إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الأبرار: أثقلت بهذا المديح والثناء هذه الليلة، ولكن -والحمد لله- قد أصبحت عندي مناعة ضد المدح والهجاء، فأُصَبَّح كلَّ يوم بقصيدة من المدح، ثم أُمَسَّى بقصيدة من الهجاء، فجعلتُها سواء، كما قال الفضيل بن عياض: لا يبلغ المؤمن الصِّدِّيقية حتى يكون مدح الناس وهجاؤهم واحداً، فعسى أن نبلغ هذا الفضل.
وأما الإخوة فهم متفضلون -جزاهم الله خيراً- على أن دعَوني ودعَوا الدكتور حبيباً، ودَعوا أصحاب الفضيلة، وأهل العلم والأدب والحضور الكرام، فأشكر مركز متوسطة السيوطي على هذا الجهد، وهذا النظام وهذه الرتابة والحفاوة والضيافة.
أما ما تفضل به الدكتور/ حبيب، فلا أكتمكم سراً أني اشترطت على الإخوة والمجلس القائم على هذا النشاط بأن يقدمني الدكتور/ حبيب، ولم أتفق معه سرياً وراء الكواليس على أن يمدحني وأمدحه في مناسبات أخرى؛ لأن هذه خيانة، وقد فاجأني والله بما فعل؛ لكن له من اسمه نصيب، فقد غلبني باسمه، فأحببتُه منذ زمن بعيد، حتى يحق فيه أن أقول:
وغفر الله له مبالغتَه، وهو صادق فيما يقول، ومن ثبتت حجيته فلا يسأل عن مثله.. ولكنه قال: إنني أحفظ عشرة آلاف قصيدة، وهو أراد أن يقول: عشرة آلاف بيت. وهذا من باب التحدث بنعمة الله، فقد حدَّثتُه في الصحراء بيني وبينه؛ لأنه ألَحَّ عليَّ في السؤال، ومن كان منكم في شك من هذا فلينازلني في أي مكان يريد، وأتحداه وأتحدى أباه وجده؛ فإن بعضكم سوف ينكر ذلك.
أما عنوان المحاضرة فهو: (قصائد قتلت أصحابها).. أعاذكم الله من القتل، وأسأل الله أن نقتل جميعاً في سبيله، وأن تضرب رقابنا لترتفع (لا إله إلا الله، محمد رسول الله).
لكن أصحابنا من الشعراء هذه الليلة ليس فيهم واحد قُتل في سبيل الله، مع الاحتفاظ بحقوق الطبع لشعراء متأخرين. فالله المستعان!
أيها الإخوة الكرام: لقد اخترتُ هذا العنوان لأننا في زمن يجب علينا أن نحاسب على الكلمة، وأن نكون مؤتَمَنين على الحرف، وأن نتقي الله فيما نقول؛ لأنه ما دام أن البشر والملوك والوزراء والأدباء يؤدبون العاصي والمنحرف في لغته وفي لفظه، ويُقتل وتضرب عنقُه، فكيف بالواحد الأحد الذي يقول: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]؟!
فإنها مدرسة، فاستمعوا وأنصتوا، وإنه بإمكانك أن توظف الحرف لمرضاة الواحد الأحد، وبإمكان المنحرف أن يلغو بكلمة، فيخرج عن المنهج وعن الصراط المستقيم.
وسامحوني إذا ذهبتُ ذات اليمين وذات الشمال، مع أني أريد أن أقصر من الاستطراد، لكن الأدب يتحمل، وربما كان الاستطراد أحسن من النفسية الحرفية، وهذا أمر -إن شاء الله- معلوم.
دور الشعر وتأثيره
أما تأثير الشعر فلا تَسَل، ويكفي أن محمداً عليه الصلاة والسلام يقول: {
إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة} ورسولنا عليه الصلاة والسلام لم يكن شاعراً، فقد صانه الله؛ لئلا يُتَّهم في الوحي، وقد اتُّهم بالشعر وهو لم يكن شاعراً؛ فكيف لو كان شاعراً عليه الصلاة والسلام؟! أما غيره فقال كثير من أهل العلم: إنها صفة مدح في الرجل إذا كان ينْظُم ويقول الشعر، ويبدع الكلمة، ويجوِّد الحرف، وليست سلبية أبداً.
وأما الشعر فإنه يجوِّد البخيل، ويشجع الجبان، ويسكت الغضبان.. وأضرب على ذلك أمثلة سريعة لأدخل في الموضوع:
ابن الأطنابة أمير من أمراء الجاهلية في الحجاز، كان في الطائف، حضر مع قومه والتقى بقبيلة أخرى يقاتلها، ولكنه لما رأى أشعة السيوف -أعاذكم الله من أشعة السيوف- خفق قلبُه وأصابته الحمى، ففر على بغلته وترك جيشه، فلما ذهب بعيداً تذكر أنه لا بد أن تكون له منزلة في التاريخ، وأن ديوان الإنسانية سوف يذكره بهذا، فقال:
فعاد وقاتل وانتصر، وسجل برائعته انتصاراً في التاريخ بسبب ثلاثة أبيات.
وهذا قطري بن الفجاءة حينما حضر المعركة، والخوارج لا تسل عنهم في الشجاعة، فهم بائعو رءوسهم، والخارجي يقاتل بلا رأس ثلاثة أيام، وهذه من الإسرائيليات المنسوبة لبعض الأدباء المعاصرين، فحضر قطري وهو زعيم، فلما رأى السيوف تصرع، ورأى الجماجم تُحط من على الأكتاف فر، ثم رجع إلى المعترك وقال:
إلى آخر ما قال، وهي مقطوعة ذهبية جميلة فائقة رائعة، لا يمكن أن يُنْسَج على مثلها إلا أن يشاء الله.
النابغة الذبياني ويمينه البارة
وعلى ذلك سار الناس، فمنهم من سكَّت الغضبان كما فعل
النابغة الذبياني لما أتى
النعمان بن المنذر.
والحقيقة أن الشعراء دينهم رقيق إلا من رحم الله، حتى يقول ابن كثير: على مذهب الشعراء في رقة الدين، وأستثني الحضور من أهل العلم والشعر والأدب؛ لأن هؤلاء سيوف إسلامية في الأدب والشعر؛ لكن في الجملة: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224] فدينهم رهيف خفيف سخيف، إلا أن يشاء الله.
فأخذ النابغة يعرِّض بغرفة النوم عند النعمان بن المنذر.. وانظر إلى العقل، من يلاعب الأسد؟!
فأهدر النعمان بن المنذر دمه، ففر النابغة على وجهه، كلما أتى قبيلة وقال: أنا ضيفكم أستجيركم قالوا: إن كنت أنت النابغة فلا تدخل بيتنا، وكان ينام في النهار ويمشي في الليل، وفي الأخير أشار عليه أحد الحكماء أن يلبس أكفانه وأن يسلم نفسه إلى أقرب مخفر شرطة ليموت ميتة طبيعية.. فسلم نفسه، وذُهب به إلى النعمان بن المنذر؛ لكنه جهز ثلاث قصائد؛ لأن النفس -كما يقال- إذا كانت تغلي، فإنها تسخن في حنفيات حتى تصل إلى مصبها.
وكان النابغة قد مدح أعداء النعمان الغساسنة بقصيدة رائعة قال في أولها:
انظر إلى السحر الحلال! وليس كقصيدة:
نحن أبناء الجزيرة المثنى والمغيرة
التي كأنها درجات الحرارة، والصيدليات المناوبة.
نريد شعراً قوياً عارماً هائلاً مؤثراً في الناس، وإلا فلنرح أنفسنا والقراء من الإكثار من كتابة القصائد بمعدل أربعٍ وعشرين قصيدة في كل ثلاث وعشرين ساعة.
فهدر دمه، فلما جاء إليه النابغة قال له:
فرضي، ثم قال له أيضاً:
إلى آخر ما قال، وحلف له أيماناً الله أعلم بها.
