافق، وتحريم الربا وهو يرابي، وتحريم الزنا وهو يزني، وتحريم الغناء وهو يسمع الغناء، فهذا محجوج يوم القيامة.
فالقرآن أمام رجلين: إما أن يأخذ الرجل فيقوده حتى يدخله الجنة، وإما أن يأخذ الرجل من قفاه حتى يزج به في النار، ولا يترك القرآن العبد أبداً، هذا القرآن حجة لك أو عليك، فعلى الإنسان أن يستعرض حياته ومنهجه ونفسه على ضوء القرآن الكريم الذي نزل على سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يمثل القرآن يوم القيامة رجلاً، فيؤتى بالرجل قد حمله، فخالف أمره، فيتمثل خصماً، فيقول له: يا ربِّ حملته إياي فشر حامل، تعدى حدودي، وضيع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال: شأنك به، فيأخذ بيده، فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار، ويؤتى بالرجل الصالح كان قد حمله وحفظ أمره، فيتمثل خصماً دونه، فيقول: يا ربِّ حملته إياي فخير حامل، حفظ حدودي، وعمل بفرائضي، واجتنب معصيتي، واتبع طاعتي، فما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال: شأنك به، فيأخذه بيده، فما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق، ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر) كأس الخمر الذي في الجنة، رواه ابن أبي شيبة وابن الظريف في فضائل القرآن، والخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل، وفيه محمد بن إسحاق وقد عنعن وهو مدلس، وقد رواه أيضاً البزار، وذكره الهيثمي في المجمع وقال: فيه ابن إسحاق وهو ثقة، ولكنه مدلس وبقية رجاله ثقات.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: [[القرآن شافع مشفع، وحامل مصدق، فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار]] وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) وهذا عند مسلم: (وتأتي سورتا البقرة وآل عمران كغمامتين أو كفرقان من طير صواف تظلان صاحبهما يوم القيامة) وصح عنه أيضاً أنه: ( يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل؛ فإن منـزلتك عند آخر آية تقرؤها) فيقرأ الذي كان يقرأ في الدنيا ويعمل حتى يقف إلى مستوى حفظه في الدنيا، فنسأل الله أن يعيننا وإياكم على حفظه، والعمل به وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار.
فالغدو هو الذهاب -عند أهل اللغة- في أول النهار، قال النابغة الذبياني:
زعم البوارح أنَّ رحلتنا غداً وبذاك خبرنا الغراب الأسود |
يتشاءم بالغراب، والعرب يتشاءمون بالغربان.
يقول: الأسود أخبرنا بأننا سوف نسافر غداً، والشاهد هنا غداً، ولكن قد تستخدم في غير غدو الصباح، مثل ذهب ورجع فيقال: غدا وراح.
فقوله: يغدو أي: يذهب، فمعناه يذهب في تجارته وفي كسبه وفي عمله، فهو على أحد رجلين: إما مرضياً عنه، وإما مغضوباً عليه، والناس على ذلك: الأستاذ والموظف والجندي والمسئول والكبير والصغير والتاجر والفلاح والطبيب والمهندس والمؤذن، كلهم يغدو في الصباح، يركب سيارته إلى عمله، فهو أحد صنفين إما ذاهب في غضب الله حتى يعود، أو في رضا الله حتى يعود.
وأنا أضرب لك مثلاً: موظف ذهب متوضئاً، وقد صلى الفجر في جماعة، وذكر الله عز وجل فذهب إلى عمله وفي نفسه أن ينصر دين الله، وأن ينصر أولياءه وأن ينهي أمور المسلمين وأن يساعد المحتاجين وألا يتغيب عن وظيفته وأن يؤدي أمره على أحسن وجه، لحديث: (إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه) فذاك في رضا الله حتى يعود، وهذا الذي اشترى نفسه من الله. وموظف ترك صلاة الفجر فلم يصلها في جماعة، وقام بلا ذكر، وذهب إلى عمله، قلبه معقود على الغضب وعلى الكبر، لا يريد نفع المسلمين ولا أداء عمله على أحسن وجه، ولا يريد الإحسان إلى المساكين، يؤخر معاملات الناس، ويرتشي في أموره ويغضب إذا دخل عليه الصالحون، أخذ منصباً؛ حرباً لأولياء الله، وحرباً لعباد الله، يدس لهم الدسائس، ويعمل لهم الأحابيل، فهذا في غضب الله وفي لعنة الله حتى يعود، فقس طبقات الناس على ذلك، والله رقيب على الأعمال ورقيب على التصرفات، وهو الذي يحاسب الناس ولا يحاسبه أحد، لا معقب لحكمه، فلا يوقع بعده أحد، لا يسأل عما يفعل وهو يسألون، ويستعرض سبحانه وتعالى طبقات الناس يوم القيامة -الجنود والموظفين، والأساتذة، والطلاب، والفلاحين والتجار- في يوم العرض الأكبر، فيحاسبهم بأيامهم وما فعلوه.