وكان لنا شيخ في معهد الرياض العلمي، وهو ابن منيف طيب الله ذكره، وهو لا يزال حياً، ولو كان ميتاً لترحمنا عليه، والمقصود أنني حلفتُ أني أستحق درجة أعلى من الدرجة التي أعطاني، وأنا في ثانية متوسط -وهذا من الاستطراد- فقال: أيمين امرئ القيس أم يمين النابغة؟ قلت: لا أدري، قال: إن دريتَ كمَّلتُ لك الدرجة؛ لكنني لا أعرف القصة، فقال هو: إن امرأ القيس فاجر في يمينه، حيث يقول:
وأما النابغة فيمينه بارة، حيث يقول:
مرثية ابن بقية الوزير
أما تأثير الشعر على الناس والملوك وأهل القرار فلا تسل، فإن الرجل يحكُم ويُصدر مرسوماً بقتل رجل ثم يندم، وتدمع عيناه، ويوجل قلبه، ويتمنى أن القصيدة التي رُثي بها ذاك المقتول قيلت فيه، وقد حصل هذا لـ
عضد الدولة فنا خسرو الذي ذكره
المتنبي بأعقد بيت سمع به الناس فقال:
ذهب إلى شيراز فقال -قاتله الله-:
يقول: هذا الملك البطل الشجاع لا يسمى مثله ملك، ولا يُكَنَّى مثله أحد.. وحصل أنه قتل في عيد الأضحى من ملوك الكفار ثلاثة، جندل رءوسهم على الطريقة الإسلامية، فلما قتلهم أتى ودخل بغداد واستقبله ثمانون شاعراً، منهم السلامي والمتنبي والصولي وغيرهم، فمدحوه كثيراً.
لكن اسمعوا إلى الصولي وهو يخاطب الملك بأنه ذبح وضحَّى بثلاثة من ملوك الكفار، فالناس يضحون بالنوق والخرفان وهذا يضحي بملوك الكفار، وهذه هي تضحية أهل السنة، وقد فعلها خالد القسري لما ضحَّى بـالجعد بن درهم، فقال:
أيها الناس: ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بـالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً.
ثم رجع إلى أصل المنبر فنحره وذبحه.. قال ابن القيم:
وهذا الملك قتل ثلاثة، فأتوا يسلمون عليه ويشكرون سعيه، فقال الصولي:
وهذه كتبت في ديوانه، وما يأتي مثلها في الشعر شيء.. ثم انطلق الشعراء، فتقدم السلامي وما قصَّر، وقال من قصيدة له طويلة يقول في أثنائها:
أما المتنبي فقد أخذ الجائزة، دائماً يكون في المربد الأخير، لكنه يأخذ الجائزة، فقال في قصيدته الأعجوبة:
المقصود أن الملك غضب على ابن بقية الوزير -وهذه القصة معروفة- فقتله وصلبه، ورآه أبو الحسن الأنباري مصلوباً على خشبة الموت؛ فبكى وبكت بغداد لهذا الجواد الكريم السخي الرحب؛ ورثاه بقصيدة تبلغ اثنين وعشرين بيتاً، ومنها:
فسمعها عضد الدولة، قال بعض الرواة: فدمعت عيناه وقال: والله لوددتُ أنني قُتِلْتُ وصُلِبْتُ وقِيْلَتْ فيَّ.
هذا هو الشعر، وهو قليل من كثير.
ولكن الشعر قد يكون سخطاً إن لم يُوظَّف في طاعة الله عزَّ وجلَّ، وغضباً إن لم يُرَشَّد بفكرة إسلامية وعقيدة تربوية، فإنه يذهب بالرأس إذا لَحَن فيه العبد لحناً لا يصلحه الخليل ولا سيبويه؛ فإن عثرة القافية تذهب برأس العبد، وربما تصليه جهنم عند الباري سبحانه.. يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89]. أول المقتولين في هذه القائمة -ولم أذكره في كتابي قصائد قتلت أصحابها إنما ذكرتُ غيره- هو: علي بن جبلة العكوك، وشعره كله نُخَب، وهو من أشعر الشعراء على الإطلاق، وقد أعجب الذهبي بشعره، وله قصائد مدوِّية، يقول في بعضها:
قال العلماء: ليته زادنا قليلاً، وهي ثمانية أبيات؛ لكنه يتركك ويُنْهِيك وقد بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10] ثم يقطع القصيدة، فيقول:
وقد ذكرت هذا في كتاب لا تحزن وهو شعر جميل وليته أطال فيه.. وقد وفد على أبي دلف -وهذه هي التي أذهبت رأسه، وذهب في خبر كان- فدخل على أبي دلف الشجاع الأمير الجواد، فصنَّف فيه قصيدة تبلغ سبعين بيتاً، فلما انتهى منها اهتز أبو دلف -أتته حمى تهامة - وقال: احتكم، إما أن تأخذ نصف ما عندي -وهو أمير- وإما أن تأخذ على كل بيت مائة ألف درهم، وإلا فاحكم أنت. قال: بل مائة ألف على كل بيت.
يقول في هذه القصيدة:
إلى أن قال:
إلى أن يقول:
وطارت القصيدة وصارت من عيون الشعر، وعارضها عشرون شاعراً لكنهم أخفقوا كلهم، وقع الرمي تحت خشبة المرمى، حتى إن أبو نواس أراد أن يَنْظُم قصيدة على هذا النسق؛ فما استطاع.
ثم سمع المأمون بهذ القصيدة؛ فاستدعاه وقال: يا بن الفاعلة! والله لأقتلنك في قولك لـأبي دلف:
ماذا تركت لنا؟ ثم استشار الهيئة الشرعية، فقالوا: نحن سنبشرك بأبيات تقدح في الشرع؛ حتى إذا قتلتَه فسيقال: إن ذلك غيرة على الدين، قال: وما هي؟ قالوا: يقول أبو دلف من قصيدة سابقة:
وهذا لا يكون إلا لله الواحد الأحد.
انظروا! فقد أساء كل الإساءة، ووجدها المأمون فرصة، حتى يظهر أمام الناس أنه عَفٌّ طاهرٌ يغار لدين الله ويحفظ محارمه، والسياف حاضر، فأمره أن يضرب رأسه فصار كأنه بدون رأس، وذهب في خبر كان، وبقي شعره من أحسن الشعر عند العرب.
وصاحبنا الثاني:
أبو الطيب المتنبي، ولعلكم سمعتم به، وهو خطير جد خطير، فهو في الشعراء مثل
أحمد بن تيمية في العلماء، وإذا جاء
المتنبي انتهى الشعر والشعراء إليه، وقد استمر في الإحسان وفي الإهداء، حتى إن
الشوكاني يقول في
البدر الطالع: يكفيه فخراً وشرفاً أن له خمسمائة بيت تدور على ألسنة الملوك فقط، من غير رعاة الأبقار والأغنام.. فهو شاعر الدنيا، وديوانه قدر خمسمائة صفحة، له ما يقارب خمسة آلاف وستمائة بيت، أو ستة آلاف، وقد سرى بها في الدنيا.. وبعض المعاصرين لهم أربعة دواوين، كل ديوان مثل كيس الأسمنت، ولا يحفظ الناس منها بيتاً واحداً.. فهذا
المتنبي، ويكفيه أنني عقدتُ له مناظرة، والمرجع:
مقامات القرنيقلتُ: من أنت؟
قال:
وتوقيعاته معروفة دائماً.
قلتُ له: ما رأيك في حُسَّادك؟
قال:
اسمع هذا البيت، الْغِ الديوان وخذ منه هذا البيت، يقول: جعلني الله عقوبة لهم، لكن أستغفر الله لهم.
قلت: السفهاء يتطاولون على العظماء.
قال:
هكذا تفجر طاقة في اللغة والإبداع، مع القلة والنزر اليسير، لكنه الدرر.. وكان خفيف الدين، عهده بالوضوء في عطلة الربيع حين سافر إلى مصر، يُقال: كان لا يشرب الخمر ولا يصلي، قلنا: وددنا لو أنه شرب الخمر وصلى.
وأوصي إخواننا أن يحفظوا ألسنتهم شعراً ونثراً وكتابةً من أعراض المسلمين، فإنهم إن لم يخافوا العقوبة في الدنيا والسلطة؛ فإن الواحد الأحد سوف يبرز للبشر على عرشه سبحانه وتعالى، ويحاسبهم بما اقترفت أيمانهم وأيديهم وألسنتهم، ووالله لن يغادروا الموقف حتى يقتص سبحانه وتعالى لعباده بعضهم من بعض.
فأتى -والعياذ بالله- وتعرض لرجل أغضبه اسمه ضبة، وقال في قصيدة له شنيعة لا أذكر منها الإسفاف -نعوذ بالله- فسأترك الفُحش الذي في ديوانه، ففي ديوانه فُحش ومقت وسُخط؛ وهذا لأنه ليس عنده تقوى ولا دين.. قال:
إلى هنا وأقف؛ لأنه دخل في أمور أستحي من ذكرها، وهي من أسوأ قصائده -كما يقول محمود شاكر، وغيره من الأدباء والنقاد- ومع ذلك كانت سبب حتفه، فرصد له ضبة وقوم من بني أسد وتعرضوا له، وفي الطريق رده أحد الأدباء وقال له: احذر، اتقِ الناس، إنك هجوت هؤلاء القوم وسوف يعترضون لك، فقال بكِبْر وعُجْب وتيه:
والله لو أن بني أسد ظمأى لخمس، ونهر الفرات يترقرق ويتقلب ماؤه كبطون الحيات -البلاغة عنده حتى ورأسه سيذهب!- ومخصرتي -أي: عصاي- على النهر، ثم رأوا الماء ما وردوه.
وهذه كذبة تصنَّعها، كذبة إبليس، فقالوا له: خذ حرساً، قال: أمِنْهُم؟! والله لو خيالي سارٍ لغلبهم، قالوا: هذا صِدْقٌ! فذهب في الصحراء، وإذا بهم بعد قليل يطوقون المكان بمن فيه، فقالوا له: ارفع يديك، فأراد أن يهرب؛ لأن حوله ما يقارب الستين، وأراد أن ينسحب، ومعه ابنه محسد ومولاه وقوم من مرافقيه، فانسحب وهرب، فصاح به مولاه -وقيل ابنه والصحيح أنه مولاه: ألستَ القائل:
فقال: قتلتني قتلك الله! ثم رجع بالسيف، فقتلوه، فكأنه خُلق بدون رأس، وذهب رأسُه مِن أجل:
فانظر إلى هذه الخطورة وهذا الإعراض.
أما
طرفة بن العبد، وحسبك به! العبقري الثائر المتمرد، الذي قُتل وعمره ست وعشرون سنة، والعبقرية لا تعرف عُمْراً.. ست وعشرون سنة يدخل فيها على الملوك ويسجل أروع القصائد، حتى إن بعضهم يجعل معلقته بعد معلقة
امرئ القيس مباشرة، وبعضهم ألَّف فيها تصنيفاً بديعاً، وهي من أخطر وأبلغ وأمهر المعلقات على الإطلاق، ومع ذلك قُتِل وعمره ست وعشرون سنة.. وانظر إلى جيلنا الحاضر، يبلغ أحدهم ثلاثين سنة ولا يستطيع أن يشتري أغراضه من السوق.. وهذا هو صاحب الدالِية التي يقول فيها:
إلى أن يقول:
يقول: ما دمت سأموت فاسقوني الخمر، وأعطوني الشهوات، واجعلوا البيع بالجملة؛ لأنه ما عنده آخرة، وقد كان قبل الرسول صلى الله عليه وسلم في عهد الجاهلية، وليس عند الجاهليين نور، بل كانوا كالبهائم؛ لأنه قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم كنا بلا عقول ولا طهارة، ولا زكاة، ولا تفكير، ولا أدب، حتى بُعث محمد صلى الله عليه وسلم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].
وقد ذكرت بعضُ أبياته عند الخليفة الراشد الزاهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه في مجلس الأدب، فقيل له: يقول طرفة:
يقسم أنه لولا ثلاث لم يهتم بالحياة، وإنما يريد أن يموت، ويريد أن يقوم عليه النُّعاة.
قال عمر: وما هي؟
قيل له، يقول:
أي: كأس الخمر.
أي: امرأة.
فدمعت عينا عمر، وقال: والله لولا ثلاث لـم أحْفَل متى قام عُوَّدي، وهو منطق أهل الإسلام والإيمان والرشد: مزاحمة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما يُنْتَقى أطايب الثمر، وأن أصوم يوماً حاراً بعيداً طرفاه، وأن أمرِّغ وجهي لربي في التراب ساجداً.
فجزاه الله خيراً، فإن هذا منطق أهل الاصطلاح الخيِّر، لا منطق الجاهلية العفن.
أما طرفة فما أصابه بأس بهذه القصيدة المعلقة التي تركها لنا، وهي من أجود القصائد.
أتى إلى عمرو بن هند، وهو الذي يخاف منه الطير في الدهناء، وأتى يتعرض له ويستهزئ بمجلسه ويقول:
يقول: بودي لو أن بدل عمرو بن هند بقرة! أهذا منطق؟!
أي: تكون حلوباً، يقول: والله لا استفدنا منه ولا أعطانا شيئاً.
فطارت القصيدة بحفظ الله ورعايته إلى عمرو بن هند، وهو الذي قتل ملوكاً، ولا يُمْزَح معه، فقال: عليَّ به، فأتى، وأراد عمرو أن يظهر في موطن الصيانة والرزانة؛ لئلا يقول الناس: إنه قتل طرفة الشاب العبقري المارد، الذكي الألمعي، إذ كيف له أن يقتله؟! فدعاه وحياه ورحب به وغدَّاه وألبسه، وقال: لك عندي رسالة فاذهب بها إلى ملك البحرين، وأعطاه الرسالة، وأعطى المتلمس رسالة أخرى، ووضعهما في ظرفين وأعطاهما، فأما المتلمس فقد شك -فربما كان الذيب في القريب، كما قال بعض السلف، أو الصميل في الكيس، كما قال بعضهم- ففتح الرسالة وإذا فيها: إذا أتاك المتلمس فقطِّع أطرافه الأربعة ثم اضرب عنقه، ففر وقال لـطرفة: اذهب، يكفيك هذا الشعر، خذ الرسالة، قال: لا، بل حسدتني -وقد كان قريباً له- والله إن لي جائزة، وتريد أن تأخذها أنت عليَّ.. فذهب بها إلى الملك، فقرأها، فقطَّع أطرافه الأربعة ثم ضرب عنقه، فذهب في خبر كان من أجل أربعة أبيات أو أكثر.. وهي من أسوأ أبياته على الإطلاق، وهي ركيكة، لكن هذه عاقبة اللسان الذي لا يحفظه العبد، وهذا مع البشر فكيف مع الواحد الديان جلَّ في علاه.
والشاعر الآخر مسلم اسمه:
الأعشى الهمداني.. قتله أدبه وشعره، وكان شاعراً مجيداً.. لكن خرج مع فتنة
ابن الأشعث التي خرجوا فيها على
عبد الملك بن مروان، ومعهم سبعون عالماً من علماء
أهل السنة، رضي الله عنهم، منهم:
سعيد بن جبير الذي ذهب دمه هدراً ورأسه شذراً، ومنهم:
عامر الشعبي العالِم الكبير.. حتى أنه ذات مرة دخل
الحجاج فقيل له: أين كنتَ؟ قال: كنتُ في مكان كما قال
تأبط شراً:
وهذا من أجمل الأبيات، وهو من عيون الشعر.. وتأبط شراً ما كان يأخذ الجِمال ويستعيرها من أحد، وما كان يشتريها، بل كان يقول: الله هو الذي خلق الجِمال، وليست من الناس، فيأخذها عُنوة، وقد كان مارداً متجبراً، السيف عنده جاهز يقطر دماً.. يقول أحد الصعاليك: إذا مَرَّ بجِمالي قلت له: خذ ما تريد واذهب.. يقول في مطلع القصيدة، وهي خطيرة وأخَّاذة:
يقول: لا تضيِّع وقتَك بالجلوس مع الناس، اذهب واسرق لك جِمالاً وكباشاً، وخذ لك واشبع.