والناس على ضربين:
رجل جعل وظيفته ومنصبه حرباً لله ولرسوله ولأوليائه، فلا ينتقد إلا الصالحين، ولا يعادي إلا الأخيار، ولا يقف حجر عثرة إلا عند الأبرار، فيسهل أمور الأشرار، ويتقرب إلى الفجار، ولا يراقب الله الواحد القهار.
ورجل آخر جعل منصبه دعوة إلى الله، واستخدمه في طاعة الله، فقرب الأخيار، وسهل أمور المساكين، ولم يحتجب عن حاجة الناس يقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به) وقال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: (من ولي من أمر أمتي شيئاً، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم، احتجب الله دون حاجته وخلته يوم القيامة) والله يجازي الناس بمثل ما فعلوا، فجزاؤهم مثل ما فعلوا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] فهذا معنى: (كل الناس يغدو فبائع نفسه) وهناك ثلاث آيات هي في العقود والصكوك الموقعة من رب العالمين، ليست عقود الدنيا ولا بيع السيارات والعمارات، العقد الذي وقعه محمد صلى الله عليه وسلم، وأتى به جبريل.
جبريل يروي لنا الآيات في حلل من القداسات تهمي عندها السجف |
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا |
أملاك ربي بماء المزن قد غسلت جثمان حنظلة والروح تختطف |
وكلم الله من أوس شهيدهم من غير ترجمة زيحت له السجف |
والعرش يهتز من هول ومن فرق لـسعد إذ سفراء الوحي قد وقفوا |
فهذا البيع وهذا الشراء إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] في مجلس العقد، وقال سبحانه: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111] وقال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207] وقال سبحانه: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] وقال سبحانه: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة:14] هؤلاء المنافقون المردة، يجلس أحدهم مع الصالحين، فيتذلل لهم ويمدح الدين، ويلقي لك محاضرة في فضل الإسلام وفي فضل الدعاة والعلماء، فإذا جلس في الخفايا أخرج خنجره يطعن به الإسلام وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:14-16].
بعضهم يقولون: ضحكنا على هذه الدقون واللحى، قال الله سبحانه: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15] قال أهل العلم: هؤلاء يخادعهم الله يوم القيامة مثلما يخادعون الصالحين، يمد لهم نوراً فيمشون على الصراط، ويظنون أن هذا النور سوف يوصلهم إلى الجنة، فإذا وقفوا وسط السراب، أطفأ الله عليهم النور، فسقطوا في جهنم، وهذه أعظم خديعة، وهذه هي والله اللعبة الأممية التي ما سمع الناس بمثلها.
وفي الصحيحين: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أنزل الله عليه وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] -قال: في الشراء والبيع- قال: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً)
وفي رواية للبخاري: (يا بني
والوبق: الهلاك، وأوبقه: أهلكه، وموبقاً: مكاناً ضيقاً، فالإنسان بعد ما جرح بالنهار يكون على أحد ضربين:
رجل أعتق نفسه وشراها من الله، وأعتقها من الذل ومن الهلاك، فهذا سعيد، ورجل أوبق نفسه في الذل والهلاك، فهذا شقي والعياذ بالله، ولذلك قال بعض العلماء: عليك أن تبحث في صحائف أعمالك وقت النوم، إذا أتيت إلى الفراش واضطجعت، فانظر ماذا فعلت: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام:60] فتنظر في صحيفتك وماذا فعلت؟ وماذا قدمت؟ وهل أحسنت أم أسأت؟ واعلم أن منـزلتك في الدنيا عند النوم كمنـزلتك يوم العرض الأكبر.
أما العتق الحقيقي فهو أن تعتق رقبتك من النار، والعبد الحقيقي هو عبد شهوته، وعبد بطنه، وعبد درهمه، وعبد منصبه، قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش}.
قال بعضهم:
أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حراً |
وقال الآخر في عبودية الواحد الأحد:
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي |
يقول: أنا زادني الشرف أنك دعوتني قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الزمر:53] قال: فادعني بهذا لأكون عبداً لك؛ لأن أهل العلم يقولون: من لم يكن عبداً لله كان عبداً لغيره، حتى تجد بعض الناس لا يتشرف بحمل عبودية الله، فتجده عبداً لغيره، ولو كان فريقاً ولو كان عليه ست عشرة نجمة، لكنه إذا لم يكن عبداً لله كان عبداً لغيره، حتى تجده من أذل الناس للناس ومن أعصى الناس لرب الناس، أما مع الله فمتمرد قوي، وأما مع هؤلاء فأضعف الناس، حتى يرتعد ويختلط ويرتفع عنه القلم من الخوف، يقول أحدهم:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا |
وبعض الناس يغضب لعبوديته هذه، فتجده يقاتل على الأرض وعلى السيارة وعلى العمارة، شجاعته فقط في أمور الأرض، وهذا حال غالب الناس وأقولها صراحة: نحن شجعان عند الأراضي حتى يقول أحدهم: والله لا تأخذ منها شبراً واحداً لو أذهب أنا وأسرتي.
تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ |
رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر |
بالمسدس عند المحكمة وفي مجامع الناس ويقول: والله لا أقدم ولو شبراً واحداً، ولو أذهب وأسفك دمي، لكن المنكرات والفواحش والفجور والتعدي على الدين وانتهاك الحرمات وضياع الأمة وضياع مبادئ الأمة وضياع إياك نعبد وإياك نستعين لا يغضب لها غضبة ولا يتحرك حركه، وإذا كلمته يقول: كُلْ وعش واسكت، هذا البطل صاحب الأرض الذي يغضب للسيارة أو للعمارة.
فكيف كان خالد؟ خالد قدم جميع أمواله في سبيل الله، ومع ذلك كان خالد إذا سمع أحداً يتعرض لكلمة التوحيد حملقت عيونه وذهب خالد إلى قبيلة من قبائل العرب سيدها مالك بن نويرة، وكان بطلاً، فقال خالد: ادفع الزكاة قال: الزكاة التي يطلبها صاحبكم؟ -يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام- وهذه كلمة باردة، سامجة لا تدخل في مزاج، قال خالد: سبحان الله! وليس بصاحبك يا عدو الله! والله لأذبحنك، ثم تقدم إليه فقتله، فقالوا: تسرع خالد ولذلك قال أبو بكر: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، وخالد قتله؛ لأنه سمع كلمة لا يستطيع أن يتحملها، كل شيء إلا هذا.
حتى أحد الخلفاء دخل عليه القاسم بن عبيد الله أحد الوزراء فقال في كلمة له عن التدرج في المناصب: الإنسان يتدرج في المناصب حتى يصل إلى ما وصله الله، مثل الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- كان راعياً ثم تاجراً مع خديجة ثم ارتقى به الحال حتى صار رسولاً، فقام الخليفة عليه فوجهه إلى القبلة وذبحه: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36] ذبحه لكن على الطريقة الإسلامية.
والجعد بن درهم هذا قال: ما كلم الله موسى تكليماً، ولا اتخذ الله إبراهيم خليلاً، قال خالد بن عبد الله القسري حاكم العراق: قيدوه، فقيدوه، فلما أتى عيد الأضحى صلى بالمسلمين في الكوفة وقال: يا أيها الناس ضحوا تقبل الله أضحياتكم فإن مضحٍ بـالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، ثم نزل ومعه الخنجر قال: وجهوه إلى القبلة فبرك على صدره اثنان ثم بدأ بسم الله الرحمن الرحيم فذبحه، فيقول ابن القيم يمدح خالداً:
ولأجل ذا ضحى بـجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان |
إذا قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني |
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان |
ومن أراد أن يذبح فليذبح مثله البدنة عن سبعة، وإن كانت الشجاعة اليوم تستغل لخدمة الدنيا وهذه الهمم القاصرة، وهذه والله الطموحات الأرضية الطينية التي تنهار أمام طموحات خالد بن الوليد وطارق وصلاح الدين وعظماء الإسلام.