المقصود أن الأعشى الهمداني خرج في هذه الفتنة، فلما خرج نَظَم قصائد فيمن كان أمير الفتنة ضد الحجاج، وهو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، يقول في بعضها:
يقصد الحجاج ومَن معه. ثم رجع إلى الممدوح، يقول:
إلى أن يقول:
أي: بين أبيك وبين جدك.
فقال الحجاج لما سمعها: والله ما أتركه يبَخْبِخْ بعدها. وهذه الكلمة تُنطق عند أهل اللغة: بَخٍ بَخٍ، وبَخْ بَخْ، والرسول صلى الله عليه وسلم لما تصدَّقَ أحد الصحابة بمزرعته قال: (بخ بخ ربح البيع) وضَبَطها المحدثون: بَخٍِ بَخٍ.
فاستدعاه الحجاج، فوقف أمامه، وحلف بالله: إنك أحب الناس عندي. يقول هذا للحجاج وهو قد خرج عليه، وقال: إنه أحب الناس لأنه يرى النطع أمامه، والسيف مشهور، والكفن منشور.. قيل لبعض العلماء وهو يرتجف: ما لك ترتجف وقد كنت تشجعنا وتثبتنا؟ قال: ما لي لا أرتجف وأنا أرى قبراً محفوراً، وسيفاً مشهوراً، وكفناً منشوراً!! فحلف بالله إنني أحبك وإني ما خرجتُ رغبة، وإني قد قلت فيك قصيدة. قال: وما هي؟ فقال القصيدة. ثم قال له: أوَنِسْيَتَ قولك:
والله لا تُبَخْبِخُ بعد اليوم، يا غلام ائتني برأسه، فضَرَبَ رأسه، فكأنه لم يُخلق له رأس.
وهذا لأنه لم يقدر الموقف.
-
صالح بن عبد القدوس والمهدي
أما الشاعر الأثيم النذل الخسيس الحقير
صالح بن عبد القدوس، فإنه قد نال جزاءه على الزندقة والإلحاد في دين الله، وهذا جزاء من استهزأ بالدين:
قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66]
وهو حكيم بلسانه، لكنه نذل منافق، يجوِّد العبارة، وهو من أشعر الشعراء؛ لكنه لم يستفد من الشعر شيئاً قاتله الله! يقول ابن المعتز في الطبقات: إن كان قال القصيدة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. قلت: شكر الله لك! ويقول محمد الغزالي المعاصر: من قال كلاماً جميلاً شعراً أو نثراً ذهبنا إليه وقبَّلنا جبينه، ومن قال كلاماً خسيساً حقيراً في الملة ملأنا فاه تراباً.
يقول هذا في حكمة له:
هذا صحيح.
لكنه لم يتذكر هو.
وجاء بقصائد كثيرة من الأبيات المجيدة، والحكم البالغة النافعة لمن تدبرها، ولكنه لم يمتثل بها في حياته، بل تطاول إلى جناب الرسول الشريف صلى الله عليه وسلم -عياذاً بالله- فداه أبي وأمي، وملأ الله قلوبنا من محبته، وفديناه بأرواحنا ودمائنا صلى الله عليه وسلم
فلعنه أهل العلم، وجزى الله المهدي أمير المؤمنين الخليفة العباسي خيراً، فقد استدعاه في الحال وقال له: أنت الذي قلت في الجناب الشريف كذا كذا؟ فأقسم بالله أنه ما قال، وبكى أمام الناس، وأن أعداءه زوروا عليه، فأصبح الأمر محتمَلاً، فأراد المهدي أن يتركه وقال له: اذهب، فلما صار عند الباب وأراد الله أن يأتي برأسه- قال له: تعال، ماذا قلتَ في قصيدتك:
وهو قد أصبح شيخاً كبيراً.
قال: قلت:
قال: والله لا تترك أخلاقك، عليَّ برأسه، فقطعوا رأسه، والحمد لله فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45].
ومعنا
دعبل الخزاعي، وله نكات ولطائف، حتى أنه قبل أن يقتل أوصى أن يُدفن في
النجف عند أهل البيت في طرف المقبرة؛ لأنه كان يحب أهل البيت حباً شديداً، وقد غالى فيهم وزاد حتى تجاوز السنة، ونحن نحبهم ونتولاهم.. فأوصى أن يُدفن على طرف مقبرة أهل البيت، وأن يُكتب على قبره:
وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف:18] والعجيب أنه كلما جاء خليفة تناوله بقصيدة، والأصل أن الناس كانوا يهنئونه ويرسلون له برقيات التهاني، وهم في فرحة، لكن
دعبل كان يرسل له بقصيدة، فعندما تولى
المأمون وهنأه الناس، جاء
دعبل وأرسل له قصيدة، يقول فيها:
يقول: إن محمداً الأمين -أخاك أيها المأمون - قتلناه نحن قبيلة خزاعة على يد طاهر بن الحسين الخزاعي فاعلم أننا سنقتلك.. أتقتل المأمون يا دعبل؟! قال:
يقول: لاحظ يا مأمون! أننا نحن الذين رفعناك. دعبل هذا رجل أعرابي عنده أتان ما تساوي مائة درهم، ويقول: إنه هو الذي رفع المأمون، الذي جده خليفة، وأبوه خليفة، وإخوانه خلفاء، وولِد في بيت الخلافة! فقال المأمون: قاتله الله، ويلي عليه، يقول دعبل: هو الذي استنهضني؟!
ثم انتهى من القصيدة، لكن المأمون كان عنده حِلْم، حتى أنه يقول: والله الذي لا إله إلا هو لقد حُبِّبَ إلي العفو حتى خشيت ألا أوجر عليه؛ لأنه أصبح عنده سجية وجِبِلَّة، حتى أنه عفا عن الفضل بن الربيع، وعن أناس كبار أرادوا قلب الدولة؛ لكن خطيئته -والله سبحانه وتعالى يتولاه- ما فعل في فتنة القول بخلق القرآن، وهذا حديثٌ طويل، ندعه ونرجع إلى قصة دعبل الخزاعي.
هذا الرجل مدح آل البيت بقصيدة من أعظم القصائد، يسميها الكرمي: القصيدة العامرة، وصَدَق! وهي من أمهات الشعر وعيون الأدب، يقول فيها:
إلى أن يقول فيها:
في قصيدة طويلة وجميلة ورائعة، وذهب يلقيها على علي الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين فأغمي على هذا الأمير، وهو ولي العهد، فوقع من على الكرسي، وهو يلقي عليه هذا الرجل قصيدته، ثم أعطاه بردَته جائزةً له، فمر ببلدة قم وفيها شيعة، فقالوا: أعطِنا إياها بما أردتَ من ثمن. فقال: والله لا أبيعها، فتناهبوها حتى ما أصبح في يده إلا كشف الرأس، وذلك ليتبرك بها.
ولما مات المأمون، وتولى بعده المعتصم، أرسل له برقية تهنئة، يقول فيها:
لأن الثامن هو المعتصم. فيقول: من أين جئت أنت؟ ما أنت منهم أصلاً ولا لك أي حق في الخلافة. انتهى من الإشكال مع المأمون، والآن يحسب أن الحال سيصلح، قال:
واسمع إلى الكلام الآتي وهو يعتذر للكلب، ويقول: مع احترامي للكلب.. أستغفر الله العظيم، وهذا مع من؟ إنه مع المعتصم الذي دوخ الروم، وجعلهم يتركون المدن، وكان يحرق المدن مدينة بعد مدينة حتى قال أبو تمام :
هذا المعتصم القوي الشجاع الفتاك يُتَناوَل بهذا الكلام؟! انظر إلى المجازاة! قال:
يقول: مع احترامي للكلب.
إلى آخر القصيدة.
فسمعها المعتصم، فغضب وأزبد وأرعد وقال: عليَّ به، ففرَّ إلى خراسان، وضاعت القضية، فأتى به الله، ولم يقتله المعتصم، وإنما قتله مالك بن طوق الوزير عندما تعرَّض له دعبل بقصيدة، فاستدعاه فحلف أنه ما قالها، وأنها وضعت عليه -من الذي وضعها عليه؟ وما هذه الصهيونية العالمية التي تنْظُم أشعاراً للشعراء هؤلاء؟!
فقال له: لكني إذا تركتك فستعدي غيرك، فشهَّر به وجلده أمام الناس، ثم أرسل له من اغتاله في خراسان، وقيل: بل سقاه سماً، فذهب شَذَر مَذَر.
-
الرسالة المصطفاة من هذا الحديث
أيها الإخوة الكرام: ما هي الرسالة المصطفاة من هذا الحديث؟ هؤلاء قد قُتلوا وذهبوا وانتهوا؛ لكن ما هي الرسالة التي نريد أن نوجهها؟
الرسالة لأهل الأدب، وحملة الأقلام، ورجال الإعلام، والعلماء والأدباء والشعراء: أن يتقوا الله فيما يقولون ويكتبون، وأن يعلموا أن الله سوف يوقفهم في يوم لا ينفع مال فيه ولا بنون..
نعم، قد يستغفر العبد فيُغفر له، وقد يُجلد؛ لكن يقول سبحانه وتعالى عن نفسه: لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:25-26] يقول: لا يعذب عذاب الله أحد من البشر، ولا يوثق -إذا حبس سبحانه وتعالى- وثاقه أحد.. فالله الله! أرسل هذه الكلمة صادعةً ناصعةً قويةً.. إلى كل مَن عنده فكر أو قلم يحمله أو لسان أن يتقي ربه، وأن يحاسب نفسه فيما يكتب، فإنه سوف يمر به وقت تُعرض عليه الصحف، ويُناقَش حرفاً حرفاًً فيما قال وفيما كتب، ولينظر مصارع هؤلاء (مصائب قوم عند قوم فوائدُ).
وقد قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ [الأحقاف:27] فلتعتبروا يا أولي الأبصار! وهي رسالة للجميع، وإنني آسَف كل الأسف أن فينا من أهل الأدب والعلم والدعوة مَن يتعرض لإخوانه الدعاة والأدباء، والمشايخ وطلبة العلم، بالهمز واللمز والهجاء والكتابة السيئة في ساحات الإنترنت، وفي الرسائل وفي المجالس.. أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ [المطففين:4-5] سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ [الزخرف:19].
فاتقوا الله فيما تقولون وما تكتبون، وحاسبوا أقوالكم شعراً ونثراً، واستغفروا ربكم.. إنه غفور رحيم.
وصلى الله على الحبيب وسلم، وعلى آله وصحبه ومن سار على منهجه إلى يوم الدين.
اللهم وفقنا لأحسن الأقوال والأعمال.
اللهم زَكِّ نفوسنا، أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نسألك سداداً في الكلم، وقواماً في المنهج، وحسناً في الأدب، ورعاية في الملة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
سيرة الشيخ عائض الأدبية
السؤال: جزى الله خيراً أخي فضيلة الشيخ/
عائض بن عبد الله القرني على هذه المحاضرة القيمة.
وقبل أن نبدأ بالمداخلات وبما يتعلق بها، نريد أن نسأل الشيخ عن سيرته الأدبية؛ لأن كثيراً منَّا يعرف الشيخ/ عائض عالماً وفقيهاً ومحدِّثاً ومفكراً، ولكن بعضنا يجهل سيرة الشيخ عائض الأدبية.
أريد من الشيخ عائض -إن أذن لنا بذلك- أن يذكر لنا بدايته الشعرية، ونتفاً من سيرته الأدبية.
الجواب: بارك الله فيكم، وغفر الله لمن كان جاهلاً بسيرتي في الأدب.
كما تشاهدون أخاكم في موقف لا يُحسد عليه أمام الأدباء والشعراء وأهل الفضل والخير، ولكن:
فأقول أيها الإخوة: لكل بداية نقص، والعبر بكمال النهايات لا بنقص البدايات، وقد أحببت الأدب من الأول الـمتوسط بمعهد الرياض، وكان يدرسنا الأستاذ البليغ الأديب الدكتور/ إبراهيم الجوير، ثم في النحو الدكتور/ محمد الفاضل وكذلك الشيخ/ عبد العزيز الفنتوك، وملأ غيرهم من الأخيار، وكان فيهم أدب واهتمام بالشعر وبالكلمة، فكنت أظن وأنا في المتوسط أن الشريعة هذه التي اسمها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أنها دواوين الشعر، وأن جريراً نصر الله به الإسلام، حتى ظهر أن جريراً هذا والفرزدق كان لهما إبل يرعيانها في الصحراء، وما كان عندهما إلا الهجاء، وقد ضيعا الدين، ضيعهما الله.. فرجعنا وبدأنا نحفظ، وبدأتُ بـجواهر الأدب وبغيره إلى الثالث المتوسط، وكنت أشارك في الحفلات والأندية الأدبية وبعض المخيمات الصغيرة، وكما تعرفون أن الناس يغُرُّون، فيقول لي بعض الزملاء: فتح الله عليك! هذا الشعر لا يُطاق مثله ويصحح لي أحد الأساتذة فيقول: أنت في شعرك شيءٌ عجيب، حتى أني أتفكر في قوة شعرك دائماً. فبلغ بي ذلك أن قلت: أني مثل المتنبي أو قريب منه! وكانوا يسألونني في حفلات المعهد في المقابلات، فكان يسألني طالب مثلي ويقول: مَن ترى من الشعراء أنه شاعر؟
فأقول: المتنبي لا بأس بشعره، وفلان لي عليه ملاحظات وآتي بأبياته، وكذا... لأنني كنت جداً محباً للشعر، وأتى إلينا مرة وفد معهد الجوف زائراً فقالوا: نريد شاعر المعهد، الشاعر الكبير المصقع أن يَنْظُم، فذهبتُ فنَظَمْت قصيدة، فأولاً مدحتُ المعهد -هذا قاموس مفهرس- بقصيدة في ثلاثين بيتاً وهي موجودة ومحفوظة، وأثنيت على الأساتذة والمشايخ، ثم رحبت بالمعهد الوافد، ثم رثيت الملك فيصل؛ لأنه قتل في الأسبوع الأسود، ثم ذكرتُ الإسلام، وبدأتُها بالبيت الذي ما سمع العرب ببيت أضعف منه:
اسمع البلاغة... إلى آخر الكلام، من القصيدة، وليتهم استتابوني تلك الليلة؛ لكن جاء الأستاذ وزاد الطين بلة، فقال: سبحان الله العظيم! ما سمعنا بمثل هذه.
فلما كبُرت ورأيت البيان وذهبت إلى أبها، وفقنا الله بشيخ جليل، وعلامة رباني، وهو ولي من أولياء الله، وهو عبيد الله الأفغاني، وهو يدرس الآن في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فحفظت على يديه القرآن مجوَّداً، وقال لي: العلم ليس هذا، هذا أدب، عليك بـ صحيح البخاري فبدأتُ بـصحيح البخاري وفتح الباري إلى أن أعطانا الله شيئاً، ولا ننكر أنه أعطانا، ولكن ليس عندنا إلا القليل، فالفضل كله للواحد الأحد.
أشعر الشعراء في القديم والحديث
السؤال: شيخ
عائض: من يعجبك من الشعراء من المتقدمين ومن المتأخرين؟
الجواب: يعجبني كثيراً مِن المتقدمين منهم أهل المعلقات، ويعجبني شعر النابغة الذبياني، وأنا مع من يفضله أحياناً على زهير وطرفة صاحب القصيدة الدالية.