أجاب صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى الليل فأين النهار، وإذا أتى النهار فأين الليل) والله هو الحكيم الذي خلق سبحانه وتعالى، وأما التهليل وحده؛ فإنه يصل إلى الله من غير حجاب بينه وبينه، وهي أعظم الكلمات، ليس فوق الكرة الأرضية أعظم من لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما قال عبد: لا إله إلا الله مخلصاً إلا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر) رواه الترمذي، والنسائي، وحسنه الترمذي، وهو كما قال. وقال أبو أمامة: ما من عبد يهلل تهليلة فينهنهها شيء دون العرش، ما يؤخرها شيء حتى تصل إلى العرش إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] وسأل أبو هريرة رسول الله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله يوم القيامة؟ قال: من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه) وقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: (من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله؛ دخل الجنة) أي: معتقداً بها عاملاً بمقتضاها مجتنباً لما يضر لا إله إلا الله ويقدح في لا إله إلا الله من الكبائر، وأما قضية أن تقال: لا إله إلا الله باللسان ثم تكذب بالأفعال، فهذه يقولها النصراني، ويقولها اليهودي ويقولها البلشفي الأحمر، لكن لا إله إلا الله بمقتضاها. لا، وورد أنه لا يعدلها شيء في الميزان، كما في حديث البطاقة المشهور وقد خرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وفي آخره عند الإمام أحمد: (ولا يدرك شيء بسم الله الرحمن الرحيم) وفي المسند عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن نوحاً عليه الصلاة والسلام لما حضرته الوفاة قال لابنه: آمرك بلا إله إلا الله) والظاهر أن لنوح ابناً آخر غير الابن الذي قال: قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود:43] فذاك ذهب في الهلاك، وهذا ابن صالح فقال: (آمرك بلا لا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله) وهذا الحديث رواه أحمد، وصحح إسناده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية وهو في مجمع الزوائد، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن موسى عليه السلام قال: يا ربِّ علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به، قال: يا موسى قل: لا إله إلا الله قال: كل عبادك يقول هذا، إنما أريد شيئاً تخصني به، قال: يا موسى: لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله) وهذا الحديث رواه أبو يعلى وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر في فتح الباري مع أن في إسناده دراجاً أبا السمح، وهو ضعيف في روايته عن أبي الهيثم، وهذا الحديث منها.
وأي الكلمتين أفضل "لا إله إلا الله" أو "الحمد لله"؟
الذي يظهر أن لا إله إلا الله أفضل، قالوا: أما في الثناء فالحمد لله، وأما في الدعاء فلا إله إلا الله، أفضل الدعاء: لا إله إلا الله، وأفضل الذكر: الحمد لله، وقيل: أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله، فإن الحمد لله تتضمن معنى الدعاء، لكن من أفضل الكلمات التي قاتل عليها عليه الصلاة والسلام: لا إله إلا الله، ومن أجلها أرسل الله الرسل، وأنـزل الكتب، وشرع الشرائع، ونصب الميزان، ومد الصراط، وبنى الجنة، وجعل النار، وأقام الحجة وأقام المحجة، كل هذا من أجل لا إله إلا الله، ومن أجلها دمر الله الأرض خمس مرات، مرة بالطوفان، ومرة بالزلزال، ومرة بالصيحة، ومرة بالحاصب، ومرة بالغرق، ومن أجل لا إله إلا الله بعث الله الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهي المحجة التي يأتي بها العبد يوم القيامة، وفيها البطاقة، والله المستعان.
الآن يقول عليه الصلاة والسلام: (الطهور شطر الإيمان) فكثير من الناس يتوضأ ويصلي، ولا يستحضر هذه الفضائل، فلا يستحضر أن الطهور شطر الإيمان ولا يتذكر، بل قلبه ساهٍ لاهٍ، ولا يتأمل هذه الأجور؛ لأن أجرك على قدر تذكرك، فالله الله في تذكر هذه الأجور العظيمة.
ومنها قول: (والحمد لله تملأ الميزان) إن من الناس من ظن أن الحمد باللسان فقط، فعصى الله وتعدى حدوده، وأخذ كل ما يقدر من نعم الله، ثم قال: الحمد لله، حتى اقتصر ثناء الناس على الله باللسان فقط، تقول: انظر إلى الأمن الذي نعيشه، وانظر إلى الرخاء الذي نحن فيه، يقول: الحمد لله، الله لا يغيرها نعمة، لكنه ما استخدمها في شكر المنعم سبحانه وتعالى، وبعض الناس يظن أن النعيم فقط هو ما يشاهده في السوق من الجرجير والخيار والبطاطس، فكلما رأى الخيار والجرجير والبطاطس طارت نفسه فرحاً.
طفح السرور عليّ حتى أنني من عظم ما قد سرني أبكاني |
وقال: لا غيرها الله من نعمة، والنعمة العظيمة الحقيقية عند أهل العلم نعمة التوحيد ونعمة الإيمان والتوجه إلى الله.
ما الفرق بين الأعرابي المؤمن الذي يصلي ويقوم الليل، ويصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وهو يسكن في خيمة في تهامة، وبين المجرم الذي يسكن في الدور العاشر، ويصعد بالمصعد -الأصنصير- وعنده سيارة فاخرة، وهو لا يصلي الفجر في جماعة، ومعه الشيكات يلعب بها كلعب البلوت، وهذا الأعرابي لا يعرف الريال وما قد رآه في حياته، فما الفرق بين النعمتين؟ هذه نعمة دواب ونعمة حيوان وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] وقال سبحانه وتعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35] ليس الفضل بكثرة الأكل، فالحمار يأكل ما يقارب عشرين كيلو، وبعض الناس لا يأكل إلا ربع كيلو، وليست بالقوة، فالثور أقوى ما يكون، وليست الضخامة فجسم الفيل ضخم، ولكن بالإيمان والعمل الصالح والنور، فالناس الآن يقول أحدهم: الحمد لله، بينما لا يعمل بمقتضى الحمد لله، فلو أنه حمد الله في العمل، وحمد الله في البيت، وحمد الله في المنهج الذي يعلمه ويدرسه ويقوم به، وحمد الله في أنه يغار على أن تسلب الحمد لله؛ لأن الأمة إذا لم ينصح عاقلها سفيهها، ضربها الله ضربة قاصمة: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] فلا بد أن يغار على منهج الله، وأن يتمعر وجهه إذا رأى أن المعاصي تنتشر، وأن أعداء الله يرتفعون، وأن أولياء الله يخفضون.
فقل لـبلال العزم من قلب صادقٍ أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا |
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا |
والأمة لَوْ صَلَّتْ لَوَصَلَتْ، فلما لم تصلِّ فُصِلَتْ، والصلاة معناها صلة بين العبد وبين الله، فتجد المصلين الصادقين يصل نورهم، وجيش يهون عليه ترك المعاصي حتى يقول محمد إقبال:
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا |
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا |
تقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] ثم توالي أعداء الله! تقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وتعادي أولياء الله! وتستهزئ بدعاة الإسلام! وتستخف بالعلماء! والله وجد في بعض الناس أنه يحب الكفار أكثر من حبه للمؤمنين، ومجالسه فقط تعليق على اللحى وتقصير الثياب والمسواك والمطاوعة والمتطرفين والمتزمتين، أما مع أعداء الله، فتجده كالأرنب، وهذا واقع، فأين عقيدة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]؟! وأي خيانة لـإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]! وأي عمالة أمام إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]! وأي إهانة لـإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]! وأي انشقاق لـإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]؟! أولياء الله هم أسعد الناس ولذلك لهم حق عليك أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54] صاحب اللحية والثوب القصير هو الذي نصر الإسلام، هؤلاء هم الذين مزقوا أجسامهم في أفغانستان بالدبابات من أجل أن ترتفع لا إله إلا الله، هؤلاء أبناء أهل بدر وأهل أحد وحطين واليرموك، هؤلاء أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، ألا يعجبك هذا الشكل؟! أتريد أن يتزلج على الثلج، أم تريد جمع الطوابع، أم تريد موسيقى؟! هذه خيانة لـإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
هذا واقعنا مع {الصلاة نور}.