وأما من الشعراء جميعاً المتقدمين منهم والمتأخرين، والأحياء منهم والأموات: فهو المتنبي، وقد ألفت فيه كتاباً لدى مطابع العبيكان -وهذا للمعلومة- أسميته: امبراطور الشعراء الشاعر الأسطورة المتنبي.
وأما المعاصرين فكثير من الإخوان، ولن أذكر أحداً منهم؛ لكنهم أتحفونا بملأ منهم، وأنا أشاهدهم أمامي، فليعفوني، لأنني محرج من ذكر الأسماء، وأحياناً أذكر أربعة وأنسى ثلاثة، فالذين أمامي هم من الشعراء المتأخرين الذين نحبهم ونحب شعرهم، وأقرأ لهم بارك الله فيكم.
تكلف الشعر
السؤال: بماذا تنصح من يتكلف الشعر تكلفاً؟
الجواب: أنصحه أن يتقي الله وأن يريح المسلمين من شره، فلا ينظُم شيئاً؛ لأن بعض الناس يريد أن يقنعنا بالقوة أنه شاعر، ولا بد أن نعترف له، وينْظُم لنا قصائد في الجرائد يومياً، وهذا ليس بشعر، إنما هو منظومات، مثل:
فعليه أن يريحنا ويتقي الله فينا، فإن عندنا مصائب، كقضية فلسطين والشيشان وأفغانستان، فلا يزيدنا مصيبة رابعة، وأرى أن يتوجه لما خلقه الله، فالله لم يخلق الناس كلهم أدباء أو شعراء، ولتنظروا إلى الصحابة! هل كان أبو بكر شاعراً؟ له بيتٌ أو بيتين، وهو أول الصحابة فضلاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك عمر رضي الله عنه لم يكن شاعراً، فـحسان في الشعر، وزيد بن ثابت في الفرائض، وأبي بن كعب في القرآن، وابن عباس في التفسير، وذاك في الفقه.. وهكذا.
فيا إخوة: مَن فُتِح عليه باب فليلزمه، ولا يكلف نفسه موهبة ما خلقه الله من أجلها، فيثقل علينا ويثقل على نفسه.
زارني شاب إلى البيت، وقال: عندي قصيدة أريد أن أعرضها عليك. فقلت له: تفضل، فبدأ بها، وصبرني الله سبحانه حتى انتهى منها، ولما انتهى قال: ما رأيك فيها؟ قلت: الحمد لله الذي أخرجها من بطنك، ولو بقيت فيك لقَتَلَتْك.
إذاً: الفضل هو في قراءة القرآن، وفي الذكر، وفي العبادة، وأما الشعراء فعليهم أن ينصروا الدين بشعرهم.
قصائد قيلت في ابن باز
السؤال: هناك قصائد كثيرة من قصائد الشيخ، والشيخ له قصائد طنانة ومعروفة؛ فأرجو أن تتأخر المداخلات الصوتية قليلاً ليتسنى لنا أن نسأل الشيخ: نريد من الشيخ أن يذكر لنا ما قاله في الشيخ/
عبد العزيز بن باز رحمه الله.
الجواب: أحسنت، وهو مثلما تفضلت وقلت: لي قصائد طنانة، نعم لي قصائدي هي قسمان: طنانة، ورنانة.
وأما الشيخ ابن باز فلي معه تجارب، وهو من أحب الناس إلى قلبي، عسى الله أن يجمعنا به وبكم في جنات النعيم، وقد ألقيت عليه أربع قصائد، أما القصيدة الأولى فهي قصيدة: أبو ذر في القرن الخامس عشر، وبعض الشباب يسميها: الذرية، وهي قوية عندي وعند الشعراء من أقراني وزملائي، ولكنها لا تصلح في مجالس العلماء؛ لأن فيها رمزية وخيال، فألقيتها عليه في الحج، وكان معنا بعض المشايخ، فقلتُ فيها:
إلى أن قلت:
إلى آخر القصيدة، ولما انتهيت عقب الشيخ وقال: أما الأخ عائض فقد أجاد في قصيدته، ولكن الواجب أن يوضح لنا المراد، وأن يبين لنا ماذا يريد في قصيدته، وأن ينصر السنة بقصيدته... إلى آخر ما قال، فقلتُ: لقد أسمعتَ! فجاء الحفل في آخر الحج، فألقيت عليه قصيدة، فوضَّحتُها كالشمس، مثل:
قلت فيها:
فسُعد الشيخ وارتاح ودعا لي، أسأل الله أن يغفر له ويرفع منزلته.
الموقف الثالث: التقينا في حفل، فسلمتُ على الشيخ وقلتُ -وهي في ديواني:
إلى أن قلت:
بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الطل في إشراقه الضافي |
وقصيدة رابعة يوم أن دخل بيتي في الرياض، غفر الله له وأكرم مثواه، فرحبتُ به بقصيدة، ربما يعرفها بعض الإخوة، ولا أطيل على الإجابة عن هذا.
بلاد ذي القرن
السؤال: بلاد
ذي القرن هل هي
سراة أم
تهامة؟ وهل تنصحني بزيارة
ذي القرن في هذا الصيف؟
الجواب: ذي القرن ثلاثة أقسام: بادية، وسراة، وتهامة، وأنا -والحمد لله- والدكتور/ ظافر القرني من السراة، ونحن كغيرنا من الناس فينا الصالح والطالح، والمقتصد والسابق بالخيرات والظالم لنفسه؛ لأن بعض الناس يظن أن قبيلته هي التي حضرت بدراً وفتحت التاريخ وأقامت الدين.. لا، بل كل عَشَّة بسِباعِها كما في المثل، وقد قلتُ في رباعية لي:
ونحن ننتسب إلى أويس القرني ولن نتنازل عن هذا؛ لأن بعض الناس يسحبه إلى مذحج، ونحن منهم من مراد، حتى يقول شاعرنا في الجنادرية، جزاه الله خيراً:
لأن أصلنا من الأوس والخزرج، وأرجوكم لا تحسدونه على هذه المواهب.. يقول:
كرب عمي، وقحطان أبي وهبوا لي المجد من تلك الأبوه |
وأويس جدنا من قرن أوما الأبناء من تلك الأبوة |
إن بلال بن رباح المولى الحبشي أحسن من قبائلنا جميعاً إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
ولي قصيدة نبطية، و(عفواً) على قولي هذا، قلت فيها:
أبو لهب في النار وبلال يشرب سلسبيل درت الحكمة وربك تولى شانها |
وأما زيارتها، فأنصح بزيارتها في الصيف بشرط أن يمر الزائر سريعاً، يسلم على إخوانه ويمر كالذئب مرور الكرام؛ لأن بعضهم يمر فيجلس ثلاثة أيام إلى أسبوع، فيأتي ويقول: أحببتك في الله، وأنام عندك في الله، وآكل طعامك في الله، وآكلك في الله، ويعانقك حتى يفطس غترتك سبع مرات، ثم يذهب، ثم يعود، ويقول: اشتقتُ لك، وأردتُ أن أسافر لكن تذكرتُ الأخوة التي بيننا، فنقف أنا والإخوة ونقول: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر.
حكم الغزل في الشرع
السؤال: هل من الجائز أن أتغزل؟ وهل الشرع يبيح الغزل؟
الجواب: أما الغزل فمباح في الحدود، وأنا أحفظ منه كثيراً، والشيخ علي الطنطاوي هو أستاذنا وشيخنا، وقد زرتُه في حياتي مرتين رحمه الله، وهو يختار أجمل قصائد الغزل البرئ العفيف النظيف، وقد قطَّع قلبي بعضُه، وقد استخدمتُه في الحب وفي الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، حتى أن شاعر إيران السعد الشيرازي يقول:
وسبقه الأعور السلمي، وهو شاعر عظيم، وكل الشعراء عندي عظماء، كان له ابنٌ رزقه بعد أن كان عقيماً، فربَّاه، فلما بلغ معه السعي مات فجأة، فبكى بالعين الصحيحة، وبكت العوراء أيضاً، هي يابسة، لكنها بكت من شدة البكاء، فترجم ذلك فقال:
وهذا هو الأدب الراقي.