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن |
وإن أولى الموالي أن تواليهم عند السرور الذي واساك في الحزن |
وقال حاتم الطائي لامرأته:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي |
لله هذه البطولة! يقول: إذا صنعت الزاد وقدمته على السفرة، فلن آكله حتى تأتي بضيف معي.
إبراهيم عليه السلام عاهد الله ألا يأكل إلا مع ضيف، وقال لمواليه وعبيده: من أتى منكم بضيف فهو عتيق لوجه الله، فكان الواحد منهم يحرص على الضيف كما يحرص الأعمى على شاته.
لو أخبروا عمر الفاروق نسبتهم وأخبروه الرزايا أنكر النسبا |
أبواب أجدادنا منسوجة ذهباً لكنْ هياكلنا قد أصبحت خشبا |
من زمزم قد سقينا الناس قاطبة وجيلنا اليوم من أعدائنا شربا |
دمشق يا كنـز أحلامي ومروحتي أشكو العروبة أم أشكو لك العربا |
أدمت سياط حزيران ظهورهم فقبلوها وباسوا كف من ضربا |
وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا |
لكن أبشر هذا الكون أجمعه أنا صحونا وسرنا للعلى عجبا |
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضبا |
عافوا حياة الخنى والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنبا |
مجدنا صحوة إمامها محمد عليه الصلاة والسلام.
من حبلك الشهم في كف الهدى طرف على التراب وفي أرواحنا طرف |
على جماجمنا خض كل معركة أعلى الرءوس التي في الله تختطف |
ما هو دستورها؟ القرآن والسنة، أين مسيرتها؟ على اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] من هم أعداؤها؟ المغضوب عليهم والضالون، إلى أين تصل؟ إلى جنة عرضها السماوات والأرض ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:46] من أعلى منا؟ من أحسن منا؟ من أسعد منا بهذا الدين؟ فلماذا يعلق علينا؟ ما هي جناية الأمة المسلمة؟ ما هي جناية الصحوة أن تعلقت بلا إله إلا الله؟ أهي مسئولة عن ترويج المخدرات؟ أهي مسئولة عن ترويع الآمنين؟ أهي مسئولة عن تهديد الأمة؟ أهي مسئولة عن استيراد الأفكار من الغرب وإدخالها التعليم وشحنها في الأذهان؟ أهي مسئولة في إياك نعبد وإياك نستعين؟ أهي مسئولة في ذبح لا إله إلا الله؟ لا.
بلاد أعزتها جيوش محمد فما عذرها ألا تعز محمدا |
ما عذر الأمة ألا تعز محمداً وقد أعزها بجيوشه؟! يقول البردوني وهو شاعر لا زال حياً في صنعاء :
طه إذا ثار إنشادي فإن أبي حسان أخباره في الشعر أخباري |
أنا ابن أنصارك الغر الألى سحقوا جيش الطغاة بجيش منك جرار |
تظافرت في الحمى حوليك أنفسهم كأنهن قلاع خلف أسوار |
إذا تذكرت عماراً وسيرته فافخر بنا إننا أحفاد عمار |
هذه سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا منهجه. وجيله يجلس الآن هنا ليسمع الذكر، لأن هناك جيلاً يجلس أكثر منكم مع الكرة والمنتخب والكأس، وجيل هناك يجلس على البلوت وما أدراك ما البلوت، وجيل هناك على جمع الطوابع، وجيل هناك على الشاطئ، وجيل هناك على الأرصفة في المغازلة والضياع، أما أنتم فجلستم هنا، الله يرقبكم الآن، يقول لكم بعد دقائق: انصرفوا مغفوراً لكم فقد رضيت عنكم وأرضيتموني، يباهي بكم الملائكة يقول: في البلد الفلاني في المكان الفلاني في المجلس الفلاني قوم اجتمعوا، فتقول الملائكة كما في صحيح مسلم : {يا رب يسبحونك، فقال: هل رأوني؟ قالوا: لا والله ما رأوك -والله أعلم- قال: كيف لو رأوني؟ قالوا: كانوا أكثر تقديساً لك، قال: وما يسألون؟ -والله أعلم- قالوا: يسألونك جنتك، قال: هل رأوها؟ قالوا: لا يا رب قال: كيف لو رأوها؟ قالوا: لو رأوها لكانوا أكثر مسألة، قالوا: ويستعيذونك، قال: ممَ؟ -والله أعلم- قالوا: من النار، قال: هل رأوا النار؟ قالوا: ما رأوها، قال: كيف لو رأوا النار؟ قالوا: كانوا أشد استعاذة، قال: أشهدكم أني غفرت لهم وأدخلتهم الجنة، قالوا: يا رب! معهم فلان إنما جلس لحاجة، قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم}.