ومن أحسن القصائد شعر الشهرزوري، وهو عالم كبير, ولكنه تغزل في قصيدة فصارت أم قصائد الغزل، يقول فيها:
إلى آخر ما قال في هذا الإبداع، ولا أستطرد.
أعذب الشعر أصدقه
السؤال: يروى أن أعذبُ الشعر أكذبُه، فهل هذه المقولة الشائعة تُقْبَل؟
الجواب: تُقْبَل تجوُّزاً، والظاهر هو هذا، وبعض العلماء ردوا هذا وقالوا: لا يُقصد بكلمة (أكذبه) أنه إذا بالغ الإنسان وأتى بموشحات أدبية قد يكون كَذَبَ فيها، فقد يكون أوقع في القلب. لكنني أرى أن الجميل الصادق المؤثر هو الصحيح، ولا نقترب من الكذب، نعوذ بالله من الكذب.
قصيدة مؤثرة
السؤال: هل لك أن تذكر لنا قصيدة بكيت منها؟
الجواب: أنا أسمع قصائد كثيرة؛ لكن هناك بعض الرثاء وبعض المواقف، فأذكر أنه لما مات الشيخ/ ابن باز سمعتُ أحدهم يقول -وأظنه مذيعاً-:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمرُ فليس لعين لم يفض ماؤها عذرُ
فتأثرت.. وهذه القصيدة قالها أبو تمام في محمد بن حميد الطوسي البطل الشهيد، فقد قُتِل وعمره اثنان وثلاثون سنة، وتكسرت في يده في أول النهار مع الرمح تسعة أسياف، ثم ضربوه بالرماح حتى أصبحت ثيابه حمراً، فلما مات أتى الخبر بغداد فقال أبو تمام قصيدته الذائعة، حتى أن المعتصم لما سمعها قال: ما أسمى ما قيل في هذه القصيدة؟
إلى أن يقول:
إلى أن يقول:
إلى أن قال:
آخر قصيدة للشيخ
السؤال: قبل أن نبدأ في المداخلات نطلب من الشيخ أن يذكر لنا آخر قصيدة له؟
الجواب: لي قصيدة متأخرة عن تاج المدائح اسمها: صحيفة تجارب، وذكرتها في (ديوان قصة الطموح) أذكر منها:
انظروا إلى الشعر!
أبو لهب في النار وهو ابن هاشم و سلمان في الفردوس من خراسان
... إلى آخر القصيدة.
أما تاج المدائح فقد سمعها بعض الإخوة، فعفواً لن أذكرها.
تعقيب الدكتور/
حبيب بن معلا المطيري:-
شكر الله لك أيها الشيخ، وقد وصلت أوراق كثيرة، وكلها تثني على الشيخ وتدعو له، وتُشْهِد الله على محبته، ونحن كذلك، والآن نترك وقفة لبعض المداخلات الصوتية إن كان هناك بعض المداخلات، فإن عندنا بعض الطلبات هاهنا، منهم: الدكتور/ ظافر بن علي القرني، أستاذ في كلية الهندسة بجامعة الملك سعود إن كان لديه تعليق، والدكتور/ ظافر للعلم شاعر أيضاً، وله دواوين شعرية، وله إسهامات في الصحافة.
مشاركة الدكتور: ظافر بن علي القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
شكراً لفضيلة الشيخ/ عائض بن عبد الله القرني على ما أتحفنا به هذه الليلة، وأود أن أختصر ثنائي عليه؛ لأنه يعلم منزلته في قلبي، فإذا أردتَ أن تعرف الإبداع فانظر إلى قصائده، وإلى إسهامه في الشريعة وفي موضوع الشعر، وفي الفقه والتاريخ، وكلها إبداع.. وأنا سأنبه على نقطة، تخص المتنبي، فإنه قال لابنه أو لخادمه -كما قال بعضهم- لقد قتلتني يـابن الأطنابة.
من نقل هذا عن المتنبي؟ ومن الذي ينقذهم من الأعداء؟ ونحن لا ننكر للشعراء، ولا نمدحهم ولا نثني عليهم؛ ولكن لا نريد أيضاً أن يفهم الحضور أن كل من قال شعراً ينصب له كمين..لا، فهناك محاكم ومسئولون، وأريد هنا أن أذكر قصيدة لي عنوانها: شعراء قتلوا:
مداخلة الشاعر: عبد العزيز بن إبراهيم السراء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أولاً: أشكر مركز السيوطي على هذا النشاط المتجدد والمتميز نحو أدب هادف، وقد اعتنوا به كثيراً؛ تنظيماً وإعداداً وحسن دعوة لمن يقوم بهذه المقامة، فهي تزكية أدبية بفكرة تربوية ومدحة ترفيهية.
أما شيخنا وفارسنا هذه الليلة الدكتور/ عائض، وكأني به ولسان حاله يقول للباحثين وراءه، ولمن يريدون أن يدركوا غباره:
ومما يميز هذه الليلة: القصص التي قرأها في هذا البحث، ولكن الجميل فيها والرؤية الجديدة هي النظر إليها بنظرة إسلامية، والربط بينها وبين مراقبة الناس، ومن ثَمَّ مراقبة الله سبحانه وتعالى في كل ما يقوله الإنسان، وهذه النظرة والرؤية هي مما ينبغي في قراءتنا وفي مأثورنا نثراً وشعراً، ولا سيما في الكتب القديمة، فنجد القصص والأشعار والأخبار الكثيرة، وكيف نربطها برؤية إسلامية نستفيد منها لناشئتنا ولحياتنا عموماً.
أخيراً: للمركز الصيفي ولكل المراكز وجهودهم المميزة في عنايتهم بشبابنا أقول لهم:
والعياذ بالله.
شكراً لكم جميعاً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مداخلة الدكتور: عبد الله بن صالح العريني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على خير عباد الله، خير الخلق أجمعين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على سنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
إن الواجب في البداية تقديم الشكر للإخوة الكرام الذين نجحوا للمرة الرابعة -بتوفيق الله- في تقديم مثل هذه الأمسيات الأدبية التي أعادت إلى ساحة الأدب الكثير مما قد يُفتقد من ضرورة مراعاة مسئولية الكلمة.
لقد سعدت حقاً -ولست الوحيد، بل الجميع معي في هذا الأمر- بأن سمعنا هذه المحاضرة الطيبة عن هذه القصائد التي قتلت أصحابها، ولقد كان هنالك تساؤل كبير في العالم كله، وهو: هل دالت دولة الشعر أمام هدير الآلة وصخب الحياة؟ إن الواضح هو أن الشعر ما زال قادراً على أن يستحوذ على الاهتمام وأن ينال الإعجاب.
أريد في مداخلتي هذه أن أقول للدكتور/ عائض: لِيَهْنِكَ ما أعطاك الله، وبارك الله لك في هذه القدرة على هذه السياحة الأدبية التي أخذتنا معك فيها، وأريد أن أقول لكثير من سادات الأدب: إن الدكتور/ عائضاً بقدرته على تحويل هذا الموضوع الجاد إلى موضوع فيه الكثير من الطرافة يمثل مدرسة يجب أن نستفيد منها.. إن كثيراً من المحاضرات تبدو متجهمة وصعبة لكنها بشيء من هذه الخلطة السرية التي نرى أمثالها في هذه المحاضرة قادرة على أن تستحوذ على الإعجاب.
أريد أن أقول كلمة حول ما شاع من أن أعذبَ الشعر أكذبُه: هذه الكلمة تُعَد قضية من قضايا النقد، وهل أعذبُ الشعر أكذبُه أم أعذبُ الشعر أصدقُه؟ والشائع أن العرب يتذوقون الشعر الكاذب كما يتذوقون الشعر الصادق؛ لكن الحق خلاف ذلك، فـابن سنان الخفاجي في سر الفصاحة يؤكد أن مذهب اليونان هو أن أعذبَ الشعر أكذبُه، والآمدي في الموازنة ينفي أن يكون مذهب العرب هو أن أعذبَ الشعر أكذبُه، ويقول: لا والله بل أعذبُ الشعر أصدقُه.
أريد أن أقول: إن تضاعيف هذه المحاضرة قد لمست جراح الحياة الأدبية في كثير من أقطاع العالم العربي؛ التي أبعدت بشكل كبير قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله يهوي بها في النار سبعين خريفاً، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضا الله تكون له منزلة عالية في الجنة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم. ينال هذه المنزلة العظيمة في رضا الله بكلمة وهو لا يلقي لها بالاً، فما بالك بكثير ممن يدبِّج الكلمات في سخط الله، ويضع الأدب المنحرف، وينشره ويوزعه، ويهتم به وينقده ويؤيد أهله؟! مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكد على أن هذا الرجل وهو يلقي هذه الكلمة لا يلقي لها بالاً، ومع ذلك تحل عليه سخط الله.
تحية للدكتور/ عائض، ولزميلي الكريم الدكتور/ حبيب على هذه المحاضرة، وتحية لكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مداخلة الشاعر: محمد المقرن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لاشك أن الجنة هي الدرجة العالية والمنزلة الرفيعة، وهي الغاية والهدف لكل مسلم، وهي نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى، ونسأل الله أن يكون شيخنا الفاضل الدكتور/ عائض القرني ممن حاز تلك المنزلة.. وأريد في هذه العجالة التعليق على نقطتين:
النقطة الأولى: لما توفي سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه، ذلك الرجل الأمة؛ سمعنا ضجة في الصحافة بأشعار كثيرة؛ ولكن النقطة التي نقف عندها هي: ميزان الشرع في تلك القصائد، فقد سمعنا استغاثات بالشيخ/ عبد العزيز بن باز، وأنه لا مجير إلا هو، ولا مغيث إلا هو، وهكذا ورد في بعض الأبيات، وقرأتُ كثيراً وسمعتُ كثيراً من هذه الأبيات. هذه النقطة أريد أن يتحدث شيخنا عنها.
النقطة الثانية: كيفية الموازنة والمعادلة بين طلب العلم الشرعي والأدب الإسلامي.
رد الشيخ: عائض القرني
أكرر شكري للقائمين على هذا المركز الجاد والمبدع في عرضه وفي تنظيمه، فجزاهم الله خيراً، وأشكر الدكتور/
حبيب الشاعر المبدع والأخ الصديق الجميل على حسن حواره وإدارته هذه الأمسية.
وأما الإخوة الكرام فقد أسعدوني وآنسوني، وأضفوا على محاضرتي وأمسيتي فخراً وشرفاً، والدكتور/ ظافر القرني في قصيدته البديعة التي ذكرتني بأمهات القصائد، لا أقولها تعاطفاً؛ لكنني حساس وأتذوق الشعر، وقد ذكرني بقصيدة لأحدهم يقول:
فالبحر مُجْزٍ والقافية قوية.
وأشكر أيضاً الشاعر الشيخ/ عبد العزيز بن إبراهيم السراء، وهو معروف عندي منذ زمن، وعند الإخوة جميعاً، فجزاه الله خيراً، ونفع به الإسلام والمسلمين.. أما الدكتور الفاضل الماجد/ عبد الله العريني، فقد بُشِّرتُ قبل أن آتي أنه سوف يحضر، فكان لي شرف بهذا، ولو قوَّم أمسيتي ونقدني فمثله يُستفاد منه في هذا الباب، لأن له قدماً راسخاً في النقد والدراسة، فشكر الله له حسن ظنه بأخيه.. وأشكر الشاعر/ محمد المقرن على ما تفضل به، وهو حبيب عندي أيضاً، وهذه ليست فرصة للمجاملات؛ لكني أقول ما في قلبي، والحمد الله أن الله جمع لي الأخيار من الشعراء الذين هم شعراء التوجه الإسلامي ومن أشعرهم.
أما ما تفضل به في سؤاله: فالمسألة أنه صدق فيما قال، وأنا أوافق كثيراً من العلماء أننا غالينا وأسرفنا في تلك الفترة في الرثاء، والميزان الشرعي أنني وإلى الآن لم أرَ مثل الشيخ/ ابن باز، تقوى وعلماً، ورفقاً وخلقاً، والله يعلم أنه من أحب الناس إلى قلبي، وهو ممن عاشرتُه، فعسى الله أن يجمعني به وبكم في جنات النعيم، وغفر الله له؛ لكن قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق:3] يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171] إياكم والغلو! فهذا محمد صلى الله عليه وسلم، لما مات بكى الصحابة قليلاً، وما نَظَموا أشعاراً كثيرة، وذهبوا إلى مزارعهم، وجاهدوا في سبيل الله، وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه الشرع! وكذلك لما مات أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي.. وقد امتلأت الصحف بالنواح والعويل والنشيد.. وأين نذهب؟! وماذا نفعل بعدك إن تركتنا وذهبت؟ فبعضهم يكتب لإشاعة الخبر، وبعضهم أخذته العاطفة، أو جنَّح مع الحماس والناس، فصدق فيما قال، وقد سمعتُ من أحد الفضلاء أنه قال: لو اقتصدنا لكان أحسن، وترحمنا عليه، والدين والحمد لله محفوظ.. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] ومنصور، وقد مات محمد صلى الله عليه وسلم، والأنبياء والرسل، والخلفاء والعلماء.. فأنا معه، وأشكره على أنه استنبط هذا، ونريد ألاّ نكررها مرة ثانية، يموت ميت منا فنقول: الحمد لله والشكر له، فإن الأمم تموت، والدول تذهب، والملوك يذهبون، والناس لا يساوون في علم الباري سبحانه وتعالى حشرة، يقول الله: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان:29] وقال في الدول والأمم: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً [مريم:98] وقد قرأت في بعض كتب السير والتاريخ: أن أحد الرواة من الصحابة قال: {نهينا عن المراثي} وأنا من أهل الحديث، وعهدي على مَن شكَّ أن يراجع هذه اللفظة: {نهينا عن المراثي} وهو الإفراط فيها والغلو؛ لأن ديننا دين قائم على الوسطية واحترام العقل والشرع وعدم الغلو، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا تُطْرُوني كما أَطْرَت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله} وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
أما مسألة: كيف نجمع بين العلم الشرعي وبين الأدب؟ فهذا يفعله بعض العلماء بغض النظر عما إذا كان يؤثر على علمهم الشرعي وتحصيلهم أم لا؛ لكنها مواهب، فـالشافعي كان له شعر، وكذلك ابن المبارك والجرجاني رحمهم الله، وغيرهم كثير، كان عندهم أدب مع العلم الشرعي.. فأرى أن مَن فُتح عليه باب الشريعة وعنده ذائقة أدبية أو ميل أن يوظف هذه الموهبة في طلب الأدب والتزود منه؛ ليكون صاحب بيان وقدرة على مخاطبة الناس، والذي لا يجد في نفسه ذلك فليكتفِ، فإن فحول العلماء كانت عبارات بعضهم صعبة، ولم يكونوا أُدباء، فالأمر نسبي ولا أريد أن أفصل، لأن مثل هذا يحتاج إلى محاضرة، وسبق أنه كانت هناك محاضرة بعنوان: التآخي بين الدين والأدب، في بيت المشوح، وهي من ثالوثياته، وقد حضرها في تلك الليلة الناقد الدكتور/ عبد القدوس أبو صالح، والدكتور/ محمد الفاضل، والدكتور/ الدبل، وكثير من أهل الأدب.
تعقيب الدكتور: حبيب بن معلا المطيري
شكر الله لكم، وأحسن إليكم، ورفع قدركم، وجزاكم عن الإسلام والمسلمين خيراً.
في ختام هذه الندوة المباركة نشكر صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور/ عائض بن عبد الله القرني على ما تفضل به، وندعو الله أن يجعل اجتماعنا خيراً، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وشكراً لهذا المركز مركز السيوطي المتوهج الذي أشبعنا عطاءً وفكراً وأدباً. وشكراً للجميع.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.