فنسأل الله أن يسعدنا وإياكم، ليس معنا إلا هذه المجالس، هي مجالس الإيمان، وهي مجالس الجنة، وهي مجالس الملائكة، هي الكنز الذي تلقاه يوم العرض الأكبر، قال عطاء بن أبي رباح : [[مجلس واحد من مجالس الذكر يكفر سبعين مجلساً من مجالس اللهو]].
أيها الإخوة: انتهت المحاضرة بحفظ الله ورعايته، ونحن نطلب منكم دماً هذه الليلة، مستشفى عسير المركزي يطلبكم أن تتبرعوا بدمٍ من دمكم الطاهر لأناس يحتاجون إلى الدم:
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود |
والتبرع بالدم أفضل من التبرع بالمال، وهو أغلى من الذهب والفضة، وأنتم بحاجة أن تحيوا النفوس، وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32] وعلى الأسرة أناس ينتظرون منك قطرات أن تدفعها لتلقاها يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] رجال ونساء توقفت حياتهم على قطرات دم تدفعها أنت في بنك مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96]يأخذونها منك ويدفعونها في شرايين هذا الرجل الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت فينتعش بدمك فيعود حياً إذا كان الله قد أذن له بها، فيأكل ويشرب ويسعد بالحياة كما سعدت بها.
هذا تقرير من طبيب، منطقة أبها لا يؤثر فيها سحب الدم؛ لأنها ترتفع عن البحر ثلاثة آلاف متر فوق مستوى سطح البحر يزيد من تركيز الدم، وثخونة الدم يعرقل دورانه في الجسم والتبرع يجعله سهلاً، ويجعل حركته منتظمة ويعينك إن شاء الله على حياة سعيدة، أنتم أبناء من تبرعوا بدمائهم في بدر وحطين واليرموك وأحد وسكبوا الدماء وضرجوا بها الأكفان، وأنتم الآن لستم في جبهة ولستم في ثغرة، جبهتكم أن تدفعوا من دمائكم شيئاً قليلاً لأولئك الذين ينتظرونكم في مستشفى عسير المركزي قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران:133] فتبرعوا من دمائكم عسى الله أن يعوضكم بجنة عرضها السموات والأرض، وعسى الله أن يحرم دماءنا ودماءكم على النار. ومن أراد فليذهب للأطباء هناك وسوف يتم ذلك بعد الكشف عليه، ومن المبشرات أنهم سوف يمنحونك عصيراً مشكلاً بعدما يسحبون الدم منك وشيئاً من البسكويت ليعوض عنه ما أخذ وهو مجاني والحمد لله.
فنسأل الله أن يسعدنا وإياكم في الدار الآخرة، وأن يتولانا وإياكم في الدارين، وأن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، ولا يرينا وإياكم لا سوءاً ولا مكروهاً، وأن يحفظنا وإياكم بعين رعايته، ونسأله سبحانه وتعالى لمن أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً أن يشغله بنفسه، وأن يكفينا شره، وأن يهتك أستاره، وأن يفضح أسراره، وأن يجعله عبرة للمعتبرين، اللهم من سل على المسلمين سيفاً فاقتله به، واجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين.
اللهم تولنا فيمن توليت، واهدنا فيمن هديت، ووفقنا لكل خير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر